وللدين ثلاثية لا ينفصل أحدها عن الآخر كمنهج تغييري لأسلمة الذات ركز عليها المشرع وهي :
١. العقيدة التي جاءت لتنظم الفكر وتوجيه العقل نحو الحكمة النظرية وبناء النظريات الدنيوية من الدين بشكلها السليم.
٢. الأخلاق: وهي فقه الجوانح إن صح التعبير ، أي الأحكام الأخلاقية التي تضبط الداخل الإنساني وتميل بهواه إلى الهدي الإلهي فيمتلك إن هو التزم القلب السليم.
٣. الفقه : وهو مجموعة الأحكام الشرعية التي جاءت لتضبط الجوارح والسلوك العملي في الحياة وفق الارشادات الالهية.
فإن انتظم الفكر انقاد العقل ، وإن انتظمت الجوانح وفق الأسس الأخلاقية السليمة أذعن القلب لصوت العقل وبشكل بديهي تذعن الجوارح.
وأي خلل يحدث في هذه الثلاثية ينعكس هذا الخلل على الفرد وبالتالي على المجتمع.
والحياة الدنيا هي الساحة الوحيدة بكل مناحيها التي يطبق فيها الانسان هذه الثلاثية ويمارس دوره الخلافي على الأرض.
ولكن لو حاولنا استقراء الواقع الحياتي في المجتمعات المسلمة بشكل عام والمجتمعات المتدينة بشكل خاص للمسنا واقعا لا يعكس أبدا هذه الثلاثية إذ تحول الدين إلى العبادة الجوارحية بالفقه فقط ، وانحصر إلى دين الطقوس القشرية وأصبحت الشخصية المتدينة شخصية ازدواجية لها باطن وظاهر مع أن الإسلام جاء بالصدق ورفض النفاق وأصدق الصدق هو أن يتطابق الظاهر مع الباطن وتتلاحم العقول والقلوب أي الجوانح والجوارح بلحمة واحدة موحدة لله ومنتظمة في منهاج إلهي منظم لها جميعا.
لذلك جاء في الأثر أن لا تنظروا لكثرة صلاة المرء بل انظروا لصدقه في الحديث، وهو ما يدلل على وعورة وصعوبة الوصول إلى مرحلة الصدق لأن الصدق الحقيقي هو صدق يجمع في لحمة واحدة العقل والقلب والجوارح.
وحصر الدين فقط في دور العبادة بكافة مصاديقها وتحول المتدين إلى خازن للجنة والنار يوزع صكوك الغفران لمن يريد.
وأصبح الدين انتقائيا فآمنا ببعض الكتاب وكفرنا ببعض من خلال انتقائيتنا في عبادة الله .
فنحن نصلي على سبيل المثال ولكن صلاتنا لا تنهانا عن الفحشاء والمنكر، والنهي هنا يكون على مستوى الفرد والمجتمع.
ونحن نصوم وغالبا لا ننال من صيامنا سوى الجوع والعطش، والدليل أن حالنا بعد شهر رمضان هو غالبا كحالنا قبله مع أنه شهر جاء لعمل تغيير ثوري للإنسان ونقله من حالة الضعف والوهن والمعصية إلى حالة القوة والطاعة، أي هي إعادة برمجة كاملة فردية واجتماعية.
وانحصر حراك المتدين ضمن المسجد وضمن بيئته الاجتماعية التي يتوافق معها فكرا وتدينا وأخلى مسؤوليته عن باقي أفراد المجتمع، بل انحصرت أكثر ضمن التيار والحزب.
فأصبح هناك أماكن للمتدين وأماكن لغيره لأن المعيار هو الظاهر غالبا في التشخيص ،مع أن المؤمن الحقيقي يقتحم كل الساحات الممكنة كي يدعو إلى الله ويعصم مجتمعه من الفساد ويكرس ثقافة وهدف الصلاة في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فهو في حالة صلاة دائمة على مستواه النفسي الفردي وعلى المستوى الاجتماعي إلا أن واقع الأمر حول الدين من دين الجماعة إلى دين الفرد ثم إلى فقه وعبادات ظاهرية مقتصرة في وجودها على دور العبادة الخاصة ومجتمعات المتدينين المغلقة على ذاتها.
فرفضنا العلمانية في واقعها النظري ومارسناها عمليا في واقعنا العملي، وفصلنا الدين عن واقع الحياة وحصرناه في زوايا خاصة مخالفين في ذلك صريح القرآن الذي يدعو دوما للتعارف والتخالط والاندماج بين كافة أفراد المجتمع وخير دليل على ذلك ما جسدته صحيفة المدينة المعروفة بدستور المدينة الذي أسسه رسول الله صلى الله عليه وآله.
فأصبح المتدين رافضا للعلمانية النظرية وممارسا لها عمليا ، وتحول الدين من دين ثلاثي الأبعاد إلى دين الفقه والطقوس والشعارات الخاوية المضمون.
وبات المتدين يعيش مأزق مع نفسه أولا لأنه لم يبذل جهدا في برمجة عقله وضبط جوانحه بل كل جهده انصب على الأحكام التي تضبط الجوارح ، ومأزقا مع مجتمعه لأنه لم يقدر على نفسه فبات عاجزا عن غيره إذ من قدر على نفسه بات على غيرها أقدر.
وتحول الدين بفعل المتدينين من منهج حياة يحكم الفرد والمجتمع الى منهج فردي شخصي طقوسي قشري فتعلمن المجتمع بيد المتدينين لا بيد غيرهم.