كشفت لنا الثورات العربية المبتورة عن عورة كثير من المفكرين والمثقفين، بل عن أزمة قيم أظهرت حجم توغل هؤلاء في علاقاتهم مع الأنظمة، ومدى أزمة الضمير التي يعاني منها غالبهم إن لم نقل جلهم.
فبينما كانت الثورة الفرنسية يقودها مثقفوها ومفكروها، وكانت الثورة ضد الكنيسة يقودها أحد تلامذتها، وكان للمثقفين في إيران دور بارز في رسم معالم الثورة بغض النظر عن تقييمنا لها، نجد أن المثقف والمفكر في الوطن العربي وفي الخليج يعيش مأزقا قيميا خطيرا لا يقل عن المأزق الذي يعيشه كثير من المتدينين والمتلبسين بسربال الدين.
تطلعنا أن يكون هو رائد الثورة ومنظرها ولكنه بات أول من انكفأ عليها وتحول لأداة سهلة ومرنة في يد الاستبداد، بل انقلب على كل نظرياته التي كان يملأ بها المحطات التلفزيونية ودفات الكتب وأوراق المجلات الفكرية والثقافية والمؤتمرات، حتى بات صراخه وشعاراته تتحول إلى صواريخ قاذفة تقض مضجع الحكومات ليتحول إلى قديس في ليلة الميلاد أو مقدس في يوم العروج.
وفجأة ينكشف القناع لنجده ينحر الثورات بسكين قلمه ويبدل شعاراته ونظرياته إلى مكانس على بوابات قصور الاستبداد، ليسترق من أنظمتها السمع والطاعة ويحول بندقيته من كتف إلى كتف ليطلق رصاصة الرحمة على كل القيم والمبادئ والمثل والنظريات، وتصبح الديموقراطية التي كان يصرخ لأجل استجلابها لوطنه نظرية غربية مؤامراتية لا تصلح لوطنه بحجة عدم أهلية الشعوب أو ثوبا يفصله وفق مقاسات خاصة بمصالحه وأفقه الضيق لذاته، وتصبح الحرية في عرفه مجونا وكفرا علينا إعدامها على مقصلة التغريب لأنها خالفت ما يصبو إليه، وتصبح الفتوى التي كان ينقدها ليلا ونهارا سلاحه الفتاك في وجه الثوار وسيفه المصلت على رقابهم لأنها تحقق ما يريد.
هذا ناهيك عن ثقافة سرقة الأفكار والكتب في عالم غالبية المثقفين والمفكرين، حيث تحولت الغايات من غايات قيمية إلى أخرى ذاتية هدفها الشهرة والبروز على حساب عقول الآخرين، بل كثير منهم بات يستخدم ثقافته وفكره لاصطياد كثير من الناشطات في الثورة أو في الوسط الاجتماعي بحجة التعاون والتبادل لأجل الثورة أو النهوض بالمجتمع، ويخفي تحت هذا الشعار ذكورة تخالف كل ما ينادي به من إنسانية جامعة للمرأة وحقوق يجب أن تعاد.
إن المثقف يفترض أن يشكل صمام الأمان في وعي الشعوب والراصد لمؤشرات الانحراف والفساد والاستبداد والمحرك الرئيس لوعي الجماهير بالابقاء على حالة الوعي ثائرة وحية وساخنة في ذهنيتهم.
لقد وقع المثقف في فخ الذات وتراجع عن منظومة القيم التي يفترض أن يكرسها في أول اختبار تحرري يتعرض له، إضافة لإحداثه ثغرة خطرة في ذهنية الشعوب يتسلل من خلالها لصوص الفكر والمعرفة الساعون دوما لكي الوعي والاحلال الثقافي.
إن تنامي ذات المثقف لم يكن وليد اللحظة، بل هو نتاج طبيعي لبيئة جماهيرية وعقلية عربية اعتادت الترميز والتسليم للشخص، ومن ثم تقديس أفكاره، وعدم نقد الفكرة علميا.
فهل ستكشف لنا الثورات والحراكات الجماهيرية عن صياغة ثقافة وفكر يقودهما شباب خرجوا من رحم الجماهير ليقدموا نموذجا جديدا أكثر إشراقا، أم سيعاد استنساخ النماذج السابقة نفسها ولكن بوجوه جديدة وآليات جديدة تتناسب والحدث؟