أحدث المقالات

د. حسين واله(*)

ترجمة: فرقد الجزائري

تمّ الاكتفاء في هذا المقال بدراسة نظريّة المتكلِّم المسيحي الشهير توما الأكويني؛ لاتساع نطاق البحث في الكلام المسيحي. وبالطبع ستسبقه مقدّمةٌ في التطوُّر التاريخي لفكرة اللطف في العالم المسيحي؛ لتحصيل معرفةٍ عامّة عمّا يدور في هذا البحث. لكنّ الاستقصاء سيكون في نظريّة توما الأكويني، ومن ثمّ ستأتي المقارنة بين هذه النظريّة ونظريّة الشيعة.

أما في الكلام الشيعي فنأتي بتقرير عن موضوع اللطف في مؤلَّف الخواجة نصير الدين الطوسي (التجريد)، و(شرحه) للعلامة الحلّي، وما أورده السيد إسماعيل الطبرسي النوري في (كفاية الموحِّدين)، ثم نسعى لتقييم ذلك، ونبيِّن الأصول والفرضيات التي بُني عليها، ونحدِّد الملامح العامّة للنظريّة الشيعية عن اللطف.

من ثمّ نقيم مقارنةً شاملة مختصرة بين هذين الطرحين لنظريّة اللطف، ونعرض وجوه الاشتراك ومواطن الاختلاف بينهما من حيث طرح الموضوع والمحتوى.

وقد تُطْرَح ملاحظاتٌ مختصرة على بعض النظريات والبراهين الواردة في مضمار البحث، تسعى لتسليط الضوء على ما يشوبه الإبهام منها، ولم يُؤخَذ بالشرح والتدقيق، بعد أن لاقَتْ رؤى أصحاب الرأي القبول؛ لعلّ ذلك يعيد الأنظار إليها، ويجد المفكِّرون الحلول المناسبة لعُقَدها.

وقد طال الحذف بعضَ أجزاء البحث، من الكلام المسيحي والكلام الشيعي؛ بغية الاختصار. وقد تمّ تبيين المقاطع المحذوفة بوضوحٍ. وكان الدافع في ذلك منع التكرار أو الامتناع عن طرح المواضيع التي تباينت الرؤى فيها تبايناً تامّاً، حيث سلب ذلك إمكان المقارنة بينها. كما أن مصطلحات علم الكلام اللاتينية أخذَتْ دون مراجعة الترجمات، أو المرادفات التي اختارها سائر المترجمين، لذلك قد لا تتطابق مع المصطلحات الرائجة، وقد ذكرت المصطلحات في الهوامش.

1ـ التطوُّر التاريخي لفكرة اللطف في الكلام المسيحي

جاء مصطلح اللطف معادلاً للكلمة الإنجليزية ـ الفرنسية grace، التي تعود جذورها إلى لفظتي: gratia اللاتينية؛ وcharis اليونانية، وقد ترجمت في الفارسية بالفيض أحياناً. ولهذا المصطلح ثقلٌ معنوي في المسيحية، ويمثّل قيمةً عليا، ولم يفقد قيمته على الرغم من تحوُّل مفهومه في العصور المختلفة، كما سنرى. أما لغويّاً فيعني فضلَ الله على الإنسان وما يعقبه ذلك الفضل، كذلك القوّة المستمدّة من الله، والتي تستوجب العفو عن الذنوب وفلاح الإنسان. وترادف التفاسير المختلفة لماهية اللطف هذا المعنى اللغوي.

ولنبدأ بأوّل تفسيرٍ من القدِّيس بولس، أشهر متكلِّم ـ ورُبَما الأكثر تأثيراً ـ في صدر المسيحيّة. أما الشرح الذي يقدِّمه عن ماهية اللطف فيأتي في سياق تلقِّيه الثوري لأهمّ حَدَث في تاريخ المسيحية، أي ظهور عيسى المسيح× وصلبه وعروجه. ومن الممكن اعتبار هذا التلقّي اللبنة الأساس للكلام المسيحي في ما تلاه من قرون، ونقطة عطفٍ في التفسير الباطني والعرفاني للديانة المسيحية.

وقد عُدّ القديس بولس منجياً للديانة المسيحية، حيث دبّ اليأس والترديد في صفوف المسيحيين بعد مضيّ أمدٍ طويل من انتظار عودة المسيح المظفَّرة بعد صلبه وعروجه، ليرسي سلطنة الله كما وعد. فقد أوقفوا حياتهم للتبشير، مجتمعين في مراكزهم الدينية ينتظرون آخر الزمان وظهور عيسى×. وفي مثل هذا الظرف أبدى القدّيس بولس رؤيته الثورية بأن سلطنة الله ليست السلطنة على الأرض، وقدّم تفسيراً باطنيّاً لها، ينطبق على عيسى المسيح× بذاته، وفتح بذلك أفقاً جديداً في الفكر المسيحي.

وقد رأى القدّيس بولس في عيسى× تجلّياً لله، وفي تحمُّله البأس الذي أصاب الإنسان وصلبه فيضاً من الله، يكفل به للإنسان العفو عن الذنوب والحياة الخالدة لدى المسيح. أما شرط تحقّق ذلك للإنسان فهو انتماؤه للكنيسة، وإيمانه بالمسيحية. وفي هذا الإطار يتجلّى لطف الله كتدخُّلٍ رحيم سخيّ لخلاص الإنسان ونجاته من الذنوب، والذي وجد ظهوره في حياة المسيح وتعاليمه وصلبه وعروجه. فيكتب القدّيس بولس في رسالته للروم: «فلا حكم بعد الآن على الذين هم في المسيح يسوع؛ لأنّ شريعة الروح الذي يهبنا الحياة في المسيح يسوع حرّرتك من شريعة الخطيئة والموت. وما عجزت عنه هذه الشريعة؛ لأن الجسد أضعفها، حقَّقه الله حين أرسل ابنه في جسدٍ يشبه جسدنا الخاطئ؛ كفّارةً للخطيئة، فحكم على الخطيئة في الجسد ليتمّ ما تتطلّبه منا أحكام الشريعة، نحن السالكون سبيل الروح، لا سبيل الجسد. فالذين يسلكون سبيل الجسد يهتمّون بأمور الجسد، والذين يسلكون سبيل الروح يهتمّون بأمور الروح. والاهتمام بالجسد موتٌ، وأمّا الاهتمام بالروح فحياةٌ وسلام؛ لأنّ الاهتمام بالجسد تمرُّد على الله، فهو لا يخضع لشريعة الله، ولا يقدر أن يخضع لها. والذين يسلكون سبيل الجسد لا يمكنهم أن يرضوا الله؛ أما أنتم فلا تسلكون سبيل الجسد، بل سبيل الروح؛ لأن روح الله يسكن فيكم. ومَنْ لا يكون له روح المسيح فما هو من المسيح. وإذا كان المسيح فيكم، وأجسادكم ستموت؛ بسبب الخطيئة، فالروح حياةٌ لكم؛ لأنّ الله برَّركم»([1]).

«فهم كلُّهم خطئوا وحرموا مجد الله؛ ولكنّ الله برَّرهم مجّاناً بنعمته بالمسيح يسوع، الذي افتداهم»([2]).

«وبه دخلنا بالإيمان إلى هذه النعمة، التي نقيم فيها، ونفتخر؛ على رجاء المشاركة في مجد الله»([3]).

بناءً على ما ورد يرى القدّيس بولس اللطف فعل الله الرحيم في حقّ الإنسان؛ لتخليصه من الإثم والموت، وحياة الخلد والفلاح الأبدي للإنسان مرهونٌ به. كما أن هذا الفعل يتحقّق للجميع، وأعظم تجلِّيه مصير المسيح وقدره. فالإنسان المحروم من هذا اللطف يبقى أسيراً للإثم والفناء، ويُحْرَم من مجد الله وعظمته.

وجديرٌ بالذكر هنا أنّ تأكيد القدّيس بولس على الإيمان هو ردّة فعلٍ على التظاهر بالقدسية والمراء الذي كانت تمارسه الفِرَق اليهودية المعاصرة له، وخاصة جماعة pharisæus، العدوّة اللدودة للمسيحيين. ففي حين كانوا يعدّون الامتثال الآلي لظاهر الشريعة برهاناً على الفلاح، ولم يتوانوا عن إيذاء وتعذيب أيّ مسيحيٍّ؛ بحجّة مخالفة بعض ظواهر الشرع، أعطى القدّيس بولس للشرع المرتبة الثانية بعد الإيمان، وأفتى ببطلان الوقوف عند الشرع. وقد فُسِّر ذلك أحياناً بمناهضة الشريعة وإلغائها. ومن هنا نشأت الباطنية، وهو الدافع وراء الاهتمام الفائق الذي أولاه القدّيس بولس للإيمان في موضوع الفلاح في منظومته الفكرية. ويمكننا رؤية جذور نظريّته في الفصل السادس من الرسالة آنفة الذكر: «فإذا كنّا اتَّحدنا به في موتٍ يشبه موته فكذلك نتَّحد به في قيامته. ونحن نعلم أن الإنسان القديم فينا صُلب مع المسيح؛ حتى يزول سلطان الخطيئة في جسدنا، فلا نبقى عبيداً للخطيئة؛ لأنّ الذي مات تحرَّر من الخطيئة. فإذا كنّا متنا مع المسيح فنحن نؤمن بأننا سنحيا معه. ونعلم أن المسيح بعدما أقامه الله من بين الأموات لن يموت ثانيةً، ولن يكون للموت سلطانٌ عليه؛ لأنه بموته مات عن الخطيئة مرّةً واحدة، وفي حياته يحيا لله. فاحسبوا أنتم أيضاً أنكم أموات عن الخطيئة، أحيا لله في المسيح يسوع ربّنا. فلا تدعوا الخطيئة تسود جسدكم الفاني، فتنقادوا لشهواته، ولا تجعلوا من أعضائكم سلاحاً للشرّ في سبيل الخطيئة، بل كونوا لله أحياءً قاموا من بين الأموات، واجعلوا من أعضائكم سلاحاً للخير في سبيل الله، فلا يكون للخطيئة سلطانٌ عليكم بعد الآن. فما أنتم في حكم الشريعة، بل في حكم نعمة الله»([4]).

وقد أظهر توجّه القدّيس بولس الباطني، ورفضه التوقّف والجمود عند ظواهر الشريعة، نظراً جديداً لمفهوم لطف الله لديه. فلم يعُدْ لطف الله إقرار الشريعة لتكامل الإنسان، بل أصبح أعمق وأسمى وأكثر قرباً؛ فقد تجسَّد لطف الله في حَدَث تاريخيّ؛ ليتيح فلاح البشرية تكوينياً، ويجذب إليه قلوب المؤمنين؛ إذ إن لطف الله مرتبطٌ بوَحْيه، لكنْ في إطار مفهوم الوَحْي الخاص الذي يرسمه الكلام المسيحي، أي تجسّد ابن الله في جسم إنسانٍ، وهو حَدَثٌ حقيقي، لكنْ لا يمثِّل قيمةً كبرى كخطابٍ يحمل التكاليف الشرعية والأخلاقية. فاللطف تدخُّلٌ في مجرى التكوين، يرتقي بالإنسان إلى الكمال والفلاح بوصالٍ روحي ومعنوي.

ويمكننا رؤية أوّل تحوُّل في فكرة اللطف لدى القدّيس أغسطينوس. ولتبيين نظره من الضروريّ إلقاء نظرةٍ على منطلقاته التاريخية، حيث يذكر المؤرِّخون المسيحيون ظهور تيّارين دينيين بعد القرن الثاني:

الأوّل: تيّار الكنيسة الشرقية المتأثِّرة بأفكار الإسكندرية، والتي أسّست للروحانية والرَّهْبنة المبتنية على العرفان، والمولعة بنشأة إنسانٍ جديد يكون هيكلاً لروح الله. وقد اتخذ أتباع هذا التيار الزهد والعرفان، أي العبادة أو التأمُّل، سبيلاً لا لنَيْل الكرامات والقيام بالأمور الخارقة فحَسْب، بل لاستكمال رؤيةٍ عرفانية تدعم الإيمان بالذات الإلهية. وقد اعتقد أتباع هذا المذهب بإمكانية نَيْل الكمال الذي ناله عيسى المسيح×؛ بالامتثال له، وأوصوا بذلك.

الثاني: تيّار الكنيسة الغربية المتأثِّرة بتعاليم القدّيس أغسطينوس، وكانت تعتقد بأن الله وراء حفظ العالم وترميم ما دُمِّر منه، وإحياء الإنسان الذي أسقطَتْه الذنوب والخطايا. وكانت واثقةً من استخفاف متكلِّمي الشرق بالآثار المدمِّرة للإثم الأوّل، وعدم اكتراثهم بميول الإنسان إلى الشرور.

فمن وجهة نظر القدّيس أغسطينوس الإنسان مختارٌ؛ أي يمكنه ترجيح الفعل أو الترك في كلّ فعلٍ إرادي. لكنّ الإثم الأول قيَّد إرادة الإنسان الحرّة، ولا نجاة للإنسان منه إلاّ بلطف الله. ففي هذه المنظومة الفكرية لطف الله ضلعٌ من مثلَّث الإرادة والشرّ.

ومن هذه النظرة للطف نشأ تدريجياً مفهومٌ جديد عن اللطف كعنصرٍ تشكّل من وعد الله وقدرته، يلعب دَوْر الوسيط في حياة الإنسان.؛ إذ يجد القديس أغسطينوس اللطف كقوّةٍ تفتح بصيرة الإنسان على الحقيقة، وتدفعه إلى تغليب إرادته على مَيْله للشرّ.

أما التفسير الثالث من اللطف فقد جاء به حكيم القرون الوسطى توما الأكويني. ويأتي هذا التفسير متناسباً مع منظومته الفلسفية التي أنشأها لإيجاد تناغمٍ وتوافق بين الكتاب المقدَّس وحكمة أرسطو، والاستدلال على الإيمان المسيحي وإثباته بالبراهين.

وسوف نأتي بملخَّص عن آرائه في موضوع اللطف من مؤلَّفه الذي دوَّنه تحت هذا العنوان. لكنْ من المفيد هنا الالتفات إلى أن مساعي توما الأكويني تصبّ باتجاه عقلنة الفَهْم الديني من اللطف، بحيث يتناغم مع أسس الحكمة. فهو يجد اللطف قوّةً إلهية، ينال الإنسان بها المعارف التي تفوق إدراك البشر وفهمه، وتحقّق له فعل الخير الذي يسمو على فطرته وطبيعته، خلافاً لأغسطينوس الذي كان يعتقد بأن اللطف وسيلةٌ لتحقيق مطلق المعرفة، والإتيان بمطلق فعل الخير.

وقد تابع المتكلِّمون المسيحيون في القرون الوسطى المواضيع المتعلِّقة باللطف باندفاعٍ وشَغَف. فقد طرحت استفهامات عدّة حول القوة الإلهية التي تؤثِّر على الإنسان وتأخذ به إلى الخلاص والفلاح، كالعلاقة بين اختيار الإنسان وإرادته الحرّة وهذه القوّة. وقد تمّ النظر إليها كعقدةٍ مستعصية في ظلّ تأثير العلوم التجريبية، التي تناولتهما كقوى مكانيكية قاهرة. كما أن نسبة الإنسان المحدود إلى الله الأبدي السرمدي في كلّ موضعٍ من مواضع اللطف كانت بحدّ ذاتها عقدةً، وقد أدّى كلّ ذلك إلى ظهور عدّة نظرياتٍ في الكلام المسيحي؛ للخروج من المأزق التي تولِّده تلك الإبهامات. فعلى سبيل المثال تمّ تعريف اللطف على أنه فعلُ الله المتناهي، وكلّ إنسان يتفاعل معه حَسْب حالاته الروحية والنفسية الخاصة. وقد برزت مذاهب عدّة تقدّم الإجابة عن التساؤلات وحلولاً للعقد في هذا الموضوع.

وقد تمسّك الكلام المسيحي، بكافّة توجُّهاته ومذاهبه، بتفسير اللطف     كـ «قوّةٍ إلهية وما وراء طبيعية»، حتّى القرن الثامن عشر، على الرغم من عدم توفُّر المعرفة الصحيحة بماهيتها. ومع بزوغ عصر التنوير، وظهور العقلانية والإيمان بقدرات الإنسان، هُجِر تفسير «القوّة الإلهية»، وعُدَّ الإنسان طيّباً محبّاً للخير بالفطرة، وتمّ إرجاع ما يصدر عنه من شرور إلى فساد التربية الاجتماعية.

وقد أدَّت الأنثروبولوجيا الحديثة، في خضمّ التحوّلات النظرية في عصر التنوير، إلى ثورةٍ في تفسير اللطف. وبناءً عليه، صلاح الإنسان وفلاحه بعقله وإرادته، وما التاريخ إلاّ حكاية حضارات نشأَتْ من عقل الإنسان، والدين مظهرٌ من مظاهره. فلطف الله هو عقل الإنسان وإرادته. ولا خلاف في أنّ الله هو مَنْ يهدي الإنسان ويأخذ بيده إلى الفلاح، لكنْ ليس بقوى تفوق الإنسان وتمنعه من الزَّلَل، أو تهديه إلى خيرٍ أعظم ـ كما يعتقد القدّيس أغسطينوس ـ؛ إذ لا خير يفوق تكافؤ الإنسان وحُمولته، وهداية الله للإنسان تتمّ بما أودعه فيه من عقلٍ. ففعل الله يتحقّق داخل كيان الإنسان.

وقد ظهرَتْ رؤى جديدة حول اللطف تحت إيقاع الفلسفة المثالية، كفلسفة هيغل، في القرنين التاسع عشر والعشرين، جعلَتْ منه حقيقةً منفردة مهيمنة، يطلق عليها، حَسْب المقام: البصيرة، الاختيار، الروح، أو الحقيقة. فالعالم مجرى تتحقق فيه مطلق المعرفة، واللطف هو الحضور العيني للمطلق من منظورٍ خاص. لذلك تمّ استبعاد التفريق بين اللاهوت والناسوت، والسماوي والأرضي، إلى الأبد. فبناءً على هذه الرؤى لطف الله ليس عنصراً معنوياً أو قوّة روحية خارج كينونة الإنسان، كما أنه ليس بُعْداً من وجوده أو هويته، بل هو الحضور العيني للمطلق في الوجود اللامتناهي.

أما الرؤى المتأخِّرة للمتكلِّمين المعاصرين، أمثال: پول تيليش، وكارل راهنر، وپيير تيلهارد، فتحمل صبغة عالم الفكر المعاصر، من أنثروبولوجية وجودية، وتأريخية. ففي الصورة التي يرسمونها عن اللطف استبدلوا فعل الله وتأثيره وتدخّله    بـ «أفق المعرفة» لدى الإنسان، كما لو أن هذا التدخُّل يتحقّق عبر تسيير الوجود باتجاهٍ رسمه البارئ من قَبْل، وقضاه وقدَّره لنفسه.

بذلك يصبح اللطف ماهيةً سارية في صلب العالم. فقد اعتقد پول تيليش بأن مصدر التحوُّل في الأحياء والأخلاق ليس كامناً في الجينات، وإنّما يتحقّق بوازعٍ من لطف الله؛ أي ماهية اللطف ليست غيبيّةً أو خارج حدود الحياة المحسوسة والملموسة والحقيقية للإنسان. فاللطف حضور الله في ميدان معرفة الإنسان وأفق تطوُّر التاريخ، ولذلك ينبغي استبدال صورة القوّة السماوية التي تأسر قلب الإنسان وتدفعه لفعل الخير عن هذا المفهوم بصورةٍ أكثر إنسانية، وأقرب إلى النفس، ترسم الحضور الصبور المنير، والمحفِّز للإله المتعالي المنجي، الذي له حضورٌ فعّال في آلام الحياة وأمجادها([5]).

بذلك يمكن القول بأنّ مفهوم اللطف مرَّ بخمسة مراحل في تطوُّره:

في المرحلة الأولى فُسّر اللطف بتجلّي الله في عيسى المسيح وحياته وموته وبعثه. وإضافةً إلى تحقُّقه كحَدَث تاريخي، يحمل أهمّية ومعنى وقيمة عليا، ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بحياة الإنسان، وله بالغ الأثر فيها؛ إذ ينجّي الإنسان من الموت الذي هو عاقبة الإثم، ويأخذه إلى حياة الخلد والفلاح.

في المرحلة الثانية ظهر اللطف كـ «قوّةٍ إلهية من ما وراء الطبيعة»، وهي منبع المعرفة والهداية وكلّ خير في الحياة. وبناءً عليه يواكب لطف الله الإنسان في كلّ خطوةٍ من حياته، وكلّ الخير عائدٌ إليه.

في المرحلة الثالثة؛ حيث ساد التوجُّه إلى العقل، وفي مسعىً لإيجاد مقبوليّةٍ عقلية للمفاهيم الدينية، تمَّتْ إعادة تبيين تأثير اللطف (الذي ما زال قوّةً خارقة للطبيعة) وتحديد مجاله. فأُنيطَتْ به معرفة المفاهيم التي تفوق قدرة العقل العادي في إدراكه للأمور الطبيعية اليومية، ونُسبَتْ إليه الهداية، وصولاً إلى حياة الخلد والفلاح الأخروي، وأخرجت باقي الأدوار من دائرة اللطف.

وفي المرحلة الرابعة تمّ خلع صفة «القوّة الخارقة» من اللطف، وتحدَّدَتْ ماهيته في خلق الإرادة والعقل، بما أوحاه الفضاء الفكري متأثِّراً بالمذاهب العقلية والإنسانية.

وقد دبَّت الحياة مجدّداً في مفهوم اللطف في المرحلة الخامسة، بفعل الأنطولوجيا التاريخية، والأنثروبولوجيا الإنسانية، لكنّه لم يستعِدْ صفة ما وراء الطبيعة، وأصبح عنصراً معنويّاً في منظومة تفسير العالم المادّي الحقيقي.

2ـ اللطف عند توما الأكويني

قدَّم الفليسوف والمتكلِّم الحاذق في القرون الوسطى، توما الأكويني، بحثاً متكاملاً عن اللطف في رسالةٍ بعنوان: «مقال في باب اللطف»، في ستّة فصول. وقد تبع توما الأكويني مذهب أرسطو، وتأثَّر بالمدرسة المشّائية لابن سينا، ووضع جلّ اهتمامه في عقلنة الإيمان المسيحي، وتقريب الدين والحكمة. لكنّ اعتقاده بأسس فلسفة أرسطو ونظرية الأخلاط عقَّد أمر تفسير نصوص الكتاب المقدَّس، وتبرير بعض المعتقدات المسيحية. ويبرز ذلك جليّاً في مواضع من الرسالة المتقدِّمة. وقد أبدى توما الأكويني مهارةً فذّة في تلفيق هذه المعتقدات مع أُسُس الحكمة، والبرهنة على النصوص والسنن من منطلق الآراء الفلسفية. أما في موضوع اللطف فيتفنّن في إيجاد التقريب والتناغم بين نظرية الأخلاط والإيمان بلطف الله كقوّةٍ خارقة ومؤثِّرة في حياة الإنسان، كما يذهب إليه الاعتقاد المسيحي وسُنَنه.

وتتضمَّن الرسالة، آنفة الذكر، ستّة فصول: يبحث الفصل الأوّل الحاجة إلى لطف الله في عشرة أبواب؛ ويحلِّل الفصل الثاني ماهية اللطف في أربعة أبواب؛ ويأتي الفصل الثالث بشرحٍ لأقسام اللطف في خمسة أبواب؛ ويتناول الفصل الرابع أسباب اللطف، والشروط اللازمة لتحقُّقه، في خمسة أبواب؛ كما يبيِّن الفصل الخامس آثار اللطف في عشرة أبواب؛ ويناقش الفصل الأخير المواضيع التي تطرح نفسها إلى جانب موضوع اللطف، كاستحقاق العباد.

ونتطرّق هنا إلى أجزاء من هذه الرسالة، تقترب في مضمونها ممّا ورد في باب اللطف في الكلام الإسلامي.

سبب الحاجة إلى لطف الله

كما أشَرْنا سابقاً يصبّ توما الأكويني جلّ اهتمامه في هذه الرسالة للتقريب بين المعتقدات المسيحية والأُسُس العقلية لفلسفة أرسطو، والتوفيق بينهما. ولذلك يمكن القول بأن الموضوع الأساس لهذه الرسالة هو تقديم تفسيرٍ جديد للمعتقدات المسيحية. فنجده يسرد آراء ونصوصاً من آباء الكنيسة والكتاب المقدَّس في ما طرح من مواضيع، في الفصل الأوّل، ثمّ يقدِّم براهين في تبريرها أو رفضها في إطار طرح الردّ أو الإشكالية من وجهة نظر علم الكلام، ومن ثمّ يأتي برأيه، الذي غالباً ما يجسِّد تفسيراً جديداً للموضوع المطروح.

هناك عشرة مواضيع ذات صلةٍ بموضوع الحاجة إلى اللطف:

أوّلها: هل يؤثِّر اللطف على قدرة الإنسان في معرفة الحقيقة؟ بمعنى أن يعجز عن فهم الحقائق ومعرفتها مَنْ حُرِم من اللطف؟

وقد رُويَتْ آراء مختلفة عن أغسطينوس وشواهد من الكتاب المقدَّس حول هذا الموضوع. فمن ناحيةٍ تُذكر ثلاثة أدلة نقلية وشبه عقلية في تأييد عدم إمكان معرفة أيّ حقيقةٍ من دون اللطف؛ ومن ناحيةٍ أخرى يُقام دليلٌ على إمكانه. فيقوم توما الأكويني بإيجاد صيغةٍ تجمع تلك الآراء، ويأتي بنظريّةٍ تطابق حكمة أرسطو، وفيها من المجال للإيفاء بموضوع لطف الله، كما تستقيم فيها نظرية الأخلاط.

وملخَّص نظريّته في هذا الباب أن المعرفة تتحقّق بعمليّةٍ عقلية. وكلّ فعل في العالم ينتهي في سلسلة العلل إلى الفاعل والباعث الأوّل. إذن، لا بُدَّ من تدخُّل الله في العملية العقلية، بمعنى أنه لا يمكن نَيْل أيّ معرفةٍ دون تدخُّل (لطف) الله. كما أنّ كافّة الصور التي تتجسَّد فيها المادّة هبةٌ من واهب الصور. ولذلك كلّ كمالٍ تتصف به الصور يأتي من الله. مع ذلك، لكلّ صورةٍ خصوصيتها التي لا تحتاج في إظهارها إلى تدخُّل الله المستقيم، عدا ما يخصّ الفعل والحركة. لذلك، بناءً على ما تقتضيه الخلقة يمكن للنفس التي تجسِّد هوية الإنسان تحقيق أمور، كمعرفة نطاق محدود من الأمور الطبيعية. فلا يمكن القول: إن النفس غير قادرة على نَيْل أيّ معرفةٍ بمفردها. وبالطبع لا تتمكّن النفس من معرفة أمور ما وراء الطبيعة بمفردها؛ إذ تتطلَّب معرفةٌ كهذه إمداداً من الخارج، كقوّة الإيمان أو الوَحْي. فيأتي اللطف كقوّةٍ داعمة للعقل، ويمكِّنه من تحصيل المعرفة بهذه الأمور.

ويتجلّى دَوْر النفس الناطقة لدى أرسطو في تحصيل المعرفة، وهو الأثر المفترض لهذه الصورة، ويتمّ الإقرار به. كما يتمّ تبرير نصوص الكتاب المقدَّس وما صدر عن آباء الكنيسة في عدم حصول أيّ معرفةٍ دون لطف الله ـ وهو ما ينقض نظام العلّية ظاهريّاً ـ بحاجة النفس في حركتها وفعلها إلى المحرِّك والباعث الأوّل.

أما السؤال الثاني: هل للطف الله يدٌ في إرادة الإنسان وفعله الخير؟

فتأتي الآراء فيه متناقضةً، ويتمّ تقديم تبريراتٍ لكلٍّ منها؛ إذ يُستدلّ من ناحيةٍ على إرادة الإنسان المستقلّة في اختيار الخير أو الشرّ والقيام به، بتسلُّطه عمّا هو في نطاق قدرته. وإرادته تقع في هذا النطاق. كذلك يسود الاعتقاد بأن الإنسان أكثر قدرةً على فعل ما يؤاتي طبعه، خلافاً لما ينفر منه. وقد صرَّح آباء الكنيسة بأن طبع الإنسان ينفر من الإثم (ويقدّم توما الأكويني شرحاً وافياً لهذا الأمر بناءً على أسس أرسطو). لكنْ على الرغم من ذلك يمكن للإنسان ارتكاب الإثم مستقلاًّ دون وازعٍ، فمن باب أَوْلى تثبت قدرته على فعل الخير.

وفي المقابل يصرِّح الكتاب المقدَّس وآباء الكنيسة، ومنهم: القدّيس أغسطينوس، بأن الإنسان لا يمكنه إرادة الخير أو فعله دون لطفٍ من الله. فكما يعتقد القديس أغسطينوس قد كبّل الإثم الأوّل الإنسان إلى حدٍّ لا يمكنه إطلاق إرادته الحرّة، والتفوُّق على مَيْله إلى الشرّ، دون تدخُّل من الله.

وللخروج من هذا التعارض يلجأ توما الأكويني إلى التفريق بين الإنسان بفطرته الأولى ـ أي قبل إتيانه الإثم ـ والإنسان الذي أسقطه الإثم، فلكلٍّ منهما حكمه الخاصّ؛ إذ يعتقد توما الأكويني بأن آدم أبا البشر كان قادراً على إرادة الخير في إطار ما تقتضيه طبيعة الأمر، ولم يكن ذلك مرهوناً بلطف الله قبل إتيانه المعصية. فعلى سبيل المثال: كان قادراً على نَيْل الفضائل الاكتسابية بإرادته المستقلّة، لكنه عجز عن نَيْل ما هو أسمى من ذلك، كاكتساب الفضائل التي يختصّ بها الله، ويهبها لمَنْ يشاء من عباده، فهي أسمى من نفسه. فالإنسان بعد المعصية كالمريض، لا يمكنه إظهار قواه الطبيعية دون دعم الدواء ومساعدته. لكنْ لحاجة هذا الإنسان إلى لطف الله حدودٌ، وهو ليس كما يظنّ القدّيس أغسطينوس عاجزاً عن إرادة أيّ فعل خيرٍ، فقد يمكنه القيام بأفعال الخير العادية، كالزرع وإعمار الدنيا، دون اللطف. فبهذه النظرة لا يمكن اعتبار الإنسان محتاجاً إلى اللطف مطلقاً.

ومن ناحيةٍ أخرى، وكما مرَّت الإشارة سابقاً، يحتاج الإنسان إلى تدخُّل الله في كلتا الحالتين، من حيث الفعل والحركة التي تعود في منشئها إلى المحرِّك الأول. وهنا يلفت توما الأكويني الأنظار إلى أن إنسان اليوم وآدم أبا البشر مشتركان في الذاتيات. فالجميع من نوعٍ واحد، وكلُّ ما كان يُتوقَّع صدوره من آدم كإنسانٍ يُتوقَّع من إنسان اليوم. وهنا تبرز إشكالية اجتماع إرادة الإنسان الحرّة وحاجته للطف الله. ويأتي ردّ توما الأكويني جامعاً لكلا الجانبين؛ إذ يصرّح بأنّ آدم لم يكن غنيّاً عن تدخُّل الله، كما أن حاجة الإنسان اليوم إلى تدخُّل الله لإرادة الخير وفعله ليست مطلقةً.

وقد ورد في جواب الدليل الأوّل شرح الجزء الأوّل من الموضوع، حيث إن مقدرة الإنسان على عدم اختيار الخير تعني مقدرته على اختيار فعلٍ أو تركه، أي يستطيع أن يختار بعقله. وبالطبع الاختيار العقلي يسبق إرادة الاختيار العقلي. فكلُّ إرادةٍ تسبقها إرادةٌ أخرى. ومن الواضح أن ذلك لا يمكنه الاستمرار إلى ما لا نهاية؛ إذ يستوجب ذلك التسلسل. فلا بُدَّ أن يتأثَّر اختيار الإنسان الحرّ في مرحلةٍ ما بعاملٍ خارجي، وهنا يأتي تدخُّل الله.

من ناحيةٍ أخرى إنسان اليوم يعاني من الوَهْن؛ بسبب الإثم، وهو كعليلٍ يمنعه المرض من القيام ببعض ما تتيح له قابليّاته. لذلك الإنسان بعد الإثم بحاجةٍ إلى تدخُّل الله مرّتين، في حين كانت الحاجة واحدةً قبل الإثم.

أما الردّ على الدليل الثاني فيأتي بشرح حقيقة الإثم؛ إذ يعتقد توما الأكويني بأن «الخير» هو كلّ ما يوافق الطبع، والإثم هو خروجٌ عن هذا الانسجام. والاستدلالُ بأن الإنسان يمكنه المعصية مستقلاًّ إذن يمكنه فعل الخير باطلٌ؛ حيث إن المخلوق محتاجٌ لخالقه في الوجود، وفي إتيانه الخير والشرّ.

الأمر الرابع هو تأثير اللطف على قدرة الإنسان للامتثال إلى الشريعة.

في هذا الموضوع أيضاً يأتي توما الأكويني بتفصيلٍ يجمع فيه بين نصوص الكتاب المقدّس المختلفة، فيعدّ الامتثال نوعين: امتثالاً مطلقاً في الأداء، وامتثالاً في الأداء بنية القربة. بناءً على المعنى الأول كان بمقدور آدم العمل بالشريعة قبل المعصية، وإلاّ لم تصدق عليه المعصية. أما بعد المعصية فلا يمكن للإنسان العمل بكافّة أوامر الشريعة دون الاستعانة بلطف الله؛ فقد أَوْهَنَه الإثم. أما بناءً على المعنى الثاني فلا يمكن للإنسان الامتثال للشريعة دون الاستعانة بلطف الله في كافّة الأحوال (قبل الإثم وبعده). وكما يبدو أن الدليل عليه منقولٌ فحَسْب، وقد ابتدع توما الأكويني هذا المعنى للخروج من هذه الإشكالية العقلية، ويدافع عن قدرة الإنسان واستقلاله في ضربٍ من الامتثال.

الأمر الخامس هو تأثير لطف الله في نَيْل الإنسان السعادة الأخروية الخالدة.

ويأتي تصريح توما الأكويني في هذا الخصوص أيضاً جامعاً لنصوص متعارضة ظاهريّاً من الكتاب المقدَّس على أساس حكمة مدرسة أرسطو؛ إذ يعتقد بعدم إمكان نَيْل الإنسان السعادة الأبدية دون لطف الله؛ إذ لا علّة يمكنها إيجاد معلول أشرف وأعظم منها. وبديهيّ أن السعادة الأبدية أشرف وأعظم من كافّة أفعال الخير التي يقوم بها الإنسان في حياته، فلا يمكن أن تكون السعادة معلولةً لتلك الأفعال.

الأمر السادس هو تأثير لطف الله في خلاص الإنسان من الإثم الحاصل.

فيصنِّف توما الأكويني الأضرار التي لحقها الإثم بالإنسان في ثلاثة أنواع: أوّلاً: تلوّث بالإثم؛ ثانياً: خُدشَتْ فطرته النقية؛ ثالثاً: استحقّ عقاب الله. ولا يمكنه الخلاص من كلّ ذلك إلاّ إذا أسعفه لطف الله. فالتلوُّث بالإثم يمزِّق ستار هداية الله التي تلفّ الإنسان في كَنَف رحمة الله، ولا يمكن لأحدٍ غير الله إصلاحها. ونظام الفطرة لدى الإنسان أيضاً من صنع الله، وحين يربكه الإثم لا يعيد له الاستقرار إلاّ توجُّهه وانقطاعه إلى نبع الرحمة الأزلي. كما أن العفو عن العقاب الأخروي في يد الله الذي أغضبه الإثم.

الأمر الأخير الذي نذكره هنا هو تأثير لطف الله في التقوى والامتناع عن المعاصي، فهل للإنسان الإحجام عن الذنوب دون لطف الله؟

يؤكِّد القديس أغسطينوس على أن الظنّ بفلاح الإنسان باتباع الشرع دون الاستعانة بلطف الله خطأٌ فاحش، لا يستحقّ قائله حتّى الاستماع. إذن بالشرع وحده لا يمكن للإنسان نَيْل الفلاح. ولا بُدَّ من الاستعانة بلطف الله للإحجام عن الذنوب. لكنْ من ناحيةٍ أخرى إنْ لم يتمكَّن الإنسان من ترك الذنوب دون اللطف يستوجب ذلك أن لا تكون الذنوب ذنوباً؛ لأنها خارج دائرة اختيار البشر؛ وإنْ تحقَّقت الذنوب بوجود لطف الله يصبح اللطف عبثاً، فلا يمكننا إلاّ أن نقبل بأن الإحجام عن الذنب ممكنٌ دون الاستعانة باللطف.

ويقول توما الأكويني شارحاً: إن حقيقة الإثم هي الانحراف عمّا تقتضيه الفطرة، فلا بُدَّ من القول: إن الإنسان قبل المعصية ما كان بحاجةٍ للطف الله لتجنُّب المعاصي، فقد كان يتصرَّف بناءً على ما يقتضيه طبعه. وبذلك يخرج من إشكالية كون الإثم إثماً. أما سبب الحاجة إلى اللطف فهو أن فطرة الإنسان وطبيعته تصاب بالهوان بعد الإثم، ويزيد ذلك من مَيْله إلى الإثم. فكما قال آباء الكنيسة: إنْ لم يقلع الإثم من جذوره يجرّ الإنسان إلى مزيدٍ من الآثام. لذلك إصلاح الفطرة بحاجةٍ إلى اللطف، ولا يمكن الإحجام عن كافّة الذنوب دون اللطف. مع ذلك لا يقرب الإنسان الآثم كافّة الذنوب إلزاماً، فيمكنه اجتناب بعض من كبائر الآثام وصغائرها، لكنْ لا يمكنه الإحجام عن كافّة الذنوب دون اللطف مطلقاً. وهنا يبرز دَوْر العادة، التي تطرَّق إليها أرسطو في بحثه عن الأخلاق.

وقد بحث توما الأكويني في الفصل الثاني من رسالته ماهيّة اللطف. فكما أشَرْنا سابقاً إن الاعتقاد السائد لدى المسيحيين المؤمنين عن اللطف، من عهد القدّيس أغسطينوس إلى عصر التنوير، أنه قوّةٌ إلهية مستقلّة عن الإنسان، مؤثِّرة فيه. وحيث يجد توما الأكويني نفسه مسؤولاً عن تقديم تبيينٍ عقلاني لهذا الاعتقاد فلا بُدَّ له من البحث في ماهية اللطف.

الاستفهامان الأوّل والثاني في هذا الفصل هما: هل لطف الله يضيف إلى مَنْ يحلّ به شيئاً؟ وهل المضاف أمرٌ من أمور الكيف؟

تظهر ثلاثة معانٍ تمثِّلها كلمة Grace في الحوارات: العطف والحظوة، الهبة والعطاء من باب العطف، والإحساس الرائع الحادث لدى متلقّي الهبة والعطاء. وتأتي كلمة grateful من جذر Grace التي تعني الشكر؛ للدلالة على المعنى الثالث([6]). وكما يتضّح، من حيث الظهور الخارجي، يتبع المعنى الثالث المعنى الثاني، الذي بدَوْره يلي المعنى الأوّل.

وهناك فرقٌ بين لطف مخلوقٍ بمخلوقٍ ولطف إلله بخلقه؛ ففي الأوّل صاحب اللطف جزءٌ من العلّة؛ لأنّه يرى خيراً في متلقّي اللطف، ولذلك يلطف به. لكنْ في لطف الله بخلقه اللطف بحدّ ذاته دلالةٌ على ظهور الخير في متلقّي اللطف؛ إذ إنّ ذات البارئ هي ذروة الخير ونبعه، ولا يمكن تصوُّر خيرٍ في المخلوق يفتقر إليه الخالق، ويكون وازعاً لإبداء اللطف. وأبرز مثالٍ على ذلك هو قضاء الله وقَدَره، حيث قدَّر مصير البشر من قبل. وجليٌّ أن القَدَر الحَسَن ليس نتيجةً لعمل الإنسان؛ لأنه لم يُخْلَق بعد.

لطف الخالق بالمخلوق أيضاً على صنفين: لطفٍ عامّ، ويشمل كافّة المخلوقات، وهو عطف الله ورحمته، وبهما تمّ الخلق، وهذا المعنى خارجٌ عن البحث؛ أما الآخر فهو اللطف الخاصّ، أي الحظوة والعناية التي يؤتيها الله الإنسان، وبها يرتقي به من حدود الطبيعة، ويغشِّيه بجلاله. الله جلَّ وعلا ذروة الخير ومنتهاه، ولطفه الخاصّ بالإنسان هو أنّه يريد هذه الذروة، أي ذاته المقدَّسة، للإنسان.

بهذا المعنى اللطف، حتّى بمعناه الأوّل، حين يصدر من الله في حقّ الإنسان يضيف شيئاً إلى الإنسان؛ لأنه يستتبع خيراً له. أمّا عن ماهيته فهناك تصوُّران: الأوّل: إنه أثرٌ يُحْدِثه الله في روح الإنسان كمحرِّكٍ أوّل يجعله ميّالاً للخير؛ والثاني: إنّه صور أو قابليات في الروح، تذلِّل للروح سبيلها إلى ذروة الخير.

اللطف في قالب الأثر والحركة لا يندرج في إطار الكَيْف؛ إذ يعرِّف أرسطو الحركة على أنها «فعل» المحرِّك في المتحرّك. أما الصور والقابليات التي تنشأ في النفس، وتحفِّز الإنسان إلى الخير، فيمكنها أن تقع في دائرة الكَيْف. وبذلك يمكن الخروج بهذه الصورة عن اللطف: حقيقةٌ تبدأ بذات الحقّ، وتنتهي بروح الخلق، وهي جوهريّةٌ في ذات الحقّ، عَرَضية في روح الخلق؛ إذ إنه في ذات الحقّ الخيرُ المطلق في كماله، وبما أنّ الإنسان يتخلَّق به لا يصل إلى كماله، ويجده في نفسه أدنى من مستوى الكمال([7]).

في البابين الأخيرين من هذا الفصل وردَتْ بحوث كلامية جزئية عن ماهية اللطف، مفادُها الاستفهام عن ماهية اللطف، وهل هي ذات الفضيلة؟ وهل متلقّي اللطف هو النفس بذاتها أم إحدى قواها؟

يخلص توما الأكويني، بعد استعراض آراء مختلفة لآباء الكنيسة، إلى أن الفضيلة نوعان: فضيلةٌ اكتسابية؛ وفضيلةٌ موهوبة. كما ينقل تعريف أرسطو للفضيلة، ويطلق عليها عنوان: «جعل كلّ شيء سويّاً بشكله الكامل». ويوضِّح أن «الكامل» يعني مطابقته لمقتضى الطبع، ويستنتج وجود طبيعةٍ مفترضة تسبق كلّ ما يمكن تصوُّره من فضائل. لذلك في الفضائل المكتسبة، التي تحصل بفعل الإنسان، الطبيعة المفترضة جزءٌ منه، لكنْ في الفضائل الموهوبة، التي تسمو على طبيعة الإنسان، يفترض تدخُّل الذات الإلهية. وبناءً على ذلك كما أن الفضائل المكتسبة ليست عقلاً لا تكون الفضائل الموهوبة لطفاً.

ومن المفيد هنا الإشارة إلى أن مصطلح الفضيلة (virtue) يختلف في منظومة الكلام المسيحي عن المصطلح الإسلامي. كما يمكننا أن نلمس من فحوى كلام توما الأكويني أنه يرى الفضيلة كقوّةٍ تدفع بالإنسان إلى فعل الخير أمراً كـ «المَلَكة» لدى الإنسان، وذلك يفوق ما يحمله هذا المصطلح في الأخلاق الإسلامية. وقد ورد مصطلح الفضيلة في معانٍ أخرى، دلّ فيها على الصفة الحَسَنة والخُلُق المرتضى، كما هو حال مصطلح الفضائل الثلاثة، أي: الإيمان، والأمل، والبرّ([8]).

ومع دخول «القوّة» في صورة اللطف يتساءل توما الأكويني: هل القوّة التي تسمّى لطفاً هي ذات القوة التي تُعَدّ فضيلةً؟ فعلى ما يبدو إنْ صرفنا النظر عن تصوُّر اللطف كـ «قوّة»، واعتبرنا الفضيلة هي الصفات الحَسَنة أو الحَسَن بذاته، لا يبقى محلٌّ لهذا السؤال.

وفي خصوص الاستفهام عن موضوع اللطف: هل هو النفس أو إحدى قواها؟ يقول توما الأكويني: إن ذلك يعود إلى الردّ المختار على التساؤل الماضي. فإنْ اعتبرنا اللطف ذات الفضيلة فلا يكون موضوعه النفس، بل قواها؛ وإنْ اعتبرنا موضع اللطف من الفضيلة كموضع العقل منها فلا بُدَّ أن تكون النفس موضوع اللطف. ويأتي توما الأكويني بتبريراتٍ عقلية للإيمان المسيحي قائلاً: كما أن اللطف يسبق الفضيلة موضوعُه أيضاً يسبق موضوعها (قوى النفس). لذلك، كما يشارك الإنسان بعقله في معرفة الله، مستعيناً بالإيمان ـ وكأن المعرفة التي ينالها مشاركة في بحر علم الباري جلَّ وعلا ـ، ويساهم في حبّ الله بإرادته، مستعيناً بالعمل الصالح ـ يُراد بالعمل الصالح هنا الإنفاق ومساعدة الآخرين (charity)، التي تأتي بوازعٍ من حبّ النظراء في الخلق، وتمّ اعتبار هذا الحبّ كجزءٍ من حبّ الله الأزلي والأبدي لخلقه ـ، له سهمٌ من ذات الله بروحه، بضربٍ من التشابه، ومن خلال إعادة خلقٍ خاصّة([9]).

بناءً على نظريات توما الأكويني السابقة، إنْ أرَدْنا بياناً ذا طابعٍ فلسفي عن الموضوع يمكننا القول بأن اللطف يصدر عن الله، وهو جوهرٌ في ذات الله. وبما أن البشر يتلقَّوْنه يفقد من خلوصه، ويتحوَّل إلى كَيْفٍ. أما موضوع هذا الكَيْف فهو النفس بذاتها. حين يتحقَّق اللطف تتمّ إعادة خلقٍ لا نعرف حقيقتها، لكنْ ما يظهر عنها أن الإنسان الأرضي يصبح سهيماً في وجود الله المتعالي، من حيث إنه يتمتع باللطف كذات البارئ، لكنّ اللطف لدى الإنسان في مرتبة الحلول، ولدى الله عين ذاته.

علّة اللطف

يختصّ الفصل الرابع من رسالة توما الأكويني ببحث علّة اللطف. وقد تناول خمسة مواضيع:

أوّلها: هل العلّة الفاعلية في اللطف تنحصر بالله تعالى أو يمكن للمخلوقات أن تكون فاعلة اللطف أيضاً؟

ففي الكتاب المقدَّس نصوصٌ يدلّ ظاهرها على أن الملائكة وعيسى المسيح× والعبادات يمكنها أن تكون مصدر اللطف. وقد حصر توما الأكويني فعل اللطف بالله، بناءً على الأساس الذي تبنّاه لماهية اللطف. ففاعل اللطف الوحيد في رأيه هو الله، وباقي الظواهر ينبغي أخذها بالتأويل؛ إذ يعني اللطف نوعاً من مشاركة البشر في ذات الله، وحقيقته انتساب بين الله والبشر، لا يمكن لأيّ مخلوقٍ أن يكون فاعلها، فالفاعل أقوى من المعلول دائماً، وليس هناك ما هو أقوى من ذات الله.

أمّا ذكر الكتاب المقدَّس عيسى المسيح× كعلّةٍ للطف بالإنسان فلا يقصد به المسيح كبَشَرٍ، بل يأتي به في إطار اتّحاد المسيح بالله، وبذلك يمكنه أن يكون علّة للطف.

أمّا العبادات فما هي إلاّ وسائل يتدخَّل بها الله في مصير البشر، والدَّوْر الأساس في تطهير الإنسان يقوم به روح القُدُس الذي يجعل هذه الوسائل ذات أثرٍ. كما يؤكِّد الكتاب المقدَّس على أنه من غير الممكن الدخول إلى ملكوت الله دون روح القُدُس([10]).

أمّا عن اعتقاد آباء الكنيسة بقدرة الملائكة على تطهير الإنسان وما دونه من ملائكةٍ فيقول توما الأكويني: إن هذا التطهير لا يعني التدخُّل التكويني للوصول إلى الفلاح، بل يُراد به إبلاغها الأوامر اللازمة. وبذلك يختصّ التدخُّل لإيصال الإنسان إلى الفلاح بالله وحده.

الموضوع الثاني هو: هل يشترط في تلقّي لطف الله أن يكون الفرد مؤهَّلاً بأعماله الإرادية؟

ويرى توما الأكويني في مقام الردّ نوعين من اللطف: اللطف الذي يكون هبةً من الله، يؤتيها مَنْ يشاء من عباده؛ ولطفٍ يُراد به المساندة والتوفيق من الله، يحثّ به إرادة الإنسان لفعل الخير.

فبالمعنى الأوّل ينبغي أن يسبق تلقّي اللطف تحقُّق الأهلية لدى الإنسان، عبر القيام بأفعالٍ إراديّة خاصّة؛ لأنّ «الصورة لا تتحقَّق إلاّ في المادّة المؤهّلة لها»([11]).

أمّا اللطف بالمعنى الثاني فلا يسبقه أيّ فعلٍ إراديّ للإنسان، بل هو السابق لأيّ فعلٍ.

وهناك إشكالاتٌ تَرِدُ على هذا الرأي، أهمّها: الفاعل قادرٌ مطلق، ويمكنه إحداث صورةٍ دون مادّةٍ، وإلاّ لا يكون قادراً مطلقاً. إذن تحقُّق اللطف ممكنٌ دون أهليّةٍ واستعدادٍ سابقين.

ويردّ توما الأكويني على هذا الإشكال قائلاً: إن القادر المطلق ليس بحاجةٍ إلى مادّة أوجدها فاعلٌ آخر لإحداث الصورة. لكنْ لا مانع من أن يكون إحداثُ صورةٍ ما منوطاً بخلق مادّةٍ مناسبة سابقةٍ له.

بعد أن عرَفْنا الله علّةً فاعلية متفرِّدةً في اللطف، ووجَدْنا أن تحقّق نوع من اللطف منوطٌ بتحقق الاستعداد والأهلية في المتلقي، يُطْرَح السؤال: هل يصبح اللطف لازماً إنْ تحقّقت المؤهّلات؟ ويأتي توما الأكويني بالجواب في الباب الثالث.

بناءً على الأسس التي تمّ تبيينها في البحث السابق الأهليةُ والاستعدادُ لتلقي اللطف يتحقّق عبر أفعال إرادية خاصة، تأتي بدَوْرها نتيجة للطف الله الذي حثّ إرادة فعل الخير. لذلك يمكننا اعتبار تحقق الاستعداد من حيثيتين: الأولى: إن إرادة الإنسان تعلّقت بفعلٍ، وقد تمّ ذلك الفعل، وتحقق الاستعداد لتلقي لطف الله، وما من ضرورةٍ تستدعي مزيداً من لطف الله للإنسان. فكما ذكَرْنا تنحصر العلّة الفاعلة في اللطف بالله وحده، ولا يمكن لمخلوقٍ إجباره للقيام بفعلٍ ما. لكنْ من حيث إن هذا الاستعداد هو معلولُ لطفه، وفعل الله علّةُ تحقُّقه، ما من مانعٍ أن يكون هذا الفعل علّةً لفعلٍ آخر، وبذلك لا يبقى محلٌّ للحديث عن إجبار الله. ونضيف هنا: إن إرادة الله لا تتأخَّر عن المراد؛ فإنْ كانت إرادة الله فلاح الإنسان، وقام الإنسان بفعله الإرادي، مستعيناً بلطف الله، يصبح المراد، أي اللطف الآخر، ضرورياً. ومن البديهي أن هذه الضرورة لا يتمّ تحميلها على الله من الخارج.

أمّا الجزءان الآخران من هذا الفصل فيتناولان الأبحاث الجانبيّة: هل يمكن أن يكون اللطف لشخصٍ أكثر منه لآخر؟ وهل يعرف الإنسان أن اللطف قد شمله؟

وبما أن هذه الأبحاث ليست أساسيّةً في هذا الموضوع لا يتمّ التطرُّق إليها.

يختصّ الفصل الخامس بموضوع إصلاح المذنبين، تحت عنوان: آثار اللطف.

وفي هذا الفصل أيضاً يسعى توما الأكويني إلى الإتيان بتبريرات فلسفية لآراء آباء الكنيسة ونصوص الكتاب المقدَّس في هذا المجال.

«إصلاح المذنبين»([12]) من المفاهيم الأساسية في الديانة المسيحية، ويطلق عليها توما الأكويني justification، أي الخلاص من وزر الإثم وسوء العاقبة، وغفران الذنب. وقد جاء بهذا المصطلح من جذر justice، بمعنى العدل، وعرَّفه بأنّه وضع الشيء في محلِّه. ويبيِّن أثر اللطف في إصلاح المذنبين بقوله: يقتضي العدل أن تنتظم القوى داخل الإنسان على نحو تتبع القوى السفلية القوى الشريفة، وتتبع أشرف القوى الله جلَّ وعلا. والإثم هو تخطّي هذا النظام. أمّا إصلاح المذنب فيكون بإعادة هذا النظام سويّاً. إذن ثمرة لطف الله للمذنبين هي تحريرهم من آثار الإثم، وإقامة العدل مجدّداً في وجودهم.

إنّ الله رحمنٌ مع الإنسان، رحيمٌ به، وهذه الرحمة أبديّةٌ. لكنْ قد يتمّ حجب الرحمة من جهة المتلقّي بسبب الإثم. ورفع هذا الحجاب واستعادة رحمة الله يستوجب لطف الله بالعبد المذنب، والعفو عن ذنبه. ولطفُ الله في هذا المقام هو حثُّ إرادة الإنسان الحرّة إلى ترك الذنب والتكفير عن الإثم. فكلّ حركةٍ من الله في أيّ شيءٍ تطابق ما تقتضيه فطرة ذلك الشيء وطبيعته، ويقتضي طبع الإنسان العمل المختار. لذلك لطف الله في التكفير عن الذنوب يأتي بواسطة العمل المختار. أما اتجاه هذا العمل المختار في المرحلة الأولى يتحقّق عبر عطف توجّه الإنسان إلى الله، والذي يُسمّى بالإيمان؛ والشرط الآخر للانتقال من حالة الإثم إلى حالة الصلاح هو العزم على ترك الذنب.

يعدّ توما الأكويني أربعة مراحل لإصلاح المذنبين، وليس هناك من تقدُّم أو تأخُّر زمني بينها، لكنّ بعضها يلي بعضاً من حيث الترتيب: أوّلاً: تحقّق اللطف؛ ثانياً: حركة إرادة الإنسان الحرّة نحو الله؛ ثالثاً: العزم على ترك الذنب؛ رابعاً: عفو الله عن الذنوب وغفرانها.

ويقول في اعتبار عدم وجود توالٍ زمني لهذه المراحل: إنه يجد الإصلاح عملاً آنيّاً، دون زمانٍ. ويبرِّر ذلك بأنّ سبب التوالي الزمني هو ضعف الفاعل ومقاومة المادّة في الحوادث، وكلاهما منتفٍ في إصلاح المذنبين.

وفي الجزء الأخير من هذا الفصل يبيِّن توما الأكويني أنّ إصلاح المذنبين هو أعظم أفعال الله، وهو من الإعجاز. وقد نُقل عن القدّيس أغسطينوس قوله: إن إصلاح المذنبين أعظم من خلق الملائكة العادلة. أما الدليل الذي يقدِّمه توما الأكويني على مدّعاه فهو تمايز المعاني الكبرى؛ إذ يقول بأننا قد نقيس عظمة فعلٍ من زاوية الفعل نفسه، وقد نقيسها من زاوية نتيجته؛ فبناءً على المقياس الأوّل خلق العالم أعظم من إصلاح المذنبين، لكنْ من حيث المقياس الثاني يصدق العكس. فثمرة الإصلاح هو مشاركة الفرد في جلال الله وجماله، وهو أشرف من كلّ العوالم.

وله قولٌ مشابه في إعجاز هذا الأمر؛ إذ يقول: إنّ المراد بالإعجاز أحياناً تبيين قدرة الله اللامتناهية، وبهذا المعنى يصبح إصلاح المذنبين إعجازاً. وقد يُراد بالإعجاز إظهار صورةٍ في مادّةٍ تفوق قدرتها الطبيعية، كإحياء الميت من جديدٍ، وهو تحقّق صورة الحياة في بَدَنٍ لا يقدر على إظهارها في الحالة العادية، بهذا المعنى إصلاح المذنبين ليس بإعجازٍ، فتحقّق صورة الله في الإنسان قابليّةٌ فطرية في الإنسان الذي خُلق كصورةٍ عن خالقه.

اللطف الإلهي والاستحقاق الإنساني

استحقاق الإنسان من المواضيع المتَّصلة بموضوع لطف الله، وقد تناوله توما الأكويني في الفصل الأخير من رسالته. والسؤال الذي يطرحه هو: هل يستحقّ الإنسان شيئاً من الله أساساً؟

ويأتي بالشرح قائلاً: إن فكرة الاستحقاق بالمعنى الحقيقي يمكن طرحها إنْ كان هناك أمران متساويان؛ فإنْ لحق خيرٌ من أحدٍ بآخر متساوٍ معه يمكن أن نتصوّر أجراً له مقابل ذلك. لذلك لا يمكن تصوُّر استحقاقٍ كهذا بين الله والإنسان. ومع ذلك قد يمكن حصول نوعٍ من الاستحقاق بين الله والإنسان، كالذي يحدث بين المولى والعبد، أو الأب والإبن، كأنْ يقرِّر المولى للعبد استحقاقاً مقابل ما يؤدّي من واجباتٍ وضعها له بنفسه. في هذه الحالة يتحقَّق الشرط اللازم للاستحقاق المتَّفق عليه، على الرغم من أن كلّ ما يصدر من العبد يعود في حقيقته إلى مولاه.

بذلك يكون توما الأكويني قد ردّ على إشكالاتٍ عدّة وردَتْ على فكرة الاستحقاق، منها: كيف يستحقّ الإنسان الثواب من الله على فعل خيرٍ يكون من نصيبه هو، وليس لله؟ أو كيف يستحقّ الإنسان الثواب على فعل خيرٍ قام به بقوّةٍ من الله وعَوْنٍ منه؟ أو إن الاستحقاق يستوجب نوعاً من الدَّيْن في ذمّة الطرف المقابل، وليس على الله دَيْنٌ لأيّ عبدٍ. كما أنه لا استحقاق لأيّ إنسانٍ على الله، والقيام بأيّ عمل خيرٍ هو واجبٌ يؤدّيه تجاه الله، ولا يستحقّ أحدٌ الأجر والثواب على القيام بواجباته.

ويأتي توما الأكويني برأيٍ في أنواع الدين، قائلاً: إن حصل العبد على استحقاقٍ متَّفق عليه لا يحقِّق ذلك دَيْناً على الله للإنسان، بل يظهر دَيْن الله لنفسه، وهو ما وعد الله به وقدَّره. وقد تمّ حلّ ما طُرح من إشكالاتٍ بفكرة الاستحقاق المتَّفق عليه.

الموضوع الآخر الذي بيَّنه توما الأكويني هو أن لا أحد يستحقّ الفلاح الأبدي وحياة الخلد دون لطف الله. لذلك استحقاق الحياة الخالدة منوطٌ بلطف الله. ويشرح الأمر بتفصيل وضع الإنسان في حالتين: الحالة الأولى: هو طاهرٌ من الإثم، كحال آدم أبي البشر في الجنّة قبل الهبوط إلى الأرض؛ والحالة الثانية: الإنسان المذنب، كالبشر الذين يعيشون في هذا العالم.

أمّا سبب عدم استحقاق حياة الخلد في الحالة الأولى فهو أنه في نظام العلّية، الذي هو سنّة الله، لا معلول أشرف وأعظم من علّته. وحياة الخلد أشرف وأعظم من كافّة أعمال الإنسان، لذلك لا يمكنها أن تكون جزاءً ومعلولاً لأعماله.

وفي الحالة الثانية يُضاف إلى ما مرّ في الحالة الأولى وزر الإثم وبؤس الذنب، الذي يستوجب غضب الله وإبعاد الإنسان عن كرم الله وعطفه. لذلك لا يستحقّ الإنسان السعادة الأخروية وحياة الخلد إلاّ بلطف الله، الذي يحقِّق الجزء الأخير من العلّة في الحالة الأولى، وغفران الله ورضاه في الحالة الثانية.

هنا لا بُدَّ من الإشارة إلى ما نستشفّه من فحوى كلام آباء الكنيسة، ونفهم من بيانهم الصريح أحياناً بأن حياة الخلد للسعداء فقط. وقد رُوي عن القدّيس بولس قوله: «إِنَّ أُجْرَةَ الْخَطِيَّةِ هِيَ مَوْتٌ، وَأَمَّا هِبَةُ اللهِ فَهِيَ حَيَاةٌ أَبَدِيَّةٌ بِالْمَسِيحِ يَسُوعَ رَبِّنَا»([13]). فبناءً على تصريحه بشأن الحياة الأبدية بالمسيح عيسى× يمكن القول بأنه يرى السعادة حياةً، والشقاء موتاً، وإنْ لم يكن بمقدورنا أن نجزم في اعتقاده بعدم الخلود في جهنّم.

ويعتقد توما الأكويني في موضوع الاستحقاق أن لطف الله يشمل الإنسان من حيث العزم والهمّة التي يبديها في طاعة الله، وليس من حيث الأعمال التي يقوم بها، وينال نوعاً من الاستحقاق بسبب الاتفاق الذي مرَّ ذكرُه، فيثيبه الله بما يليق بقدرته التامّة ورحمته اللامتناهية. فعظمةُ ثواب الله من عظمة لطفه.

3ـ اللطف في الكلام الشيعي

تداول متكلِّمو الشيعة عدداً من قضايا الكلام في إطار قاعدةٍ أطلقوا عليها قاعدة اللطف، ومنها: وجوب التكليف الابتدائي، وجوب البعثة، ضرورة عصمة النبيّ والإمام، وجوب تنصيب الإمام، وضرورة الثواب والعقاب. وقد وسَّع بعض المتكلِّمين من دائرة قاعدة اللطف، حتّى أجازوا دخول بعض قضايا الفقه في إطارها، فتعدَّدت صور بيان هذه القاعدة والبراهين المقدّمة لإثباتها. ونذكر هنا أهمّ بيانين منها، وهما: بيان السيد إسماعيل الطبرسي في كتاب كفاية الموحِّدين؛ وبيان العلاّمة الحلّي في شرح التجريد، ونتناولهما بالدراسة والبحث.

يبدأ السيد الطبرسي ببيان معانٍ ثلاثة لإطار الموضوع، وتنقيح موضوع بحث المتكلِّمين، ويقيم أدلّةً عقلية ثلاثة لإثبات القاعدة، ويسعى لحلّ الإشكالات الواردة عليها.

المعنى الأوّل: هو اللطف، الرأفة المطلقة، الرفق، المداراة، الإحسان، والرحمة، التي ليست فرضاً على الله، ولم يدَّعِ أحدٌ وجوبها عليه.

والمعنى الثاني: هو إتيان حقّ كلّ مستحقّ، بيان ما يصلح حال العباد وما يفسدها، وكلّ الأمور التي تؤثِّر في صلاح دنيا الناس وآخرتهم. واللطف بهذا المعنى واجبٌ على الله، ولم يشكِّك أحدٌ فيه. ومن ثمرات هذا اللطف بيان التكاليف والواجبات، وإرسال الكتب والأنبياء، وتنصيب الأولياء.

أمّا المعنى الثالث، الذي هو موضع بحث المتكلِّمين، فـكلّ ما يؤثِّر في إبعاد العباد عن المعصية، ويقرِّبهم إلى الطاعة، لكنّه خالٍ من التأثير على قدرتهم في تأدية واجباتهم، ولا يسلبهم اختيارهم. ويحدِّد السيد الطبرسي موضع الخلاف بين المتكلِّمين في وجوب اللطف بهذا المعنى أو عدمه.

وقد تمَّ تقييد تعريف اللطف بثلاثة أمور؛ اتقاءً للاشتباه بالمعنى الخاصّ:

القيد الأوّل: هو وضوح التكليف وأحكامه وثبوتها وقطعيّتها. فلا مجال للحديث عن التقرُّب بالطاعة إلاّ بعد ثبوت التكاليف وأحكامها. لذلك بيان التكاليف من قِبَل الله ليس لطفاً بهذا المعنى؛ لأنه لا يقرِّب الإنسان من الطاعة، بل سبيل تحقيق الطاعة.

والقيد الثاني هو أن لا يكون التقريب والإبعاد في حدّ الإجبار، بحيث يسلب إرادة الإنسان، ففي هذه الحالة لا يمكن اعتبار امتثال الإنسان طاعةً.

أمّا القيد الثالث فهو أن لا يؤثِّر فعل اللطف على قدرة المكلِّف في إتيان عملٍ معين (مصداق التكليف) أو تركه، فإنْ فقد المكلَّف قدرته على القيام بالعمل (التكليف) نتيجة اللطف حينها يصبح اللطف من مقدّمات الاختيار، ويصبح التكليف دونه قبيحاً([14]).

يتّضح من بيان السيد الطبرسي أنّ اللطف في نظره نوعٌ من تدخُّل الله في حياة الإنسان اليومية، يحثُّه على فعل الخير، ويبعده عن معصية الله، مع حفظ حرّيته التامة واختياره الكامل. فهذا التدخُّل من أفعال الله التكوينية، ولا علاقة له بالتشريع وبيان التكاليف وإرسال الرسل. وبالطبع يدخل التشريع من قِبَل الله في دائرة اللطف بالمعنى الثاني، لكنّه ليس موضع خلافٍ في علم الكلام.

ولإثبات وجوب اللطف على الله يأتي السيد الطبرسي بثلاثة أدلّة، يبتني أحدها على الحُسْن والقُبْح العقليين، لكنّ الآخران ليسا كذلك، وكما يقول السيد الطبرسي: ملزمان للأشاعرة أيضاً.

الدليل الأوّل: هدف الله من التكليف طاعة العباد. ويمكننا أن نتصوَّر صدور تكليف من الله، وللعبد الإتيان بما كُلِّف به أو تركه، لكنْ إنْ لم يفعل الله ما يحثّ العبد على الطاعة سيعصي الأمر. ففي هذا التصوُّر إنْ لم يفعل الله ما يحثّ العبد على الطاعة يكون ناقضاً للغرض. كصاحب مأدبةٍ قد دعا أحدهم إلى مأدبته، وللضيف الحضور أو عدمه، لكنْ إنْ لم يصدر من المُضيف لباقةٌ وترحيب سوف لن يحضر الضيف. فإنْ امتنع المُضيف عن الترحيب بضيفه نقض غرضه. وبذلك اتَّضحت كبرى البرهان. ونقض الغرض قبيحٌ، ولا يصدر القبيحُ من الله.

الدليل الثاني: من الضروريّ حدوث كلّ فعلٍ له حافزٌ ووازعٌ يدفع للقيام به، ويخلو من أيّ داعٍ لتركه، ويتمتَّع الفاعل بالقدرة على القيام به، وإلاّ يلزم تصنيفه في باب تخلُّف العلّة عن المعلول. بعبارةٍ أخرى: إنْ كان الفاعل المختار قادراً على الإتيان بفعلٍ ما، ولديه الحافز للقيام به، وما من عاملٍ يمنعه، فسيقوم بذلك الفعل ضرورةً؛ إذ إنّ منطلقات الفعل تامّةٌ. واللطف بالمعنى الوارد في البحث من هذا الصنف من الأفعال. فالله قادرٌ عليه، ولديه الداعي للقيام به، وما من أمرٍ متصوَّر يصرفه عن تحقيقه، إذن صدوره عن الله ضروريٌّ. وكما هو واضحٌ يرتكز هذا البرهان على استحالة تخلُّف المعلول عن العلة. كما أنّ مرتكز البرهان السابق هو استحالة صدور الفعل القبيح من الله. لذلك يجد السيد الطبرسي هذين البرهانين ملزمين للأشاعرة.

الدليل الثالث: بما أنّ الله هو الكمال المطلق، وفعله أتمّ الأفعال وأصلحها، ومن المستحيل أن يصدر عنه غير الأتمّ والأصلح؛ ومن ناحية أخرى تقريب العباد من الطاعة وإبعادهم عن المعصية هو الأصلح لحالهم، إذن هذا الفعل واجبٌ على الله.

ويرى السيد الطبرسي الدليلين الأخيرين كافيين لإثبات اللطف بالمعنى الثاني. ثمّ يستشهد بآيات من القرآن الكريم، والتي تتحدَّث عن هدف الخلق وضرورة البعثة. ومن ثمّ يأتي بالإشكالات التي تَرِدُ على قاعدة اللطف، ويشرحها، وينقل ردود القدماء عليها، ويقدِّم نقده لها، ثمّ يأتي بردِّه على هذه الإشكالات.

الإشكال الأوّل: إنْ كان الله ذا لطفٍ بعباده يجب أن لا يخلق كافراً مبتلىً بالأمراض والتعاسة والبؤس، أو أن يميته قبل التكليف؛ إذ إنه مخلَّدٌ في عذاب الآخرة بسبب كفره، وفي الدنيا مبتلىً بشتّى أنواع المرض والتعاسة، لكنْ لا يفعل الله ذلك، فليس ذا لطفٍ.

الإشكال الثاني: إذا كان تكليف العباد لطفاً فلماذا يحرم الله عباده عدّة سنواتٍ من هذا اللطف؟! وما من فرقٍ بين صبيٍّ مكلّف وصبيٍّ قرب تكليفه.

الإشكال الثالث: بعثة النبيّ الخاتم لطفٌ في حقّ جميع العباد، ومع ذلك منعه الله أربعين سنةً عن عباده.

الردّ المنقول إجمالاً عن المتكلِّمين هو أنّ اللطف يعود إلى ما قبل إتمام الحجّة، والإشكالات الواردة تعود جميعها إلى ما بعد إتمام الحجّة. لذلك يخرج جميعها عن دائرة موضوع اللطف. ويقول السيد الطبرسي، بعد هذه الملاحظة: إنّ هذا الردّ غير مستحسنٍ؛ إذ يعود تعريف اللطف الذي تبنَّيْناه إلى ما بعد إتمام الحجّة.

ولا يخلو كلام السيد الطبرسي في هذا الموضع من الإبهام، فمن غير الواضح كيف حلّ ردّ المتكلِّمين الإشكال الأوّل؛ فإنْ حملنا الردّ على أنّ اللطف بمعنى إرسال الأنبياء وتكليف العباد، هو موضع الإشكال، وأخذنا أسبقية اللطف على إتمام الحجّة بمعنى إتمام الحجّة من قِبَل الله على الخلق بالتكليف والتشريع، آنذاك لا ردّ يبقى على الإشكالين الثاني والثالث، وإنْ حُلّ الإشكال الأوّل. وبناءً عليه يشمل اللطف فرداً ما، ويتمّ تحديد التكليف وبيان الشريعة، لكنْ سوءُ اختياره ينتهي به إلى جهنّم.

وإنْ أخذنا اللطف بالمعنى الثالث لا يمكن حلّ الإشكال الأوّل بالجواب المذكور؛ بالسبب الذي ذكره السيد الطبرسي، من جهة أن الإشكالين الثاني والثالث لا يدخلان في دائرة اللطف أساساً؛ لأنّ اللطف يسبقه إمكان الطاعة، الذي هو بدَوْره مسبوقٌ بالتكليف. لذلك لا يعني التأخير في التكليف حجب هذا اللطف.

لكنْ بناءً على الحلّ الذي يقدِّمه السيد الطبرسي، إنْ اعتبرنا وجوب اللطف من باب الامتناع عن نقض الغرض فيكون آنذاك فرعاً عن وجوب التكليف، ويتفرَّع وجوب التكليف بدَوْره عن حسن التكليف. إذن حُسْنُ اللطف متفرِّعٌ عن حُسْن التكليف، فحيثما أمكن القطع بحُسْن التكليف يمكن الحكم بوجوب اللطف. لكنّ حُسْنَ التكليف ليس حُسْناً ذاتيّاً، ولا يحسب فيه الثمار والنتائج. لذلك لا يمكن القطع بحُسْن التكليف إلاّ بواسطة علاّم الغيوب. فحيثما منع اللطف لا بُدَّ أن يكون التكليف فاقداً للحُسْن أو مصحوباً بمفسدةٍ.

وإنْ اعتبرنا وجوب اللطف من باب الامتناع عن تخلُّف المعلول عن العلة يصبح اللطف آنذاك فرعاً على وجود الحافز في ذات الله، وعدم وجود المانع. لكنْ من غير الممكن للبشر العلم بوجود الحافز وعدم وجود المانع في مواضع معيَّنة، فلا يمكن القول أبداً بأنّ اللطف كان واجباً، لكنْ تمّ حَجْبُه. فأينما فُقد اللطف يمكن إرجاع ذلك إلى عدم وجود الحافز، أو وجود المانع.

والحلّ ـ باختصارٍ ـ هو أنّ قاعدة اللطف، كقضيّةٍ شرطية، تقول: إنْ كان فعل الله ممّا يقرِّب العبد إلى الطاعة، ويبعده عن المعصية، فالقيام به واجبٌ على الله. لكنْ لا يمكن لهذه القضية أن تعيِّن إنْ كان ذلك الفعل الخاصّ لطفاً أو لا في أيّ مصداقٍ كان. فحيثما قيل: إن اللطف حُجب يمكن الردّ بأنّ ما حُجب لم يكن لطفاً. لذلك لا يمكن للإشكالات التي تَرِدُ على المصاديق أن تخدش قاعدة اللطف.

يبدو أن هذا الحلّ بحاجةٍ إلى مزيدٍ من التأمّل، ويستحسن أن ندقِّق فيه قبل الاسترسال في البحث.

صحيحٌ أنه ما من قضيّةٍ شرطية يمكن أن تقدِّم حكماً على وجود ما يتقدّمها أو عدمه، فالقضية التي تقول: «إنْ كان عملٌ يقرِّب العبد إلى الطاعة فيجب على الله القيام به» لا يمكنها أن تبيِّن بمفردها إنْ كان الفعل «أ» يقرِّب العبد إلى الطاعة. كما ينبغي الالتفات إلى أنّ هذه القضية لا يمكنها بيان أنّ الفعل «أ» لا يقرِّب العبد إلى الطاعة. فكون فعلٍ ما مُقرِّباً خصوصيّةٌ واقعية، ينبغي إثباتها أو نَفْيها بطريقتها الخاصة.

أمّا الإشكالات في المصاديق على قاعدة اللطف فتضيف صغرى للقضية الشرطية المذكورة، وتسعى من خلال نقض الصغرى إلى إثبات نقض الملازمة، كأنْ يقال: إن الفعل «أ» مقرِّبٌ للطاعة، وكلّ فعلٍ مقرِّبٌ لطاعة الله واجبٌ، إذن الفعل «أ» واجبٌ على الله، لكنه ليس واجباً على الله في الواقع (يتمّ إثبات ذلك بواسطة حذف القياس البيني واستخدام الحدّ الوسط، أي «لم يفعل الله ذلك»)، فتبطل بذلك الملازمة. وباختصارٍ يتمّ السعي في الإتيان بشاهد صدقٍ يليه ما يكذّبه، ويتحقّق ذلك بالاستعانة بقضيّةٍ أخرى.

وإنْ أرَدْنا إثبات بطلان القضية الشرطية بطريقةٍ مستقلّة ـ كما فعل السيد الطبرسي ـ، دون إلحاق صغرى بها، ثمّ إثبات بطلان الأخيرة، ندخل في دائرة المصادرة. فإنْ جازَتْ هذه الطريقة يمكن انقاذ كلّ قضيّةٍ شرطية كاذبة، تمّ إبطالها بمصداقٍ ينقضها، وإثبات بطلان مصداق النقض بالاستعانة بالقضية الشرطية، كما لو أرَدْنا إثبات بطلان القضية الشرطية القائلة: «إنْ كان شخصٌ ما عالماً فهو فيلسوفٌ» بقول: «داروين عالم، لكنه ليس فيلسوفاً، إذن القضية الشرطية باطلةٌ». ثمّ نأتي في مقام الردّ على مصداق النقض بقول: «بما أنّ داروين ليس فيلسوفاً فهو ليس بعالمٍ». وبديهيٌّ أن هذا الردّ لا يتعدّى كونه مصادرةً.

ويتمسَّك السيد الطبرسي في البحثين الكلاميين: النبوة العامة؛ وعصمة الأنبياء والأئمّة^، بقاعدة اللطف؛ إذ يرتكز بيانه في إثبات النبوة العامة على قُبْح نقض الغرض؛ لأنّ هدف الله من خلق الإنسان هو نَيْله الكمال الأخروي، وهذا الكمال لا يمكن تحقيقه دون بعثة الأنبياء والرسل، التي بدَوْرها تمثِّل تقريب العبد من الطاعة وإبعاده عن المعصية بأتمّ وجهٍ، فإنْ لم يبعث الله الأنبياء والرسل لما تحقَّق غرضه.

وأمّا العصمة فقد ورد في إثباتها أنّ الغرض من البعثة هو إرشاد الناس وهدايتهم، والغرض من الهداية هو طاعة الناس لله، فإنْ جعل الله النبيّ والإمام معصومين سيمتثل لهم الناس برحابة صدرٍ وطمأنينة، لذلك جعلُ الأنبياء معصومين يقرِّب العباد من الطاعة، وواجبٌ على الله تعالى. ويذيِّل السيد الطبرسي هذا البرهان بقوله: إن هذا الدليل هو أتمّ الأدلّة؛ لاشتماله على عصمة الإمام، قبل الإمامة وبعدها.

توحي مراجعة البيان الأوّل بأن هذا البرهان لا ينسجم مع المبنى الذي أورده السيد الطبرسي في مستهلّ البحث؛ إذ إنّه عدّ ثلاثة قيودٍ في تعريف موضوع بحث قاعدة اللطف: أحدها: تحقّق التكليف الشرعي، وتبدأ قاعدة اللطف بعد هذا التحقُّق، لذلك لا يمكن تطبيق هذه القاعدة في موضوع النبوّة، فما من تكليفٍ محقّق سبق النبوة. بعبارةٍ أخرى: ما من طاعةٍ يمكن تصوُّرها قبل البعثة لنقول: إن البعثة تقرب العبد إليها. ثانيها: يتموضع غرض الوصول إلى الكمال في الحدّ الأوسط من هذا البرهان، والمراد بالكمال هو الكمال الأخروي (كما صرَّح بذلك السيد الطبرسي)، فما تمّ ادّعاؤه من لطفٍ يقع في دائرة التمكين؛ إذ لا يمكن للعبد معرفة طريق الطاعة دونه، ولذلك لا يكون متمكّناً من الطاعة.

 يبدو أنّه أراد المعنى الثاني من اللطف في هذا الموضوع، وعبَّر عنه بقاعدة اللطف من باب التساهل. وبذلك يصبح هذا البرهان بياناً آخر للبرهان الأوّل، الذي يبتني على عدل الله. وكيفما كان الاستدلالُ بقاعدة اللطف ـ إنْ كانت تامّةً ـ على العصمة بالبيان الذي قدَّمه يبدو خالياً من الإشكال.

ويختلف بيان الشيخ الطوسي والعلاّمة الحلّي لقاعدة اللطف عن بيان السيد الطبرسي؛ فقد بحثوا اللطف من منظورٍ عامّ، حتّى حدَّدوا له ثلاثة أقسام: لطف مصداقه فعلٌ من أفعال الله، ولطف مصداقه فعل المكلَّف، ولطف مصداقه فعل غيرهما. فيبدو وكأنَّهما يقدّمان تعريفاً لماهية كلِّية، يمكن لها التحقُّق في ثلاث صور.

يقول العلاّمة الحلّي في تعريف اللطف: «اللطف هو ما يكون المكلَّف معه أقرب إلى فعل الطاعة، وأبعد من فعل المعصية، ولم يكن له حظٌّ في التمكين، ولم يبلغ حدّ الإلجاء»([15]). إلى هنا يتشابه تعريف العلاّمة الحلّي وتعريف السيد الطبرسي، لكنْ بدل القيود الثلاثة التي ذكرها الطبرسي يذكر العلاّمة الحلّي فرقاً بين اللطف والتكليف من جهة الطاعة والعصيان. ويبيِّن ذلك بأنّ اللطف لا يؤثِّر في العصيان والطاعة من حيث الوجود والعدم، لكنّ التكليف شرطٌ ضروريّ لتحقُّق الطاعة والعصيان، فإنْ لم يكن هناك تكليفٌ فما من محلٍّ للعصيان.

وبعد تعريف اللطف يشرح العلاّمة الحلّي برهان الشيخ الطوسي الذي قدَّمه على أساس استحالة نقض الغرض، ويقول: إنّ غرض الله من فرض التكاليف الشرعية هو أن يمتثل العباد لها؛ فإنْ علم أنهم لا يمتثلون لها من دون اللطف، ويمنع اللطف عنهم، ينقض غرضه، كالمُضيف الذي يمتنع عن الترحيب والتأدُّب مع ضيفه، وهو يعلم أن الضيف سوف لن يلبّي الدعوة دون ترحيبٍ وتأدُّبٍ. وهذا البرهان، كما هو واضحٌ، طُرح في مقابل رأي الأشاعرة؛ إذ افترض وجود غرضٍ خاصّ لله يمكننا كشفه، ونسب إلى الله استحالة نقض الغرض الذي يُعَدّ قبيحاً عقليّاً.

ثمّ جاء بالإشكالات الثلاثة التي أوردها الأشاعرة على اللطف:

1ـ هل اللطف بالمعنى الذي تمّ بيانه يشمل الكفّار أيضاً؟ إنْ شملهم فلِمَ هم باقون على كفرهم؟ إذن لطف الله لم يكن لطفاً. وبعبارةٍ أخرى: لم يفعل الله ما يقرّب الكافر من الطاعة، فلا يمكن أن يقرِّبه الله ولم يقترب. فإنْ اختَرْنا عدم شمول الكافر باللطف سيأتي السؤال: هل الله عاجزٌ عن اللطف بالكفّار؟ ويقتضي الفرض الأوّل نقض وجوب الوجود من جميع الجهات. أما الفرض الثاني فيستلزم البخل، وكلاهما مستحيلٌ على الله. إذن لا عمل واجباً على الله، ولا عمل قبيحاً منه؛ يهدي مَنْ يشاء ويضلّ مَنْ يشاء.

وقد ورد ردٌّ على هذا الإشكال بأنّ اللطف ليس العلّة التامّة للقرب إلى الله تعالى، بل هو جزء العلّة، والجزء الآخر الإرادة الحرّة للعبد الذي شمله اللطف، والكفّار ينأَوْن عن القرب بإرادتهم.

2ـ حتّى إنْ سلَّمنا، من باب الافتراض، بأن لله ـ كالإنسان ـ أغراضاً، ونقض الغرض من جانبه قبيحٌ، فمستحيلٌ أن يصدر عنه، مع ذلك لا تكفي هاتان المقدّمتان لإثبات وجوب اللطف. فكلّ فعلٍ كان مصداق اللطف، وإنْ أدركنا المصلحة فيه، لا ينتفي احتمال احتوائه مفسدةً خفيّة، فلا يمكن الحكم بأنّ الإتيان به واجبٌ على الله، وتركه قبيحٌ، فقد يكون الترك بسبب القُبْح أو المفسدة الخفيّين.

وقد قيل في الردّ على هذا الإشكال: إنه لا معنى للمفسدة والقُبْح الخفيّ الذي لا يمكن للإنسان إدراكهما؛ لأنّ الله كلَّف الإنسان بالابتعاد عن كلّ قبيحٍ ومفسدةٍ، وعليه أن يكشف له عن كلّ قبيحٍ بالعقل أو الشريعة، لذلك لا يمكن تصوُّر قُبْحٍ أو مفسدةٍ يرتبطان بعمل الإنسان ويخفيهما الله.

واضحٌ أنه في هذا الردّ لم يُستَنتَج من الجهل بالمفسدة عدم وجودها؛ ليلزمنا الدخول في الإشكال المعروف القائل بأن عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود، بل تمّ الاستدلال بالتلازم بين التكليف والعلم بمتعلّقه، واستنتاج ضرورة معرفة كلّ المفاسد وجهات القُبْح، وخلوّ متعلّق التكليف من أيّ قُبْحٍ.

ويفيد شرح العلاّمة الحلّي لكلام الشيخ الطوسي ما مرّ باختصارٍ، وإنْ لم يَخْلُ من إبهامٍ. ويبدو أن إشكال الأشاعرة كان مبتنياً على وجود مفسدةٍ ووجه قُبْحٍ في فعل الله، الذي نراه مقرِّباً. ولا يمكن نفي هذا الاحتمال بقول: إنّ الله نهانا عن كلّ ما هو قبيحٌ، فلا بُدَّ أن يكون لنا علمٌ بجهات القُبْح كافّةً، ولا معنى لوجود القُبْح الخفيّ؛ لأنّ الإشكال ليس في القُبْح في أفعالنا، بل في فعل الله، ومن المعقول تماماً أن يكون فعلٌ من أفعال الله مقرّباً إلى الطاعة في نظرنا، لكنّ في نظر الله، الذي هو علاّم الغيوب، يحتوي مفسدةً عظمى، لا يمكن لعقلنا إدراكها، ولذلك لا يأتي به الله. فهناك تزاحمٌ بين مصلحة الفعل، التي يمكننا إدراكها، والمفسدة التي هي خارج قدرة إدراكنا. والتكاليف الشرعية أيضاً لا يمكنها أن تنفي أو تثبت وجود مفاسد كهذه، أو عدم وجودها، من باب التلازم.

وقد يمكن شرح كلام الطوسي المقتضب عن «وجوه القُبْح منفيّة» ببيانٍ آخر؛ فإنْ تمّ القبول بوجود الغرض وراء أفعال الباري، وكان الغرض من التكليف امتثال العباد وتقرُّبهم، فبناءً على الأساس المتَّبع، كلّ فعلٍ ينقض هذا الغرض قبيحٌ، وتركه واجبٌ. فيكفي أن نكتشف عقليّاً أن فعلاً ما ينقض الغرض لنحكم بقُبْحه، وفي المحصِّلة ما يقابله يكون واجباً عقلاً. ويكفي في كلّ الأفعال حين تكون مصداقاً للطف الله أن نحكم بقُبْح تركها، ووجوب الإتيان بها؛ لمجرّد أنّ تركها يؤدّي إلى نقض غرض الله. وركيزة حكم العقل بهذا الوجوب هو التأكُّد من تأثير الفعل على تحقّق الغرض. ولا يمنع احتمالُ وجود موانع خفيّة العقلَ من الحكم بفعلٍ معين، كما لا يمنع العقلاء من ترجيحه.

وبناءً على ما ورد كلُّ فعلٍ من قِبَل الله يقرِّب العبد إلى الطاعة يكون موافقاً لغرضه تعالى، وتركه ناقضاً للغرض، ولذلك يتَّخذ الحكم بوجوبه صفة القطعية. فمجرّد احتمال وجود مفسدةٍ ما لا يمكنه خلع صفة نقض الغرض عن الفعل، ولذلك لا يمكنه أن يغيِّر الحكم بقُبْحه. وبالطبع إنْ تمّ إثبات وجود مفسدةٍ أعظم وأهمّ عقلاً آنذاك سيرجِّح العقل نقض الغرض على المفسدة؛ من باب دفع الأفسد بالفاسد، لكنّ تشخيص مفاسد كهذه في باب اللطف شاقٌّ جدّاً.

ويظهر من هذا البيان أنه، خلافاً لبيان العلاّمة الحلّي، لا يلزم العلم بعدم وجود المفسدة للحكم على وجوب اللطف، بل يكفي عدم العلم بوجود مفسدةٍ أعظم. لذلك يمكن تفسير عبارة «وجود القُبْح» بأيّ قبحٍ.

3ـ الإشكال الثالث على قاعدة اللطف هو إنْ كان اللطف واجباً على الله يمتنع عكسه، لكنْ أتى الله بأفعالٍ تعارض اللطف، إذن اللطف ليس بواجبٍ. والدليل على ذلك الإخبار عن سعادة بعض العباد وشقاء آخرين يدفعهم إلى المعصية، وينقض ذلك اللطف. فإنْ علم أحدٌ بأنه من أهل الجنة فسوف لن يمتنع عن المعصية، كما أن الذي أخبره الإله صادق الوعد بأنّه من أهل جهنّم سوف لن يرتدع عن المعاصي؛ لأنّ المعصية سوف لن تغيِّر مصيره.

وقيل في الردّ على هذا الإشكال بأنّ الإخبار بسعادة العباد أو شقائهم من قِبَل الله لا تدفعهم أو تغريهم بارتكاب المعاصي والذنوب، لذلك لا ينقض لطف الله. أما لمَنْ وُعدوا بالسعادة «الإخبار بالجنّة ليس إغراءً مطلقاً؛ لجواز أن يقترن به من الألطاف ما يمتنع عنده من الإقدام على المعصية، وإنْ انتفى كونه إغراءً»([16]) . وفي شأن الإخبار بالشقاء أيضاً يمكن القول بأنّ مَنْ يأتيه الخبر إمّا أن لا يؤمن بصدق خبر الله ـ كأبي لهب ـ، ولا يؤثِّر ذلك في استخفافه بالإثم؛ وإمّا أن يكون ـ كإبليس ـ عارفاً بصدق أخبار الله، وفي هذه الحالة يعرف أن مزيداً من الآثام والمعاصي تعني مزيداً من العذاب، ولا يشكِّل الخبر إغراءً له بارتكاب المعصية.

يبدو أنّ ما يريده العلاّمة الحلّي من عبارته في ردّ الإشكال على الإخبار بالسعادة يختلف قليلاً عمّا يوحيه ظاهر العبارة، فلا يقصد بأن الله يفعل ما يمنع العبد من المعصية حقيقةً إلى جانب هذا الإخبار، فيمتنع الإتيان بالمعصية عليه؛ لأنّ ذلك ينافي مبنى التكليف والاختيار، الذي أخذ به العلاّمة. والمراد هو أن الله يأتي بمزيدٍ من اللطف إزاء ما يخبر عن السعادة الأخروية (التي يعتبرها صاحب الإشكال مغريةً بالذنوب)؛ ليمحو أثر هذا الإغراء. وبما أنّ فرضاً كهذا ممكنٌ لا يمكن اعتبار الإخبار ينقض اللطف.

ومن الممكن هنا الإدلاء بردٍّ مشابه للردّ الذي قدَّمه على الإشكال الثاني. فإنْ قبلنا بأن ذات الإخبار بسعادة الفرد يمكنه أن ينقض اللطف لا يمكن حلّ الإشكال بافتراض لطفٍ مضاد. فكما مرَّ سابقاً إنْ كان هذا الإخبار ناقضاً للغرض، وقبيحاً، لا يتيح لنا ذلك وضع الاحتمال محلّ علم اليقين ما لم نحصل على علمٍ قاطع بوجود مصلحةٍ أسمى وأهمّ، تمّ بسببها دفع الأفسد بالفاسد.

ورُبَما من الأجدر اتباع رأي الشيخ الطوسي والعلاّمة الحلّي في باب الثواب والعقاب([17])؛ لرفض هذا الاحتمال، والقول بأنّ الإخبار عن سعادة فردٍ يعني التنبُّؤ بأنّه سيأتي بالطاعة وينأى عن المعاصي، ولذلك سيستحقّ السعادة. لذلك من غير المعقول افتراض أن الإخبار يغري الفرد بارتكاب المعاصي؛ لأنّ مَنْ أورد الإشكال يفترض أن الفرد الذي يأتيه الخبر يوقن بصدق المُخْبِر والخبر، آنذاك حين يؤتى بخبر نيله الجنّة سيصبح على يقينٍ من أنه سيعمل الصالحات، وينأى عن المعاصي، فكيف لهذا اليقين أن يكون إغراءً بالسيِّئات؟

المؤاخذة الوحيدة التي قد تَرِدُ على ذلك هو أنّ نبوءة الله بسعادة الفرد قد تؤوَّل لديه بشموله بالشفاعة (التي تنطوي على غفران الكبائر)، في هذه الحالة قد يحفّز الإخبار غرورَه بأنه سيغفر له وإنْ اقترف إثماً، بدل إيقاظ يقينه (بأنه سيعمل صالحاً وينأى بنفسه عن المعاصي)، وبهذا يكون الإخبار إغراءً بالمعصية، ويعارض اللطف.

وإنْ وجد هذا الإشكال محلاًّ للورود يمكن القول في حلّه: إنّ افتراضاً كهذا ليس نقضاً حقيقيّاً لقاعدة اللطف؛ فبناءً على هذا الافتراض الإثم الذي يدور الإشكال حوله سيُغْفَر بدليل الإخبار بالسعادة، لذا لا ينقض الغرض الأصلي (أي تقرُّب العبد ونَيْل السعادة الأخروية)، وإنْ بدا وكأنه ينقض غرض الله تعالى (أي غرض طاعة العباد)؛ إذ إن العبد لا يفقد فرصة القرب إلى الله ونَيْل السعادة بسببه.

فكما رأينا، في الاستدلال على قاعد اللطف، جاء بالترتيب: الغرض من التكليف، امتنان العباد والغرض من الامتنان، التكامل ونَيْل الكمال الأخروي والقرب الإلهي، وبعبارةٍ أخرى: الجنّة. فإنْ تحقَّق الغرض الأصلي الإخلالُ بالغرض المرحلي أو المتوسّط لا يجعل الأمر نقضَ غرضٍ قبيحاً عقليّاً.

ويظهر من كلام الشيخ الطوسي والعلاّمة الحلّي في بيان قاعدة اللطف والردّ على الإشكالات الواردة عليها أنّ تصوّرهم من اللطف معنىً عامّ، يشمل فعل الله التشريعي، وتكليف العباد، وإرسال الأنبياء، إضافةً إلى فعل الله التكويني، بمعنى تدخله في حياة الإنسان على نحو يحفِّزه لعمل الخير. وسيتّضح ذلك أكثر في بيان أحكام اللطف، فقد تمّ تحديد عدّة خصوصيّاتٍ أو أحكامٍ له، يوحي بعضها بأنّ المراد من اللطف هو تنصيب النبيّ أو الإمام (فعل الله التشريعي)، أو يشعر بأن المراد هو فعل الله التكويني. وقد عرض العلاّمة الحلّي الحكم الأوّل حين شرحه أقوال الشيخ الطوسي في أحكام اللطف، وعَدَّ له خمس خصوصيات. وبدَوْرنا نعيد الأوّل، ونأتي بستّ خصوصيّات في بيان اللطف.

1ـ إنْ منع الله اللطف سيكون عقاب المكلَّفين على المعصية قبيحاً، لكنْ يجوز ذمُّهم وملامتهم. ويوحي هذا القول بأن المراد من اللطف بعثة الأنبياء والتشريع. ويشرح العلاّمة الحلّي ذلك بقوله: إن منع الله لطف التشريع عن قومٍ يبدو عقليّاً وكأنّه يدفعهم إلى الذنوب؛ لأنهم لا يستطيعون تمييز الطاعة والعصيان، والقبيح والحَسَن بعقلهم، فمن غير الجائز عقوبتهم على المعاصي؛ إذ لم يملكوا النأي عنها، لكنْ لا إشكالَ في ذمّهم؛ لأنّ الذمّ يعود للفعل القبيح، سواء كان الفاعل مكلَّفاً أو مختاراً أو لم يكُنْ، بخلاف العقاب على العصيان الذي يلزم كون الفرد مكلَّفاً.

ويُفْهَم من هذه الصفة أن ليس المراد من اللطف في هذا الباب اللطف بمعنى الفعل التكويني (التوفيق) الإلهي؛ لأنّ منع لطف كهذا لا يجعل العقاب قبيحاً، ولا يعني الدفع إلى المعصية إطلاقاً؛ إذ أُخذ بعين الاعتبار في تعريفه عدم تأثيره على حرّية الاختيار.

2ـ يجب التناسب بين مصداق اللطف وموضوعه حتّى يكون حدوث اللطف ذا أثرٍ في حصول موضوعه. فإنْ لم تفرض هذه المناسبة لا يكون فعلٌ أَوْلى من آخر. لكنّ عبارة الشيخ الطوسي هنا مغلقةٌ. وما يُفْهَم من شرح العلاّمة الحلّي لها هو أنّ الصيام، على سبيل المثال، طاعةٌ تقرِّب العبد من الله؛ فإنْ وهب الله الإنسان من صحّة البدن ما يتيح له الصيام فقد لطف به. فهناك مناسبةٌ بين الصيام وصحّة البدن. فإنْ لم تُراعَ هذه المناسبة لا يبقى من فرقٍ بين اللطف متمثِّلاً في الفعل المذكور وأيّ فعلٍ آخر ـ كإطالة اللحية ـ. وبديهيٌّ أنّ أفعالاً كهذه خارجُ دائرة اللطف.

3ـ يجب أن لا يؤدّي اللطف إلى إجبار المكلَّف على الإتيان بفعلٍ خاصّ، وأن لا يسلبه الاختيار. وتوحي هذه الصفة بأن المراد من اللطف أمرٌ أبعد من إنزال الشريعة وإرسال الرُّسُل، فمن البديهيّ أن هذا الحدّ من اللطف لا يحقِّق إجباراً ولا يسلب اختياراً.

4ـ ينبغي أن يعلم المكلَّفون باللطف الذي حلّ بهم. ويقول العلاّمة الحلّي، في شرح هذه العبارة: إنّ المكلَّف إذا لم يطَّلع على اللطف وموضوعه والمناسبة بينهما سوف لن يكون اللطف داعياً له إلى فعل الخير. ويتبيَّن من هذا القول أنّ المراد من اللطف هنا هو التشريع؛ ففعل الله التكويني يمكنه أن يحفِّز المكلَّف لفعل الخير، ولو كان لا يعلم به.

5ـ اللطف يفوق الحُسْن قيمة، أي إن الحُسْن فيه حدّ الوجوب. وقد اعتبر العلاّمة الحلّي أنّ فعل «يزيد» الوارد في قول الطبرسي قد ورد كفعلٍ لازم، وبذلك يفيد المعنى المذكور. ويمكن قراءته كفعلٍ متعدٍّ، وآنذاك يصبح معنى قول الشيخ الطوسي: يزيد اللطف من حُسْن الفعل، فحَسْب التعريف: اللطف مقدّمةٌ لنيل الكمال.

6ـ قد لا يكون مصداق اللطف محدّداً، وتصلح أفعالٌ عدّة لأن تكون المصداق له. على سبيل المثال: أن يرزق فردٌ ما بولدٍ يكون لطفاً في حقِّه، لكنْ لا يتعين ذلك بولدٍ خاصّ، بل أيّ ولدٍ يرزق به يمكن أن يكون مصداقاً للطف. وفي شأن الإنسان أيضا الكفّارات لطفٌ من الله، لكنْ لا يحدّد اللطف بكفّارةٍ معيَّنة، بل أيّ من الكفارات يمكنه أن يكون مصداقاً للطف.

7ـ في الخصوصية الأخيرة كلّ بدائل مصداق اللطف من الأفعال يجب أن يتوفّر فيها الحُسْن. وهذا القيد ورد مقابل رأي بعض المتكلِّمين الذين قالوا بأنّ الفعل القبيح يمكنه أن يكون بديلاً عن فعلٍ من أفعال الله (مصداق اللطف). على سبيل المثال: ظلم إنسانٍ لآخر قد يكون بديلاً عن مرضٍ قدَّره الله له، وجعله سبيلاً لتحقيق لطفه (كأنْ يذكر شدّة العذاب وألمه).

وتُظْهِر الخصوصيتان الأخيرتان أنّ المراد من اللطف هو فعلُ الله التكويني، ويتّضح ذلك في الأمثلة التي أوردها العلاّمة الحلّي لشرح الموضوع.

وقد تمّ الاستناد إلى قاعدة اللطف في عدّة مواضيع، منها: في تبرير وجود الأذى والألم، وفي إثبات النبوّة العامة، وفي إثبات الإمامة، وفي إثبات الثواب والعقاب الأخروي، وفي إثبات دوام الثواب والعقاب. وقد اعتبر وجوب اللطف في كافّة هذه المواضيع الحدّ الأوسط.

دراسةٌ تحليليّة للبراهين

بعد بيان براهين قاعدة اللطف نتأمَّل فيها قليلاً؛ لنتأكَّد من كفايتها لإثبات ما ورد فيها، ونكتشف الأُسُس الكلامية التي استند إليها كلّ برهان.

قد استند كلٌّ من: الشيخ الطوسي في برهانه في شرح التجريد، والسيد الطبرسي في برهانه الأوّل في كفاية الموحِّدين، على أن منع اللطف يؤدّي إلى نقض غرض الله، وبما أنّ نقض الغرض قبيحٌ عقليّاً فهو ممتنعٌ. وكما ذكر السيد الطبرسي فإن لهذا البرهان مقدمتين لا يقبلهما الأشاعرة: الأولى: هي أن لله، كالإنسان، في كلّ فعلٍ غرضاً، ويمكن للإنسان اكتشاف أغراض الله في أفعاله([18])؛ الثانية: هي أن نقض الغرض قبيحٌ لدى العقلاء، لذلك يمتنع الله عنه. ويصرِّح الفخر الرازي بأنّ موضوع الحُسْن والقُبْح ممتنعٌ في أفعال الله. وقد حرَّر باباً بعنوان «التكليف بما لا يُطاق واقعٌ»([19]) . وبديهيٌّ أنه من غير الممكن إلزام هذا المبنى بنتيجة البرهان المذكور.

ولهذا البرهان مقدّمةٌ أخرى، أسقطها التشكيك، وهي تقول: إنّ غرض الله من التكليف هو أن يمتثل العباد لأوامر الله؛ فإن افترضنا هذا الغرض يصبح الامتناع عن أيّ فعلٍ يؤدّي إلى حصول هذا الغرض ناقضاً له. وقد يتمّ التشكيك بهذه المقدّمة؛ فما المانع من عدم تحديد غرض الله بالامتثال (الامتثال لأوامره، سواء كانت مصحوبة باللطف أو لم تكن؟ قد يكون غرض الله الامتثال بصورةٍ خاصة، أي الامتثال دون الاستعانة بلطف الله، فإنْ مُنع اللطف لا يلزم من ذلك نقض الغرض.

وقد لا يكون غرضُ الله من التكليف الامتثال أصلاً، بل اختبار العباد، في هذه الحالة سيتحقّق غرض الله تعالى من التكليف في كلّ الأحوال، امتثل العباد أو عصَوْا، ولا يوجد أيّ إلزامٍ من قِبَل الله في هذه الحالة إلاّ أن يحقّق ظروف الاختبار، ولا يلزم ذلك اللطف بمعناه المصطلح. فلا يكفي لإثبات وجوب اللطف أنّ الله يريد الكمال للعباد؛ فإرادة الله هذه ستؤدّي في النهاية إلى تقرير الشرع، الذي لا يستلزم كمال العباد أو سقوطهم.

البرهان الثاني للسيد الطبرسي يرتكز على قبول الداعي لدى الله، وهو نفسه غرض كمال البشر الذي يتحقّق بطاعة البشر لأوامر الله، ونأيهم عن نواهيه. يمكننا إجمالاً القبول بأنّ لله تعالى داعٍ لكمال العباد، واللطف بمعنى أي فعلٍ يقرّب العباد من الطاعة في دائرة القدرة الإلهية. لكنْ لا يوصلنا تركيب هاتين المقدّمتين إلى وجوب هذا الفعل على الله تعالى؛ لأن الادعاء بعدم وجود صارف في الواقع ادّعاءٌ باطل، ولم يقم عليه برهانٌ. فلو أمكن عقلاً إثبات عدم وجود أيّ صارفٍ في الواقع لأصبح البرهان تامّاً آنذاك، لكن إثبات ذلك يفوق إثبات جهات الحُسْن في الفعل صعوبةً وتعقيداً، حتّى حصر السيد الطبرسي إمكان ذلك في دائرة قدرة علاّم الغيوب([20]).

ومما يثير الدهشة أن يعتبر السيد الطبرسي إثبات حُسْن الفعل، الذي يكون متاحاً بمراجعة نتائج الفعل وآثاره، غير ممكنٍ لكنْ يرى إثبات عدم وجود صارفٍ لدى الله في ما يخصّ فعله ممكناً ومحقّقاً، وكأنّه يستند إلى أمرٍ بديهي.

البرهان الثالث لدى السيدالطبرسي يبتني على قاعدة وجوب الأصلح، والذي يرفضه الأشاعرة؛ إذ لا يمكن إثبات وجوب فعل على الله بإثبات أن التقرّب بالطاعة هو الأصلح للعباد؛ إذ يعتقد بعدم وجوب مراعاة مصالح العباد على الله، مستنداً إلى الآية الكريمة: ﴿لاَ يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ([21]).

إضافةً إلى ذلك، يحتوي هذا البرهان نوعاً من المغالطة؛ إذ تقول كبرى البرهان بأن فعل الله دوماً هو أصلح الأفعال وأتمّها، ومعنى الأصلح في هذه المقدّمة هو أنّ للافعال مراتب في الكمال والتمام، والفعل الصادر من الله هو الأعلى مرتبة في الكمال والتمام؛ لأنّ الله هو الكمال المطلق. أما صغرى البرهان فتقول بأنّ اللطف أصلح للعباد. والمغالطة هي أن مصطلح الأصلح هنا يختلف عن معناه حين ورد في كبرى البرهان، لكنْ أُخذا بنفس المعنى حين الاستنتاج؛ إذ إن الفعل الأصلح للعباد ليس هو أصلح الأفعال لزوماً، لذلك لم يتمّ تكرار الحدّ الأوسط في هذا البرهان.

يبدو أنّ هذه الشبهات تزلزل قاعدة اللطف، وتلفّ مصاديق اللطف بالترديد في شقَّيْهما. ومع ذلك إن أقوى برهان على هذه القاعدة هو البرهان الأوّل، الذي يصبح تامّاً بالالتزام بالمقدّمة المذكورة. لكنّ تحقيقَ الإثبات العقلي لمقولة: إن الغرض من التكليف هو امتثال العباد مطلقاً أمرٌ في غاية الصعوبة. كما أنّ هذه القاعدة تبتني على قبول الحُسْن والقُبْح العقليين، ويبدو أن ذلك غيرُ قابلٍ للإثبات، بناءً على طريقة الأشاعرة.

قد يكون ذلك هو السبب وراء اعتقاد المعتزلة بوجوب اللطف، كما ورد في تعريف مصطلح قاعدة اللطف، واعتبر السيد المرتضى اللطف ضروريّاً وواجباً من باب العدل؛ في حين لم يستند الأشاعرة وبعض متكلِّمي الشيعة في إثبات اللطف إلى العدل، بل وجدوه نابعاً من وجود الله([22]).

 

4ـ فكرة اللطف الإلهيّ عند الشيعة والأكويني، المشتركات والمختلفات

بعد بيان موقع اللطف في الكلام الشيعي، ولدى توما الأكويني كمثالٍ على التصوُّر المسيحي، نأتي إلى مقارنةٍ بين فكرة اللطف في هاتين المنظومتين الفكريّتين. وسنقوم بالقارنة في قسمين:

في القسم الأوّل نبحث نقاط الاشتراك في موضوع اللطف في المنظومتين.

وفي القسم الثاني نراجع مواضع الاختلاف بينهما في ما يخصّ الموضوع.

أـ نقاط الاشتراك

1ـ يتّضح مما أسلَفْنا أنّ كلاًّ من: توما الأكويني، والشيخ الطوسي، والعلاّمة الحلّي، والسيد الطبرسي، يتصوَّر اللطف كتدخُّلٍ من الله في حياة الإنسان؛ لينال الفلاح والسعادة. كما أنّ تصوُّر القوّة التي تحرِّك روح الإنسان نحو الخير، في إطار فكرة المحرِّك الأول لدى أرسطو، قريبةٌ كثيراً من التصوُّر الشيعي عن التوفيق، والإمداد، وتقريب العبد إلى الطاعة، وإبعاده عن المعصية. وفي النهاية يتّحد كلاهما في الغاية ذاتها، وإنْ اختلفا في بعض التفاصيل.

وإنْ غضَضْنا الطرف عن بعض الخصوصيات المقصودة في الكلام الإسلامي (كالتجسيد، والتثليث، والصلب…) فالتوجُّه العامّ في التصوُّر المسيحي عن موضوع الخلق، والحياة، وصلب عيسى المسيح×، وقيامته وعروجه، كتجسيدٍ لوَحْي الله ولطفه وعطفه، من أجل فلاح الإنسان في حياة الخلد وتحريره من مخالب الإثم الأوّل، هو روايةٌ أخرى عن المصداق الأهمّ للطف الله، وهو بعثة الأنبياء، والتشريع، وفعل الله التشريعي لضمان سعادة الإنسان في الآخرة، والذي لولاه لم يحصل الإنسان على فرصة نَيْل مصالح عظيمة، حَسْب اعتقاد المتكلِّمين الشيعة.

وإذا أبعَدْنا التفاصيل التي حول النواة الأصلية في فكرة «الحياة الخالدة في عيسى المسيح×» نجد كثيراً من التناظر بينها وبين فكرة تكامل الإنسان بالتقرُّب إلى الله عبر الطاعة ونَيْل رضوان الله وحياة الخُلْد في الآخرة. ففي كلتا المنظومتين اللطفُ هو تدخُّل الله، وإنْ تمّ التعبير عنه في إحداهما بفعل الله، وفي الأخرى بالقوّة اللاهوتية.

2ـ وجد توما الأكويني ضرورة لطف الله والحاجة إليه في أنّ الإنسان لا يمكنه اكتساب خيرٍ أفضل مما يقتضيه طبعه دون اللطف. ونجد في الكلام الشيعي أن اللطف بمعنى إرسال الرسل والتشريع هو السبيل الوحيد لكي ينال الإنسان الكمال، الذي اعتبر غاية خلق الإنسان الأساسية. وبقليلٍ من التوسُّع يمكن القول: إنه في كلتا المنظومتين يمكن للإنسان أن يلبّي حاجاته العادية والطبيعية بعقله، لكنّه يعجز عن معرفة الخير والصلاح المتعالي لنفسه دون الاستعانة باللطف.

3ـ إنّ السعادة الأخروية في كلتا المنظومتين الكلاميتين منوطةٌ بلطف الله، ولا سبيل لها إلاّ به؛ في الكلام الشيعي يوعز ذلك إلى عجز عقل الإنسان عن إدراك المصالح الأخروية ومفاسدها، فيتكفَّل الشرع ببيانها، ويأتي اللطف محرّكاً ومحفّزاً للإنسان نحو الطاعة ومن ثم نَيْل الجنة؛ وفي الكلام المسيحي يردّ ذلك إلى أنّ حياة الخلد والفلاح الأبدي أفضل من كافّة أعمال الإنسان، ولا يمكن أن يكون معلولاً لها، فلا تتحقّق السعادة الأبدية إلاّ بلطف الله. ويُرجع الذين يعتقدون بأن شأن الدين الأصلي بناء آخرة الإنسان هذا الأمرَ إلى الأمر السابق.

4ـ اللطف التفضُّلي في فكر توما الأكويني هو اللطف الذي لا يؤثِّر مباشرةً على سعادة الفرد وفلاحه، بل يجعله وسيلةً لتحقيق السعادة للآخرين. وله عدّة آثار، كالإعجاز، والإخبار عن الغيب، والتحدُّث بعدّة لغاتٍ، و…. وبقليلٍ من التساهل يمكن أن نجد تطابقاً بينه وبين اللطف التشريعي، بمعنى إنزال الكتب، وبعثة الأنبياء، وحتى تنصيب الأئمّة لهداية الناس. كما أن الخصوصيات المذكورة تمثِّل في الكلام الشيعي أوصافاً نُسبَتْ إلى الأئمّة بمجملها.

كذلك اللطف المطهَّر قد يكون تعبيراً آخر عن الفعل التكويني الذي يقرِّب العبد من الطاعة وينأى به عن المعصية، وإنْ كانت ملحقاته إضافاتٍ لا تحسب في شأن الفعل التكويني.

إجمالاً يمكننا الاستنتاج بأن للنواة الأساسية لفكرة اللطف في المنظومتين جزءَيْن أساسيين: تجلّي لطف الله بالإنسان عن طريق بعثة الانبياء وإنزال الوَحْي؛ والفعل المستمرّ في حثّ أبناء البشر ليتحقّق لهم التوفيق في فعل الخير لنَيْل الفلاح والسعادة، التي هي غاية الخلق النهائية. ويمكن وصف الاختلاف بين المنظومتين في هذا الموضوع بالثانويّ.

ب ـ نقاط الاختلاف

1ـ يمكن تحديد الاختلاف الأساس بين الكلام الشيعيّ والكلام المسيحي في شكل طرح موضوع اللطف من ناحيتين:

الأولى: إن ركيزة البحث في موضوع اللطف في الكلام الشيعي هو الإثبات العقلي لضرورة اللطف، وحلّ الإبهامات والإشكالات الواردة عليه. لكنْ لا نجد مثل هذا الاهتمام لدى توما الأكويني؛ لإثبات اللطف، بل يصبّ جلّ اهتمامه في تقديم بيانٍ عقلانيّ له، من حيث إن الكتاب المقدَّس وآباء الكنيسة (أي الدليل النقلي) على يقينٍ بوجوده، وقطعوا الأمر في خصوصه.

أمّا الناحية الثانية فتخصّ التكلُّف الذي عاناه توما الأكويني في بيان كمّ اللطف وكَيْفه وخواصّه وماهيته، وهو أمرٌ لاهوتي. على سبيل المثال: أسهب في الحديث عن ماهية اللطف، وهل هي عَرَضٌ أم جَوْهرٌ؟ وهل هي فضيلة متحدة الحقيقة أم لا؟ هل تقبل الزيادة ونقصان أم لا؟ و… وخصّص لذلك جزءاً غير يسيرٍ من رسالته. في حين تمّ غضّ الطرف عن كلّ ذلك في الكلام الشيعي، وكأنّ المتكلِّمين الشيعة لم يجدوا ضرورةً لبحثه. ويمكن تعليل ذلك بتغلُّب العقلانية على النقل لدى متكلِّمي الشيعة، ومن الممكن قول عكس ذلك عن الكلام المسيحي.

وفي ما يخصّ توما الأكويني يمكن اعتبار اهتمامه بتأطير المفاهيم الدينية المأخوذة من السُّنَن المسيحية بإطار العقلانية وازعه الأساس في خَوْض غمار هذه الأبحاث.

2ـ الاختلاف في محتوى بحث اللطف في المنظومتين ينبع من اختلاف أُسُسهما في أبحاث كلاميّة أخرى، كالوَحْي، والشريعة، وعلاقة الله بالإنسان، وصفات الله وأسمائه، وعلاقة الدنيا بالآخرة، و…. وتستدعي دراسة هذه الاختلافات رسائل ومقالاتٍ مفصّلة عديدة، تخرج عن المستوى العلمي لكاتب المقال، فنكتفي هنا بالإشارة إلى الاختلافات المهمّة في هذا البحث بين المنظومتين.

ومن أهمّ وجوه الاختلاف بين المنظومتين هو الامتزاج العميق بين فكرة اللطف وأفكار «الإثم الفطري» «الإصلاح» و«المعرفة». فمن وجهة نظر توما الأكويني اللطف ملاصقٌ للإثم الفطري؛ لأنّ الإنسان انحرف عن طبيعته الأولى؛ بسبب ابتلائه بالإثم الفطري، واشتدّ مَيْله إلى الشرّ، وغلق باب المعرفة في وجهه، فلا أمل في الفلاح لهذا الإنسان إلاّ بالإصلاح بواسطة اللطف. والإصلاح (Justification) بكلّ ثقله وقيمته المعنوية يُعَدّ من جهةٍ أعظم فعلٍ يصدر عن الله. فمن ثماره: خلاص الإنسان من وزر الإثم الفطري، وإعادة قواه إلى التعادل الفطري، وفتح آفاق المعرفة السامية الإنسانية والإلهية له.

لكنْ لا وجود لأيّ أثرٍ من كلّ ذلك في الكلام الشيعي؛ فكما نعلم الاعتقاد بالإثم الفطري مرفوضٌ في الكلام الإسلامي. كما أن متكلِّمي الشيعة لم يتطرَّقوا إلى قاعدة اللطف في أبحاث التوبة والإحباط والتكفير، القريبة من مفهوم «الإصلاح» المسيحي. كذلك لا نجد أيّ إشارةٍ إلى المعرفة وعلاقة اللطف بها في هذه الأبحاث. بالطبع يَرِدُ الحديث عن معرفة الأمور المرتبطة بالحياة الأخروية كامتدادٍ لبحث السعادة الأخروية في موضوع اللطف، بمعنى بعثة الأنبياء. لكنْ لا يتمّ تمحيصه كمعرفةٍ، بل هي جزءٌ ضئيل من السعادة الأخروية، التي هي الموضوع الأساس، وأكثر ما تتعلَّق بالعمل.

الهوامش

(*) أستاذٌ مساعدٌ في قسم الفلسفة في جامعة الشهيد بهشتي، طهران.

([1]) الإنجيل: 238، رسالة إلى أهل رومية: 8، 1 ـ 11.

([2]) الإنجيل: 233، رسالة إلى أهل رومية: 3، 24 ـ 25.

([3]) الإنجيل: 235، رسالة إلى أهل رومية: 5، 2.

([4]) الإنجيل: 236، رسالة إلى أهل رومية: 6، 5 ـ 14.

([5]) دائرة معارف الدين، مدخل: Grace

([6]) Theological virtues: fowth, hope and charit.

([7]) رسالةٌ في باب اللطف، الفصل الثاني، الباب الثاني، الجواب عن الإشكالية الثانية.

([8]) Gratuitous.

([9]) رسالة في باب اللطف، الفصل الثاني، الباب الرابع.

([10]) إنجيل يوحنا، الفصل الثالث، الآية 6.

([11]) رسالة في باب اللطف، الفصل الرابع، الباب الثاني.

([12]) Sanctifying.

([13]) الإنجيل، رسالة إلى أهل رومية، الفصل السادس، الآية 23.

([14]) كفاية الموحدين 1: 505.

([15]) العلاّمة الحلّي، شرح تجريد الاعتقاد (تحقيق: الشيخ حسن حسن زاده الآملي): 324.

([16]) المصدر السابق: 326.

([17]) المصدر السابق: 433.

([18]) شرح المواقف 8: 202.

([19]) المطالب العالية 3: 291، 305.

([20]) يقول السيد الطبرسي في كتاب كفاية الموحدين: 508، في جوابٍ كلّي عن الإشكالات الواردة على مصاديق اللطف: يجب التأكُّد من نواحي الحُسْن الخفيّة… والعقل أيضاً لا يملك معرفة جميع الأمور الخفيّة، بل من غير الممكن الإحاطة بها إلاّ لعلاّم الغيوب….

([21]) المطالب العالية 3: 326 ـ 329.

([22]) مكدرموت، أنديشه هاي كلامي شيخ مفيد: 105، 502.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً