حوار مع د. مصطفى ملكيان(*)
تعريف الدين ـــــــ
_ في البداية لو تفضلتم بذكر تعريفكم للدين.
^ إن تعريف الكثير من الأمور والظواهر، وخاصة الدين، يعتبر عملاً محالاً. والأفضل في رأيي أن نقول، بدل تعريف الدين: تعيين مرادنا من الدين، بمعنى أننا عندما نتحدث في كلامنا عن الدين فما هو مرادنا بشكل دقيق من هذه الكلمة؟ ومع الالتفات إلى هذه المسألة يمكن القول: إن الدين هو نظام للفكر يقدم تفسيراً لعالم الوجود، ومكانة الإنسان من عالم الوجود، بالإضافة إلى ذلك، وعلى أساس هذا التفسير، فإنه يملك توصيات خاصة في كيفية السلوك في الحياة، وذلك التفسير وهذه التوصية يتجليان في مجموعة من المناسك والشعائر الرمزية. وهذا التعريف في الواقع يتضمن الوظائف الثلاث للدين.
_ نرجو التوضيح أكثر لهذا التقسيم.
^ أقول بشكل مبسط: إن الشيء الذي يسمى في الدين بالعبادات (من قبيل: الصلاة، الصوم، الحج، و…) هو صورة رمزية للتفسير الذي يراه الدين لعالم الوجود، ومكانة الإنسان من ذلك العالم، والتوصية بنمطٍ خاص من الحياة. والتعريف الذي طرحتُه للدين هو تعريف وظيفي، أي بيّنتُ فيه وظيفة الدين، وقلتُ: إن وظيفة الدين هي أنه يتولى هذه المهمة، ولكنني لم أطرح تعريفاً جوهرياً للدين، ولم أقل ما هو التفسير الذي يطرحه الدين لعالم الوجود، ومكانة الإنسان منه، ولم أقل ما هي التوصية بنمط خاص للحياة، أو ما هي المناسك والشعائر الرمزية التي يتجلى فيها ذلك التفسير وتلك التوصية. وبعبارة أخرى: إنني في هذا التعريف لم أتطرق إلى المضمون الداخلي للدين، بل كنت ناظراً لمهمة الدين ووظيفته في واقع الحياة.
المعنوية، رؤية خاصة للعالم والإنسان ــــــ
_ موضوعنا يدور حول العلاقة بين الدين والمعنوية، وعليه فلو كنت ترى تعريفاً أو فهماً خاصاً للمعنوية فالرجاء بيانه.
^ حسب قراءتي ورؤيتي للمعنوية فإنها عبارة عن مواجهة الإنسان لعالم الوجود، وفي هذه المواجهة يعيش الشخص بشكل عام نوعاً من الشعور بالرضا الباطني في حياته. فالكثير من الأشخاص ـ ومنذ بداية حياتهم وإلى نهايتها ـ يعيشون دائماً حالات نفسانية غير مريحة وغير مطلوبة، فهؤلاء يعيشون الألم والمعاناة في حالاتهم النفسانية هذه، مثلاً: يشعرون دائماً بحالة من القلق والاضطراب والحزن، والهم والغم، واليأس، والشعور بالحقارة والدونية، والإحساس باللاهدفية والعبثية طيلة مسيرة حياتهم، فهم يواجهون تعقيدات وأزمات في حياتهم دائماً، وفي تقديري أن المعنوية هي شكل من أشكال المواجهة والرؤية لعالم الوجود تنتج التخفيف من الأزمات الروحية، أو عدم ظهور تلك الحالات السلبية بالمقدار الممكن، وعليه فالمعنوية نحو من المواجهة التي إذا حصل عليها الإنسان فإنه سيعيش الراحة الباطنية والرضا القلبي والهدوء الروحي، بعيداً عن أشكال الاضطراب والقلق واليأس. وفي الواقع فأنا أعرّف المعنوية بمعطيات المعنوية ونتائجها، وقلتُ: إن نتيجة هذه المعنوية أن يعيش الإنسان بحالة من الرضا النفسي والاستقرار الباطني في حياته، وبالطبع فهذا الرضا الباطني قد ينسجم مع اعتقاد الشخص بأن هذه الحياة تنحصر بهذه الدنيا، وكذلك ينسجم مع اعتقاده بوجود حياة بعد هذه الحياة، رغم أن المعنويين في العالم بشكل عام يعتقدون بوجود حياة بعد الموت، وبأشكال مختلفة للبقاء، ولكن على أية حال إذا عاش الشخص في هذه الدنيا بحالة من الرضا الباطني والطمأنينة القلبية فهذا هو المطلوب، والأشخاص المعنويون يعيشون هذه الحالة عادةً.
العلاقة بين التدين والمعنوية ــــــ
_ لقد عرّفتم الدين من خلال ذكر وظيفته في الحياة، وعرّفتم المعنوية من خلال بيان معطياتها وآثارها في الحياة، وبما أن قسماً كبيراً من وظائف الدين يرتبط بالمسائل الروحية والمعنوية فما هو تأثير الدين على معنوية الإنسان؟ هل يمكن أن يكون الشخص معنوياً بدون أن يكون متديناً؟
^ إن الإجابة عن هذا السؤال ترتبط بشكل تام برؤيتنا للتدين وتصورنا عنه، فإذا كان المقصود من التدين التدين التاريخي، ويكون مقصودك: هل يستطيع الإنسان أن يتحرك في مسار المعنويات وفي ذات الوقت لا يكون منتمياً أو ملتزماً بأي دينٍ من الأديان العالمية، كأن لا يكون مسلماً أو يهودياً أو مسيحياً، فجوابي هو: نعم. وبعبارة أخرى: إن الإنسان يمكنه أن يكون معنوياً وغير متدين، فيمكنه أن لا يرتبط بأية رابطة قلبية وعاطفية بأي من الأديان الشرقية والغربية، ولكن في ذات الوقت يعيش حالة الرضا الباطني في حياته.
وأما لو لم يكن مقصودكم من الدين المعنى التاريخي، بل بوصفه مجموعة من العقائد والعواطف والميول التي تتجلى بأشكال مختلفة في الأديان والمذاهب الموجودة في العالم، ففي رأيي أن المعنوية تعد خلاصة وعصارة جميع الأديان. وببيان آخر: إن جميع الأشخاص الذين يلتزمون بالتدين التاريخي لا يصلون إلى عمق هذه الأديان. وعليه يمكن أن يكون الإنسان متديناً، ولكنه يعيش بعيداً عن المعنوية، ولا يعتبر إنساناً معنوياً.
ومن جهة أخرى فإن هذا الكلام لا يعني أن جميع الأشخاص المعنويين، والذين توصلوا إلى عمق وحقيقة الأديان، يلتزمون بظاهر الأديان التاريخية على المستوى النظري والعملي أيضاً؛ لأنه من الممكن أن يكون الإنسان متديناً ولكنه غير معنوي، أو يكون معنوياً ولكنه غير متدين.
ولكن الإنصاف أن أكثر الأشخاص المعنويين على امتداد التاريخ يعيشون الارتباط والانتماء لأحد الأديان التاريخية، بالرغم من أن رؤيتهم وقراءتهم للدين التاريخي تختلف عن رؤية العوام من الناس لذلك الدين، وكأن جمهور الناس في الأزقة والشوارع إنما يرتبطون عاطفياً بالقشرة لذلك الدين، والمعنويون في كل دين يرتبطون بعمق وجوهر ذلك الدين بدلاً من قشرته، وبهذا المعنى فإن جميع المعنويين لا يكون تدينهم بالمعنى السائد من التدين لدى عوام الناس.
وكذلك فإن جميع المتدينين الذين يرتبطون بالدين التاريخي ليس بالضرورة أن يكونوا معنويين. وبعبارة أخرى: إن المعنوية تمثل جوهر الدين لا قشرته، ومن هذه الجهة يمكن القول: إن الأشخاص الذين يرتبطون بالدين برابطة اسمية وظاهرية ليس بإمكانهم الوصول إلى ذات الدين، ولا الوصول إلى عمق الحالة الدينية.
_ هل لكم أن تبينوا ذلك من خلال مثال ملموس؟
^ مثلاً: إنّ الأشخاص الذين يعيشون الانتماء لأحد الأديان العالمية ليسوا بقليلين،والذين يتحركون على مستوى الانتحار ليسوا بقليلين أيضاً، وفي الكثير من موارد الانتحار هناك شواهد على وجود حالة اليأس، في حين أنّ الإنسان المعنوي لا يواجه مثل هذه الحالة أبداً، وعليه ربما يكون الإنسان منتمياً لأحد الأديان العالمية، ولكنه لا يعيش المعنوية بمعناها العميق؛ لأن الشخص المعنوي بالمعنى العميق للكلمة هو الذي يعيش، برغم جميع المشكلات والشدائد والتحديات الصعبة التي يفرضها الواقع في حركة الحياة، حالة البهجة والهدوء الروحي والرضا الباطني بشكل كبير.
_ هل مقصودكم من هذا الكلام أن المعنوية لا تنفك عن الدين، مع العلم بأن العوام من الناس لا يصلون إلى المعنوية، بخلاف الخواص؟
^ إذا كان مقصودكم من عوام الناس أكثر الناس، وليس الجهلاء فقط، فكلامكم صحيح. مثلاً: هناك أشخاص وصلوا إلى مراتب عالية في الدراسات الأكاديمية، وحصلوا على شهادات جامعية، ولكنهم لم يصلوا إلى المعنوية. ومن جهة أخرى فالأشخاص الأميون الذين وصلوا إلى المعنوية ليسوا بقليلين، وعليه لا ينبغي استخدام مصطلح العوام والخواص؛ لأنه لا يصح حصر الوصول أو عدم الوصول إلى المعنوية بامتلاك الفرد لمجموعة من المعلومات الخاصة، بل ينبغي القول: إن أكثر المتعلقين بالدين والمذهب لا يصلون إلى جوهر المعنوية بالمعنى العميق للكلمة، بل الأقلية هي التي تصل إليها. وهذه الأقلية يمكنها أن تكون من المتعلمين والنخبة، ومن الممكن أن يصل الإنسان إلى المعنوية وفي ذات الوقت لا يملك معلومات خاصة أو يكون أمياً، ولكن كما قلت: إن هؤلاء يمثلون أقلية في المجتمع.
العلاقات الاجتماعية للإنسان المعنوي ــــــ
_ إذا توصل الناس إلى عمق الدين، أي أنهم صاروا معنويين تماماً، فما هو تأثير مثل هذا الدين على حياة الناس؟ وهل في هذه الصورة تتحقق المدينة الفاضلة كما يقال؟
^ أنا لا أعتقد بظهور مدينة فاضلة على الكرة الأرضية، رغم أن مثل هذا المجتمع مطلوب ومحبذ، ولكن ليس كل شيء مطلوب يمكن تحقيقه، فكل إنسان طالب للحق يحب أن يرى مثل هذا المجتمع ويعيش فيه، ولكن رغبتنا تختلف عما يقع في الخارج. وبالإمكان طرح سؤالك بهذا الشكل، وهو: إذا كان هناك أشخاص في المجتمع يعيشون المعنوية فما هو الفرق بين معيشتهم ومعيشة الأشخاص غير المعنويين؟
في تقديري أن العلاقات الاجتماعية التي يعيشها الإنسان المعنوي تقوم على أساس ثلاثة أركان أو أصول: «العدالة»، «الإحسان»، «المحبة»، وبالطبع فإن الإنسان في المراتب الدانية من المعنوية يتعامل مع الآخرين على أساس العدالة، وعندما يرتفع ويتسامى في المدارج المعنوية فإنه سوف ينتقل إلى الإحسان، وفي المرحلة الأخيرة يصل إلى المحبة والعشق.
_ كيف تدخل العدالة والإحسان والمحبة إلى حياة الإنسان؟ لو تتفضَّلون بمثال لتوضيح هذه المسألة؟
^ مثلاً: عندما أريد أن أسترجع حقي منك، ولا أرضى بأقل من ذلك، ولا أطمع بذرة أكثر من حقي، بمعنى أنني أطلب منك حقي فقط، ولا أرغب في تجاوز هذا الحد، والتعدي إلى حقك، فهذا يعني أنني أسلك في علاقتي معك على أساس العدالة. ولكن الإنسان عندما يبلغ من الناحية المعنوية أكثر من هذا الحد من النمو والرشد فإنه لا يكتفي بإحراز العدالة فقط، بل يتجاوزها إلى مرحلة أعلى منها، وهي الإحسان، بمعنى أنه يغض نظره عن بعض حقوقه أيضاً، ويسمح أن يتخلى عن هذا الحق للآخرين.
ولكن هناك مرحلة أعلى منها أيضاً، وهي أنني لا أكتفي بالعدالة والإحسان فقط، بل أتحرك في تعاملي مع الآخرين على أساس المحبة والعشق. والفرق بين العدالة والإحسان وبين المحبة أن العدالة والإحسان أمران يقعان في دائرة (الموضوعي)([1])، وفي الموضوع الخارجي، وتتجلى في السلوكيات الخارجية للإنسان، وأما المحبة فهي أمرٌ باطني و(ذاتيّ)([2])، أي أعيش تجاهك حالة باطنية. قد لا أشعر نحوك بذرّة من الحب والمودة، ومع ذلك أشعر بأن وظيفتي الأخلاقية أن لا أعتدي على حقوقك، بل أحياناً أتعامل معك من منطق الإحسان، ولكنّ الأهم من ذلك أن أتعامل معك بمنطق المحبة والعشق.
ولنفترض طبيباً يجري عملية جراحية لأحد المرضى، ويمارس عمله هذا بوجدان يقِظٍ، ولا يقصِّر في عمله، فهذا يعني أن سلوكه ينطلق من موقع العدالة، ولكن عندما يجري عملية لابنه، فإنه مضافاً إلى الأعمال الخارجية التي يقوم بها، يشعر بالحب يغلي من أعماق قلبه نحو هذا الابن. والإنسان المعنوي عندما يصل إلى مرتبة الحب فإنه يرى أن جميع أفراد البشر كأبنائه، فكلام الشخص الذي يقول: «إنني عاشق لجميع الموجودات في العالم، لأن هذه الموجودات صادرة منه» ليس سياقاً شعرياً، بل إنه يعيش المحبة حقيقة تجاه العالم. وعلى حد تعبير الشيخ أبي الحسن الخَرَقاني([3]): «إذا شعر إنسان من تركستان إلى بلاد الروم بوخزة في قدمه فإني أتألم أيضاً». وهذه هي المحبة الشاملة.
وعندما تقول رابعة العدوية([4]): «في يوم القيامة أقف على حافة جهنم، وأقول: كل شخص يريد الدخول إلى جهنم فعليه أن يضع ذنوبه وآثامه عليّ ويتخلص منها، فأنا مستعدة أن أتحمل ذنوب جميع الناس وأتعذَّب من أجلهم». فهذا الكلام، وإن كان باللحاظ الميتافيزيقي، ومن جهة العقائد الدينية، أشبه ما يكون بالمزاح، ولكن هناك فكر يقف وراءه، وهو أنني أشعر بآلام جميع البشر وأتألم لهم؛ لأنني أحب جميع الناس، ومستعدة لأتحمل عذاب جهنم بدلاً عنهم. ومن هذه الجهة يسعى الإنسان المعنوي للتخفيف من آلام الناس ومعاناتهم.
علاقة الإنسان المعنوي بنفسه ــــــ
_ لقد ذكرتم في كلامكم صورة عن سلوك الإنسان المعنوي مع محيطه الخارجي ومع المجتمع، والآن لو تتفضّلون ببيان كيفية سلوك الإنسان المعنوي مع نفسه.
^ إن الإنسان المعنوي في علاقته وسلوكه مع نفسه يختلف أيضاً عن سائر الناس، فالإنسان المعنوي في ذات الوقت الذي لا يرى نفسه أعلى من الآخرين فإنه يحب نفسه بشدّة، وهذا نوع من (محبة الذات المعنوية). وهذا المعنى يختلف عن حبّ الذات السلبي، فعندما نقول: إن هذا الإنسان يحب نفسه فالمقصود أنه لا يعيش الحالة المعنوية، في حين أن المعنويين في العالم هم أكثر الناس حباً لأنفسهم، ويعتبرون لِذاتهم قيمة لا محدودة، ولهذا السبب فإنهم يهتمون بشدّة بمراقبة سلوكياتهم،وعدم صدور كل ما من شأنه أن يلحق الضرر بهذه (الذات) الثمينة التي في أيديهم وتحت اختيارهم.
عندما نتعامل مع الآخرين بمنطق الظلم والعدوان لا يعني ذلك أن هذه السلوكيات تنطلق من واقع حب الذات، بل بدوافع (كراهية الذات)، بما يحوّل داخل الإنسان إلى عقدة في نهاية المطاف. وفي رأيي لا ينبغي أن نقول للناس: لا تحبوا أنفسكم؛ إذ على حد تعبير القرآن فإن كل إحسان تقدمه إلى الآخرين فإنك في الواقع تقدمه لنفسك، وكذلك كل ظلم تلحقه بالآخرين فإنك بالواقع تظلم نفسك. ومن هنا فإن مصدر الأزمة في مجتمعنا يتمثل في الأشخاص الغافلين عن أنفسهم، ولا يكتفي القرآن بأنه لا ينظر بنظرة إيجابية للغفلة عن الذات، بل يرى هذه الحالة أكبر عقوبة إلهية للغفلة عن الله >نَسُوا الله فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ< (الحشر: 19).
خصائص الإنسان المعنوي ــــــ
_ ما هي الخصوصيات الأخرى للإنسان المعنوي؟
^ بما أن الإنسان المعنوي يحب ذاته فإنه لا يقنع بحالته الفعلية، ويسعى دائماً لتحقيق المزيد من الكمال الأخلاقي والمعنوي، والوصول إلى مرتبة أرقى وأفضل. ومن هذه الجهة فالإنسان المعنوي لا يتجمد أبداً عند نقطة معينة، أي إنه يعيش القلق أمام قضية مصيره ومستقبله، ويسعى للتوصل إلى وضعٍ أفضل.
والخصوصية الأخرى للإنسان المعنوي هي أنه لا يضيق ذرعاً بالصعوبات والشدائد التي يفرضها الواقع الخارجي عليه، ويواجه هذه الآلام بمنطق الصبر والتحمل. يقول الإمام جعفر الصادق × عن أنصار الإمام الحسين ×: «إنهم ـ والله ـ لم يشعروا بألم الحديد على أبدانهم»، ومعنى هذا الكلام أن الإنسان عندما يعيش المعنوية فإنه يحتمل الألم الذي لا يقدر الإنسان العادي على تحمله برحابة صدر؛ لأنه يعيش الهدفية، ويرى للحياة معنىً خاصاً، وذلك يدعوه للانسجام أكثر مع الهدف الذي يعيش من أجله.
والخصوصية الأخرى للإنسان المعنوي أنه يرى نفسه المسؤول الوحيد عن تقرير مصيره، وعليه فإنه لا يتمسك بأية ذريعة لإلقاء التقصير على الآخرين، بينما الإنسان العادي يحاول إلقاء جميع القصور والتقصيرات بعهدة الآخرين. الإنسان
المعنوي كلما سار وتقدم في خط المعنويات فإنه يشعر أنه يصوغ نفسه بنفسه وأنه يخلق شخصيته، فإذا رأى نفسه مقصراً في أحد الموارد فإنه يحسّ بأنه مسؤول عن ذلك. وعندما نقرأ في الحديث النبوي أن «أعدى عدوك نفسك التي بين جنبيك» فهذا ناظرٌ إلى هذا المعنى بشكل دقيق، فكما أنه لا يوجد لنا عدو سوى أنفسنا، فإنه لا صديق لنا سوى أنفسنا أيضاً، ولذلك تقع مسؤولية جميع أعمالنا وسلوكياتنا على أنفسنا.
_ كيف يمكن التمييز بين هذه الحالة وحالة الأنانية والعُجب؟
^ إن الإنسان المعنوي لا يعيش الأنانية أو العجب غير المعقول، ولا يتصور أنه قطب دائرة الإمكان، وأن كل شيء يدور حول محوره. الإنسان المعنوي يقول: أنا لا شيء بالنسبة للعالم، ولكنني بالنسبة لنفسي كل شيء. وعليه فلا يوجد قياس ونسبة بينهما، وعندما لا تكون هناك نسبة وقياس مع الأشياء الأخرى سيكون الإنسان المعنوي كل شيء.
علاقة الإنسان المعنوي بالطبيعة والمحيط ــــــ
_ تحدثتم عن العلاقات والمناسبات الاجتماعية والفردية للإنسان المعنوي، فماذا عن علاقة الإنسان المعنوي مع الطبيعة؟
^ إن الإنسان المعنوي أقل الناس استهلاكاً وأكثرهم إنتاجاً في العالم المحيط به، حيث يعيش بأقل نفقات، وينتج أكثر لعالم الوجود، وبهذا المعنى فإن استهلاكه في الحد الأدنى وبذله في الحد الأقصى.
_ هل بإمكان الأشخاص الذين يصلون إلى عمق الدين والمعنوية المساهمة في إقامة حوار عالمي؟
^ أعتقد أن أتباع الأديان المختلفة، كاليهودية والمسيحية والإسلام، أو الهندوسية والبوذية، حالهم حال متسلقي الجبال الذين يرومون الوصول إلى قمة الجبل، فما داموا يعيشون على سطح الأرض فثمة فاصلة كبيرة فيما بينهم، ولكن كلما اتجهوا إلى الأعلى، وتسلقوا الجبل للوصول إلى قمته، فإن الفاصلة ستقل شيئاً فشيئاً، وعندما يصلون إلى القمة سيلتقون، وتصل الفاصلة بينهم إلى الصفر، وهذا المعنى إنما يتحقق بشرطين:
1ـ أن يكون هدف الجميع الوصول إلى قمة واحدة.
2ـ أن يتحركوا عملياً من أجل تحقيق هذا الهدف.
وحال أتباع الأديان كذلك، فما داموا يعيشون في أجواء الفقه فإنهم يعيشون فواصل بعيدة فيما بينهم، ولكن عندما يرتفعون إلى مستوى الأخلاق، ويَلِجون دائرة القيم الأخلاقية للدين، فإن الفاصلة ستقل فيما بينهم، وعندما يصلون إلى مرتبة الاعتقادات فستقل الفاصلة بينهم أكثر، وعندما يَلِجون دائرة التجربة الدينية التي تعتبر قمة الجبل فإن الفاصلة ستصل إلى الصفر. ولكن بما أن أكثر الناس يعيشون في المرتبة الأولى، وهي مرتبة الفقه والشريعة، وبعضهم يعيش مرتبة القيم الأخلاقية، فإنهم يعيشون فواصل شاسعة فيما بينهم. ولكن كما ذكرت آنفاً عندما يصلون لمرتبة التجربة الدينية سيلتقون حينئذٍ، ولا تفصل بينهم أية فاصلة. وهنا يجلس ابن عربي وجلال الدين الرومي والعطار من عرفاء الإسلام إلى جانب عرفاء مسيحيين، مثل: مايستر اكهارت([5])، رويس بروك([6])، مارجارت بوريت([7])، وهادويج([8])، والعرفاء الهندوس مثل: شانكارا([9])، وراما نوجه([10]). ولا شك عندي أننا إذا التزمنا بصدق وجدية بالدين والمذهب، وتحركنا في هذا الطريق إلى نهايته، فسوف نصل إلى مكانٍ واحد. وفي هذه الصورة ستتحقق الوحدة الثقافية. وبعبارة أخرى: إذا سار أتباع جميع الأديان والمذاهب في خط المعنوية بشكل جاد فلا شك أن ذلك من شأنه إزالة الكثير من أشكال الفرقة والتمايز، وتحقيق الحد الأكثر من التوحد والانسجام والتجانس في المجال الثقافي والديني. إن الثقافة العالمية الواحدة لا تتحقق إلاّ إذا كانت لدينا ثقافة معنوية واحدة. وكل إنسان معنوي يطمح بالوصول إلى ذلك المستوى.
ينبغي أن نعمل على التوفيق بين طموحاتنا والواقع المعاش، وننظر بنظرة واقعية، ولا نتصور أن هذا الطموح سيتحقق قريباً. وفي رأيي أن أكبر عمل يمكننا تحقيقه في الوقت الحاضر لأنفسنا ومجتمعنا هو أن نتحرك على مستوى الاهتمام بإنجاز مشروع العقلانية والمعنوية بشكل متزامن؛ لأن المجتمعات البشرية وعلى طول مسارها التاريخي كانت تتحرك إما في خط المعنوية على حساب اهتزاز وضمور العقلانية، أو بالعكس، وبالتالي لم يصلوا إلى تحقيق العلاقات الإنسانية السليمة والرضا الباطني، فلو أن جميع أتباع الأديان المختلفة في العالم التزموا بصدق بتعاليم دينهم وقيمهم فلا شك أنهم سيصلون إلى مكانٍ واحد([11]).
الهوامش
(*) أستاذ جامعي بارز، أحد أكبر منظري الإصلاح الديني في إيران اليوم، يحمل نزعةً إيمانية لا تركّز على مفردات العقيدة بقدر مبدأ العلاقة الروحية، له نقد على نظرية القبض والبسط، مترجم عن اللغات الأجنبية.
([1]) «Objective»: الموضوعي، غير ذاتي، غير متحيّز، ملموس مدرك بالحواس ظاهر، و…
إن لفظة «Objective» تعني في الدلالة الأوليّة، وبشكل عام، ما يوجد بمعزل عن الذات. وعندما يطبّق هذا المفهوم على الموضوعات الواقعيّة فإنّه يعني أنّ الموضوعات وصفاتها وعلاقاتها موجودة خارج الإنسان، ومستقلّة عنه. والعالم الموضوعي هو العالم الذي يشكّل موضوع معرفة موضوعية. وهذه المعرفة هي معرفة لها قيمة كليّة، وتعمل وفقاً للقوانين الضرورية، وتجد نفسها بالتالي قائمة بمعزلٍ عن إحساساتنا وعن وجهة نظرنا الخاصة.
أما في المفهوم الديكارتي «Rene Descartes» (1650م) فمصطلح «Objective» يعني ما هو موضوع أمام الذّات. فكل ما نتصوّره، ولو كان معطى من معطيات المخيّلة، يمكن أن يقال فيه: إنه «موضوعي»، ولو أنّ هذا التصوّر لم يكن يقابله أي شيء فعلي أو واقعي في العالم الخارجي.
([2]) «Subjective»: فاعلي (متعلق بالفاعل)، شخصي، ذاتي، غير موضوعي.
«Subjectivism»: المذهب الذاتي أو الذاتانيّة مذهب فلسفي يقول بأن المعرفة كلها ناشئة عن الخبرة الذاتيّة أو التقدير الشخصي. وقد استخدم هذا المذهب في الفلسفة استخداماً غامضاً. وعندما يقال عادة عن رأي إنه «Subjective» فهذا يعني للمستمع أن «صدق» هذا الرأي إنّما يرتبط أو يقوم على الحالة العقلية، أو على استجابات الشخص الذي يصوغ العبارة. ففي مبحثي «الأخلاق والجمال» عندما نقول عن شيء ما: إنّه خير أو جميل، وإنّما نعبّر عن استجابة الشخص القائل بالنسبة إلى ذلك الشيء، دون أن نقول شيئاً عن خصائص الشيء «Objective» ــ الموضوعية ـ. وبهذا المعنى كان الفيلسوف اليوناني بروتاغوراس «Protagoras» (485ق.م) يقول: «إنّ الإنسان هو مقياس كل شيء». وقد لاحظ الفنان والمفكر الإيطالي بيرانديللو «Pirandello» (1936م) أن الخير في نظر أحدهم قد يكون الشر في نظر آخر، فكتب مسرحيّته الشهيرة «لكلٍّ حقيقته»، وهي تدور حول «نسبيّة» الحقيقة.
ويتعارض المذهب «Subjective» الذاتي مع المذهب «Objective» الموضوعي (الذي يردّ حالاتنا الباطنة إلى سبب خارج عنّا).
([3]) علي بن أحمد الشهير بأبي الحسن الخَرَقاني (425هـ): من أشهر متصوفة القرن الخامس، وهو من قرى خَرَقان التابعة لمدينة بسطام الشهيرة، يصفه الشاعر والمتصوّف عطّار النيشابوري (607هـ) في تذكرة الأولياء: «ولـه مع الله تعالى مقام الانبساط». ومن أقواله، وأيضاً عن تذكرة الأولياء: «ينبغي أن يكون في قلبك أمواج يلتهب النار منها، وتحرقُ جسدك ونفسك، ثم ينبتُ من الرماد شجرتها البقاء، فإذا أكلت من تلك الشجرة تجدك فانياً في التوحيد». ينسب إليه: ذكر قطب السالكين، ومنتخب (خلاصة) رسالة نور العلوم.
([4]) رابعة العدوية (135هـ)، متصوّفة من البصرة، تنسَّكت واشتهرت بأخبارها في العبادة، عبّرت في شعرها وأدبها عن حب لله نابع من الشوق إليه، والتطلع إلى استجلاء جماله الأزلي. أدخلت على التصوّف فكرة الحبّ الإلهي، بدلاً من الخوف والرهبة.
([5]) «Meister Eckhart» (نحو 1327م).
([6]) «John of Ruysbroeck» (1381م).
([7]) «Marguerite Porete» (1310م).
([8]) «Hadewijch» (أوائل القرن الثالث عشر).
([11]) انظر: مصطفى ملكيان، مشتاقى ومهجورى، گفت وگوهايى در باب فرهنگ وسياست (الشوق والهجران، حوارات في الثقافة والسياسة): 276 ـ 284، طهران، 2006م، نقلاً عن حوار أجرته معه صحيفة (آفتاب يزد)، في طهران، عام 2000م.