د. أحمد جمالي(*)
مقدّمةٌ
إن القرآن الكريم هو آخر وأكمل الكتب السماوية، والمعجزة الخالدة للنبيّ الأكرم وخاتم الأنبياء|، وكانت آياته المضيئة والمقدّسة منذ نزوله وإلى اليوم مشاعل هدايةٍ للكثير من الناس نحو التوحيد والإيمان بالدين الإسلامي المقدّس.
وقد بدأ رفع الأعلام المخالفة للقرآن، والسعي إلى إطفاء نوره، منذ باكورة ظهور الدين الإسلامي الحنيف. وحيث رأى المشركون في مكّة المكرّمة أن آيات القرآن تحمل القسط الأكبر من التأثير على الناس في اعتناق الإسلام فقد عمدوا إلى الخدش في هذه الآيات بمختلف الأشكال؛ ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ أنهم كان يصفونها في بعض الموارد بالسحر: ﴿وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آَيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ﴾ (الأحقاف: 7)، وقالوا في بعض الأحيان: إنها إفكٌ وكذبٌ وافتراءٌ على الله: ﴿وَقَالُوا مَا هَذَا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرًى﴾ (سبأ: 43)، وادَّعوا في أحيان أخرى أن النبي قد تعلّم هذه الآيات من شخصٍ آخر: ﴿وَلَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّمَا يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسَانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَهَذَا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ﴾ (النحل: 103)، وبالتالي فقد ذهبوا تارةً أخرى إلى التعريف بهذه الآيات والقرآن بوصفه من كلام البشر، وأنكروا أن يكون كلام الله سبحانه وتعالى: ﴿إِنْ هَذَا إِلاّ قَوْلُ الْبَشَرِ﴾ (المدّثر: 25).
إن المواجهة مع القرآن والسعي إلى بناء حاجزٍ بين الناس والعمل بآياته من قِبَل أعداء الإسلام أمرٌ طبيعي، وهو أمرٌ كان ولا يزال وسيبقى مستمرّاً؛ بَيْدَ أنه وبمرور الزمن أخذ بعض الأشخاص يظهرون من بين المسلمين أنفسهم، ويعرِّفون عن أنفسهم بوصفهم مؤمنين بالإسلام والقرآن، ومع ذلك يطرحون نظرياتٍ وآراء لا تكون نتيجتها مختلفةً عن نتائج آراء أعداء الإسلام.
لقد عمد محمد مجتهد شبستري ـ في سلسلة مقالاته تحت عنوان «القراءة النبوية للعالم»، وأعماله اللاحقة ـ إلى بيان رأيين بشأن القرآن الكريم، وهما:
1ـ إن القرآن الكريم بألفاظه ومعانيه ليس من عند الله، بل المعاني والألفاظ كلاهما من صنع شخص النبيّ محمد|.
2ـ إن القرآن الكريم ليس كتاب دستورٍ، ولا يوجد فيه أيّ حكمٍ أبديّ، وإن الأحكام الواردة فيه إنما هي لإصلاح مجتمع عصر النبيّ الأكرم|، وإن الكثير من هذه الأحكام لا تتناسب مع عصرنا الراهن، وإن تطبيقها في هذا العصر مستحيلٌ وغير صحيح([1]).
لقد تمّ تدوين هذه المقالة استلهاماً من كلام الشيخ جوادي الآملي، وهي تصبّ في إطار نقد هذين الرأيين المذكورين آنفاً. ولا شَكَّ في أن الأبحاث الدقيقة ونقاط القوّة في هذه المقالة يعود الفضل فيها إلى الشيخ الأستاذ، وإذا كان فيها من ضعفٍ أو نقصٍ فهو من كاتب هذه السطور.
1ـ إسناد آيات القرآن إلى النبيّ الأكرم(صلى الله عليه وآله)
لقد أرسل الله سبحانه وتعالى على طول التاريخ أنبياء لهداية البشر، وأنزل إلى بعضهم الكتب؛ ليصل الناس، من خلال التمسُّك بتعاليمها والعمل بأحكامها، إلى السعادة والكمال المطلوبين.
إن الإيمان بالكتب السماوية من ضروريات دين الإسلام، بل جميع الشرائع والأديان التوحيدية. وقد تمَّت الإشارة إلى ضرورة ذلك في القرآن الكريم في الكثير من المواضع، ومن ذلك: قول الله سبحانه وتعالى: ﴿كُلٌّ آمَنَ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ لاَ نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ﴾ (البقرة: 285)([2])، وورد في بعض مواطن القرآن الكريم أن الكفر بالكتب السماوية يُعَدّ من أسباب السقوط في مغبّة الضلال البعيد: ﴿وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيداً﴾ (النساء: 136).
لقد توصّل مجتهد شبستري، من خلال استدلالاته، إلى أن القرآن ليس من عند الله؛ بل هو بألفاظه ومعانيه كلام النبيّ الأكرم| وأنه من صنع ذهنه. ويدّعي أن النبيّ الأكرم| نفسه لم يكن يدّعي أن القرآن ليس كلامه، أو أنه كلام الله وأنه قد نزل إليه من عند الله بهذه الألفاظ وهذه المعاني، بل قام النبيّ بتعريف القرآن بوصفه كلاماً له.
وفي ما يلي سوف نناقش هذا الرأي من خلال دليلين، والإجابة عنهما:
أدلّةٌ وشواهد
أـ عدم قابلية الآيات للفهم، وعدم قابلية وجود الله للإثبات
لقد سعى مجتهد شبستري ـ في ضوء بعض الأبحاث الجديدة المرتبطة بفلسفة اللغة وعلم اللسانيات والهرمنيوطيقا ـ مراراً وتكراراً، وبعباراتٍ منمّقة متنوّعة ومتعدّدة، إلى إثبات أن ألفاظ ومعاني القرآن لا يمكن أن تكون نازلةً من عند الله؛ لأننا إذا اعتبرنا ألفاظ ومعاني القرآن من عند الله، وأنهما من كلامه، عندها لن تكون آياته قابلةً للفهم والتفسير بالنسبة إلى الناس.
وفي ما يلي ننقل بعض عباراته([3]) في هذا الشأن، على سبيل المثال دون الحَصْر:
1ـ لو قال شخصٌ: إنه تُلْقَى عليه ألفاظ ومفاهيم معيّنة بشكلٍ خاصّ عبر واسطةٍ، مثل: مَلَك الوحي، ثمّ يتلوها بدَوْره على أسماع المخاطَبين، ويُعرِّف عن نفسه بوصفه مجرّد مكبِّرٍ للصوت، ويقول: إني لستُ قائل هذه الكلمات، في مثل هذه الحالة لن تكون هناك في البين ـ كما يقول علماء علم الأصول ـ «دلالةٌ تصديقية»؛ لأن هذا الكلام لن يكون له «متكلِّمٌ» من وجهة نظر المخاطَبين، ولا تُرى أيّ إرادةٍ جدِّية ـ في مصطلح علم الأصول ـ وراء هذه العبارات. إن هذا النوع من العبارات (التي لا يمكن تسميتها عبارات) لا يمكن بحثها أو تفسيرها أو تحليلها، ولا يمكن قراءتها بأيّ نوعٍ من أنواع القراءات([4]).
2ـ إن التأمُّل في أساليب تكلُّم الإنسان والتفاهم بين الناس يثبت أن النبيّ لو كان يُعرِّف عن نفسه بوصفه مكبّر صوتٍ أو مكرفون، ليس له من وظيفة سوى نقل سلسلة من الأصوات المنظومة للمخاطَبين، بعد أن يسمعها ـ على سبيل المثال ـ في أذنه، أو يقرأها عليه مَلَك الوحي (على ما كان يتمّ تصويره من قِبَل بعض المتكلِّمين من المعتزلة مثلاً)، فإن كلامه لن يُفْهَم من قِبَل المخاطَبين أبداً، ولن يكون لهذا الكلام معنىً ومفهوم، ومثل هذا الكلام لم يكن يمكن له أن يكون مبنىً لدعوته وتحاوره التاريخي، ولم يكن بالإمكان أن يكون هناك تحاورٌ أو تفاهم في البين([5]).
3ـ في ضوء معطيات فلسفة اللغة على مدى القرنين الأخيرين يمكن نسبة القرآن (المصحف الشريف) ـ بوصفه نصّاً باللغة العربية قابلاً لفهم الجميع (الأعمّ من المؤمنين وغير المؤمنين) ـ إلى الإنسان (النبيّ الأكرم) فقط، واعتباره كلاماً بشريّاً. إن النسبة (الإسناد الحقيقي) المباشرة ومن دون واسطة لهذا النصّ، بما يتّصف به من خصائص النصّ العربيّ، إلى الله لن يقضي على فهمه من قِبَل الجميع فحَسْب، بل من شأنه أن يجعل أصل «مفهوميّته» مستحيلاً أيضاً([6]).
4ـ من المهمّ جداً الالتفات إلى هذه النقطة الأساسية، وهي أن اللغة البشرية إنما تكتسب دلالتها إذا تمّ استعمالها بواسطة الإنسان في إطارٍ تعاقديّ؛ بحيث لو تمّ سماع ذات هذه الكلمات تصدر من حيوانٍ فإنها لن تشتمل على دلالةٍ. ومن ذلك: لو أن طائر الببغاء قال: «السلام عليكم» ـ مثلاً ـ فلا أحد يعتبر هذا الصوت المسموع كلاماً، ولا يعتبره في الواقع سلاماً؛ إذ لا يمكن تصوُّر أيّ نوعٍ من أنواع الفعل الكلامي في هذا المورد، ولا يترتّب أيّ أثرٍ من قِبَل الناس ـ الذين يرتِّبون الأثر على الكلام ـ على هذا الصوت المسموع أبداً([7]).
5ـ إن القول بأن النبيّ الأكرم| قد حصل على نصّ القرآن بجميع ألفاظه وعباراته ومعانيه ـ أي على تلك الصورة وبذات معنى الكلام في عالم الإنسان ـ من الله مباشرةً أو بواسطة أخرى، ونقله بعينه إلى المخاطَبين، وعليه يكون النبي مجرَّد ناقل لذات كلام الله، أمرٌ غير معقول. ويعود بطلان هذا القول إلى أنه يفترض وجوداً خارجياً لما لا يكون قابلاً للتحقُّق، ولا يكون قابلاً للفهم، إلاّ في عالم الأذهان البشرية، كما أشَرْنا([8]).
6ـ هنا ينفتح باب هذا المُدَّعى الهامّ، وهو: حيث إن نصّ القرآن مصداقٌ للغة الإنسانية يجب أن يكون قد وُجد بواسطة متكلِّم يكون بحَسَب القاعدة قابلاً للتجربة من قِبَل الجميع (الإنسان)، وليس مباشرةً بواسطة الله أو مَلَك الوحي، الذي لا يكون قابلاً للتجربة من قِبَل الجميع([9]).
7ـ لقد أصرَرْتُ في مقالات «القراءة النبوية للعالم» على هذا المُدَّعى، القائل بأن الفهم والتفسير العامّ والجماعي (الذهني) لنصّ وكلام القرآن إنما يتحقَّق إذا كان ذلك النصّ والكلام، مثل جميع النصوص والكلمات المنطوقة الأخرى، كائناً متحقّقاً في العالم الذهني، واعتبرناه صادراً عن الإنسان وكلام الإنسان. إن نصّ القرآن من جنس اللغة البشرية، وإن اللغة البشرية بناءً على تجربتنا إنما تظهر ويكون لها معنىً ومفهوم في البيئة التاريخية والاجتماعية المشتركة والذهنية للبشر. لو افترضنا حدوث معجزةٍ، وظهر نصّ مؤلّف من الألفاظ والعبارات العربية، أو أيّ لغةٍ أخرى، لن يكون ذلك النصّ قابلاً للفهم والتفسير بشكلٍ ذهني([10]).
ثم عمد مجتهد شبستري بعد ذلك إلى مواصلة جهوده من أجل نفي استناد القرآن إلى الله، فذكر دليلاً آخر، وهو عدم قابلية وجود الله للإثبات؛ إذ يقول: لقد أثبتت الأبحاث الفلسفية الدقيقة في العصر الراهن أننا نحن البشر لا نستطيع أن نثبت وجود الله بالدليل (على الرغم من اعتقاد المؤمنين بوجود الله، وهو إيمانٌ معقول). وحيث لا نستطيع إثبات وجود الله بدليلٍ لا نستطيع أن ندَّعي أن الله قد تحدَّث في زمانٍ ومكانٍ معيَّن إلى إنسانٍ بعينه (محمد|) بألفاظ وعبارات نصّ القرآن (تحقق ظاهرة الوحي). لا يمكن الإخبار عن الله ـ الذي لم يثبت وجوده ـ بهذا الشكل، والقول بأنه قد تكلَّم([11]).
ردٌّ ونقد
على الرغم من أن مجتهد شبستري قد كرّر عدم قابلية فهم القرآن في حالة إسناده إلى الله، ولكنه لم يتمكّن من ذكر دليلٍ واحد معتبر ومقبول على إثبات ذلك. إنه يدّعي قائلاً: حيث عمد الناس إلى إيجاد اللغة من أجل تلبية احتياجاتهم في الحياة على مستوى العالم الذهني إذن يستحيل تحقُّق الكلام من قِبَل شخصٍ أو كائن غير الإنسان، وإذا كُتب التحقُّق لمثل هذا الكلام فإنه لن يكون قابلاً للفهم من قِبَل الناس.
في البداية علينا أن نعلم أن الناس لم يصنعوا اللغة اعتماداً على مجرّد قدراتهم الذاتية، بل إن القدرة على التكلُّم من أكبر النِّعَم التي أنعم الله بها على الناس، حيث ألهم الإنسان طريقة التعبير عن مكنوناتهم بواسطة الكلام؛ كما أشار القرآن الكريم بعد بيان أصل خلق الإنسان إلى تعليم الإنسان كيفية استعمال اللغة والكلام بوصفه من النِّعَم الإلهية العظمى: ﴿خَلَقَ الإِنْسَانَ * عَلَّمَهُ الْبَيَانَ﴾ (الرحمن: 3 ـ 4). وعلى هذا الأساس، فإن أصل وبداية نشأة اللغة كان أمراً إلهياً، وإن اللغة قد ظهرت إلى الوجود بتعليمٍ من الله سبحانه وتعالى، وقبل أن تستند إلى الإنسان هي مستندةٌ إلى الله، وإلاّ فإنه لولا تعليم الله لكان الإنسان مثل سائر الحيوانات، ولما استطاع أن يتكلَّم مع الآخرين.
وأما الأمر الذي يحظى بغاية الأهمّية فهو أن كلّ مَنْ يريد توظيف اللغة واستعمالها يجب أن يتوفَّر على شرطين فقط، بحيث لا يحتاج معهما إلى أيّ شرطٍ آخر، سوى إيصال الكلام إلى المخاطَب:
الشرط الأوّل: أن يكون الشخص عالماً بتلك اللغة، ويعرف العقود القائمة بين الألفاظ والمعاني.
الشرط الثاني: أن تكون لديه إرادةٌ، ويمكنه أن يريد استعمال ألفاظٍ للدلالة على المعاني المنشودة له.
وبعد تحقُّق هذين الشرطين لا يبقى أمام الشخص سوى صياغة الكلام، وإيصال كلامه إلى مخاطَبه، ولو بواسطةٍ، وفي مثل هذه الحالة سوف يفهم المخاطَب معاني تلك الألفاظ، ولا يحتاج في فهم تلك المعاني إلى أيّ شرطٍ آخر.
وعليه، ليس هناك أيّ دليلٍ يثبت أن المتكلِّم يجب أن يكون إنساناً حَتْماً، وأن كلام الكائنات الشاعرة الأخرى لن يكون مفهوماً للناس.
وكذلك لكي ندرك مفهوم كلام شخصٍ لا حاجة إلى أن يكون المتكلِّم مشاركاً في إيجاد تلك اللغة، وإلاّ لم يتمكّن أيّ واحدٍ منا من فهم كلام الآخر؛ لأن اللغة العربية كانت موجودةً قبل ولادتنا، ولم يكن لنا أيّ مشاركةٍ في إيجادها، وكذلك لو أن الشخص الفارسي تعلَّم اللغة العربية يجب أن لا يكون كلامه مفهوماً بالنسبة إلى العرب. في حين أن كلا هذين الفرضيتين باطلةٌ بداهةً، وفي كلا الموردين يفهم المخاطَب كلام المتكلِّم بوضوحٍ.
وكذلك لكي نفهم كلام شخصٍ لا يجب بالضرورة أن يعمد المخاطَب إلى سماع كلام المتكلِّم مباشرةً، ومن دون واسطةٍ، بل لو أن شخصاً ألقى رسالةً شفهية إلى شخصٍ، وطلب منه أن يوصلها إلى مخاطَبه، فإن المخاطَب بمجرّد وصول الكلام إليه سوف يُدرك مفهومها، بل ليس من اللازم للمخاطَب في مثل هذه الحالة أن يعتبر المتكلِّم مثل ذلك الشخص الوسيط.
إن جميع هذه المطالب من الأمور الواضحة والوجدانية، ولا يمكن لأحدٍ أن ينكرها دون الاعتماد على أيّ دليلٍ أو برهانٍ.
وبالنظر إلى ما تقدَّم، يمكن لله سبحانه وتعالى أن يكون هو قائل كلامه للناس، وأن يكون كلامه مفهوماً من قِبَل الناس بوضوحٍ؛ لأن الله تعالى مدركٌ لجميع الألفاظ واللغات ومعانيها؛ لأنه عالم بكلّ شيء، وإن علمه يشمل جميع الأشياء: ﴿إِنَّ اللهَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ (الأنفال: 75)([12])، كما أن الله بحيث لا يريد شيئاً إلاّ ويتحقَّق فوراً: ﴿إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾ (يس: 82). وعلى هذا الأساس فإن الله تعالى قد أوجد كلّ كلام يريده، وإنه يوصل كلامه إلى مخاطَبيه مباشرةً أو بواسطةٍ، وسوف يشتمل هذا الكلام على مفهومٍ بالنسبة إلى مخاطَبيه. ومن البديهيّ أن الله سبحانه وتعالى لا يحتاج في تكلُّمه إلى فمٍ وحنجرة؛ إذ بإمكانه أن يوجد كلامه ويوصله إلى مخاطَبيه بصُوَرٍ أخرى أيضاً.
إن الالتفات والتدبّر في القدرة الإلهية المطلقة يكشف بدَوْره عن خطأ وعدم صوابية ما يدَّعيه مجتهد شبستري؛ لأن القدرة على التفهيم والتفاهم المودعة لدى الإنسان من طريق الحوار هي قطعاً نعمةٌ إلهية أنعم بها الله على الإنسان، وعليه كيف يمكن القول بأن الذي أعطى الإنسان القدرة على الفهم يعجز عن الارتباط والتواصل مع الإنسان، وإيصال مراده إليه من طريق الكلام؟!([13]).
قد يُقال: كيف يمكن لمخاطَب النبيّ الأكرم| أن يعلم أن الله سبحانه وتعالى قد تكلَّم مع النبيّ| حقاً، وأن النبيّ الأكرم كان صادقاً في مدّعاه؛ إذ إنهم لم يشهدوا تحاور الله مع النبيّ الأكرم، ولم يسمعوا كلام الله؟!
ونقول: لقد أجاب الأنبياء أنفسهم والكتب السماوية عن هذا السؤال، وقد ذكر علماء الإسلام على مدى القرون المتعاقبة الماضية هذا الجواب بدَوْرهم، وهو أن الأنبياء^ كانوا يجترحون المعاجز، بإقدارٍ من الله تعالى؛ من أجل إثبات صدق مدَّعياتهم، وهي أمورٌ كان يعجز الناس العاديون عن الإتيان بمثلها. وإن هذه المعاجز هي الدليل على صدق نبوءاتهم وسائر كلماتهم. وقد كان لخاتم الأنبياء| بدَوْره الكثير من المعجزات، وعلى رأسها القرآن الكريم نفسه.
وأما بشأن الادّعاء الأخير لمجتهد شبستري، القائل بأن وجود الله غير قابل للإثبات بدليلٍ، فيجب القول في الجواب عنه: أوّلاً: إنه لا حاجة إلى إثبات الله بالدليل؛ إذ يكفي أن يكون مخاطَب النبيّ الأكرم| مؤمناً بوجود الله لإثبات تكلُّمه. وثانياً: إن وجود الله قابلٌ للإثبات بالكثير من الأدلّة. وقد أثبت المتكلِّمون والحكماء المسلمون وغيرهم في كتبهم وجود الله بالأدلّة والبراهين، وأجابوا عن الإشكالات والشبهات في هذا الشأن. ويمكن الإشارة، على سبيل المثال، إلى كتاب (شرح براهين إثبات وجود الله)([14]) لمؤلِّفه: الشيخ جوادي الآملي. فإذا كان هناك مَنْ لا يمتلك القدرة على استيعاب وفهم هذه البراهين، أو كان لا يريد التسليم بها؛ لغاياتٍ أخرى، فإن هذا لا يُشكِّل دليلاً على عدم صوابيّتها.
ب ـ مفاد النصّ القرآني
يقول مجتهد شبستري: يتّضح من نصّ القرآن الكريم أن مضمون هذا الكتاب عبارةٌ عن كلام النبيّ الأكرم|، وليس كلام الله؛ وإن النبيّ نفسه كان يعتبر القرآن الكريم كلاماً له.
وإليك في ما يلي بعض كلمات مجتهد شبستري في هذا الشأن:
1ـ يتّضح من قراءة نصّ القرآن بوصفه شاهداً تاريخياً أن مدّعى ذلك الإنسان ـ الذي يتمّ الحديث في هذا النصّ عن نبوّته ـ هو أن الكلام الذي يلقيه على شكل آيات يتلوها على الناس، ويدعوهم إلى قبول دعوته، وإنْ كان كلامه، ولكنْ له منشأٌ إلهيّ. إن هذا النبيّ لم يكن يقول: إن هذا النصّ ليس كلامي…. إن كل مَنْ يقرأ القرآن بوصفه نصّاً تاريخياً يُدرك بوضوحٍ أنه كان هناك حوارٌ جادّ بين النبيّ الأكبر وبين قومه، وكان هذا الحوار قابلاً للفهم من قِبَل الطرفين بمختلف الأساليب. كان النبيّ على مدى ثلاثة وعشرين سنة يؤكِّد على ادّعائه النبوّة في أوضاع مختلفة، ويكرِّر دعوته إلى الإيمان بالله الواحد (التوحيد) على الناس في الحجاز ـ الأعمّ من المشركين واليهود والنصارى وغيرهم ـ، ويحتجّ عليهم من خلال آيات القرآن الكريم بأشكال متنوّعة، وكان يواصل هذا النوع من الأنشطة بعَزْمٍ راسخ وجُهْدٍ لا يلين. لقد تم في هذه الآيات والاحتجاجات استعمال وتوظيف مختلف أنواع وأساليب الدعوة، من الاهتمام بأحداث الطبيعة والتاريخ، وبيان مصائر الأمم والأنبياء السابقين، وبيان مصير الإنسان، إلى بيان أنواع الحِكَم والسلوكيات الأخلاقية الخاصّة، وأنواع الإنذار والبشارة، وذكر الأمثال والصُّوَر والتشبيهات المتنوّعة، وما إلى ذلك. ومن خلال اعتناق الناس لهذه الدعوة، والعمل بأوامرها ونواهيها، حدثَتْ في الواقعية العينية والخارجية للحياة الفردية والاجتماعية لسكّان الحجاز الكثير من التحوُّلات (إلى الحدّ الذي أدّى هذا التيار إلى ظهور حضارةٍ وثقافة). بالنظر إلى هذه الحقائق التاريخية يطرح هذا التساؤل نفسه: هل يمكن تصوُّر أن جميع هذه الحقائق كانت تنشأ من كلامٍ يتلوه إنسانٌ، ولكنه لم يكن يعتبر ما يتلوه كلاماً له، ولا ينسب ألفاظ ومعاني تلك الكلمات إلى نفسه؟ وبعبارةٍ أخرى: يجب أن نتساءل ونقول: هل يمكن لهذا الكلام (إذا صحّ أن نسمِّيه كلاماً، وهو ما لا يمكن أن يصحّ) في الأساس أن يتمّ فهمه من قِبَل المخاطَبين، ليكون هناك موافقٌ ومخالفٌ له أو مؤمنٌ وكافرٌ به، ناهيك عن أن يكون منشأً للكثير من الجهود والتحوُّلات الثقافية والاجتماعية العظيمة والحضارة والثقافة؟! إن التأمّل في أساليب كلام الإنسان والتفاهم بين الناس يثبت أن النبيّ الأكرم| لو كان يعتبر نفسه مكبّر صوتٍ أو قناةً صوتيةً لم يكن لكلامه أن يُفْهَم من قِبَل المخاطَبين أصلاً، ولم يكن لينطوي على معنى ومفهومٍ بالنسبة إليهم، ولم يكن بمقدور هذا الكلام أن يكون مبنى لدعوته والحوار التاريخي المنبثق عنه، ولم يكن بالإمكان إيجاد حوارٍ وتفاهم أصلاً…. لقد تمّ التصريح بهذه المسألة في موارد متعدِّدة من القرآن الكريم على أنه بـ «لسانٍ عربيّ مبين» أو «بلسان قومه»، فهل يمكن القبول بأن النبيّ الأكرم| كان يريد من الناس أن يؤمنوا تعبُّداً باعتبار عربية ما لا يرَوْنه عربياً، وأن يفهموا تعبُّداً ما لا يستطيعون فهمه؟! وهل يمكن القبول بأن دعوته كانت على هذا الحجم من عدم المعقولية؟! وهل يمكن تجاهل التعبيرات المتعدِّدة الأخرى الواردة في نصّ القرآن الكريم، والتي تعرِّف آياته بوصفها مفهومةً وقابلةً للوصول والتعقُّل والتدبُّر بالنسبة إلى المخاطَبين؟! ورد التعبير في القرآن الكريم بجملة: ﴿أَفَلاَ يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ﴾ (النساء: 82)([15])، وقد ورد وصف القرآن في القرآن الكريم بصفات وخصائص من قبيل: الشفاء، والهداية، والبصيرة، والموعظة، والبرهان، والبيّنة، والآية الواضحة، وما إلى ذلك. فكيف يمكن بيان هذه الأوصاف والخصائص لنصٍّ يقوم في أصل دلالته على التعبُّد؟ وهل كانت الجهود الواسعة المبذولة بعد رحيل النبيّ الأكرم| من أجل فهم وتفسير القرآن، من قِبَل علماء الإسلام (لأنهم كانوا يعتبرونه قابلاً للفهم والنقاش والتفسير)، كلها لَغْواً وباطلاً؟! وهل نحن حيث نعمل الآن على بحث وفهم وتفسير القرآن نقوم بعملٍ لَغْوٍ وباطلٍ؟! وبالإضافة إلى ذلك كلّه، فقد ورد التحدّي في القرآن بأن يأتي الآخرون بمثل هذه الآيات السماوية، فلو كان النبيّ الأكرم| قناةً صوتيةً لنقل هذه الكلمات، حيث يكون فهمه مجرَّد مسألة تعبُّدية وإيمانية، كيف كان يمكن أن يكون هناك معنىً لمثل هذا التحدّي؟
والشاهد التاريخي ـ القرآني الآخر أنه ورد وصف النبيّ الأكرم| في القرآن بأوصاف من قبيل: الداعي إلى الله ببصيرةٍ، والمبشِّر بالحياة الأخروية والرحمة الإلهية، والمحذِّر من العذاب الإلهي (المنذر)، والهادي إلى الصراط المستقيم، والذي يعلِّم الكتاب والحكمة، والحكم بين الناس في اختلافاتهم، والذي يضع عنهم الأغلال والقيود التي ترسف بها أرواحهم، والممهِّد لسبيل القيام بالقسط، وما إلى ذلك، فكيف يمكن نسبة كلّ هذه الصفات إلى شخصٍ لم يكن سوى قناةٍ لنقل الأصوات، والتي ترصد له كلّ هذه الأدوار المصيرية في حياة الناس؟! ألا يأتي وصف النبيّ الأكرم| بكلّ هذه الصفات، وإعطائه كلّ هذه الأدوار، في الدرجة الأولى بسبب تلاوته للقرآن على الناس، وإدخال معانيه ومفاهيمه وآرائه التي يشتمل عليها إلى الحياة الفردية والاجتماعية لتلك الأمّة؟! فلو لم يكن القرآن كلام النبيّ، ولم تكن للنبيّ من مهمّةٍ سوى الوساطة في نقل سلسلةٍ من العبارات إليهم، كيف أمكن نسبة كلّ هذه الأدوار المصيرية والحاسمة إلى النبيّ|؟!
يُضاف إلى ذلك أنه جاء في الكثير من آيات القرآن الكريم أن النبي الأكرم مبعوثٌ. والبعث من الانبعاث. إن النبيّ الأكرم| بشهادة القرآن التاريخية، وشهادة تاريخ حياته على مدى ثلاث وعشرين سنة من عمر بعثته ورسالته، كان مبعوثاً ورسولاً واسع الحركة والنشاط بكلّ وجوده، وكان ساعياً لا يعرف الكَلَل والمَلَل، ويتمتع بإرادةٍ لا تلين، وطاقةٍ زاخرة لا تنضب. وإن نبوّته عين بعثته وانبعاثه. فإذا كان مدَّعاه في هذا الباب لا يعدو أن يكون مجرَّد قناةٍ لنقل الأصوات فإن هذا الأمر لا يتناسب مع الانبعاث أبداً. فالمذياع ومكبِّر الصوت لا يُعَدّ انبعاثاً.
الشاهد التاريخي الآخر من القرآن هو أن المخالفين للنبيّ الأكرم| وأعداءه قد وصفوه بالساحر، والشاعر، والكاهن، وما إلى ذلك. إن هذه الصفات كانت تنسب إليه أثناء قراءته للقرآن على المخاطَبين؛ حيث يأسرهم أسلوبه ويتأثَّرون به، ويؤدّي بهم إلى اعتناق دعوته وإيمانهم به. إن وصفهم النبيّ بالساحر والشاعر والكاهن يأتي من باب أن أمثال هؤلاء الأشخاص يؤثِّرون بأفعالهم وسلوكيّاتهم على الآخرين، وقد كان النبيّ بدَوْره يؤثِّر على الآخرين أيضاً. وعليه، لو كانت قراءة القرآن تعني مجرّد نقل الأصوات المسموعة إلى المخاطَبين لم يكن من المفهوم أو المقبول وصف النبيّ بأنه واحدٌ من هؤلاء الأشخاص (من أمثال: الساحر أو الكاهن أو الشاعر)؛ لأن هؤلاء إنما كانوا يتّصفون بهذه الصفات بسبب الأفعال التي تصدر عنهم وتُنسب إليهم، مهما قال هؤلاء بأنهم يرتبطون بقوىً غيبية. لو لم تكن قراءة القرآن كلام النبيّ، ولو لم يكن الكلام المؤثِّر في المخاطَبين كلامه وسلوكه، لما صحّ القول له: «أنت كاهنٌ، أو ساحرٌ، أو شاعرٌ».
لو تتبَّعنا هذه الموارد في القرآن الكريم على ذات هذه الوتيرة والسياق، وعمدنا إلى توسيع دائرة فهرسة الشواهد الموجودة فيه، فسوف نحصل على الكثير من النقاط البديعة. إن جميع هذه الشواهد تثبت أن النبيّ الأكرم| لم يكن يذهب إلى هذا الادّعاء القائل بأن آيات القرآن الكريم على ما هي موجودةٌ حالياً في المصحف الشريف قد وصلَتْ إليه بلفظها ومعناها من قِبَل الله سبحانه وتعالى، وأنه كان يقوم بمجرّد نقلها إلى الناس وقراءتها عليهم. بل كانت الألفاظ والمعاني كلاهما من عنده([16]).
2ـ لا نمتلك دليلاً تاريخياً معتبراً في صلب الدين بحيث يثبت بشكلٍ موثوق أن النبيّ الأكرم| ـ الذي يُنسب إليه نصّ القرآن ـ كان ينفي أن يكون النصّ والكلام القرآني منسوباً إليه. إن هذا الدليل ليس معدوماً فحَسْب، بل هناك في القرآن شواهد بارزة تثبت أن النبيّ ومخاطَبيه كانوا يعتبرون الكلام القرآني كلاماً للنبيّ محمد|، غاية ما هنالك أن النبيّ كان يقول: إني أقول هذه الكلمات بإمدادٍ من الله، في حين أن المنكرين لنبوّته كانوا يقولون: إن هذه الكلمات ما هي إلاّ نتاج أو اقتباساتٌ أو أوهامٌ بشرية([17]).
إن شبستري لا يكتفي بنسبة هذه المسألة ـ القائلة بأن القرآن الكريم كلام النبي| ـ إلى مخاطَبي النبيّ الأكرم| والمفسِّرين الأوائل فقط، بل نسبه إلى بعض المفسِّرين المعاصرين أيضاً، وذلك على أساس فهمٍ خاطئ وادّعاءٍ عجيب، حيث قال: إن هذا هو رأي العلاّمة الطباطبائي& أيضاً، وقال بعد نقل كلام العلاّمة: كما نرى فإن العلاّمة الطباطبائي يُصرِّح بأن القرآن الموجود بين أيدينا كلامٌ بشريّ، وقائله هو النبيّ، وإنْ كان منشؤه التعليمي هو الله([18]).
مطالعاتٌ تحقيقيّة
لو قرأ شخصٌ آيات القرآن وتدبَّر فيها، سوف يدرك الحجم الكبير من الآيات القرآنيّة التي تدلّ بوضوحٍ على أن ألفاظ القرآن الكريم، مثل معانيه، بأجمعها قد نزلت من عند الله، وأن النبيّ الأكرم| كان واسطةً في إيصالها إلى الناس، وأنه لم يُضِفْ إليها شيئاً من عنده. وإن عدد هذه الآيات من الكثرة، ودلالتها من الوضوح، بحيث لا يبقي معها أيّ مجالٍ لاحتمال الخلاف أبداً.
هناك آياتٌ متعدّدة تقول: إن الله سبحانه وتعالى قد أنزل الكتاب على النبيّ الأكرم|، ومن ذلك: قوله تعالى: ﴿كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الأَلْبَابِ﴾ (ص: 29)([19]). يقول مجتهد شبستري: إن الكتاب في هذا النوع من الموارد لا يعني القرآن الكريم، وإن معنى نزول الكتاب على النبيّ الأكرم| في القرآن يعني الانكشاف المستمرّ لـ «العالم الوحياني» بالنسبة إلى النبيّ الأكرم، حيث خاض في ذلك العالم تجربة اعتبار جميع الكائنات بوصفها كلمات الله اللامتناهية (آيات الله)، وكان الوجود ماثلاً أمام عينه الباطنية على شكل كتابٍ مفتوح، وإنه كان يقرأ هذا الكتاب. وإن كلمة «الكتاب» وعبارة «إنزال الكتاب» في القرآن لا تحمل أيّ إشارةٍ إلى هذا المصحف الشريف الموجود بين أيدينا والمجموع بين الدفتين بعد نزول جميع آياته، ويُسمَّى بـ «القرآن»([20]).
بَيْدَ أن هذا الكلام غير صحيحٍ؛ إذ ورد التصريح في بعض الآيات بأن الكتاب الذي نزل من قِبَل الله سبحانه وتعالى على قلب النبيّ قد نزل بلغةٍ عربية: ﴿تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * كِتَابٌ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ﴾ (فصّلت: 2 ـ 3). ومن الواضح أن كتاب القرآن العربيّ هو وصفٌ لهذا المصحف الشريف الموجود في متناول أيدي الناس، وليس كائنات الوجود. كما ورد التصريح في آياتٍ أخرى بأن الله سبحانه وتعالى قد أنزل القرآن بلسانٍ عربيّ مبين، كما في قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً﴾ (طه: 113)، بل قال أيضاً بأننا لو أنزلنا القرآن بلغةٍ أعجمية لما سلم هذا القرآن من إشكال المشركين: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً أَعْجَمِيّاً لَقَالُوا لَوْلاَ فُصِّلَتْ آَيَاتُهُ أَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ﴾ (فصّلت: 44)، وفي سورة يوسف×، بعد بيان قوله تعالى: ﴿تِلْكَ آَيَاتُ الْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ﴾ (يوسف: 1 ـ 2)، أضاف قائلاً: ﴿نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآَنَ﴾ (يوسف: 3).
إن كلمة «هذا» في هذه الآية ونظائرها شبيهةٌ بهذه الكلمة الواردة في حديث الغدير؛ إذ رُوي عن النبيّ الأكرم| أنه قال: «مَنْ كنت مولاه فهذا عليٌّ مولاه». إن عبارة «هذا عليّ» إنما تأتي لكي يفهم المخاطَب أن مراد النبيّ هو الإمام عليّ×، الواقف أمامهم ويرَوْنه بأعينهم؛ كي لا يبقى عندهم أيّ مجال للشكّ والشبهة، فيقول أحدهم: إن النبيّ الأكرم كان يريد بذلك شخصاً آخر غير الإمام عليّ×. إن استعمال اسم الإشارة «هذا» في هذه الآية والآيات الأخرى([21]) إنما كان لبيان هذه المسألة، وهي أن هذا القرآن الموجود بين أيدي الناس، والذي يشتمل على الألفاظ العربية، قد نزل من عند الله سبحانه وتعالى؛ كي لا يشكّ أحدٌ في نزول القرآن من عند الله عزَّ وجلَّ.
ولا يخفى بطبيعة الحال أن البُعْد الأصلي والمقام الحقيقي للقرآن الكريم هو الوجود المجرّد الذي نزل على شكل ألفاظ عربية، وليس غير ذلك، وهو ذات الحقيقة المجرّدة التي تحوّلت بعد التجلّي والنزول على شكل قرآن في متناول أيدي الناس وبألفاظ عربية. وهو ما يظهر بوضوحٍ من خلال الكثير من الآيات، كما في قوله تعالى: ﴿وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الزخرف: 2 ـ 4). وفي الحقيقة إن القرآن الكريم مرساةٌ مدلاة، وليس حبلاً مُلْقى؛ ولذلك يمكن للإنسان أن يتمسَّك بهذه المرساة، ويصعد بها إلى العالم الأعلى؛ ليقترب بذلك من حقيقة القرآن. بَيْدَ أننا في هذه المقالة لسنا بوارد البحث بشأن الحقيقة المجرّدة للقرآن الكريم، وإنما نحن نبحث في مقام تنزُّل القرآن باللغة العربية.
إن مجتهد شبستري، بعد بيان تفسيره الخاصّ لـ «الكتاب» و«إنزال الكتاب»، تحدّث في معرض الجواب عن السؤال القائل: على مَنْ نزل الكتاب؟ قائلاً: إن الكتاب قد نزل على النبيّ الأكرم، ولم ينزل على مخاطَبيه([22]). بَيْدَ أن الذي نزل في ضوء آيات القرآن بلا واسطةٍ على النبيّ الأكرم| قد نزل على الناس بالواسطة أيضاً، قال تعالى: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ﴾ (النحل: 44). وهذا يثبت أن المراد من الشيء الذي نزل على النبيّ الأكرم| هو هذه الألفاظ المشتملة على المعاني، والتي نزلت إلى الناس أيضاً.
ومن الجدير بالذكر أن مجتهد شبستري؛ لكي يعمل على مواءمة رؤيته مع آيات القرآن الكريم، عمد مضطرّاً إلى تغيير معاني وألفاظ وعبارات القرآن الكريم، وقام بتفسيرها على خلاف النصّ الصريح للقرآن الكريم، فسقط في مغبّة التحريف المعنوي والتفسير بالرأي. فإنه كما فسَّر كلماتٍ من قبيل: «الكتاب» و«الإنزال» و«الآيات» بشكلٍ خاطئ، كذلك فسَّر كلمة «الوحي» بشكلٍ مخالف لدلالة آيات القرآن، وبما ينسجم مع رؤيته، واعتبرها منشأً للقرآن فقط، وليس ذات القرآن. وقال في ذلك:
1ـ عندما قبل النبيّ بأن الكلام كلامه فقد قبل بأن المعاني والألفاظ منسوبةٌ إليه أيضاً، وأنه متكلِّمٌ ومتصف بصفة التكلُّم. بَيْدَ أن دعواه لم تكن بأنه هو الذي اتَّخذ قراراً بالتكلُّم بنفسه. بل كانت تجربته تقوم على أنه قد تمّ اجتباؤه واصطفاؤه من قِبَل الله سبحانه وتعالى، وأنه قد بُعث إلى الناس، وأنه كان يحصل على إمداد غيبيّ عبَّر عنه بـ «الوحي»، وأنه قد تمكَّن من هذا التكلُّم بفضل ذلك الإمداد، بمعنى التكلُّم بعباراتٍ ذات معنى ومفهوم([23]).
2ـ لقد قامت دعوى النبيّ على أنه إنسانٌ خاصّ، وأن الله قد اجتباه بناءً على تجربته، وبعثه وجعله قادراً من طريق الوحي على التكلُّم بهذه الكلمات (تلاوة القرآن). يتّضح من مجموع آيات القرآن أن النبيّ كان يدّعي أن ما كان يتلوه إنما هو حصيلة الوحي؛ بمعنى أنه أصبح قادراً على مثل هذا الكلام بتأثيرٍ من الوحي([24]).
3ـ وبطبيعة الحال، حيث يكون نبيّاً فإنه يحمل ادّعاءً كبيراً، وهو أنه يؤدّي جميع تلك الكلمات والآيات في ضوء الإمداد الإلهيّ الخاص، والذي يُسمِّيه بـ «الوحي». إنه يقول: لولا الوحي لما كان قادراً على التكلُّم بكلامٍ من سنخ القرآن، ولم يكن بمقدوره أن يخوض تلك التجارب التي انعكست في هذا النصّ، وإنه يبيِّنها كما جاءت في القرآن([25]).
بَيْدَ أنه يبدو من الآية 3 من سورة يوسف بوضوحٍ أن هذا القرآن والمصحف الموجود حالياً بين أيدي الناس هو الذي أوحي إلى النبيّ الأكرم|، وقد ورد في آيات أخرى صراحةً اعتبار ذات هذه الآيات القرآنية وَحْياً، كما في قوله تعالى: ﴿وَأُوحِيَ إِلَيَّ هَذَا الْقُرْآَنُ لأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَمَنْ بَلَغَ﴾ (الأنعام: 19)، وقوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآَناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا﴾ (الشورى: 7)، بل وقد ورد في بعض الآيات بيان أن أحد أهداف إرسال النبيّ الأكرم| هو أن يتلو على الناس ما أُنزل إليه، ومن ذلك قوله تعالى: ﴿كَذَلِكَ أَرْسَلْنَاكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهَا أُمَمٌ لِتَتْلُوَ عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ﴾ (الرعد: 30). ومن الواضح أن الوحي الذي كان باللغة العربية، ويمكن للناس قراءته، هو هذه الآيات الموجودة في القرآن الكريم، وليس الإمداد الإلهيّ الذي يكون منشأ لها.
ومن بين الآيات الأخرى التي تدلّ على أن القرآن الكريم كلام الله سبحانه وتعالى، وليس كلام النبيّ الأكرم|، هي الآيات التي يتحدَّث فيها الله عزَّ وجلَّ إلى الناس مباشرةً، ويعتبرهم عباده، ومن ذلك: قوله تعالى: ﴿يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ أَرْضِي وَاسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ﴾ (العنكبوت: 56). ومن الواضح أن الناس عباد الله، وليسوا عباداً للنبيّ الأكرم|. ومثل هذه الآيات لا يمكن أن تكون كلام النبيّ، وإنما هي كلماتُ الله سبحانه وتعالى.
وكذلك في الكثير من الآيات الأخرى ورد استعمال الله سبحانه وتعالى ضمير المتكلِّم لبيان أفعاله. ومن ذلك ـ على سبيل المثال ـ: قوله تعالى: ﴿نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلاَ تُصَدِّقُونَ﴾ (الواقعة: 57)، وقوله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ﴾ (الحديد: 25). إن هذه الآيات ـ وهي كثيرةٌ جدّاً ـ تدلّ بوضوحٍ على أن قائلها هو الله سبحانه وتعالى، وليس النبيّ الأكرم؛ لأن هذه الأفعال لا تقبل الاستناد إلى النبيّ|.
ومن الآيات الأخرى التي تدلّ على أن هذا القرآن هو كلام الله تعالى الآياتُ التي تعرِّف جبرائيل× بالواسطة لإيصال آيات القرآن الكريم إلى النبيّ الأكرم|، كما في قوله تعالى: ﴿قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوّاً لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللهِ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ﴾ (البقرة: 97)، وقوله: ﴿نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ * عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ﴾ (الشعراء: 193 ـ 195).
وقال العلاّمة الطباطبائي& في تفسير هذه الآيات: إن الضمير في «به» يعود إلى القرآن المؤلَّف من ألفاظ ذات معانٍ حقّة؛ إذ صرَّح بأن ألفاظ القرآن ـ مثل المعاني ـ قد نزلت من عند الله سبحانه وتعالى؛ حيث قال: «والضمير في «نزل به» للقرآن بما أنه كلامٌ مؤلّف من ألفاظٍ لها معانيها الحقّة؛ فإن ألفاظ القرآن نازلةٌ من عنده تعالى، كما أن معانيها نازلةٌ من عنده»([26]).
وقد ذهب الطباطبائي إلى الاعتقاد بأن الذين يقولون: إن معاني القرآن وحدها من عند الله، وأما الألفاظ فهي من صنع النبيّ الأكرم، لا يُعْنَى بقولهم؛ فهو قولٌ سخيف، وأما القول بأن ألفاظ القرآن ومعانيه كلَيْهما من صنع النبيّ الأكرم| فهو أسخف من سابقه. وإليك نصّ عبارته في هذا الشأن: «لا يُعْبَأ بقول مَنْ قال: إن الذي نزل به الروح الأمين إنما هو معاني القرآن الكريم، ثمّ النبيّ| كان يعبِّر عنها بما يطابقها ويحكيها من الألفاظ بلسانٍ عربي. وأسخف منه قول مَنْ قال: إن القرآن بلفظه ومعناه من منشآت النبيّ|، ألقَتْه مرتبةٌ من نفسه الشريفة تسمّى الروح الأمين إلى مرتبةٍ منها تسمّى القلب»([27]).
وبطبيعة الحال فإن العلاّمة الطباطبائي& قد أكَّد في أعماله وآثاره ـ ولا سيَّما منها تفسيره الضخم (الميزان) ـ مراراً وتكراراً على أن ألفاظ القرآن الكريم هي مثل معانيه من كلام الله، وأنها نزلت على النبيّ الأكرم| من عند الله. وعليه كيف أمكن لمجتهد شبستري أن ينسب إليه أنه قال: «إن القرآن الذي بين أيدينا كلام إنساني، وقائله هو النبيّ الأكرم نفسه»؟!.
كما أن نسبة مثل هذا القول إلى المخاطَبين المعاصرين للنبيّ الأكرم| لا تصحّ أيضاً؛ لأن جميع الشواهد التاريخية وغير التاريخية تثبت أن تعامل أهل الحجاز في ذلك العصر كان يقوم على أن هناك شخصاً قد ادّعى النبوّة، وأنه يتلو آياتٍ على أنها من القرآن، ويدّعي أن هذا القرآن هو كلام الله، وأنه ليس سوى مأمورٍ بإيصال هذه الكلمات إلى الناس وتوضيحها وتفسيرها لهم، وقد كان هذا الأمر معلوماً بالبداهة، حتى بالنسبة إلى الكفّار والمشركين في ذلك العصر، ولذلك فإنهم كانوا يعترضون في بعض الأحيان، ويقولون: لماذا لم ينزل القرآن على أحد رجلين عظيمين من مكّة أو الطائف، وقد ذكر القرآن ذلك عنهم بقوله: ﴿وَقَالُوا لَوْلاَ نُزِّلَ هَذَا الْقُرْآَنُ عَلَى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ﴾ (الزخرف: 31)، ويقولون تارةً أخرى: لماذا لم ينزل القرآن جملةً واحدة. ولكنّ الله علّق على ذلك بقوله: كذلك؛ لكي نثبّت فؤادك، فنزَّلناه بشكلٍ متدرّج، وعلى نحوٍ متعاقب: ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلاَ نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلاً﴾ (الفرقان: 32).
ولا بُدَّ من الالتفات إلى أن نزول الكتاب السماوي من قِبَل الله تعالى دفعةً واحدة، وحتّى على شكل كتابةٍ على ألواح خاصّة، له سابقةٌ تاريخية، وإن أهل الكتاب كانوا على علمٍ بهذا النوع من النزول؛ فإن كتاب التوراة ـ على سبيل المثال ـ كان قد نزل على شكل ألواحٍ على النبيّ موسى× جملةً واحدة، وقد صرَّح القرآن الكريم في بعض آياته بهذا الأمر؛ إذ قال تعالى: ﴿وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا﴾ (الأعراف: 145).
وهناك الكثير من الآيات في القرآن الكريم التي تدلّ ـ على غرار ما سبق من الآيات ـ بوضوحٍ على أن القرآن الكريم قد نزل من عند الله سبحانه وتعالى على النبيّ الأكرم|، وهي آيات تتحدَّث عن النبيّ الأكرم أو توجِّه الخطاب له على المستوى الشخصي. وفي ما يلي نذكر بعض هذه الموارد، على سبيل التمثيل دون الحَصْر:
1ـ الآيات الكثيرة التي ورد فيها لفظ «قُلْ» خطاباً للنبيّ الأكرم|، من قبيل: قوله تعالى: ﴿يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنْفَالِ قُلِ الأَنْفَالُ للهِ وَالرَّسُولِ﴾ (الأنفال: 1).
2ـ الآية 67 من سورة المائدة، التي تأمر النبيّ الأكرم| بأن يعلن للمسلمين عن إمامة وخلافة أمير المؤمنين عليّ×، ويهدّده بأنه إنْ لم يبلِّغ هذا الأمر فكأنَّه لم يبلغ رسالته، وفي نهاية الأمر يطمئنه بأنه سيعمل على حفظه من الناس: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾ (المائدة: 67).
3 ـ الآية 144 من سورة البقرة، والتي تقول: إن النبيّ الأكرم| كان يترقَّب نزول الحكم بتغيير القبلة من الله سبحانه وتعالى، وإن الله سبحانه يقول لنبيِّه في هذه الآية: نحن نرى هذا الترقُّب منك، وسوف نولِّيك قبلةً ترضيك، ثمّ أمر النبيّ بأن يتوجَّه إلى المسجد الحرام: ﴿قَدْ نَرَى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّمَاءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضَاهَا فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ﴾ (البقرة: 144).
4 ـ الآيتان 1 و2 من سورة المدَّثِّر، التي تأمر النبيّ بالقيام وإنذار الناس: ﴿يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ * قُمْ فَأَنْذِرْ﴾ (المدّثر: 1 ـ 2).
5 ـ الآية 65 من سورة الزمر، والتي تخاطب النبيّ الأكرم| وغيره من الأنبياء السابقين، وتقول له: إنك إنْ أشركْتَ فسوف يحبط عملك وتكون من الخاسرين: ﴿وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ﴾ (الزمر: 65).
من الواضح أن هذا النوع من الآيات، وهي كثيرةٌ جدّاً في القرآن الكريم، إنما يكون لها معنىً صحيح إذا كانت آيات القرآن الكريم كلام الله سبحانه وتعالى، وليست كلام النبيّ الأكرم|. وإذا قال شخصٌ: إن القرآن كلام النبيّ لا يمكن له أن يقدِّم معنىً صحيحاً لهذه الآيات.
نتيجة هذا القسم من البحث أن في القرآن الكريم آياتٍ تدلّ على أن ألفاظ القرآن، مثل معانيه، تعود إلى الله سبحانه وتعالى، لا إلى النبيّ الأكرم|، وإن عدد هذه الآيات من الكثرة، ودلالتها من الصراحة والوضوح، بحيث لا يبقى معها أيّ مجالٍ للشكّ واحتمال الخلاف. وإن الشواهد التي يذكرها مجتهد شبستري من آيات القرآن؛ لإثبات بشرية ألفاظ ومعاني القرآن، لا تحمل أيّ دلالةٍ على هذا المدَّعى، بل إنها تؤكِّد على سماوية القرآن الكريم، وإسناد ألفاظه ومعانيه إلى الله سبحانه وتعالى. ويبدو أن إنكار أصل نبوّة ورسالة النبيّ الأكرم| أيسر من أن يدَّعي الشخص أنه يؤمن بنبوّة ورسالة النبيّ محمد بن عبد الله|، ولكنّه يقول بأن القرآن الكريم هو كلامه ومن صنع ذهنه.
في ختام هذا البحث تجدر الإشارة إلى هذه النقطة، وهي أن إثبات أن القرآن الكريم كلام الله لا يعني اعتبار النبيّ الأكرم| مجرّد مكبِّر صوتٍ أو قناةٍ صوتية، ليس له من مهمّةٍ سوى نقل سلسلةٍ من الأصوات المنتظمة إلى المخاطَبين، بل كان للنبيّ الأكرم، بالإضافة إلى حمل القرآن، دَوْراً أصليّاً ومصيريّاً في إبلاغ وبيان المعارف والتعاليم والأحكام الدينية، وتأسيس وإقامة الدولة والمجتمع الإسلامي، وهداية الناس إلى الكمال والسعادة الحقيقية. كما أن القرآن الكريم قد اعتبر إرسال النبي الأكرم| منّةً من الله على المؤمنين، وذكر للنبيّ مختلف الوظائف والمقامات المتنوِّعة، من قبيل: تلاوة آيات الله، وتزكية المؤمنين، وتعليم الكتاب والحكمة؛ إذ يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلاَلٍ مُبِينٍ﴾ (آل عمران: 164).
وبعبارةٍ أخرى: لقد كان للنبيّ الأكرم| الكثير من الفضائل والكرامات، كما كان له التأثير الأكبر في بناء الحضارة الإسلامية، ولكنْ لا شيء من هذه الأمور يؤدّي إلى هذه النتيجة القائلة: إذن يجب أن يكون القرآن الكريم كلاماً للنبيّ أيضاً، وليس كلام الله.
2ـ عدم أبديّة الأحكام القرآنيّة
إن من بين أهمّ مدَّعيات مجتهد شبستري أن القرآن الكريم ليس كتاب قانونٍ، وأنه لا يحتوي على أيّ حكمٍ أبدي. فإنه من خلال إبداء تعريف جديد للنبوّة والرسالة اعتبر رسالة النبيّ الأكرم| وحدها هي الإعلان عن «التوحيد» بمنزلة «الحياة التوحيدية»، لا بمنزلة «الاعتقاد»، وقال بأن القرآن بأجمعه يشتمل على الحياة الموحّدة للنبيّ، ودعوة الآخرين إلى هذا النوع من الحياة. فهو يرى أن الخطاب غير النسبي والدائمي الإلهي الوحيد في القرآن هو الدعوة إلى الحياة التوحيدية في الفكر والأخلاق العملية، وأن سائر مطالب القرآن الأخرى تعود إلى إنسانية النبيّ وعصره وبيئته ومدركاته([28]). كما أبدى مجتهد شبستري تعريفاً جديداً لعصمة النبيّ الأكرم| أيضاً، حيث قال: إنها عبارة عن أن النبيّ لا يحيد أبداً عن هذا الفهم التفسيري التوحيدي للعالم، ولا يدعو إلى غير الله سبحانه وتعالى([29]).
يرى مجتهد شبستري أن الأوامر والنواهي الواردة في القرآن الكريم إنما تخصّ تلبية بعض الغايات والشرائط والظروف التاريخية المعيَّنة التي كان يعيشها العرب في الحجاز وشبه الجزيرة العربية، من قبيل: الحيلولة دون الإفراط والإسراف في الانتقام والقتل، وضمان العدالة للنساء، وما إلى ذلك. وأما اليوم فلا يمكن تلبية هذه الغايات بهذا النوع من الأوامر والنواهي، أو أن المجتمعات الراهنة قد تجدَّدت فيها أهداف وغايات أخرى، حتّى بالنسبة إلى المسلمين أنفسهم. إن الشيء الوحيد الذي تبقَّى للمسلمين على شكل مفهومٍ في الشرائط والظروف التاريخية للعصر الراهن هو مجرّد المباني الأخلاقية لتلك الأوامر والنواهي، لا أكثر([30]).
وفي ما يلي نذكر نماذج أخرى من عبارات مجتهد شبستري في هذا الشأن:
1ـ إن القرآن الكريم يمثِّل التركة والميراث الأهمّ الذي تبقّى بعد النبيّ الأكرم|، إلاّ أن هذا الكتاب ـ حتّى في آياته المعروفة بـ «آيات الأحكام» ـ لا يحتوي على خصائص النصّ القانوني، وحيث هو كذلك لا يمكن في مقام تفسير آيات الأحكام في هذا الكتاب افتراض أننا نخوض في تفسير نصٍّ قانوني (كما يفعل الفقهاء ذلك)([31]).
2ـ إن الأحكام الشرعية للقرآن كانت تقوم على فهمٍ تفسيري للحقائق والعلاقات الاجتماعية الموجودة في مجتمع الحجاز، والعلاقات العبادية للناس مع الله في ذلك المجتمع، والغاية من ذلك هي تفسير الحقائق والواقعيات الاجتماعية بما يتناسب مع إرادة الله سبحانه وتعالى. إن صدور هذه الأحكام في الأصل لم يكن بمعنى وضع الأحكام لجميع المجتمعات وكافّة العصور. وأما ما يُقال من أن المسلمين في القرن الأول من تاريخ الإسلام قد أسَّسوا علم الفقه؛ لتلبية احتياجاتهم وحاجة حكومتهم ودولتهم، فهو بحثٌ آخر مختلف بالمرّة([32]).
3ـ واليوم حيث الشرخ التاريخي والفاصلة الزمنية الكبيرة الماثلة بيننا وبين عصر تلك النصوص، عندما نبحث الخلفيات التاريخية والاجتماعية لتلك النصوص، وننظر إليها في أحضان تلك الخلفيات، ونتعرَّض إلى فهم غاية الفاعلين من ذوي الشأن في صلاتهم وعلاقاتهم، نصل إلى نتيجةٍ مفادها أن المتكلِّم يهدف إلى إيجاد تغييرات معيَّنة في الحقائق والارتباطات الاجتماعية الموجودة في مجتمع المخاطَبين المعيَّنين؛ لصالح أهدافٍ وغاياتٍ أخلاقية محدَّدة، وليس شيئاً آخر. إن هذا الأمر هو مجرّد إيجاد تغيير في أوضاع مجتمع معيَّن ومحدَّد، وهو لا يعدو أن يكون أمراً نسبياً. لا يمكن لنا أن نستنبط من مثل هذا القصد والعمل «حكماً فقهيّاً أبدياً». إن الذي كان يهدف إليه المتكلِّم هو الاعتبار الأبدي لتلك الأهداف الأخلاقية التي بعثت المتكلِّم إلى تلك الفاعلية الارتباطية (التكلُّم)([33]).
4ـ إن اعتبار أبدية أحكام القرآن الكريم لم يكن سوى «تأسيساً اعتقادياً ـ سياسياً» قام به الخلفاء؛ لكي يكون للمجتمع الإسلامي قوانين تتمّ إدارتهم بواسطتها. إن هذا «التأسيس البنائي» الذي تحقَّق بعد رحيل النبيّ الأكرم| قد تواصل لأسبابٍ مختلفة حتى العصر الراهن على يد الخلفاء والحكام. والذي نقوله: حيث تغيَّرت الحقائق الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية للمسلمين في العصر الراهن فيجب العمل على تغيير تلك الأُسُس البنائية أيضاً. إن هذا المقترح يقضي بالتخلّي عن سيرة الحكام والفقهاء السابقين، والعودة إلى الأهداف المعنوية والأخلاقية للنبيّ الأكرم|، وليس تخلِّياً عن السنّة النبويّة. بل إن هذا الأمر هو عين التَّبَعية للسيرة والسنّة النبوية([34]).
5ـ علينا نحن المسلمون في العصر الراهن أن نغلق ملفّ علم الأصول والاجتهاد الفقهي الذي يمثِّل نوعاً من هرمنيوطيقا حفظ الهوية الجماعية للأمّة، وقد انقضَتْ حقبته، وأن نفسِّر الكتاب والسنّة في ضوء الاتجاه الهرمنيوطيقي الفلسفي بالمعنى الأعمّ، والذي هو اتجاهٌ عقلاني([35]).
إيرادٌ وتعليق
إن الإنسان كائنٌ أبديّ، ويجب عليه في الدنيا أن يُعدّ زاده ومتاعه لضمان سعادته الخالدة في الآخرة. وإن إحدى أهمّ الغايات والأهداف المنشودة من إرسال الأنبياء والرُّسُل إبلاغ الأحكام والقوانين الفردية والاجتماعية ـ التي يمكنها إيصال الإنسان إلى السعادة الحقيقية ـ من قِبَل الله سبحانه وتعالى. إن القرآن الكريم ـ بالإضافة إلى التعاليم والمفاهيم الاعتقادية والأخلاقية المتنوِّعة التي تقدَّم ذكرُها ـ يعتبر كتاباً قانونياً أيضاً، فهو يشتمل على الأحكام والقوانين الفردية والاجتماعية الضرورية لإيصال الإنسان إلى قمّة الكمال في الدنيا والآخرة.
إن القرآن الكريم يشتمل ـ من هذه الناحية ـ على جميع خصائص كتاب القانون، وقد عمد إلى بيان قوانينه على شاكلة الأعراف السائدة في المجتمعات البشرية عند الإعلان عن قوانينها. كما أفاد القرآن في بعض آياته ـ من خلال استعمال عباراتٍ عامّة، من قبيل: قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ ـ أن آيات وأحكام القرآن لا تخصّ جماعةً أو فئةً خاصّة من الناس، بل تشمل جميع أفراد الإنسان، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الأَرْضِ حَلاَلاً طَيِّباً وَلاَ تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾ (البقرة: 168). وفي آياتٍ أخرى تمّ التصريح بأن الله سبحانه وتعالى قد بعث النبيّ الأكرم| إلى جميع البشر: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاّ كَافَّةً لِلنَّاسِ﴾ (سبأ: 28)، وأنه المنذر لجميع الناس: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً﴾ (الفرقان: 1)، وأن القرآن الكريم سببٌ لإنذار الناس قاطبةً: ﴿نَذِيراً لِلْبَشَرِ﴾ (المدّثر: 36).
كما أن الآيات التي تبيّن الأحكام والقوانين الإسلامية قد تمّ بيانها بشكلٍ عامّ ومطلق، ولا تحتوي على أيّ إشارةٍ أو تلويح يدلّ على أن الحكم في تلك الآيات يخصّ جماعةً أو فئةً بعينها، أو في حقبةٍ زمنيّة خاصّة؛ كما في قول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: 275)، أو قوله تعالى: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالاً مِنَ اللهِ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (المائدة: 38).
إن استعمال كلماتٍ من قبيل: «كُتب»؛ لبيان بعض الأحكام، يُثبت بوضوحٍ أنها قوانين إلهيّة تمّ فرضها على المسلمين، كما في قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصَاصُ فِي الْقَتْلَى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَالْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَالأُنْثَى بِالأُنْثَى﴾ (البقرة: 178).
وأما ما ورد في القرآن الكريم من الإشارة إلى مسألة «النسخ»، والقليل من الأحكام المنسوخة في القرآن الكريم، وما دأب عليه المسلمون ـ ولا سيَّما الباحثون منهم ـ من البحث والسؤال بشأن الناسخ والمنسوخ، وتحديد مصاديقهما، فيثبت أن سائر الأحكام ليست زمنيّةً، وسيبقى حكمها إلى الأبد: ﴿مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا﴾ (البقرة: 106).
وبالإضافة إلى دلالة آيات القرآن الكريم ـ والتي تمَّت الإشارة إليها آنفاً ـ فإن كلمات النبيّ الأكرم|، وفهم الصحابة والتابعين لهذه الكلمات، يُشكِّل دليلاً آخر يثبت أن القرآن الكريم كتابَ قانونٍ، وأن أحكامه لا تخصّ أشخاصاً بعينهم أو أزمنةً بعينها؛ ولا سيَّما أن تقرير الأئمة المعصومين من أهل البيت^ تدلّ بوضوح على هذه المسألة؛ إذ إن النبي الأكرم| قد عمد من جهةٍ إلى التعريف بالأئمّة الأطهار^ بوصفهم مراجع للدين، ومفسِّرين للقرآن الكريم، ومبيِّنين لتعاليمه وأحكامه للناس، ومن ناحيةٍ أخرى كان الأئمّة الأطهار، وعلى مدى قرنين من الزمن، يستدلّون بأحكام وقوانين القرآن، ويؤكِّدون على استمرار هذه الأحكام والقوانين. وهذا يدلّ بوضوحٍ على أن القرآن من وجهة نظرهم كتابُ قانونٍ، وأن قوانينه لم تكن تخصّ الناس في عصر النبيّ الأكرم| فقط. كما أن الجهود المتواصلة للعلماء من أجل فهم أحكام القرآن والسنّة، والتي أدَّتْ في نهاية المطاف إلى تدوين علم الفقه وعلم الأصول، تعود بجذورها إلى هذا الفهم من قِبَلهم، وهي ناشئةٌ من تعاليم القرآن الكريم والنبيّ الأكرم|، وليس من هرمنيوطيقا الحفاظ على الهويّة الجماعية.
والأهمّ من كلّ ذلك أن الله سبحانه وتعالى ـ طبقاً لرؤية مجتهد شبستري ـ قد ترك الناس في هذا العصر دون قوانين وأحكام دينيّة؛ وهذا بدَوْره خلافُ العقل وخلافُ التعاليم السماوية والشرائع الإلهية؛ لأن الإنسان كائنٌ لا تنحصر حياته بهذا العالم الدنيوي فقط، بل تنتظره حياةٌ خالدة في عالم الآخرة، وإن حياته الأخروية قد تكون مقرونةً بالسعادة أو مقرونةً بالشقاء والعذاب. وإن الطريق الوحيد الذي يضمن السعادة الأخروية يكمن في العقائد والأخلاق والسلوكيات الصحيحة والصائبة التي يجب على الإنسان أن يصيبها في هذه الحياة الدنيا؛ إذ إن الإنسان كائنٌ عجيب ومتعدِّد الأبعاد، ومن ناحيةٍ أخرى لا يمتلك علماً ومعرفةً كافية بالنسبة إلى أبعاده الوجودية، وكذلك كيفية الحياة الأخروية وطريقة الوصول إلى السعادة الأبدية أو السقوط في مستنقع الشقاء، وإن الذي يمكنه أن يدلّه على طريق السعادة الأخروية ـ بحكم العقل والتعاليم الدينية ـ هو الله سبحانه وتعالى؛ فهو الذي فطره ويعلم بجميع أبعاده الوجودية المتنوّعة، وهو الذي خلق عالم الآخرة، وإن دائرة علمه المطلق يشمل ماهية السعادة والشقاء الأخروي، وطرق الوصول إليهما.
وبعبارةٍ أخرى: بالنظر إلى أن النبيّ الأكرم| هو خاتم الأنبياء، وأن القرآن الكريم هو آخر الكتب السماوية؛ إذ يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ (الأحزاب: 40)، لو لم يكن القرآن الكريم كتابَ قانونٍ، ولم تكن أيٌّ من أحكامه أبديّةً، عندها يجب القول: إن الله الحكيم قد ترك الناس منذ رحيل النبيّ الأكرم| وحتّى نهاية العالم من دون قانونٍ وتشريع، وفي مثل هذه الحالة ما الذي يتعيَّن على الناس فعله؟ وما هو شكل الأحكام والقوانين التي يجب أن ينظِّموا حياتهم على أساسها؛ لكي يضمنوا سعادتهم في الدنيا والآخرة؟ لا مندوحة من القول في الجواب عن هذا السؤال بأن الناس سوف يعملون على وضع الأحكام والقوانين استناداً إلى عقولهم، واستعانةً بالعقل الجَمْعي. بَيْدَ أن هذا الجواب لا يمكن أن يكون مقنعاً أو مقبولاً أبداً؛ لأن الناس وإنْ أمكنهم تنظيم حياتهم الدنيوية بعقولهم إلى حدٍّ ما، إلاّ أن هذا الطريق لا يمكن له أن يضمن سعادتهم في الآخرة أبداً.
إن الطريق الوحيد للوصول إلى السعادة الأبدية يكمن في التسليم والإذعان إلى الأحكام والقوانين الإلهية، وأما الاستناد والتعويل على مجرّد العقل القاصر فهو نوعٌ من الطغيان والفرعونية؛ حيث كان أعداء الأنبياء طوال التاريخ يذهبون إلى هذه الرؤية على الدوام؛ إذ كانوا يرَوْن أنهم في غنىً عن تعاليم الأنبياء^، كما كان فرعون يذهب إلى الإلحاد في مواجهة دين النبيّ موسى×، وكان يظهر المخاوف والقلق من أن يتمكَّن النبيّ موسى× من تغيير دين الناس أو الإفساد في الأرض بزَعْمه: ﴿وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الْفَسَادَ﴾ (غافر: 26)، وكان يقول للناس: إني لن أضلّكم، ولن أهديكم إلى غير طريق الهداية والرشاد: ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾ (غافر: 29). إن هذا هو التفكير القاروني الذي يعتمد على علمه في مواجهة علم الأنبياء^: ﴿قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي﴾ (القصص: 78). هذا في حين أن الإنسان يجهل الكثير من الأمور المؤثِّرة في سعادته أو شقائه، وهو ما أكَّد عليه الله سبحانه وتعالى في بحث تقسيم الميراث؛ حيث يقول: قسِّموا التركة والإرث كما أمركم الله سبحانه، لا كما تشتهون أنتم؛ لأنكم لا تعلمون من هو الأقرب لكم نفعاً من بين آبائكم وأبنائكم: ﴿آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لاَ تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً﴾ (النساء: 11).
يستطيع الإنسان أن يُعرِّف العدل بعقله، ويمكنه أن يفهم أن العدل يعني وضع كلّ شيءٍ في موضعه، كما يمكنه أن يُدرك حُسْن العدل أيضاً، ولكنه لا يستطيع أن يدرك تماماً ما هو الموضع الصحيح والمناسب لكلّ شيءٍ، وإن الله وحده هو الذي يعلم المكان الصحيح والمتقن لكلّ شيءٍ، ويمكنه أن يدلّ البشر على ذلك. وإن الوصول إلى بعض العلوم يستحيل على البشر، وحتّى على شخص النبيّ الأكرم|، إلاّ بتعليمٍ وهدايةٍ من الله سبحانه وتعالى: ﴿وَأَنْزَلَ اللهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَعَلَّمَكَ مَا لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ﴾ (النساء: 113).
النتيجة
طبقاً للأدلّة القرآنية والروائية القطعيّة، فإن القرآن الكريم ـ بألفاظه ومعانيه ـ قد نزل بأجمعه من عند الله سبحانه وتعالى على النبيّ الأكرم|، وإن النبيّ كان مأموراً بإبلاغ وإيصال ما نزل عليه من الآيات الإلهية إلى الناس، ولم يكن له الحقّ في القيام بأيّ نوعٍ من أنواع التغيير في ألفاظ القرآن ومعانيه، أو إضافة شيءٍ إليها، أو إنقاص شيءٍ منها، وإنْ كانت مهمّة بيان آيات القرآن وتفسيرها، وبيان جزئيات وتفاصيل الأحكام، تقع على عاتق النبيّ الأكرم|. كما أن القرآن الكريم هو آخر كتابٍ سماويّ نزل لهداية الإنسان إلى يوم القيامة، وإن أحكامه وقوانينه لا تختصّ بزمانٍ أو أمّةٍ بعينها، بل هو لجميع الناس، وإن اعتباره وحجِّيته باقيةٌ عليهم طوال العصور والأزمان.
إن الحفاظ على الإسلام الحنيف وصيانته تقع على عاتق علماء الدين والحوزات العلمية. وفي هذا العصر ومع التطوُّر التكنولوجي، واتساع رقعة الفضاء المجازي؛ حيث تنتشر المسائل المتنوِّعة ـ بما في ذلك الشبهات الدينية ـ بسرعةٍ فائقة، وتكون في متناول الجميع، يتعيَّن على الحوزات العلمية أن تعمل على تشكيل مختلف اللجان التخصُّصية؛ لتعمل على إعداد وجمع هذه الشبهات سريعاً، والتدقيق فيها، وتبويبها، والردّ عليها، من خلال تأليف الكتب والمقالات والنصوص المتوسطة والقصيرة، ونشرها في الفضاء المجازي، بشكلٍ دقيق، مدعومٍ بأدلّةٍ قوية ومتقنة؛ لتكون بذلك قد اضطلعَتْ بمسؤوليتها العقلية والشرعية كخادمةٍ للقرآن، ومجاهدةٍ تحت لواء الإمام بقيّة الله الأعظم#، إنْ شاء الله.
الهوامش
(*) مساعِدٌ علميّ في معهد بحوث القرآن والعترة (المعراج) في إيران.
([1]) إن مجتهد شبستري، ولا سيَّما بشأن رأيه الثاني، وجَّه دعوةً إلى المراجع العظام من أجل المناظرة، وإثر ذلك أبدَتْ شخصياتٌ متنوّعة من الحوزة العلمية ومن الجامعة، وبعض تلاميذ مراجع التقليد العظام، ومن بينهم: عبد الحسين خسروپناه، ومحمد تقي السبحاني، وعلي رضا قائمي، وأبو الفضل ساجدي، ومحمد محمد رضائي، استعدادها للمناظرة مع محمد مجتهد شبستري في مناخٍ علميّ، كما كتبوا مقالاتٍ في الردّ على آرائه، ونشروا ما كتبوه على فضاء الشبكة العنكبوتيّة، كما سبق أن تمَّتْ كتابة مقالات وكتب صدرت حول هذه الآراء.
([2]) وانظر أيضاً: البقرة: 177؛ النساء: 136؛ العنكبوت: 46؛ الشورى: 15.
([3]) لقد تمّ تقرير كلمات محمد مجتهد شبستري من مقالات «القراءة النبوية للعالم»، وكذلك كتاب «نقد أسس الفقه والكلام». ويمكن العثور عليهما في موقعه الشخصي على شبكة الإنترنت.
([4]) انظر: محمد مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (1) (القراءة النبوية للعالم (1))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).
http://mohammadmojtahedshabestari.com
([5]) انظر: المصدر السابق، 1386هـ.ش.
([6]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (2) (القراءة النبوية للعالم (2))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1387هـ.ش. (مصدر فارسي).
([7]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (3) (القراءة النبوية للعالم (3))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1387هـ.ش. (مصدر فارسي).
([8]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (7) (القراءة النبوية للعالم (7))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1388هـ.ش. (مصدر فارسي).
([9]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (10) (القراءة النبوية للعالم (10))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1390هـ.ش. (مصدر فارسي).
([10]) انظر: مجتهد شبستري، نقد بنيادهاي فقه وكلام (نقد أسس الفقه والكلام): 317، موقع محمد مجتهد شبستري، 1396هـ.ش. (مصدر فارسي).
([11]) انظر: المصدر السابق: 319.
([12]) وانظر أيضاً: التوبة: 115؛ العنكبوت: 62؛ المجادلة: 7.
([13]) هناك مَنْ أجاب عن مدَّعيات مجتهد شبستري، مستدلاًّ بالقدرة الإلهية المطلقة، بَيْدَ أن شبستري لم يلتفت إلى هذا الاستدلال بالشكل الكافي والعميق، معتبراً هذا الاستدلال أجنبيّاً عن رؤيته.
([14]) عنوانه في الأصل الفارسي: (تبيين براهين إثبات خدا).
([16]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (1) (القراءة النبوية للعالم (1))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).
([17]) انظر: مجتهد شبستري، نقد بنيادهاي فقه وكلام (نقد أسس الفقه والكلام): 320، موقع محمد مجتهد شبستري، 1396هـ.ش. (مصدر فارسي).
([18]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (1) (القراءة النبوية للعالم (1))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).
([19]) وانظر أيضاً: البقرة: 174 ـ 176؛ آل عمران: 3 و7؛ النساء: 10.
([20]) انظر: مجتهد شبستري، نقد بنيادهاي فقه وكلام (نقد أسس الفقه والكلام): 340، موقع محمد مجتهد شبستري، 1396هـ.ش. (مصدر فارسي).
([21]) انظر: الزخرف: 31؛ الحشر: 21.
([22]) انظر: مجتهد شبستري، نقد بنيادهاي فقه وكلام (نقد أسس الفقه والكلام): 340، موقع محمد مجتهد شبستري، 1396هـ.ش. (مصدر فارسي).
([23]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (1) (القراءة النبوية للعالم (1))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).
([25]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (10) (القراءة النبوية للعالم (10))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1390هـ.ش. (مصدر فارسي).
([26]) محمد حسين الطباطبائي، الميزان في تفسير القرآن 15: 317، مؤسّسة الأعلمي للمطبوعات، بيروت، 1390هـ.
([28]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (10) (القراءة النبوية للعالم (10))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1390هـ.ش. (مصدر فارسي).
([29]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (1) (القراءة النبوية للعالم (1))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).
([30]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (5) (القراءة النبوية للعالم (5))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1387هـ.ش. (مصدر فارسي).
([31]) انظر: مجتهد شبستري، نقد بنيادهاي فقه وكلام (نقد أسس الفقه والكلام): 294، موقع محمد مجتهد شبستري، 1396هـ.ش. (مصدر فارسي).
([32]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (1) (القراءة النبوية للعالم (1))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1386هـ.ش. (مصدر فارسي).
([33]) انظر: مجتهد شبستري، قرائت نبوي أز جهان (10) (القراءة النبوية للعالم (10))، موقع محمد مجتهد شبستري، 1390هـ.ش. (مصدر فارسي).
([35]) انظر: مجتهد شبستري، نقد بنيادهاي فقه وكلام (نقد أسس الفقه والكلام): 358، موقع محمد مجتهد شبستري، 1396هـ.ش. (مصدر فارسي).