أحدث المقالات

دراسةٌ في المعالم والآفاق

 ـ القسم الثاني ـ

الشيخ رضا إسلامي(*)

ترجمة: حسن علي مطر

 

 4ـ 3ـ دليليّة ودلالة السيرة ــــــ

تُذكر السيرة عادة في الكتب الأصولية بوصفها أحد أدلّة حجّية خبر الواحد، وظواهر الألفاظ. بيد أن السيد الشهيد كان أوّل مَنْ أخرج البحث في السيرة عن شكله التقليدي، وموضعه المعهود، وأعطاه هويّة مستقلة.

عندما يصل المشهور ـ في بحثه عن الأدلّة الأربعة، ودلالتها على حجّيّة بعض الظنون ـ إلى السنّة يبحثها تارةً ضمن الروايات الخاصّة، وتارةً أخرى ضمن السيرة الكاشفة عن السنّة. ولا نشاهد في كلامهم تفريقاً مناسباً بين سيرة المتشرِّعة وسيرة العقلاء من ناحية الدلالة. في حين يمكن لسيرة المتشرِّعة أن تكون من أدلة الإثبات الوجداني، بمستوى الإجماع والتواتر. وأمّا السيرة العقلائية التي تحتاج إلى إمضاء الشارع فتندرج ضمن مباحث السنّة، وبمستوى مباحث (دلالة تقرير المعصوم×).

وباختصارٍ يجب أن نجيب عن عددٍ من التساؤلات بشأن السيرة في علم الأصول، وهي كالتالي: أيّ نوع من الأدلة هي السيرة؟ هل هي خارجةٌ عن الأدلة الأربعة أم تعود إلى واحدٍ منها؟ وعلى أيّ حال ما هي كيفيّة دلالتها؟ وكيف تتكوّن؟ وما هي العناصر الداخلة في تكوينها؟ وما هو تأثير تدخّل هذه العناصر في دلالتها من الناحية الأصولية؟ وما هي حدود دلالة السيرة؟ وما هي السيرة التي تحتاج إلى إمضاء الشارع؟ وكيف يتمّ الكشف عن إمضاء الشارع؟ وهل السيرة المستحدَثة التي تبلورت بعد عصر المعصومين إلى عصرنا معتبرةٌ أم لا؟ وإذا كانت الحجّية ثابتة لخصوص السيرة المعاصرة للمعصوم فكيف يمكن الكشف عن المعاصرة؟ وهل إمضاء السيرة مرتبط دائماً بذات السيرة أم بنكتةٍ ارتكازية تكون هي المنشأ لتكوُّن السيرة؟ وما إلى ذلك من التساؤلات.

هذه هي الأسئلة التي طرحتها المدرسة الأصولية للسيد الشهيد، وأجابت عنها.

وقد جاء في تقريرات دروس السيد الشهيد ما يلي: «يبدأ عادةً بالظواهر؛ بوصفها أوّل الأمارات والظنون المعتبرة شرعاً بلا خلاف. ولكنْ بما أنّ أهمّ دليل يجري الاستدلال به على حجّية أهمّ الأمارات، كالظواهر وخبر الثقة ـ وهما أهمّ أمارتين في الفقه ـ، إنّما هو السيرة العقلائيّة، من هنا كنّا بحاجة إلى بحثٍ مستقلّ عن السيرة، ودليليّتها، ونكات هذه الدليليّة، وشروطها؛ لنكون على رؤية واضحة في ما يأتي من مواضع الاستناد إليها من المباحث الأصولية… والواقع أنّ الاستدلال بالسيرة لم يقتصر على خصوص المسائل الأصولية، وفي باب الأمارات، بل شاع ذلك في الفقه أيضاً، خصوصاً في مثل أبواب المعاملات، التي يكون للعقلاء تقنينٌ فيها. بل الملحوظ اتّساع دائرة الاستدلال بها كلّما تقلّصت الأدلة التي كان يُعوَّل عليها سابقاً؛ لإثبات المسلَّمات والمرتكزات الفقهية، من أمثال: الإجماع المنقول، والشهرة، وإعراض المشهور عن خبرٍ صحيح، أو عملهم بخبرٍ ضعيف، ونحو ذلك، فإنّه قد عوِّض بالسيرة عن مثل هذه الأدلة في كثيرٍ من المسائل التي يتحرَّج فيها الفقيه الخروج عن فتاوى القدماء من الأصحاب أو الآراء الفقهية المشهورة… من أجل ذلك رأينا أنّ الصحيح عقد بحثٍ مستقلّ عن السيرة العقلائية بعنوانها»([1]).

وبعد هذه المقدّمة يدخل في البحث عن السيرة العقلائية، ويراها عامّة من جهتين؛ إحداهما: من جهة أنّها تشمل المرتكزات العقلية أيضاً، ولا تختصّ بالسلوك الخارجي. وثانيتهما: أنّها تشمل سيرة المتشرِّعة أيضاً، بمعنى أنّه يمكن اعتبار سيرة المتشرِّعة نوعاً خاصّاً من السيرة العقلائية. وبالتالي يجب القول: تارةً يمكن تصوّر السيرة العقلائية بالمعنى العامّ، الذي يشمل سيرة المتشرِّعة؛ لأنّ المتشرِّعة يدخلون في جملة العقلاء أيضاً. وتارة بالمعنى الخاصّ، وفي قبال سيرة المتشرِّعة وقسيماً لها.

ومن ثَمّ دخل في أقسام السيرة، وتحدّث عن ثلاثة أنواع من السيرة العقلائية، على النحو التالي:

1ـ السيرة التي تنقِّح موضوع الحكم الشرعي، دون أن تثبته، كالسيرة المنعقدة على اشتراط عدم الغبن في المعاملة.

إنّ وجود هذا النوع من السيرة يحكي فقط عن وجود الموضوع، وهو الاشتراط في التمسّك بدليل «المؤمنون عند شروطهم»، وأمّا وجوب الوفاء بالشرط ـ الذي هو حكم شرعي ـ فيُستفاد من الدليل اللفظي.

وهذا النوع من السيرة حجّةٌ، من دون أن تكون هناك حاجةٌ ليقيم الفقيه دليلاً خاصّاً على ذلك. وحتّى معاصرة السيرة للمعصومين ليست معتبرةً أيضاً.

2ـ السيرة التي تعمل على تنقيح ظهور الدليل.

وفي هذه الموارد تكون السيرة دخيلةً في تكوين الظهور على أساس المرتكزات العرفية والعقلائية، ويكون وجود السيرة بمثابة وجود قرينة لبّيّة متّصلة، ويكون الظهور متبلوراً على أساسها.

وإنّ حجّية هذا النوع من السيرة يعود إلى حجّية الظهور، ويتمّ الحديث عنها في باب مناسبات الحكم والموضوع.

3ـ السيرة العقلائية المرتبطة بالمتشرِّعة، وتسمّى بسيرة المتشرِّعة.

وهنا تنعقد السيرة إمّا من ناحية كونهم متشرِّعة، وإمّا من ناحية كونهم عقلاء. وبذلك يتمّ التفكيك والفصل هنا بين فرعين ونوعين من السيرة، وإنّ الاختلاف الجوهري بينهما يكمن في أنّ سيرة العقلاء تحتاج إلى إمضاء من قبل الشارع؛ لأنّ العقلاء بما هم عقلاء لا يتقيَّدون برعاية الأحكام الشرعية، وتنعقد سيرتهم بعيداً عن أوامر الشرع، في حين أنّه لا يمكن تصوُّر أن تنعقد سيرةٌ بين المتشرِّعة ـ بما هم متشرِّعة ـ على خلاف الأحكام الشرعيّة.

من هنا فإنّ مجرّد تحقُّق وانعقاد سيرة المتشرِّعة يكشف عن وجود دليلٍ شرعي معتبر كان هو المنشأ في تكوُّن السيرة، وقد تلقّاه المتشرِّعة. ونحن من خلال تحقُّق سيرة المتشرِّعة نستطيع الكشف عن ذلك الدليل، كما هو الحال بالنسبة إلى اكتشاف وجود العلة من خلال وجود المعلول بالكشف الإنيّ.

ومن ثمّ تطالعنا بحوثٌ تفصيلية حول كيفيّة الإمضاء في السيرة العقلائية، وطريقة الكشف عنها، وإثبات المعاصرة في كلٍّ من السيرة العقلائية وسيرة المتشرِّعة، ومقدار دلالة السيرتين، وغير ذلك من المباحث، في تقريرات السيد الشهيد الصدر.

وعندما نصل إلى حلقات الأصول نطالع شكلاً أدنى من المباحث، تطرح في إطار أكثر تكاملاً، وأكثر ترتيباً وتنظيماً. وفي البحث عن الدليل الشرعي غير اللفظي ـ أي فعل المعصوم أو تقريره ـ عندما يتمّ طرح دلالة التقرير يتمّ فتح باب البحث عن السيرة العقلائية؛ لأن تقرير المعصوم إنّما يتعلَّق بهذا النوع من السيرة فقط.

وإن الإطار العامّ للبحث يكمن في القول بأن سكوت المعصوم×، مع مراعاة بعض الشروط الخاصة، دليلٌ على الإمضاء والتقرير، وأنّ هذا السكوت إمّا أن يكون في قبال سلوك شخص معيّن، أو في قبال سلوك عامّة الناس في المجتمع، وهو ما يُعبَّر عنه بالسيرة العقلائية. وعليه فإنّ موقع البحث عن السيرة العقلائية يرتبط بدليل حجّيته الذي هو تقرير المعصوم.

بيد أنّ المحقق الإصفهاني في حاشيته على كفاية الأصول ـ ضمن البحث عن حجية الظهور ـ قال بأنّ الملاك في جعل الحجّية هو اعتبار المعصوم سيّد العقلاء، وما يصدق على سائر العقلاء يصدق عليه أيضاً. ومن هنا ورد الإشكال عليه بأنّ السيرة العقلائية لا تنطلق دائماً من إدراك العقل السليم والفطري، ويحتمل أن يتميَّز الشارع من بعض السلوكيّات الصادرة عن بعض العقلاء، ويتمّ تخطئتها.

وأما موضع البحث عن سيرة المتشرِّعة فهو عين موضع البحث عن التواتر والإجماع؛ لأنّ كلاًّ من هذه المسائل الثلاثة يعمل على إثبات وجود الدليل الشرعي بنحوٍ من الأنحاء، دون أن يكون هو بنفسه دليلاً شرعياً خاصّاً.

فالتواتر يعني اتّفاق جماعة على نقل خبرٍ معين، بحيث يمتنع تواطؤهم على الكذب.

والإجماع شبيه بالتواتر، وذلك من حيث إن اتّفاق جماعة من الفقهاء على فتوى معيَّنة يكون من المستحيل معها احتمال الخطأ عليهم جميعاً.

وإن سيرة المتشرِّعة مثل التواتر، والإجماع؛ بتقريب أنّ سلوك متشرِّع واحد أو بضعة متشرِّعين قد يُحتمل فيه الخطأ ومخالفة أمر الشارع، وأمّا إجماع كافة المتشرِّعة واتّفاقهم على فعلٍ وسلوك خاصّ فلا يمكن أن لا يكون مستنداً إلى دليل شرعي، ومن دون استنادٍ إلى الشارع.

إذاً في كلّ واحد من هذه الموارد الثلاثة يتمّ الكشف عن وجود الدليل الشرعي المعتبر بواسطة البرهان الإنّي.

وقد أضاف في الحلقة الثانية من حلقات الأصول قائلاً: إنّ سيرة المتشرّعة تمثِّل حلقة الوصل بين الإجماع والدليل الشرعي؛ إذ إن تطابق واتّفاق أهل الفتوى على حكمٍ، دون وجود نصٍّ معيّن يدلّ عليه، يجعلنا في أغلب الموارد نطمئنّ إلى وجود نوع من الارتكاز الشرعي والتطابق السلوكي مع الشرع، وأنّ أهل الفتوى قد اعتمدوا عليه. وإنّ هذه السيرة تكشف عن وجود رواية غير مكتوبة كانت هي المنشأ لتكوين تلك السيرة والارتكاز لدى المتشرِّعة. إذاً فالإجماع يكشف عن وجود الدليل الشرعي بشكلٍ غير مباشر.

وأمّا المحاور الرئيسة للبحث بشأن السيرة التي تعرَّض لها السيد الشهيد فيمكن لنا أن نرصدها ضمن قسمَيْن. وفي ما يتعلَّق بالسيرة العقلائية يمكن القول:

1ـ إنّ الكشف عن الإمضاء من سكوت المعصوم يقوم على أساس الدليل العقلي والدليل الاستظهاري. ويكمن اختلاف هذين النوعين من الأدلة في لحاظ الدلالة.

2ـ إنّ إمضاء الشارع لا يتحدَّد دائماً بحدود السلوك الخارجي، بمعنى أنّه أوّلاً يمكن لنا أن نفترض تعلُّق الإمضاء بالمفهوم العقلائي المرتكِز، الذي هو منشأٌ لتحقُّق السيرة، وليس بمجرَّد العمل الصامت. وثانياً: في هذه الصورة يجب أن نفترض أن الإمضاء قد تعلَّق باستمرار السيرة في العصور اللاحقة، على أساس من ذات النكتة العقلائيّة، كما تمّ إمضاء الحيازة للدلالة على المِلْكية من قبل الشارع، وإنّ هذا الإمضاء يشمل مختلف أنواع الحيازة المعقَّدة في عصرنا، ولا ينحصر بالشكل البدائي للحيازة في عصر المعصوم× فقط.

3ـ إنّ السيرة المستحدَثة ـ حتّى إذا كانت من قبل المتشرِّعة ـ لا تكون معتبرة؛ لأنها تفتقر إلى عنصر المعاصرة. وفي عصر غيبة الإمام المعصوم لا تكون مسؤولية إصلاح الأخطاء الاجتماعية من باب تعليم الجاهل أو النهي عن المنكر. وأمّا في السيرة المعاصرة فإن المسألة الهامّة هي الكشف عن المعاصرة، ويمكن لنا أن نطوي خمس مراحل لإثبات المعاصرة، على النحو التالي: النقل التاريخي؛ الاستشهاد بالسيرة الفعلية على السيرة الماضية، لما تشتمل عليه عملية التحوّل في السيرة من التعقيد؛ ظهور التالي الفاسد على افتراض عدم وجود مثل هذه السيرة في الماضي؛ عدم إمكان فرض البديل للسيرة؛ والمرحلة الخامسة ملاحظة الاستحالة الوجدانية، طبقاً لبيان السيد الشهيد المذكور في موضعه.

4ـ من الممكن الكشف عن سكوت المعصوم من خلال مجرَّد عدم وصول الردع، رغم ما يقال من أن «عدم الوجدان لا يدلّ على عدم الوجود»؛ إذ إنّ استحكام ورسوخ السيرة هنا بحيث يستدعي من المعصوم والشارع أن لا يكتفي بنهيٍ مولويّ واحد أو ببضع نواهٍ مولوية، بل يجب حتماً أن يكون مستوى الردع متناسباً مع درجة شيوع ورسوخ السيرة؛ لكي يكون لها التأثير الكافي في الردع عنها. وإذا تحقَّق مثل هذا الحجم من الردع لا يمكن أن يخفى علينا، ويبقى مسكوتاً عنه على طول التاريخ، بل لا بدّ من أن تثار حوله الكثير من البحوث والمناقشات والأخذ والردّ والقيل والقال، بحيث لو كان لبان، ولوصل إلينا شيءٌ ضئيل منه في الحدّ الأدنى. وبعبارة أخرى: يمكن القول: «إنّ الشارع لو ردع لوصل، وحيث إن هذا الردع لم يصِلْ فهذا يعني أنّه لم يردَعْ أصلاً».

5ـ إنّ السيرة العقلية تكون تارةً بلحاظ مرحلة الواقع، كما هو الحال بالنسبة إلى سيرة التملُّك بالحيازة؛ وتارةً بلحاظ مرحلة الظاهر والاكتفاء بالظنّ، كما هو الحال بالنسبة إلى الاعتماد على خبر الثقة.

أما القسم الأوّل فهو قابل للاستناد، ولا يرِدُ إشكالٌ عليه؛ لأن الشارع إذا لم يكن يعتبر الحيازة علامة على الملكية وجب عليه الردع.

وأما بالنسبة إلى القسم الثاني فيظهر إشكال أن هذا النوع من السيرة لا ربط له في الأساس بالمنظومة التشريعية، وإنّما هو عرفٌ يقوم بين الموالي والعبيد العُرْفيين، ولا شأن للشارع بخطأ هذه السيرة أو صحّتها، فحتى لو فرض أنّها كانت خاطئة فإنها لن تضرّ بأهداف الشارع ومقاصده.

وإنّ الإجابة عن هذا الإشكال تتّضح من خلال الالتفات إلى أنّ العقلاء بذهنيّتهم هذه يطالعون منظومة التشريع، ويتصوَّرون أنّ كلّ ما كان حجّة فيما بينهم فهو حجّة بين الله والناس أيضاً. وعليه فإنّ مجرّد الخشية من هذه التسرية يكون كافياً لضرورة الردع من قبل الشارع لو كانت هذه السيرة خاطئة.

هذه هي المحاور الرئيسة في مباحث السيرة العقلائية. وأمّا في خصوص سيرة المتشرِّعة، التي هي من طريق الإثبات الوجداني، فهناك مباحث شيِّقة بشأن بُطْء أو سرعة حصول اليقين من طريق إجماع المخبرين في التواتر، واتّفاق أهل الفتوى في الإجماع، والتي يمكن تطبيق نظائرها في سيرة المتشرِّعة التي لا يتدخَّل في تكوينها غير طبيعة المتشرِّعة ـ كما في وضع القدم اليمنى عن الدخول إلى المساجد، أو الجهر بالقراءة في صلاة الظهر من يوم الجمعة، والالتزام بالاستيقاظ بين الطلوعين ـ، فإنّه يكشف عن وجود الدليل الشرعي بالأولوية.

 

4ـ 4ـ حجّية القطع ــــــ

لو عمدنا إلى تقسيم مباحث علم الأصول على أساس نوع الدليل وجب قبل كلّ شيء أن نبحث في الأدلة المحرزة للكشف عن الحكم الواقعي، لندخل بعد ذلك في الأصول العملية، التي نلجأ إليها عند فقدان الأدلة المحرزة. ومن ثم يجب علينا أن نقدِّم الكلام عن حجّية القطع على كلا هذين القسمين؛ لأنّ حجّية القطع أعمّ العناصر المشتركة. وقد قال السيد الشهيد، في الحلقة الأولى، في بيان موقع البحث عن حجّية القطع: «بديهيٌّ أنّ حجية القطع بهذا المعنى الذي شرحناه [أي المنجّزية والمعذّرية] لا يمكن أن تستغني عنها أيّ عملية من عمليات استنباط الحكم الشرعي؛ لأنّ الفقيه يخرج من عملية الاستنباط دائماً بنتيجةٍ، وهي العلم بالموقف العملي تجاه الشريعة وتحديده على أساس الدليل، أو على أساس الأصل العملي. ولكي تكون هذه النتيجة ذات أثر لا بدّ من الاعتراف مسبَقاً بحجّية القطع؛ إذ لو لم يكن القطع حجّة، ولم يكن صالحاً للاحتجاج به من المولى على عبده، ومن العبد على مولاه، لكانت النتيجة التي خرج بها الفقيه من عملية الاستنباط لغواً؛ لأنّ علمه ليس حجّة. ففي كلّ عملية استنباط لا بدّ إذاً أن يدخل عنصر حجّية القطع؛ لكي تعطي العملية ثمارها، ويخرج منها الفقيه بنتيجة إيجابية. وبهذا أصبحت حجّية القطع أعمّ العناصر الأصوليّة المشتركة، وأوسعها نطاقاً. وليست حجية القطع عنصراً مشتركاً في عمليات استنباط الفقيه للحكم الشرعي فحَسْب، بل هي في الواقع شرطٌ أساسي في دراسة الأصولي للعناصر المشتركة نفسها أيضاً. فنحن حين ندرس ـ مثلاً ـ مسألة حجّية الخبر، أو حجّية الظهور العرفي، إنّما نحاول بذلك تحصيل العلم بواقع الحال في تلك المسألة. فإذا لم يكن العلم والقطع حجّةً فأيّ جدوى في دراسة حجّية الخبر، والظهور العرفي؟! [إذاً تشكِّل حجّية القطع حجر الأساس في بناء صرح القواعد الأصولية]»([2]).

يذهب مشهور الأصوليين إلى القول بحجّية القطع بما هو قطعٌ. وبعد ذلك يتمّ البحث في الوجه الآخر من المسألة، وهو عدم حجّية غير القطع، الأعمّ من الظنّ والشك والوهم.

بيد أنّ السيد الشهيد الصدر& يرى أنّ الحجّية ـ بمعنى المنجّزية ـ تتعلَّق بمطلق انكشاف التكليف، سواء أكان قطعياً أم ظنياً أم احتمالياً، ونتيجة ذلك الطبيعية ستكون هي انحصار المعذّرية في موارد القطع بعدم التكليف. ومن هنا فإنّ السيد الشهيد ينكر القاعدة العقليّة (قبح العقاب بلا بيان)، بمعنى (قبح العقاب بلا علم). ومن هنا يرتبط بحث حجّية القطع بالمبنى المختار في بحث حقّ الطاعة، ويظهر تغيير المبنى المشهور في الأصل العقلي الأولي في ما يرتبط بتغيير شكل مباحث القطع. وهذا ما نراه بوضوح في حلقات الأصول؛ حيث إنّه يدخل إلى البحث ضمن الهيكلية التالية؛ إذ يقول أوّلاً: إنّ القطع يشتمل على ثلاث خصائص: الكشف عن الخارج، والمحرّكية، والحجّية بمعنى منجّزية ذلك التكليف الذي تعلّق به القطع. أما الخصوصية الأولى فهي عين القطع، والخصوصية الثانية من الآثار التكوينية للقطع. وأما في علم الأصول فلا نجد بحثاً بشأن هاتين الخصوصيتين؛ وذلك لبداهتهما. وأما الخصوصية الثالثة فهي لا تأتي تَبَعاً للخصوصيتين الأوليين لزاماً، ويمكن لنا أن نتصوّّر شخصاً يؤمن بالخصوصيّتين الأوليين، دون الخصوصية الثالثة. لذلك لم يتمّ في علم الأصول عقد بحثٍ مستقلّ بشأن الخصوصية الثالثة.

بشكلٍ عامّ يُقال: إنّ الحجيّة من اللوازم الذاتية للقطع، كما هي الحرارة من اللوازم الذاتيّة للنار. ولا يمكن حتّى للمولى أن يسلب هذه الحجّية عن القطع. والممكن هنا فقط هو إحداث التشكيك في نفس القاطع، وإخراجه من حالة القطع. وأمّا التفكيك بين القطع والحجّية فهو أمرٌ مستحيل.

إذاً هناك قضيّتان؛ إحداهما: الحجية الذاتية للقطع؛ والأخرى: عدم إمكان سلب المنجِّزية عن القطع. وفي كلٍّ منهما هناك مجالٌ للبحث.

أمّا عندما يقال بأنّ الحجية من اللوازم الذاتية للقطع فيجب أن نسأل: ما هو المراد من القطع هنا؟ من الواضح أنّ المراد منه هو القطع بتكليف المولى، وليس كلّ قطع. وعندها نسأل: مَنْ هو المولى؟ يُقال في الجواب: إنّ المولى هو مَنْ له حقّ الطاعة. وبذلك نكون قد لحظنا حقّ الطاعة في نفس المولويّة قبل أن نراه مرتبطاً بالقطع، وتكون قضية «القطع بتكليف المولى يجب امتثاله» قضيّة ضروريّة بشرط المحمول، وبمعنى «القطع بتكليف مَنْ يجب امتثاله يجب امتثاله». وبذلك تعود حجّية القطع إلى مولوية المولى.

ثم أضاف السيد الشهيد الصدر قائلاً: إنّ مولوية الباري تعالى لا تقتصر على حدود التكاليف المقطوعة فقط، وتكون نتيجة البحث وفقاً لحقّ الطاعة هي أن الحجيّة الذاتيّة لازمٌ ذاتيّ للقطع بما هو قطع، وإنّ القطع من ناحية المنجّزية لا يختلف عن الظنّ والشكّ، وإنْ كانت المنجّزية فيه أقوى من المنجّزية في حالة الشكّ والظنّ.

أما المسألة الثانية ـ وهي التي تُبحث بعد المسألة الأولى ـ فهي عدم التفكيك بين المنجّزية والقطع، بمعنى أنّه حتّى المولى لا يمكنه مع وجود القطع أن يرخِّص المكلَّف أو يعذره؛ لأنّ ترخيصه هذا إمّا أن يكون ترخيصاً واقعيّاً أو ترخيصاً ظاهريّاً، والترخيص الظاهري متقوِّم بفرض الشكّ، والمفروض أنّه لا شكّ في المقام، والترخيص الواقعي يستلزم اجتماع الضدّين. فلا يمكن أيُّ واحدٍ من هذين الترخيصين.

وهنا يوجد للسيد الشهيد كلامٌ آخر؛ إذ يقول: إنّ الشكل الصحيح للبحث هو أن يقال: إنّ المولى لا يمكنه أن يأتي بترخيصٍ ظاهري؛ لأنّ حقّ الطاعة مطلقٌ، وإنّ صدور الترخيص غير ممكن، لا أن يقال: حيث إن الترخيص قبيح إذاً يكون الترخيص مستحيلاً، بمعنى أنّه يجب استبدال مكان كلٍّ من العلة والمعلول في كلام المشهور، بأن نقول: حيث لا يمكن الترخيص من قبل المولى في موارد حصول القطع التفصيلي يكون الترخيص قبيحاً، لا أن نقول: حيث يكون صدور الترخيص قبيحاً إذاً يستحيل صدوره.

وتظهر نتيجة هذا الشكل من البحث في باب العلم الإجمالي؛ حيث نرى هناك وجود عنصر الشكّ في جميع أطراف العلم الإجمالي، ونتيجة ذلك إمكان ورود الترخيص الظاهري، وبذلك يمكن القول: إنّ إجراء أصالة البراءة في جميع أطراف العلم الإجمالي ـ وهو ما يُعبِّر عنه الأصوليون بـ «المخالفة القطعية» ـ أمرٌ ممكن، ولا محذور فيه من الناحية الثبوتية. وهذه النتيجة تبدو غريبةً من ناحية المشهور؛ لأن المشهور يرى أنّ المخالفة القطعية تعني الإذن في المعصية، وهو أمرٌ قبيح لا يرضى به الشارع الحكيم أبداً.

وإنّ منشأ خطأ المشهور في هذا الاستنتاج يأتي من عدم التفاته إلى ماهية الحكم الظاهري. فلو قلنا بأنّ المولى يرخِّص ظاهرياً في جميع أطراف العلم الإجمالي؛ من جهة اهتمامه بملاكات المباحات الواقعية، عندها يكون التفريط بملاك التكليف والرضا بوقوع الحرام موجَّهاً ومعقولاً.

وبطبيعة الحال فإنّ رأي السيد الشهيد في مقام الإثبات موافقٌ لرأي المشهور، حيث قال بأنّ دليل أصالة البراءة لا يشمل جميع أطراف العلم الإجمالي، وهذا يعني القصور في دلالة الدليل، وليس محذوراً عقليّاً في أصل تطبيق البراءة.

وعلى أساس هذا المبنى المختار (مسلك حقّ الطاعة) يذهب السيد الشهيد في بحث التجرّي إلى القول بأن المتجرّي مذنبٌ ومستحقّ للعقاب؛ لأن موضوع حقّ الطاعة هو مجرّد انكشاف التكليف، وليس التكليف المنكشف. من هنا لو تجاهل المكلَّف قطعه فسوف يكون مستحقّاً للعقاب، حتى إذا لم يكن قطعه مصيباً للواقع؛ إذ لا فرق عند العقل في لزوم احترام المولى بين العاصي والمتجرّي، في كونهما متمرِّدَيْن على أمر الله.

ما تقدّم كلّه كان بشأن منجّزية القطع. وأمّا من ناحية المعذّرية، فحيث يكون احتمال عدم التكليف على الدوام مقارناً لاحتمال التكليف فإنّ التعذير بطبيعة الحال سيكون خارج دائرة التنجيز، وينحصر بموارد القطع بعدم التكليف فقط.

 

 4ـ 5ـ تفسير الوضع ــــــ

رغم أنّ هذا لا يحتوي على تأثيرات كبيرة، فإنّه جديرٌ بأن يُذكر في جملة الإبداعات الأصولية والنظريات العلمية المبتكرة للسيد الشهيد الصدر&. كما أنها تستحق الدراسة بالنظر إلى أفكاره في ما يتعلَّق بالدلالات اللفظية، وخاصّة بالنسبة إلى الاختلاف بين الوضع التعييني والوضع التعيُّني، وتفسير الاشتراك والترادف.

إنّ دلالة الألفاظ على المعاني لا تكون من دون سبب. ومن هنا يوجد تفسيران لظاهرة تصوُّر المعنى بمجرّد تصوُّر اللفظ:

الأول: إنّ الدلالة اللفظية وعلاقة اللفظ بالمعنى ذاتيّة، وغير مجعولة، من قبيل: العلاقة القائمة بين النار والحرارة.

وهذا التفسير مرفوضٌ بإجماع الأصوليين؛ وذلك:

أوّلاً: لأن الألفاظ لا تفهم إلاّ من خلال التعليم والتعلم.

وثانياً: إنّ الشعوب تستعمل العديد من الألفاظ للدلالة على معنى واحد.

الثاني: إنّ علاقة اللفظ بالمعنى غير ذاتية، ولا تنشأ من طبيعة اللفظ والمعنى، بل هناك عنصرٌ أجنبي يتدخل في إيجاد هذه الظاهرة. وهناك ثلاثة مسالك في تفسير هذا العنصر، وهي:

1ـ مسلك التعهُّد: بمعنى أنّ الواضع يتعهّد بأن يستعمل لفظاً خاصّاً عند إرادته تفهيم معنىً خاصّ، وبضمّ أصالة الوفاء «وفاء العقلاء بعهودهم» تتكوّن دلالة الألفاظ على المعاني، وتنشأ الملازمة بين اللفظ والمعنى.

وإنّ أول وأهمّ إشكال يرد على هذا المسلك هو أنّ الدلالة اللفظية ستكون من سنخ الدلالة التصديقيّة؛ لأنّ التعهُّد أمرٌ يعود إلى إرادة المتعهِّد والمتكلم نفسه.

والإشكال الثاني أنّه طبقاً لهذا المسلك يجب اعتبار كلّ متكلم واضعاً، وبالتالي سيبرز إشكالٌ في باب الاشتراك والترادف، وتفصيله مذكورٌ في محله.

والإشكال الثالث أنّ الدلالة اللفظية سوف تتضمّن نوعاً من الاستدلال، وإدراك الملازمة المنطقية، في حين أنّ الإنسان منذ طفولته يفهم معاني الألفاظ ببساطة، ودون شعور بهذه العملية المعقّدة.

والإشكال الرابع أنّ باب المجاز سيغلق.

من هنا فإنّ مسلك التعهُّد، الذي ذكره السيد الخوئي، لا يكون صحيحاً.

2ـ مسلك الاعتبار: وهناك عدّة تقريرات لتفسير هذا المسلك:

الأول: إنّ اعتبار الألفاظ بالنسبة إلى المعاني مثل اعتبار إشارات المرور للدلالة على الطرق.

الثاني: اعتبار اللفظ من الناحية الوجودية عين المعنى، بمعنى أنّ الواضع يعتبر اللفظ عين المعنى، وبذلك تحصل الدلالة. إذاً يعود الوضع إلى نوع من التنزيل والاعتبار، تماماً من قبيل: اعتبار الشارع الطواف حول البيت صلاةً.

الثالث: إنّ الواضع يعتبر أنّ اللفظ أداةٌ خاصّة لتفهيم المعنى، كما هو الحال في كون الماء والصابون وسيلة للنظافة. وبطبيعة الحال فإنّ اللفظ ليس وسيلةً حقيقية لتفهيم المعنى، ولكنّ الواضع يعتبر وسيليّتها.

ولكنْ من وجهة نظر السيد الشهيد فإنّ مسلك الاعتبار بتقريراته الثلاثة لا يمكنه أن يفسِّر الدلالة اللفظية؛ لأنّ دلالة اللفظ على المعنى مسألة تكوينية وواقعية، وإن مجرّد الاعتبار والتنزيل لا يجعل من الأمر الاعتباري أمراً حقيقيّاً وواقعياً. فإننا لو اعتبرنا الماء محرقاً ألف مرّة لا يمكن لاعتبارنا هذا أن يجعل الماء مادّة حارقة، كما لا يمكن لاعتبار النار رافعة للعَطَش أن يرفع العطش، في حين أنّ لدلالة اللفظ على المعنى حقيقة خارجية ثابتة.

3ـ مسلك القَرْن الأكيد: طبقاً لهذا المسلك، الذي يختاره السيد الشهيد الصدر، يجب القول: إنّ الوضع ناشئٌ عن قانون تكويني يحكم الذهن البشري، بمعنى أنّه كلما حصل اقتران وارتباط بين شيئين في الذهن فإنّ تصوُّر أحدهما سيؤدّي إلى تصوّر الآخر، وإن هذا الاقتران بين الشيئين يحصل بشكلٍ اتّفاقي ومن دون قصد من قاصد، وإنّما يحصل نتيجة للتقارن الطبيعي والمتكرِّر بين شيئين، من قبيل: تصوُّر الأسد عند سماع زئيره. وتارةً يحصل هذا الاقتران من قبل الواضع، ويستهدف إيجاده من خلال عمليّة اسمها الوضع. فإذا كان القائلون بمسلك الاعتبار يريدون القول بأن الاعتبار وسيلةٌ لإيجاد هذا الاقتران والارتباط التكويني والواقعي كان كلامهم صحيحاً، وأمّا إذا كان مرادهم أن مجرَّد الاعتبار يخلق ظاهرة الوضع وذلك الاقتران الحقيقي فلا يكون كلامهم صحيحاً.

وهنا يبقى السؤال القائل: كيف يحصل هذا القَرْن الأكيد من خلال عملية الوضع؟

والجواب: إنّ القَرْن الأكيد يحدث تارةً بسبب الوقوع في ظرف مؤثِّر، بمعنى أن يقع في ظروف زمانية ومكانية استثنائية ومؤثِّرة، كما لو سافر شخصٌ إلى بغداد، وأصيب هناك بالملاريا، فإنّه بمجرَّد أن يسمع باسم بغداد سيتذكَّر الملاريا.

وتارةً يحدث القَرْن الأكيد بسبب كثرة الاستعمال.

وعلى كلا الأمرين يجب القول: إنّ الوضع ليس من الأمور الإنشائيّة التي توجد بمجرَّد الإنشاء، كما هو الحال بالنسبة إلى البيع الذي يتحقَّق وينعقد بمجرّد إنشائه.

وطبقاً لهذا المسلك يقال بالنسبة إلى الاختلاف بين الوضع التعييني والوضع التعيّني: إنّه كلما كان القَرْن الأكيد قائماً على العنصر الكمّي (كثرة الاستعمال) كان الوضع تعيُّنياً، وكلما كان قائماً على أساس العنصر الكيفي كان الوضع تعيينياً.

ويمكن الوقوف على مزيد من التفصيل في هذا الشأن، وتفسير ظاهرة الاشتراك والترادف، من خلال الرجوع إلى موضعه.

 

 4ـ 6ـ تعريف وموضوع علم الأصول ــــــ

تأتي أهمّية التعريف الدقيق لكلّ علم من ناحية أنّه سيكون جامعاً لمسائل ذلك العلم، ومانعاً من دخول المسائل المغايِرة له. وإذا لم نستطع تقديم تعريف دقيق لمباحث علم من العلوم فكأننا لا نزال نجهل ماهية مسائل ذلك العلم. وحيث إنّ علم الأصول يشتمل على مسائل مختلفة في ظاهرها فإن العثور على فصلٍ يجعل من التعريف جامعاً ومانعاً في غاية التعقيد. وعليه فإنّ أيسر الطرق هو أن نقول: إن جميع مسائل علم الأصول، ابتداءً من المباحث اللغوية وقواعد تحديد الظهور إلى المباحث العقلية وإدراك الملازمات والعلاقات المنطقيّة للأحكام، ومن حجّية القطع وبعض الظنون إلى الأصول العملية، بأجمعها قواعد تُستعمل في عمليّة استنباط الحكم الشرعي. ومن هذه الناحية يكون علم الأصول عند المشهور هو: «العلم بالقواعد الممهِّدة لاستنباط الحكم الشرعي».

ولكنّنا نرى أنّ الكثير من العلوم، من قبيل: الحساب، والهيئة، والرجال، واللغة، والمنطق، تدخل أحياناً في استنباط الأحكام الشرعية. وعليه يطرح هذا السؤال نفسه: هل لأن العلوم الأخرى لم تتكفَّل بمباحث علم الأصول تمّ جمع هذه المسائل في موضعٍ واحد، أم أنّ هناك في الواقع جامعاً مشتركاً بينها، وأنّ هناك اختلافاً بين القواعد الأصولية الداخلة في الاستنباط وبين القواعد الأخرى الداخلة في علم الاستنباط، والتي تنشأ من علم الرجال أو اللغة؟

لقد عدل الميرزا النائيني عن تعريف المشهور، وسعى إلى ضمان جامعيّة ومانعيّة التعريف من خلال إضافة قيد «الكبرويّة». فقال في تعريف علم الأصول: «إنّ علم الأصول هو العلم بالقواعد التي تقع كبرى في قياس الاستنباط؛ بحيث لو ضمّ إليها صغرى القياس سيكون استنباط الحكم حاصلاً».

كما عدل السيد الخوئي عن تعريف المشهور، وتعريف أستاذه الميرزا النائيني، وسعى للحفاظ على جامعيّة التعريف ومانعيّته بشكلٍ آخر، فقال في تعريف علم الأصول: «هو العلم بالقواعد التي تكفي وحدها لاستنباط الحكم الشرعي، أي دون الحاجة إلى ضمّ قاعدة أصوليّة أخرى».

وأما السيد الشهيد فقد أعرض عن جميع هذه التعاريف الثلاثة، بعد بيان الإشكالات الواردة على كلّ واحدٍ منها ـ بتفصيل لا يسَعُ المجال لذكره ـ، جاعلاً من قيد «الاشتراك» الفصل المقوِّم لتعريف علم الأصول، فقال: «هو العلم بالعناصر المشتركة لاستنباط جعلٍ شرعي».

وبناءً على هذا التعريف يمكن لحيثيّة اشتراك القواعد الأصولية في الكثير من العمليات الاستنباطية أن تميِّزها من سائر القواعد الداخلة في الاستنباط؛ ومن جهة أخرى فإنّ الاستنباط لا يعني مجرَّد الكشف عن الحكم الواقعي، بل يعني الكشف عن الحجّة الشرعية، وكلّ وسيلة تنجيز أو تعذير، سواءٌ أكانت تلك الوسيلة أمارة أم أصلاً عملياً، وبذلك يتمّ الحفاظ على جامعيّة التعريف أيضاً.

وعلى أساس هذا التعريف فإنّ معرفة معاني بعض المفردات، من قبيل: كلمة «الصعيد»، وإنْ كانت دخيلة في الكشف عن الحكم الشرعي واستنباطه من قوله تعالى: ﴿فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً﴾ (النساء: 43)، وتطرح في علم اللغة على شكل قاعدة كلّية، بحيث «كلّما استعملت كلمة الصعيد أُريد منها مطلق ظاهر الأرض»، إلاّ أنّ هذه القاعدة اللغوية ليست من العناصر المشتركة، بمعنى أنّها لا تدخل في استنباط الحكم الشرعي في جميع الأبواب الفقهية، وإنّما تقتصر على حكم التيمُّم فقط، وبذلك تكون من العناصر الخاصّة.

والحقيقة أنّ السيد الشهيد الصدر، من خلال الفصل بين مجموعتين من العناصر الداخلة في عملية الاستنباط، عمد إلى تغيير التعريف، وأعرض عن التعاريف السابقة.

وأمّا تعيين موضوع علم الأصول فهو مشكلةٌ أخرى؛ حيث يذهب مشهور الأصوليين، طبقاً لمبناهم القائل: «إنّ موضوع كلّ علم هو ما يبحث عن عوارضه الذاتية»، إلى أنّ موضوع علم الأصول هو الأدلّة الأربعة: «الكتاب؛ والسنّة؛ والإجماع؛ والعقل». ومن هذه الناحية يكون محور مباحث علم الأصول هو الجامع بين موضوعات المسائل، وإنّ محمولات المسائل يجب أن تكون من العوارض الذاتيّة لذلك الجامع، وليس من العوارض الغريبة والأجنبية.

بيد أنّه بعد تحديد الأدلّة الأربعة بوصفها جامعاً بين موضوعات المسائل لاحظ بعض الأصوليين أنّ موضع المسألة في بعض الموارد لا يكون واحداً من هذه الأدلة الأربعة، ومصداقاً لها، من قبيل: مباحث الأصول العمليّة، حيث إن موضوعها هو «الشكّ»، ومن قبيل: مباحث الحجّة، فإنّ موضوعها خبر الواحد، أو الشهرة التي تثبت السنّة، ولا تكون من مصاديقها. ومن هنا ذهب البعض إلى الاعتقاد بأنّ موضوعات المسائل ليس لها جامعٌ مشترك أساساً. وقال آخر: كلّ ما أمكنه أن يكون دليلاً على الحكم الشرعي كان موضوعاً لعلم الأصول، سواءٌ أكان من الأدلة الأربعة أم من غيرها. من هنا يمكن للبحث بشأن الشهرة، والإجماع، والقياس، وخبر الثقة، أن يكون من المباحث الأصولية، وإنْ كانت نتيجتُها عدم حجّية القياس أو الشهرة.

وقد جاء السيد الشهيد الصدر في هذا البحث بكلامٍ جديد، وذهب؛ وفق مبناه في تعريف علم الأصول، إلى القول بأنّ الموضوع يجب أن يكون هو الأدلّة المشتركة. والمراد من الأدلة المشتركة كلّ ما له صلاحية الدخول في عملية استنباط الحكم الشرعي، ولا يختصّ ببابٍ من أبواب الفقه. وعندها سيقع البحث في دليليّة ذلك الدليل المرتبط بعلم الأصول.

قد يبدو أنّ الأدلة المشتركة هي العناصر المشتركة نفسها. وعليه يكون موضوع علم الأصول هو نفس الأمر المعلوم في تعريف علم الأصول. ولكنْ لو دقَّقنا أكثر سندرك أنّ المراد من العناصر المشتركة هي القواعد العامّة التي يتمّ بيانها ضمن إطار قضيّة مركّبة من الموضوع والمحمول، في حين أنّ المراد من الأدلّة المشتركة هو خصوص موضوعات المسائل فقط.

 

5ـ الإبداع والتجديد ــــــ

إنّ الخصوصيّة الخامسة التي تتمتّع بها المدرسة الأصولية للسيد الشهيد الصدر تكمن في تكميل وترميم وإعادة صياغة البحوث التقليدية لعلم الأصول. وإنّ أوضح المصاديق التي تجلَّت فيها هذه الخصوصية، التي تتميَّز بها المدرسة الأصولية للسيد الشهيد الصدر، هي مباحث الدليل العقلي، والتي نجد لها انعكاساً قوياً في حلقات الأصول، بحيث يمكن القول بوجوب اعتبار السيد الشهيد ـ بعد الشيخ محمد رضا المظفَّر في كتابه (أصول الفقه) ـ رائداً في تكامل مباحث الدليل العقلي في الكتب والمناهج الدراسية التي تبلورت في النصوص الدراسية لحلقات الأصول. وبطبيعة الحال فإنّ حلقات الأصول أعمق وأدقّ من أصول فقه المظفَّر.

وفي الحلقة الأولى من حلقات الأصول تمّ تقسيم مباحث الدليل العقلي إلى ستّ مجموعات من الارتباط في عالم التشريع، كالتالي:

1ـ الارتباط المنطقي الحاكم بين الحكم الشرعي والحكم الشرعي الآخر.

2ـ الارتباط المنطقي الحاكم بين الحكم والموضوع.

3ـ الارتباط بين الحكم والمتعلَّق.

4ـ الارتباط بين الحكم والمقدّمات.

5ـ الارتباط القائم ضمن حكم واحد.

6ـ الارتباط بين الحكم والأشياء الأخرى الخارجة عن دائرة التشريع.

وإنّ بحث امتناع أو جواز اجتماع الأمر والنهي، وبحث اقتضاء النهي للفساد، يرتبط بالقسم الأوّل.

وإن بحث استحالة أخذ العلم بالحكم في موضوع ذلك الحكم، والاختلاف بين الجعل والمجعول، يرتبط بالقسم الثاني.

وإن البحث الثالث مهمٌّ للغاية في التفريق بين الموضوع والمتعلَّق؛ لأنّ الأصوليين لم ينظروا إليه بشكلٍ خاصّ ومستقلّ.

وإنّ البحث في الوجوب الغيري، واختلافه عن الوجوب النفسي، وكذلك الفرق بين مقدّمة الوجوب ومقدّمة الواجب، يرتبط بالقسم الرابع.

وإنّ البحث عن المقدّمة الداخلية والوجوب الضمني (الأجزاء)، في قبال الوجوب الاستقلالي (الكلّ)، ويتمّ طرحه في الواجبات المركّبة، مثل: الصلاة، يرتبط بالقسم الخامس.

ويتمّ الحديث عن القسم السادس تحت عنوان الملازمة بين حكم الشرع وحكم العقل في الكتب الأكثر تقدّماً.

وأما الابداع في الحلقة الثالثة فيتجلّى بشكلٍ آخر، حيث نجد هناك عدّة تقسيمات:

أوّلاً: تقسيم الدليل العقلي إلى: المستقلّ؛ وغير المستقلّ.

ثانياً: تقسيم القضية العقليّة إلى: القضية التحليليّة، كالبحث عن حقيقة الوجوب التخييري؛ والقضية التركيبيّة، كالبحث عن استحالة الأمر بالضدّين في وقتٍ واحد.

ثالثاً: تقسيم المستقلاّت العقليّة إلى: المباحث التي تؤدّي إلى إثبات الحكم؛ والمباحث التي تؤدّي إلى نفي الحكم. والنوع الأوّل من قبيل: البحث عن «كلّ ما حكم العقل بقبحه حكم الشارع بحرمته»، والنوع الثاني من قبيل: استحالة التكليف بغير المقدور. وعلى هذا الأساس فإنّ المستقلاّت العقلية ستخرج عن انحصارها في خصوص مسألة الحسن والقبح العقلي.

ومن ثم بحث في التأثير المتبادل بين القضايا التحليلية والتركيبية، من قبيل: إمكان بيان التفسير الصحيح للواجب التعبُّدي، الذي هو بحثٌ تحليلي، من خلال معرفة كيفية ارتباط الحكم بموضوعه، الذي هو بحثٌ تحليلي أيضاً. كما يمكن فهم استحالة أخذ العلم في موضوع الحكم، واستحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلَّق الأمر، وهما من البحوث التركيبيّة. كما يمكن من خلال استحالة أخذ قصد امتثال الأمر في متعلَّق الأمر تقديم تفسير صحيح للواجب التعبُّدي. ولو أنّنا دخلنا في تفاصيل كلّ واحد من مباحث الدليل العقلي فسوف نجد أسلوباً أكثر تكاملاً في استعراض المباحث. ومن باب المثال:

1ــ ذكر بحث أحكام التزاحم وإمكان الترتُّب تحت عنوان «شرطية القدرة بالمعنى الأعمّ». فحيث ذهب قدامى الأصوليين إلى استحالة التكليف بالضدّين يمكن القول: إنّ القدرة بالمعنى الأعمّ شرطٌ في التكليف، أي القدرة التكوينيّة التي كانت محطّ نظر الأصوليين منذ القدم، وكذلك القدرة بمعنى عدم الاشتغال بالضدّ الأهمّ من التكليف الأوّل، أو المساوي له في الأهمية.

2ـ في البحث عن الواجب التخييري تمّ أوّلاً تقديم تفسير للتخيير العقلي والشرعي، ثم دخل في بيان خصائص التخيير الشرعي، وتفسيرات الوجوب التخييري وأشكالها، وكيفية التخيير بين الأقلّ والأكثر، وتفسير الوجوب الكفائي بحيث يرجع إلى الواجب التخييري.

3ـ تمّ طرح بحث الوجوب الغيري بشكلٍ مفعَم بالفائدة. ومن باب المثال: لو أنّ واجباً أصبح علّة تامّة للوقوع في الحرام ـ كما لو توقَّف تطهير المسجد على اجتياز الأرض المغصوبة ـ فبناءً على الملازمة بين وجوب ذي المقدّمة ووجوب المقدّمة ينفتح باب التعارض بين دليل الواجب ودليل الحرام؛ وبناءً على عدم القول بالملازمة يظهر التزاحم بين ترك الحرام وفعل الواجب.

وفي تفسير الواجب الغيري يرِدُ كلامٌ جديد أيضاً يقوم على أساس معرفة مبادئ الأحكام وثبوت الحقّ المولوي في تعيين مركز حقّ الطاعة.

وقد تمّ بيان النتيجة النهائية لهذا البحث في الحلقة الثالثة كالتالي: إنّ إرادة ذي المقدّمة تستلزم إرادة المقدّمة، ولكنّ هذه الملازمة إنّما هي بحكم الوجدان، دون البرهان.

وأمّا وجوب ذي المقدّمة فإنّه لا يستوجب وجوب المقدّمة؛ لأنّ الجعل والإيجاب أمرٌ يقوم به المولى باختياره، ولا يمكن إثباته قهراً، وبحكم الملازمة.

4ـ في البحث عن حجّية الدليل العقلي تمّ استعراض شبهات الأخباريّين بشأن اعتبار الدليل العقلي، ضمن ثلاثة مقامات:

الأوّل: حول قصور الدليل العقلي بلحاظ عالم الجعل.

وهنا أُجيب عن شبهة الأخباريّين بشأن أخذ علم خاصّ في موضوع الأحكام المجعولة من قبل الشارع، وهو العلم الحاصل من الأدلة النقليّة.

الثاني: حول قصور الدليل العقلي بلحاظ الاستكشاف، مع فرض عدم القصور في عالم الجعل.

وفي هذا المقام أُجيب عن شبهة الأخباريّين القائلة بأنّ كثرة وقوع الخطأ في الأحكام العقلية يمنع من كاشفية الدليل العقلي، وحصول اليقين منه.

الثالث: حول قصور الدليل العقلي في عالم الحجّية، مع افتراض عدم القصور في عالم الجعل وعالم الاستكشاف.

وفي هذا المقام أجيب عن هذه الشبهة، وهي أنّ حكم العقل وإنْ كان معتبراً في ناحية تنجيز التكليف الواقعي، ولكنّه غير معتبر من ناحية التعذير عن التكليف الواقعي؛ لأن الشارع منع من اتّباع الدليل العقلي المعذّر([3]).

إنّ صياغة شبهات الأخباريّين وكلماتهم المبعثرة وغير الواضحة ضمن هذه القوالب، وبحث المراد من عباراتهم من خلال هذه المقامات، عملٌ جديد ومبتكر.

وإذا تجاوزنا مباحث الدليل العقلي نجد أنّ باب تعارض الأدلّة مثالٌ آخر عن تجلّي المدرسة الأصولية للسيد الشهيد الصدر في مجال تكميل وإعادة صياغة المباحث الأصولية.

قال أحدُ تلامذة السيد الشهيد الصدر في مقدمة تقريراته: «وقد كان سيدي الأستاذ ـ دام ظلّه الشريف ـ يُلقي هذه البحوث على غرار المنهاج المعهود والمتعارف لبحث التعادل والتراجيح في الدراسات الأصولية؛ انسجاماً مع الظروف التدريسية العامّة، ولكنّه أدخل عليها بعد ذلك شيئاً من التغيير في المنهجة، مع إضافة بعض الفصول الذي كان أنسب بهذه الأبحاث منه بالأبحاث الأصولية الأخرى، فجاء الكتاب ـ نتيجة لذلك ـ مشتملاً على قسمين أساسيين: قسم التعارض غير المستقرّ؛ وقسم التعارض المستقرّ، يسبقهما الحديث عن معنى التعارض، لغةً واصطلاحاً، والبحث عن مبرّرات وجوده بين الروايات»([4]).

بيد أنّنا إذا دقّقنا في هذه المباحث نجد أنّه رغم سعي السيد الشهيد إلى المحافظة على أن تكون المباحث متطابقة مع الأسلوب السائد والمتعارف، فإنّ حجم التغييرات من الكثرة بحيث تبدو شيئاً جديداً، كما أنّها تبتعد كثيراً عن الشكل المتعارف من ناحية القالب والمضمون. وهذا دليلٌ على تكامل المباحث، وإعادة صياغتها.

وقد تحدّث أوّلاً من باب المقدّمة عن تعريف التعارض، واختلاف التعارض عن التزاحم، ثمّ انتقل بعد ذلك إلى منشأ وقوع التعارض في الأدلّة الشرعية.

ويبدو أنّ إحصاء ثمانية أسباب لحصول التعارض عملٌ غير مسبوق في علم الأصول. وتلك الأسباب هي:

1ـ عدم الفهم الصحيح من قبل الفقيه.

2ـ وقوع النسخ.

3ـ ضياع بعض القرائن.

4ـ تصرُّف الرواة في كلمات روايات المعصومين^، ونقلها بالمضمون.

5ـ البيان التدريجي للأحكام من قبل المعصومين^.

6ـ مراعاة التقيّة.

7ـ ملاحظة الموقع والشرائط الخاصّة للراوي في وقت صدور الحديث.

8ـ ظاهرة الدّس والتزوير.

وبعدها تحدّث عن أحكام التعارض المستقر والتعارض غير المستقر في قسمين.

وفي ما يتعلق بالتعارض غير المستقرّ، الذي ينتهي إلى الجمع العرفي ـ ويكون دليلٌ قرينةً على التصرّف في ظهور دليل آخر ـ يتمّ البحث في أقسام القرينيّة. وذلك بأن يقال: كلّما كانت القرينية شخصية تكون العلاقة القائمة هي الحكومة، ويكون دليلٌ حاكماً على دليل آخر. وكلّما كانت القرينية نوعية تكون العلاقة القائمة هي التقييد، أو التخصيص، أو الأظهرية. وأمّا حالات الورود والتزاحم فإنّها تخرج عن أقسام التعارض غير المستقرّ، ويتم استعراضها ضمن مباحث من قبيل: أقسام الورود وأحكام كلّ واحد منها، وعلاقة التزاحم بالورود، وإمكان دخول الورود في التزاحم، واختلاف الورود عن التخصُّص، وشمول الورود بالمعنى الأعمّ للتخصُّص، والورود من جانبٍ ومن جانبين، وأقسام التزاحم، ومرجِّحات باب التزاحم.

كما تمّ الحديث عن التعارض المستقرّ، وعلاج التعارض بلحاظ الدليل العامّ للحجّية، وبلحاظ الأخبار العلاجيّة الخاصّة «أخبار التخيير والترجيح والتوقُّف»، وعن معالجة الأخبار العلاجية ورفع تعارضها.

النموذج الثالث من نماذج إعادة صياغة المباحث الأصوليّة نشهده في بحث الأصول العملية. ورغم أنّ مباحث هذا القسم في تقريرات درس خارج السيد الشهيد قد حافظت على شكلها المعهود، فإنّ الفصل بين جهات البحث، وطريقة الدخول والخروج، والعمق والدقّة في الاستنتاج، يحظى بأهمّية كبيرة. ومن جملة المسائل البارزة في هذه المباحث استعراض تاريخ تبلور الأصول العمليّة عند فقهاء الإماميّة، وتاريخ البراءة العقلية، وبحث قاعدة التسامح في أدلّة السنن، ومنجّزية العلم الإجمالي وتنبيهاته الاثني عشر، وطريقة الارتباط بين الأصول والأمارات، وأسلوب الارتباط بين الأصول العمليّة نفسها، والتحقيق في مؤدّى (قاعدة لا ضَرَر).

وفي حلقات الأصول نشاهد صورة مبسَّطة لمباحث الأصول العملية، وتبويب أفضل بلحاظ المنهج التعليمي.

فقد ذكر ترتيب الأصول في الحلقة الثالثة على النحو التالي: القاعدة العملية الأولى «أصالة البراءة العقلية أو الاحتياط العقلي»؛ والقاعدة العملية الثانوية «أصالة البراءة الشرعية»؛ والقاعدة العملية الثالثة «أصالة الاحتياط على أساس منجّزية العلم الاجمالي»؛ والاستصحاب.

وفي الحلقة الثالثة تمّ اتّخاذ الترتيب بالنظر إلى نوع الشكّ باهتمامٍ أكبر.

ففي البداية يتم الحديث عن الوظيفة العملية في حالة الشكّ البدوي. كما تم طرح القاعدة الأولية والقاعدة الثانوية، ثمّ انتقل إلى الشكّ المقترن بالعلم الإجمالي، وتمّ بحث منجّزية العلم الإجمالي بقطع النظر عن الأصول المؤمِّنة تارة، وبالنظر إلى الأصول المؤمِّنة تارة أخرى. كما تم البحث بالتفصيل في خصوص أركان منجّزية العلم الإجمالي، والموارد العشرة لانهدام أحد هذه الأركان أيضاً. ثم يبحث في المرحلة الثالثة عن الوظيفة العملية عند الشكّ بين الوجوب والحرمة «الدوران بين المحذورَيْن»، وفي المرحلة الرابعة عن الوظيفة العمليّة في حالة الشكّ بين الأقلّ والأكثر. وفي الختام يتمّ الحديث عن الاستصحاب، وكونه مردَّداً بين الأمارة والأصل.

وبغضّ النظر عن النماذج المتقدّمة يمكن لنا في ما يتعلَّق بمباحث الألفاظ أن نشير إلى جريان الإطلاق في المعاني الحرفية، وإلى ضابطة وجود المفهوم في بعض العبارات، وخاصّة مفهوم الشرط.

6ـ الانسجام والتناسق بين المباحث ــــــ

إنّ شأن الفكر الأصولي شأن الفكر الفلسفي، يجب أن يكون منظَّماً ومنسجماً ومتناسقاً. وإنّ ظهور أيّ تنافٍ بين المباني المختارة يُنبئ عن ضعفٍ في التفكير الأصولي. ومن هنا يمكن القول بأنّ المنظومة الفكرية الأصولية لدى كل واحد من الفقهاء الكبار تعتبر جهازاً فكريّاً بالغ التعقيد ومتناسق الأبعاد في التعريف بالنظام التشريعي الإلهي. ويتمّ تعريف مختلف أجزائها بشكلٍ مترابط طولياً وعرضياً، كما هو الحال بالنسبة إلى الماكِنة الصناعية التي لا تعمل أجزاؤها بشكلٍ منفصل عن بعضها. تعرف قوّة الفكر الأصولي من خلال إفضائه إلى حلّ المشاكل الفقهية، وتفسير النصوص بشكلٍ صحيح، وحلّ الموارد المتنافية بحسب الظاهر. وعلى الفقيه الذي لا يلتزم بمبانيه الأصولية أن يُعيد النظر في تفكيره الفقهي، أو الأصولي، أو كلَيْهما.

بيد أنّنا بطبيعة الحال نعلم بأنّ الفقيه في مقام تطبيق القواعد الأصولية على النصوص الشرعية يواجه أحياناً بعض القيود والخصائص التي تؤدّي إلى تغيير النتائج.

فمثلاً: إذا لم نكن من القائلين بالمفهوم المخالف في القضية الشرطية فهذا لا يعني أنّنا في كلّ آيةٍ أو رواية ذكر فيها الحكم الشرعي في إطار قضيّة شرطية نضطر إلى إنكار المفهوم المخالف، بل إنّ القاعدة الأصولية يتمّ التأسيس لها طبقاً لطبيعة الجملة الشرطية، وبغضّ النظر عن القرائن والخصائص المحتَمَلة في كلّ مورد. ولا ينافي ذلك إثبات المفهوم من خلال ملاحظة القرائن الخاصّة. ومن هنا لا ينبغي التسرُّع في اتّهام الفقهاء بعدم الالتزام بقواعدهم الأصولية.

ولهذا السبب يقول السيد الشهيد: إن على الفقيه، علاوةً على المهارة في علم الأصول، أن تكون لديه القدرة على التطبيق أيضاً.

وعليه إذا اعتبرنا النصوص بمنزلة الأدوات وعدّة العمل سيكون علم الأصول فنّ توظيف هذه الأدوات، والنتيجة النهائية رهنٌ بامتلاك القدرة على التطبيق، وإلاّ قد يكون العالم الأصولي مثل الطبيب الذي يدرس علم الطبّ، ولا يستطيع تطبيق ما تعلَّمه على الأعراض الظاهرة على المريض؛ فيعجز عن تشخيص نوع المرض.

وإنّ الخدشة على النظريات الفقهيّة تأتي إمّا من جهة الغفلة عن النصوص والأدلة؛ أو من جهة الغفلة عن الخصوصيات والقرائن في مقام التطبيق؛ أو من جهة الخدشة في المبنى الأصولي.

وإذا كانت القدرة على التطبيق تأتي من التمرين والممارسة والاستعداد الشخصي، فإنّ النصوص تحصل من خلال التحقيق والفحص في المظانّ المعهودة، والإحاطة بالمصادر والنصوص الروائية.

وأمّا تنقيح المباني الأصولية فهي أصعب ما في الأمر؛ لأنّها تحتاج إلى عمقٍ وسعة نظر في وقتٍ واحد. وكلّما تمّ التأسيس للمباني الأصولية بشكلٍ أقوى، وكان الانسجام بينها أكبر، كانت الآراء الفقهية أدنى إلى الوثوق والطمأنينة.

من هنا كانت المقدرة العلمية للفقهاء في الفقه متوقّفة على مقدرتهم الأصولية؛ لأنّ علم الأصول كما قالوا هو منطق الفقه. وكلما كان هذا المنطق أقوى كانت الآراء الفقهية أدعى إلى القبول.

وأحياناً يُشكِل بعض الفقهاء على المباني الأصولية التي يذهب إليها بعضهم الآخر، ويستشهدون لذلك بالتوالي الفاسدة المترتّبة على تلك المباني.

وهذا دليلٌ آخر على ضرورة دراسة التبعات واللوازم المترتِّبة على كلّ مبنى في المواضع الأخرى من علم الأصول؛ ليتمّ الحفاظ على التناسق والانسجام بين المباني.

من باب المثال: لقد عمد الشيخ الأنصاري إلى طرح نظرية «المصلحة السلوكيّة»؛ من أجل حلّ بعض مشاكل التعبُّد بالظنّ.

فأشكل عليه بعض الأصوليين الآخرين بأنّ هذا المبنى لا يتَّفق مع رأي الشيعة في قبول قاعدة الاشتراك وبطلان التصويب؛ لأن القول بنظرية المصلحة السلوكية تعني القول بنوعٍ من التصويب.

وكذلك اعتقد السيد الخوئي بأن مصلحة الحكم ـ في جعل الحكم الظاهري ـ تكمن في نفس الجعل.

وقد أشكل عليه الآخرون بأنّه طبقاً لهذا المبنى يجب القول بعدم وجود محذور في اجتماع حكمين ظاهريين مختلفين في موضوعٍ واحد، كما يجب القول بأن الحكم الظاهري لا يستدعي امتثالاً؛ لأنّ تلك المصلحة يتمّ ضمانها بمجرّد الجعل، في حين أنّه لا أحد يلتزم بهذه اللوازم الباطلة!

وهكذا ابتكر المحقق النائيني نظرية «متمِّم الجعل»، بوصفها حلاًّ لإمكان أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم.

وقد أشكل عليه السيد الشهيد الصدر بأنّ هذا المبنى يحتوي على إشكال داخلي، وهو يخالف فرضيّة إهمال الجعل الأول.

إن علم الأصول مفعَمٌ بهذا النوع من الإشكالات والإجابات. وهذا هو السرّ في تكامل وتطوّر علم الأصول.

ومن خلال دراستنا لتاريخ علم أصول الفقه لدى الشيعة، الممتدّ لألف سنة ـ منذ تأليف السيد المرتضى لكتاب الذريعة؛ بوصفه أوّل كتاب تفصيلي ومدوَّن في أصول الفقه، وحتى هذه اللحظة ـ، ندرك كيف قام كلُّ واحد من الأصوليين بالنظر إلى أعمال السابقين بالسعي إلى رفع النقص، والإجابة عن الإشكالات الواردة على المباني الأصولية، منقِّحاً بذلك آراءه العلميّة بشكلٍ أكبر.

لقد تعرّّضت المدرسة الأصولية للسيد الشهيد إلى المباني الأصولية لكلٍّ من: الميرزا النائيني، والمحقِّق العراقي، والسيد الخوئي، بشكل أكبر، علاوةً على استعراض النظريات الأصوليّة للشيخ الأنصاري، والآخوند الخراساني. وبالتالي فقد تمّ السعي إلى بيان الامتيازات العلمية لكلّ واحد من رجالات هذا العلم، وإضفاء ترابط منطقي على مبانيهم الأصولية.

إنّ من الأهداف التي رصدها السيد الشهيد في حلقات الأصول، ونجح فيها، هو تعليم هذا الترابط والتناسق، الذي تقدَّم أن ذكرنا جانباً منه. وسنأتي على ذكر جوانبه الأخرى، نقلاً عن السيد الشهيد الصدر في مقدّمة حلقات الأصول.

ومن المباحث المرتبطة ببعضها على نحو تامّ، ويتمّ طرحها في باب غير المستقلاّت العقلية: مبحث إمكان الشرط المتأخِّر، والواجب المعلَّق، والواجب التعبّدي والتوصّلي، ومقدّمة الواجب، والمقدّمات المفوِّتة، واستحالة التكليف بغير المقدور، وإمكان التكليف المشروط، ممّا تمَّ التأكيد على وجه ارتباطه في حلقات الأصول بشكل وافٍ وكافٍ.

 

7ـ المنهج التاريخي ــــــ

لا شكّ في أنّ الرؤية التاريخية في الكثير من المسائل الأصولية المعقّدة، ودراسة مسار تطوّرها التاريخي، سيعمل على تذليل الكثير من العقبات؛ لأنّ الباحث والمحقِّق سيتعرّف إلى ماهية البحث بشكلٍ أوضح، وسيدرك أسباب دخول بعضها إلى علم الأصول، وأسلوب طرحها الغريب والمثير للتساؤل.

وقد تمكَّن السيد الشهيد ـ بسبب امتلاكه هذه الرؤية التاريخية ـ من الوقوف بوجه المشهور في ما يتعلَّق برأيه في القول بعقليّة أصالة البراءة عند الشكّ في التكليف. فإنّه من خلال البحث في كلمات المتقدِّمين أثبت أن اشتهار هذه المسألة لا يسبق زمن الوحيد البهبهاني، وأن المتقدّمين عليه كانوا يذهبون إلى القول بأصالة الاحتياط العقلي.

كما أشار في باب الأصول العملية إلى الانفصال التدريجي لمباحث هذا الباب عن باب الدليل العقلي، في مقدّمة قصيرة تساعد على التعرُّف إلى ماهية مباحث هذا الباب بشكل أفضل.

بيد أن أعظم ما قام به السيد الشهيد الصدر في تتبُّع جذور التطوّر التاريخي لعلم الأصول، ودراسة المراحل التاريخية لتطوُّر هذا العلم، قد تجلّى للمرّة الأولى في كتاب (المعالم الجديدة)، بحيث يمكن اعتبار السيد الشهيد في ذلك أوّل شخصية أصوليّة تتابع مسائل التطوُّر التاريخي لهذا العلم بشكل رسميّ، وأرشد الطلاب إلى أهمّية التعرُّف إلى هذا التطوّر.

وقد تمّ تخصيص جزءٍ كبير من هذا الكتاب ـ حوالي خمسين صفحة ـ للبحث والتحقيق في مراحل وأدوار تطوُّر علم الأصول، وأسباب وعناصر هذا التطوّر.

وبعد سنوات من استشهاد سماحته شاع على الألسن الكلام عن تاريخ الفقه والأصول، وضرورة الخوض في العلوم من خلال رؤية أخرى، يُعبَّر عنها بالرؤية الثانوية.

وفي هذه الصفحات الخمسين تحت عنوان تاريخ علم الأصول تمّ استعراض المباحث التالية: ولادة ونشوء علم الأصول، والحاجة التاريخيّة لعلم الأصول، والتصنيف في علم الأصول، وتكامل العلم النظري (الأصول) والعلم التطبيقي (الفقه) على يد الشيخ الطوسي، والتوقُّف النسبي لعلم الأصول بعد الشيخ الطوسي، وإعادة الحياة والحركة العلمية على يد ابن إدريس صاحب كتاب السرائر وحتّى فترة صاحب المعالم، وإضرار الأخباريين بهيكل علم الأصول، وجذور الحركة الأخبارية، والاتّجاه التأليفي لمباحث علم الأصول في مرحلة الأخباريين، وانتصار المنهج الأصولي، وظهور مدرسة جديدة، وتلخيص ثلاث مراحل رئيسة لعلم الأصول على النحو التالي:

الأولى: عصر التمهيد لعلم الأصول، حيث تمّ نشر البذور الأولى والرئيسة لهذا العلم، وذلك على يد ابن عقيل العُماني، وابن الجُنيد، وبلغ ذروته على يد الشيخ الطوسي.

الثانية: عصر الازدهار وجني ثمار البذور الأولى، حيث تمّ تحديد الأسس الفكرية الأصولية، وانعكست على علم الفقه على نطاق واسع. وقد كان رائد هذه المرحلة الشيخ الطوسي، ومن رجالها الكبار جماعةٌ من أمثال: ابن إدريس، والمحقِّق الحلّي، والعلاّمة الحلّي، والشهيد الأوّل.

الثالثة: عصر الكمال العلمي الذي يفتتحه الشيخ الوحيد البهبهاني، بوصفه صاحب مدرسة أصوليّة جديدة في نهاية القرن الثاني عشر. فليس هناك من شكٍّ في أن جهوده العلمية في مجال الفقه والأصول قد حدَّدت معالم هذه المرحلة، ثم واصل تلاميذه الكبار جهوده، حتّى بلغت هذه المدرسة قمّة الكمال بعد خمسين سنة تقريباً، وظهر في هذه المدرسة ثلاثة أجيال من العلماء:

الأوّل: المشايخ الذين درسوا مباشرة على يد الوحيد البهبهاني، من أمثال: السيد مهدي بحر العلوم(1212هـ)، والشيخ جعفر كاشف الغطاء(1227هـ)، والميرزا أبو القاسم القمي(1227هـ)، والسيد عليّ الطباطبائي(1221هـ)، والشيخ أسد الله التستري(1234هـ).

الثاني: المشايخ الذين درسوا على يد بعض تلاميذ الوحيد، من أمثال: الشيخ محمد تقي بن عبد الرحيم(1248هـ)، ومحمد شريف بن حسن عليّ، المعروف بـ (شريف العلماء)(1245هـ)، والسيد محسن الأعرجي(1227هـ)، والمولى أحمد النراقي(1245هـ)، والشيخ محمد حسن النجفي.

الثالث: وعلى رأسه الشيخ الأعظم مرتضى الأنصاري، تلميذ شريف العلماء، وقد ولد عام (1214هـ) بعد فترة طويلة من ظهور هذه المدرسة، ولكنّه تمكَّن من البلوغ بالمدرسة الأصولية للوحيد البهبهاني إلى ذروة الكمال. ونحن الآن نعيش في هذا العصر العلمي، حيث إن التفكير العلمي المهيمن على أجواء الحوزات العلمية هو التفكير العلمي الذي بدأه الوحيد البهبهاني.

وبطبيعة الحال فإنّ تقسيم وتبويب علم الأصول على هذا النحو، وفي إطار هذه المراحل الثلاثة، لا ينافي تقسيم كلّ مرحلة منها إلى مراحل أصغر. وعليه يمكن اعتبار الشيخ الأنصاري(1281هـ) رائدَ المرحلة الثالثة من الجيل الثالث، والذي لا زال تفكيره العلمي هو السائد بيننا منذ قرنٍ من الزمن([5]).

في هذه الدراسة التاريخية نلاحظ نقاطاً هامّة ومبتكرة، وتحليلات فائقة، تحكي عن الاستعداد والمقدرة الخاصة التي يتمتَّع بها السيد الشهيد في تتبُّع جذور الأحداث التاريخيّة. ومنها دراسة وتحليل أسباب الركود النسبي الذي تعرَّض له علم الفقه بعد الشيخ الطوسي، الذي نقل الحوزة العلمية من بغداد إلى النجف الأشرف، حيث تدخّل في ذلك ثلاثة عناصر، وهي:

الأول: ابتعاد الشيخ الطوسي عن تلاميذه الكبار في حوزة بغداد، وتأسيسه حوزة جديدة ويافعة في النجف الأشرف، التي تولّى زعامتها بعد رحيله ابنه أبو عليّ في شرخ شبابه.

الثاني: تأثير عواطف تلاميذه في تقديس مقام الشيخ الطوسي. وهذا الأمر بطبيعة الحال ليس منفصلاً عن حداثة نشوء الحوزة في النجف الأشرف.

الثالث: واقع التنافس بين الشيعة والسنّة. فقد كان هذا التنافس عنصراً محرِّكاً لحوزة التشيُّع. وعندما واجه التفكير الفقهي والأصولي ركوداً بين علماء أهل السنّة فقدت الحوزات الشيعية عنصراً من عناصر حركتها وحيويّتها، ولكنّها ـ لحسن الحظ ـ تمكَّنت بعد فترةٍ وجيزة من استعادة حيويّتها ونشاطها؛ وذلك:

أوّلاً: لأنّ الفقه الشيعي كان في بداية نضجه ونشوئه، وكان يتمتَّع بدينامية داخلية تدعوه إلى الانطلاق والتحرُّك، بخلاف الفقه السنّي الذي كان قد بلغ مرحلة الشيخوخة والذبول، وفاقداً لتلك الحيوية والروح النشيطة.

وثانياً: لقد كان الفقه الشيعي محارَباً من قبل السلطة، ومنتمياً إلى الجماهير، فكان يتكامل بمقدار الاستفسارات والتساؤلات التي تُطرح من قبل الناس، وهذا يعني امتلاك الحوزة لعنصرٍ خارجيّ يردفها، ويزيد من حيويتها وتغذيتها، خلافاً للفقه السنّي الذي كان ينمو تحت جناح السلطة، وقد أدّى عدم الاستقرار والاضطراب السياسي في البلدان الإسلامية في هذه المرحلة إلى التأثير سَلْباً على تطوير الحركة العلمية الأصولية والفقهية بين علماء أهل السنّة.

المقام الآخر من كلام السيد الشهيد الصدر يتعرَّض إلى تحليل انتصار الأخباريين في مقطعٍ تاريخي، وانتصار الأصوليّين في المقطع التالي.

وفي ما يتعلَّق بتحليل انتصار التيار الأخباري قال السيد الشهيد: إنّ من العناصر والأسباب التي أدّت إلى مخالفة الأخباريين لعلم الأصول، واجتذاب جماعة إلى صفوفهم، وتلبيد الأجواء ضدّ الأصوليين:

أوّلاً: تقدُّم أهل السنّة في توسيع وتطوير مباحث علم الأصول، واستخدامها من قبلهم.

وثانياً: موافقة بعض الأصوليين ـ من أمثال: ابن الجنيد ـ لأهل السنّة في الأخذ بالقياس.

وثالثاً: تسرُّب بعض المصطلحات الأصولية لدى أهل السنّة إلى كتب فقهاء الشيعة.

ورابعاً: الدور الهامّ للدليل العقلي في علم الأصول، في حين أن الأخباريين ينكرون الدليل العقلي من الأساس.

وخامساً: دعوى استحداث علم الأصول وظهوره بعد عصر المعصومين^.

وسادساً: إشاعة التصوُّر القائل بأنّ الاقتراب من علم الأصول يعني الابتعاد عن روايات أهل البيت^.

وأمّا مسألة غَلَبة الفكر الأصولي على الفكر الأخباري فقد عمد السيد الشهيد الصدر إلى بيانها على النحو التالي:

إنّ نجاح الوحيد البهبهاني، وتغلُّب المجتهدين على الأخباريين، كان رهناً بعدّة أمور، يمكن بيانها على النحو التالي:

1ـ التمهيد الذي قام به الفاضل التوني، وبعده الآغا حسين الخوانساري، وابنه الآغا جمال، أي السيد صدر الدين القمي، حيث عمد هؤلاء في مرحلة هيمنة الأخباريين إلى تطوير مباحث علم الأصول، ودعَّموا أسس التفكير الفلسفي والعقلي. وبطبيعة الحال فقد كان للسيد حسين الخوانساري تفكيره الفلسفي الخاصّ، حيث كان من الناقدين للفلسفة السائدة، ولكنّه تمكَّن على كلّ حال من إضفاء صبغة فلسفية خاصّة على مباحث علم الأصول، واحتلَّت آراؤه مكانة مرموقة في تاريخ علم الأصول. وقد برز الوحيد البهبهاني ـ الذي هو تلميذ السيد صدر الدين القمي ـ بوصفه استمراراً لهذه السلسلة.

2ـ لم يكن بالإمكان أن لا تشهد الحركة الأخبارية ردود فعل، وخاصّة أن حوزة كربلاء أصبحت مركزاً لها. وقد شدَّد حضور الوحيد البهبهاني في هذه الحوزة من النزاع المحتدم بين التيارين.

3ـ لقد كانت المدرسة الأصولية التي أرساها الوحيد البهبهاني قريبة من النجف الأشرف ـ مركز الحوزة العلمية الشيعية ـ، وقد أدّى ذلك إلى انعكاس آراء وأفكار الشيخ الوحيد على حوزة النجف بوضوحٍ، الأمر الذي أفضى إلى استمرار مدرسته وتطويرها بعد رحيله.

4ـ لقد تمّت تلبية الحاجة إلى تدوين الجوامع الحديثية، من خلال تدوين كتب من قبيل: الوافي، ووسائل الشيعة، وبحار الأنوار. وكان النشاط العلمي بطبيعة الحال يتَّجه نحو توظيف هذه الموسوعات في عملية الاستنباط.

5ـ لقد كان نموّ الفكر الفلسفي منذ عصر المحقِّق الخوانساري فما بعد يستدعي مجالاً جديداً للظهور، وكانت المدرسة الأصولية، التي أرسى الوحيد البهبهاني قواعدها، تمثِّل هذا الفكر.

8ـ المنهج التعليمي والتدريسي ــــــ

قلّما نعرف أحداً من الفقهاء الكبار قد اهتمّ بتحويل علم الأصول إلى منهج دراسيّ، وبادر على المستوى العملي إلى تدوين كتاب على هذا الأساس، يراعي المسائل التعليمية بالنسبة إلى الطلاب على مستوى مرحلة السطح.

وبطبيعة الحال فقد كان الشيخ محمد رضا المظفَّر رائداً في هذا المجال، ولكنْ هناك اختلافٌ كبير بين المجهود الذي قام به السيد الشهيد وما قام به الشيخ المظفَّر، وذلك:

أوّلاً: لا نجد في بداية أصول الفقه أيّ مقدّمة في التعريف بالمنهج وخطّة العمل، والدافع إلى ذلك، وطريقة التدوين.

وثانياً: إنّ كتاب الشيخ المظفَّر يعكس صدى المباني الأصوليّة لبعض رجال هذا العلم. ولم يُكتب على منوالٍ واحد، فإنْ أراد القارئ أن يبحث عن مزيد من المعلومات في مباحث الكتاب لا يجد مصدراً يساعده على فهم الرأي النهائيّ للمؤلِّف، أو في الحدّ الأدنى رأيه على هذا المستوى من الكتاب، بشكلٍ أفضل.

وثالثاً: يبدو أنّ هذا الكتاب يشكِّل حلقة وصل غير متجانسة بين معالم الأصول وفرائد الأصول، أو كفاية الأصول، ولا يمكن استيعابه بوصفه كتاباً تدريسياً للمبتدئين من الطلاب. في حين أنّ حلقات الأصول تشتمل على مقدّمة نافعة وقيّمة جدّاً، تصلح أن تكون دليلاً للأساتذة والطلاب على السواء. كما أنّ مجموع مباحث كلّ واحدة من الحلقات قد كتبت على منوالٍ واحد، وهي تعكس تفكيراً واحداً منسجماً. كما تشتمل في الوقت نفسه على بيان آراء الشخصيات الأصولية الأخرى، ونقدها، ودراستها أيضاً. وإنّ مجموع الحلقات الثلاثة تلبي حاجة الطالب في مرحلة السطح، دون أن تبرز مشكلة عدم التناغم والانسجام بينها وبين الكتب الدراسية السابقة عليها، واللاحقة لها. وعلاوةً على ذلك توجد هناك دعامة قوية لحلقات الأصول؛ فإنّنا إذا اعتبرنا الحلقة الثانية دعامةً للحلقة الأولى، والحلقة الثالثة دعامةً للحلقة الثانية، ستكون تقريرات بحث الخارج للسيد الشهيد دعامةً للحلقة الثالثة، بل دعامة لجميع الحلقات الثلاثة، وإنّها ستُخْرِج الأساتذة من ضائقة التدريس إلى حدٍّ ما، وخاصّة أنّ تدوين الحلقات قد تمَّ بعد تدوين التقريرات، ومن خلال النظر فيها. ولو أنّنا أضفنا النشاط العلمي لتلاميذ السيد الشهيد في إطار التهميش والشرح والتعليق على التقريرات أو متن حلقات الأصول، وكذلك في سياق المقالات والحوارات، سنحصل على دعامة أقوى. وبطبيعة الحال فإنّ كلّ كتاب درسيّ لا يأخذ مجراه بسهولة، إلاّ إذا عمد مؤلِّفه إلى بيان مبانيه في موضعٍ آخر بشكلٍ تفصيلي، ليشكِّل مصدراً للأساتذة، وأن يكون كذلك قد عمد إلى تنشئة تلامذة يعملون على إشاعة مدرسته ومسلكه ومنهجه، ويكونون في الوقت نفسه من الناقدين لأفكاره، وأن ينشروا كتباً في شرح وتفسير كلامه. وقد امتازت حلقات الأصول ـ بالقياس إلى جميع المناهج الدراسية ـ بكونها بديلاً عن أربعة كتب رئيسة، وهي: (معالم الأصول، وقوانين الأصول، وفرائد الأصول، وكفاية الأصول). ولو أنّ الأجهزة الإداريّة لم تشكِّل مانعاً وعقبة أمام حلقات الأصول لشهدنا اليوم دخولها ضمن المنهج التدريسي في الحوزة العلمية بشكلٍ طبيعي للغاية.

وهذا المقدار من البحث ليس بحاجةٍ إلى إثبات؛ لأنّنا إذا قبلنا بضرورة تطوير المناهج الدراسية فسوف نجد جميع الأصابع تشير إلى حلقات الأصول. والذي يحتاج إلى مزيدٍ من الإيضاح والإقناع هو أنّ تجاوز الكتب التدريسيّة الأربعة المعروفة لا يعني التنكُّر للتراث الأصولي الشيعي، وقطع الصلة بالجذور التاريخيّة لهذا العلم. وقد سعى السيد الشهيد إلى نفي هذا التوهُّم في مقدّمته على حلقات الأصول، حيث تحدَّث عن وضع المناهج الدراسية، معتبراً أوّلاً: أنّ العبور من آثار المتقدّمين إلى آثار المتأخّرين يتمّ في إطار سُنّة قائمة وحقيقة تاريخيّة؛ وثانياً: تمّ بيانها ضمن إطار ضرورة عصريّة لا يمكن إنكارها.

وعمد في موضع إلى ذكر أربعة تبريرات على ضرورة تغيير وتطوير المناهج الدراسية، حيث قال في التبرير الأول: «يوجد الآن فاصلٌ معنوي كبير بين محتويات الكتب الدراسية الأربعة وبين أبحاث الخارج، فبينما بحث الخارج يمثِّل حصيلة الأعوام المئة الأخيرة من التفكير والتحقيق، ويعبِّر بقدر ما يُتاح للأستاذ من قدرة عن ذروة تلك الحصيلة، نجد أنّ كتب السطح تمثِّل في أقربها عَهْداً الصورة العامة لعلم الأصول قبل قرابة مئة عام، ساكتةً عن كلّ ما استجدّ خلال هذه الفترة من أفكار ومصطلحات. ونذكر على سبيل المثال لما استجدّ من مطالب أفكار باب التزاحم، ولما أشاده الميرزا [النائيني] من مسلك جعل الطريقيّة بتعميقاته وتفريعاته في مسائل: «قيام الأمارات مقام القطع الموضوعي»، و«حكومة الأمارات على الأصول»، و«رفع قاعدة قبح العقاب بلا بيان بجعل الحجّيّة»، وفكرة «جعل الحكم بنحو القضية الحقيقية» بآثارها الممتدَّة في كثير من أبحاث علم الأصول، كبحث «الواجب المشروط»، و«الشرط المتأخِّر»، و«الواجب المعلَّق»، و«أخذ العلم بالحكم في موضوع الحكم»، والوجه الجديد لبحث المعاني الحرفيّة، الذي يختلف اختلافاً أساسياً عن الصورة الغريبة التي تخلقها آراء صاحب الكفاية في ذهن الطالب».

واستطرد السيد الشهيد في مقام التبرير الثاني قائلاً: «المبرِّر الثاني: إنّ الكتب الأربعة السالفة الذكر لم تؤلَّف من قبل أصحابها لهذا الهدف [أي لم تؤلَّف بوصفها مناهج دراسية]… من هنا لم يحرص في هذه الكتب وأمثالها على إبراز كلّ خطوات الاستدلال وحلقات التفكير في المسألة الواحدة، فقد تحذف بعض الحلقات في الأثناء أو البداية؛ لوضوحها لدى العالم، غير أنّ الصورة حينئذٍ تصبح غير واضحة في ذهن الطالب. وعلى سبيل المثال؛ لتوضيح الفكرة، نذكر: إنّه بُحِثَ في التعبُّدي والتوصّلي عن استحالة أخذ قصد الامتثال في متعلَّق الأمر، وفرّع عليه أن التعبُّدي لا يتميّز عن التوصّلي في مرحلة الأمر، بل في مرحلة الغرض؛ إذ لا يُستوفى غرضه إلاّ بقصد الامتثال، واستنتج من ذلك عدم إمكان التمسُّك بإطلاق الأمر لإثبات كون الواجب توصُّلياً، وهذا لا يصلح أن يكون بياناً مدرسيّاً؛ لأن البيان المدرسي بحاجة ـ لتكميل الصورة في ذهن الطالب ـ إلى إضافة عنصرَيْن آخرين تُركا لوضوحهما، أحدهما: إنّ قصد الامتثال إذا كان بالإمكان أخذه في متعلَّق الأمر فحاله حال سائر القيود، يمكن نفيه بإطلاق الأمر. والآخر: إنّ الخطاب والدليل مدلوله الأمر والحكم، لا الملاك والغرض، وإنّ استكشاف إطلاق الغرض دائماً إنّما يتمّ عن طريق استكشاف إطلاق متعلَّق الأمر مع افتراض التطابق بين متعلَّق الأمر ومتعلَّق الغرض، فحيث لا يتبرهن هذا الافتراض لا يمكن الاستكشاف المذكور.

ومثالٌ آخر من باب التزاحم: إن جلّ أحكام هذا الباب مبنيّة على أخذ القدرة شرطاً في التكليف، وعدم كونه دخيلاً في الإدانة والمنجّزيّة فقط، بينما هذا المطلب لم يبحث بصورةٍ مباشرة، ولم يوضَّح الربط المذكور، بل بقي مستتراً.

وأيضاً أبرزت كيفيّة دلالة المطلق على الإطلاق بصورةٍ مباشرة، بينما لم تبرز كيفية دلالة المقيِّد على أخذ القيد في الموضوع كذلك، وإنّما بُحث ذلك ضمناً خلال بحث حمل المطلق على المقيِّد، وكيفيّة علاج التعارُض بينهما.

ومن هنا [نقول]: لم يراعَ فيها ما يجب أن يُراعى في الكتب الدراسيّة من التدرّج في عرض الأفكار من البسيط إلى المعقَّد، ومن الأسبق رتبةً إلى المتأخِّر، بحيث تعرض المسألة المتفرِّعة ذاتاً في تصوُّراتها على حيثيات مسائل أخرى، بعد أن تكون تلك الحيثيات قد طرحت وبحثت. وعلى سبيل المثال؛ لتوضيح الفكرة: لاحظ بحث توقُّف العموم على إجراء الإطلاق ومقدّمات الحكمة في المدخول، فإنّ تصوُّر هذا الافتراض يستبطن الفراغ مسبقاً عن تصوُّر مقدّمات الحكمة ووظيفتها، بينما يذكر ذلك البحث في العامّ والخاصّ، وتذكر مقدّمات الحكمة بعد ذلك في مباحث المطلق والمقيِّد. ولاحظ أيضاً الشرط المتأخِّر للحكم مثلاً، فإنّ تصوّر المشكلة فيه وتصوُّر حلولها مرتبطٌ بمجموعة أفكار عن الواجب المشروط، وطريقة السير من البسيط إلى المعقَّد تقتضي تقديم هذه المجموعة من الأفكار على عرض مشكلة الشرط المتأخِّر وبحثها، بينما وقع العكس في (الكفاية) وغيرها.

ومثالٌ آخر: إنّ تصوُّر التخيير بين الأقلّ والأكثر، وافتراض استحالته، دخيلٌ في استيعاب قاعدة إجزاء الأوامر الاضطراريّة عن الواقع، فإذا بُحثت هذه القاعدة بعد افتراض تصوُّر مسبق عن التخيير المذكور كان فهمها للطالب وتصوُّرها أيسر.

ومن هنا لم يُراعَ فيها ما يجب أن يُراعى في الكتب الدراسية من توفير فهم مسبق عند الطالب للمسائل والقواعد التي يُستعان بها لإثبات المدَّعى في مسألة أخرى والبرهنة عليها، أو لاقتناص الثمرة الأصولية لها.

فالإطلاق ومقدّمات الحكمة تدخل كدليلٍ لإثبات دلالة الأمر على الوجوب، ولإثبات دلالته على العينية والتعيينية والنفسية، ولإثبات دلالة الجملة الشرطية وغيرها على المفهوم، وهكذا. مع أنّ الطالب في الكتب القائمة لا يُعطى فكرةً عن الإطلاق ومقدّمات الحكمة إلاّ بعد الفراغ عن جميع مباحث الأوامر والنواهي والمفاهيم.

وأحكام التعارض ـ بما فيها قواعد الجمع العرفي ـ قد تدخل في علاج كثيرٍ من ألوان التعارض بين الأدلّة اللفظيّة المستدَلّ بها على حجّية أمارة أو أصل من الأصول، فيُقال مثلاً: «إنّ دليل وجوب الاحتياط حاكمٌ على دليل البراءة، أو واردٌ، وإنّ دليل البراءة مخصَّصٌ»، قبل إعطاء تصوُّرات وأفكار محدَّدة عن أحكام التعارض، وقواعد الجمع بين الأدلّة، التي لا تقع إلاّ في نهاية أبحاث الأصول.

ومسألة اقتضاء النهي للبطلان تدخل عندهم في اقتناص الثمرة من بحث الضدّ؛ إذ جعلوا ثمرة اقتضاء الأمر بشيء للنهي عن ضدّه بطلان العبادة، وفي اقتناص الثمرة من بحث امتناع اجتماع الأمر والنهي؛ إذ جعلوا ثمرة هذا البحث بطلان العبادة، بناءً على القول بالامتناع وتقديم جانب النهي، مع أنّ الطالب لا يدرس مسألة اقتضاء النهي للبطلان، ولا يأخذ عنها تصوّراً عملياً، إلاّ بعد الفراغ عن مسألتي: الضدّ؛ والامتناع.

وهكذا إلى كثيرٍ من هذه النظائر.

ومن هنا لم يُحرَص أيضاً على إبراز الثمرة في كثيرٍ من المطالب التي يتبيَّن من خلالها الارتباط بين تلك المطالب بعضها ببعض؛ فأهملت في كثير من الأحيان أوجه العلاقة بين الأفكار الأصوليّة، ولم يتعرّض لها إلاّ بقدر ما يحتاج إليه في مقام الاستدلال على مطلب أو إبطاله.

فبحث مثلاً المعنى الحرفي وجزئيّته وكليّته، ولكنْ لم يربط ذلك بالتمسُّك بالإطلاق في المعاني الحرفية، وظلّ الطلبة يكرِّرون أنّ البحث في المعاني الحرفية لا أثر له.

وبحث الوجوب التخييري والكفائي بحثاً تحليليّاً، ولكنْ لم يُربَط ذلك بأثره في التمسُّك بالإطلاق أو الأصل العملي عند الشكّ في نوعية الواجب، وبدا كأنّه بحثٌ تحليليّ بحتٌ».

وفي نهاية المطاف يعمد السيد الشهيد إلى بيان خصائص مشروعه على النحو التالي:

1ـ طرح أحدث ما وصل إليه علم الأصول من أفكارٍ ومطالب.

2ـ إنّ الحلقات الثلاثة تحمل جميعاً منهجاً واحداً، تستوعب كلّ واحدة منها علم الأصول بكامله.

3ـ مراعاة المسائل الفنّية في بيان أدلّة كلّ مسألة.

4ـ تجاوز التحديد الموروث تاريخيّاً للمسائل الأصوليّة، وإبراز ما استجدّ من مسائل، وإعطائها عناوينها المناسبة.

5ـ مراعاة العلاقة الطولية بين مختلف مباحث علم الأصول، في كلّ واحدة من الحلقات.

6ـ مراعاة العلاقة الطولية بين مجموع الحلقات الثلاثة فيما بينها، بحيث يتمّ وضع الحلقة الأولى لإعطاء التصوُّرات العلميّة [العامّة والكلّية]، ويتمّ وضع الحلقة الثانية بوصفها حلقة استدلاليّة بحقّ، ولكنْ بدرجة تتناسب معها، وتمثِّل الحلقة الثالثة المستوى الأعلى من الاستدلال، الذي يكفي لتحقيق الهدف المطلوب من دراسة السطح.

7ـ إنّ كلّ حلقة وإنْ كانت تستعرض علم الأصول ومباحثه على العموم، ولكنْ قد تنفرد كلّ حلقة بذكر بعض المسائل الأصوليّة، ولا يعاد بحثها في الحلقة التالية؛ اكتفاءً بما تقدّم.

8ـ عدم إدخال تطوير مهمّ على العبارة الأصولية، وعدم السعي إلى أن تكون العبارة موافقة لأساليب التعبير الحديث. إلاّ ما كان في الحلقة الأولى إلى حدٍّ ما. وأمّا في الحلقتين الثانية والثالثة فقد تمّ الحرص على أن تكون العبارة سليمة ووافية بالمعنى، دون السعي إلى جعلها حديثة. ولهذا جاء التعبير في الحلقتين العاليتين مقارباً في روحه العامّة للتعبير المألوف في الكتب العلميّة والأصولية، وإنْ تميّز عنه بالسلامة والوضوح.

9ـ إنّ الحاجة إلى الأستاذ تكمن في حلِّ التعقيدات المعنوية، وليس في حلّ المعضلات اللفظية.

10ـ إنّ تبنّي وجهة نظرٍ أو طريقة استدلالٍ أو مناقشة برهانٍ [على المستوى الكمّي والكيفي] في هذه الحلقات لا يدلّ على اختيار ذلك [من قبل المؤلِّف] حقّاً.

 

الهوامش

(*) باحثٌ متخصِّص في أصول الفقه الإسلامي، وله مساهماتٌ بحثيّة كثيرة.

([1]) السيد محمود الهاشمي، بحوث في علم الأصول 4: 233.

([2]) دروس في علم الأصول (الحلقة الأولى)، ضمن عنوان: العنصر المشترك بين النوعين.

([3]) انظر: السيد كاظم الحائري، مباحث الأصول 1: 476 ـ 570؛ الشيخ حسن عبد الساتر، بحوث في علم الأصول 8: 308 ـ 363.

([4]) الهاشمي، بحوث في علم الأصول 7: 9.

([5]) انظر: المعالم الجديدة: 46 ـ 98.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً