أحدث المقالات

قراءة في المنهج التفسيري للسيد فضل الله

أ. برير السادة(*)

مقدمة

رغم كل ما يقال عن المنهج التفسيري وضوابطه التي تبقيه على تماس مع النص القرآني، فإنه يبقى أسير المنهج الفكري للمفسر بمقدارٍ ما. فمع أن الضوابط التفسيرية مهمة في الحفاظ على الإطار الجامع والمشترك التفسيري لمجمل التأملات القرآنية، غير أنها غير قادرة على تفكيك المنهج التفسيري عن المنهج الفكري. ترى الهرمنوطيقا أن هناك علاقة تبادلية بين النص والقارئ «والقراءة ليست قراءة النص فقط، بل هي قراءة الذات نفسها؛ لأن القراءة تنعكس في اتجاه الذات أيضاً بفضل التأثيرات النصية، وتفرض على الذات النظر في مسلماتها وافتراضاتها المسبقة.. وهي أيضا سيرورة لإنتاج المعنى والفهم، ترتكز بالفعل على المخزون الثقافي الخاص بكل قارئ»([1]).

من هذا المنطلق تتعدد صور التفاسير وتتنوع تبعاً لمنهج المفسر، رغم خضوعها لضوابط التفسير العامة. فمن الإعجاز البلاغي للقرآن، لعبد القاهر الجرجاني، إلى الإعجاز العلمي في القرآن، للدكتور زغلول النجار ومحمد البار… ويرى الدكتور أحميدة النيفر أن علاج هذه المشكلة يكمن في بعدين: الأول: التمايز بين ما ينتجه المفسر وبين الفهم الحقيقي لكلام الله تعالى؛ والآخر: الجدل بين الوحي والتاريخ في مستوى المدونة التفسيرية، وفي مستوى النص القرآني نفسه([2]).

ولعل واحدة من التجارب التفسيرية الجملية التي اصطبغت بالحركة الرسالية والنضال من أجل الحرية والكرامة تجربة السيد فضل الله، التي سعت لتوظيف مجمل النتاج الديني وربطه بالحركة الرسالية. فالسيد فضل الله يرى أن الحركة الرسالية تعيش نفس ظروف البعثة النبوية، وتواجه نفس التحديات في أشكال جديدة تواكب التطور الزمني الذي نتجت فيه.

القراءة التي سنقوم بها ليست واسعة وشاملة لمجمل النتاج التفسيري للسيد فضل الله، بل هي مستوحاة من كتاب حركة النبوة في مواجهة الانحراف، وهو محاضرات تفسيرية في السور الثلاث: يونس؛ هود؛ يوسف، وهي محاضرات مبسَّطة كما يقول عنها: «وقد تابعت تفسير القرآن… بأسلوب شعبي مبسَّط كمحاولة لتوعية الناس بالمفاهيم القرآنية، بحيث يتفهمونه بشكل منفتح قريب إلى أفهامهم»([3]).

تميزت هذه المحاضرات بسهولتها، وبُعدها عن المصطلحات العلمية، والبحوث اللغوية، وأسباب النزول، والبحث الروائي… وسعت لملامسة الواقع في كل نقاط التماس؛ لكونها بحوثاً غير تخصصية، تهدف إلى الاستهداء بالقرآن الكريم في حركة الحياة. يقول في هذا الصدد: «الدور دوركم أنتم، أنتم خلفاء الماضين، جئتم بعدهم، ورثتم أرضهم، وأخذتم دورهم، سيطرتم على الأجواء التي كانوا يسيطرون عليها، سرتم في الدروب التي ساروا فيها، نزلت عليكم الرسالات كما نزلت عليهم..، لا تجلسوا لتتجمدوا أمام تجاربهم، خذوا الدرس منهم، واستغرقوا في دوركم أنتم..»([4]).

مميزات المنهج التفسيري

1ـ حيوية النص في الحركة الرسالية

يستعيد السيد فضل الله مفردة الحركة في العديد من نصوص هذا التفسير. وهو يؤكد بهذا على أن حياة المؤمن حركة نضالية باتجاه التوحيد ومبادئ الإسلام وتعاليمه. فالحركة الرسالية في رؤية السيد فضل الله أقدر على فهم النص القرآني؛ لكونها تواجه نفس التحديات، والفتن، وآلام المرحلة.. إنها تتذوق وتستشعر الوحي الإلهي للخلاص، «ودائماً يطلب الله تعالى من الإنسان أن يحرك فكره في كل شي، وأن لا يستغرق في خياله وأوهامه، فإذا حرك فكره قاده إلى حقائق الأشياء..، وإذا عرف حقائق الأشياء فإنه سيعرف حتماً الطريق إلى الهدى»([5]). ويقول عن الصبر وأهميته في حياة الإنسان الرسالي: «وهذا أيضاً ما يريد القرآن أن يقدمه كدرس لرسول الله’ عندما كان يعيش المشاكل الصعبة في مكة، خاصة إذا ما عرفنا أن سورة يوسف هي سورة مكية، نزلت على النبي حيث كانت الصعاب تحاصره وتتحداه في دعوته، ولهذا فإن سورة يوسف هي السورة التي تعطي الإنسان دروس الصبر، الصبر على الطاعة، والصبر عن المعصية، والصبر على كل ما يبتلى به الإنسان»([6]). ولكن أين تكمن هذه الحيوية؟ لاشك أنها تتمثل في الحضور الزماني والقدرة على استيعاب المفاهيم المعاصرة، والتعاطي مع الواقع بصورة تلبي حاجات الإنسان. «وتؤكد التأملات المعاصرة في النص القرآني حيويته، وقابليته للتجدد، ومرونته في مواجهة التحديات، لتقرر جهود المعاصرين أن ذلك النص لم يُفْضِ لنا بكل أسراره حتى الآن»([7]). فحيوية النص سمة بارزة في المنهج التفسيري عند السيد فضل الله. فهو يرى أن النص القرآني حاضر بكل أبعاده الرمزية والدلالية والروحية في مسيرة الإنسان في كل زمان ومكان. لهذا دائماً ما يؤسِّس لعلاقة معرفية بين النص والقضايا المعاصرة. يقول في تفسير سورة آل عمران: «لأن قيمة القرآن في نقل القصة أنه يحشد أمامنا الأجواء الروحية التي كان يعيشها المسلمون كما لو كنا نعيشها في ذلك العصر. إنه ينقل لنا التجربة حيّة، وينقدها وهي تتحرك في مراحلها المتقدمة. وهكذا نجد في هذه السورة الكثير من الإيحاءات الروحية والعملية، وطريقة التعامل مع الآخرين من أهل الكتاب، وذلك في ما ترصده من حركاتهم وأوضاعهم؛ من أجل أن تخلق في نفوس المؤمنين المزيد من الوعي العملي عندما يتحركون في ساحة العمل معهم ومع غيرهم، ثم توحي للمؤمنين بأن سبيل الانتصار والنجاح في الحياة لا يحصل بالاسترخاء والتواكل والكسل والاستغراق في غيبوبة صوفية بعيدة عن الواقع، بل بالعمل الجادّ المتحرك الذي يلاحق الحياة من خلال أسبابها الطبيعية التي أودعها الله فيها في ما أودعه من قوانين الحركة في هذه الحياة»([8]).

2ـ مقاربة النص والواقع

لاشك أن الاستغراق في البحوث والدراسات العلمية الخاصة يحيل التفسير إلى نصوص مشفَّرة تستلزم فك رموزها وإعادة قراءتها، الأمر الذي يحيل النص القرآني المقدس إلى رفوف المكتبات، وخزائن التاريخ، وبطون الكتب، بل ويحصر فهمه بطبقة ونخبة معينة. وهنا ثمة إشكالية تحيط هذه الدراسات، تغرقها في الموسوعات والقواميس اللغوية والفلسفية والروائية، فهي من جهة تغرق في المصطلحات والمفاهيم، ومن جهة تزيد من حجم المسافة بين الواقع والنص القرآني، فتحيله نصّاً معقَّداً، يستلزم أدوات خاصة لاستنطاقه وفهمه، واستحضاره في القضايا المعاصرة. وهو ما قد يتعارض في بعض جزئياته مع دعوة القرآن للتدبر والتفكر في سوره وآياته.

من هنا تأتي ضرورة المقاربة بين النص والواقع؛ لاستعادة حيوية النص واستحضاره في الواقع الحياتي. لذا فإن تجربة السيد فضل الله في هذه المحاضرات تعتبر رائدة. فقد حرص على هذا الحضور في تفسيره للعديد من الآيات، والتي سجَّل فيها تصالحاً بين النص والواقع، فهو دائماً ما يحاول استلهام طرق التعامل مع التحديات التي تواجه الحركة الرسالية والإنسان الرسالي من خلال الآيات التي يفسِّرها. يقول في تفسير قوله تعالى: ﴿أَفَمَن يَهْدِي إِلَى الحَقِّ أَحَقُّ أَن يُتَّبَعَ أَمَّن لا يَهِدِّيَ﴾: من خلال هذه الآية نستوحي حقيقة اجتماعية سياسية فيما هي مسألة القيادة. صحيح أن القرآن يتحدث عن مسألة الإله والشريك المزعوم للإله، ولكننا نستطيع ومن خلال استيحاء الجو القرآني أن نبرز مسألة مهمة، وهي أنه إذا دار الأمر بين مَنْ يملك العلم والمعرفة والروحانية والاستقامة وبين قيادة ضالة منحرفة، وهي نفسها تحتاج إلى هداية..، لا بد أن نوالي القيادة التي تنطلق من موقع المعرفة والقدرة الروحية والاستقامة.. وهذا ما يجب أن نلتفت إليه في حركتنا الاجتماعية والثقافية والسياسية عندما نريد اختيار القيادة»([9]). ويقول في قصة عاد، وهو يتحدث عن الداعية: «هكذا يريد هو أن يجتذب عقولهم وقلوبهم، ولكنهم ككل مجتمع متخلف لا يحاول أن يستمع بعقل وفكر لمن يدعو إلى الحق والخير، بل يعمل من خلال جهله وتخلفه ليستغرق في ما هو متمسِّك به، وليهدد الداعية إلى الحق بمختلف أنواع التهديد.. وإننا نجد في واقعنا أمثال ما يحدثنا الله عنهم، وذلك عندما يواجه الداعية أجواء العصبية التي يعيشها الناس، سواء كانت عصبية طائفية أو حزبية أو مذهبية، فيحاول أن يستبدل أجواء العصبية بأجواء الخير والإيمان والعقل، فيعمد المتعصِّبون إلى الردّ عليه بالشتائم والتهم؛ لإضعاف مبادئه وما يؤمن به. ولذا فإن الماضي يتمثَّل عندنا في الحاضر، وفي كل موقع من مواقع التخلف والعصبية»([10]). ويقول عن المقولة الشائعة عن كيد النساء في الآية: ﴿إِنَّهُ مِن كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ﴾: نحن نعلق هنا ونقول: ليس هذا تقرير الله في ما يختص بالمرأة، بل كان قول العزيز عندما انكشفت الحقيقة. لذلك نحن لا نستطيع اعتبار أن القرآن يقر هذه الفكرة بأن كيد النساء عظيم؛ لأن المرأة كالرجل، فكما أن الرجل قد يتوصل إلى مبتغاه بالمكر كذلك المرأة في هذا المجال»([11]). لم تقف واقعية السيد فضل الله عند هذا الحدّ، بل هو يؤكِّد عليها دائماً في مقالاته وخطبه. يقول في مقال له بعنوان «السيرة النبوية في حركة القرآن والواقع المعاصر»: إذا أردنا أن ندخل إلى الواقع، ولا نغيب في الماضي ونستغرق في خصوصياته، علينا أن نتمثّل كلّ القضايا والمفردات التي أثيرت في التاريخ كنماذج، انطلاقاً من كوننا نعيش قضايا حيّة يجب التفاعل معها وإيجاد الحلول للمشاكل المتفاقمة التي تضغط على حريتنا وحياتنا وأفكارنا وحركتنا في السياسة والاقتصاد. وبتعبير آخر: نحن نعيش في صلب قضايا الصراع بكلّ ما تعني هذه الكلمة من معنى»([12]). وهو بهذا النص يسجل نفسه في تيار المفسِّرين المعاصرين: «ويهتف هذا التيار المهتم بمجال إعادة قراءة التراث الإسلامي، بضرورة الإجابة عن مطالب العصر، ببناء سلطة مرجعية جديدة متسقة تحل محل السلطة السابقة، وتتجاوزها في المقدرة والكفاءة… إنه سعيه لمعرفة خصوصيات العصر ومتطلباته، يرفض أن يكون مستنسخاً لحلوله، مندمجاً في اختياراته ومواقفه بصفة اتباعية»([13]).

3ـ البحث عن الحقيقة من خلال مرجعية القرآن

يرى السيد فضل الله أن مرجعية القرآن جامعة لمختلف المذاهب والتيارات الإسلامية. من هنا يؤكد على أهمية الانطلاق من هذه المرجعية للوصول إلى الحقيقة، بعيداً عن المسبقات العقدية والفكرية. كما أن الالتفاف والتمركز حول هذه المرجعية يؤسِّس لحرية الحوار والانفتاح على المدارس الأخرى.. لهذا نراه في بحوث قرآنية يشرح منهج الحوار في القرآن، ويبين منطلقاته ومنهجه: «وإذ أرشدنا القرآن إلى أنّ الاختلاف حقيقة وواقع، ودعانا إلى التعامل مع هذه الحقيقة من خلال الحوار، فما هو المنهج الذي رسمه القرآن لذلك؟ هذا ما نحاول تلمُّسه في هذا المقال. لقد اعتبر الإسلام الحوار قاعدته الأساسية في دعوته الناس إلى الإيمان بالله وعبادته، وكذا في كل قضايا الخلاف بينه وبين أعدائه، وكما أنه لا مقدَّسات في التفكير كذلك لا مقدسات في الحوار؛ إذ لا يمكن أن يُغلق باب من أبواب المعرفة أمام الإنسان؛ لأنّ الله جعل ذلك وحده هو الحجة على الإنسان في الطريق الواسع الممتد أمامه في كل المجالات المتصلة بالله والحياة والإنسان»([14]).

ويقول أيضاً: «فالله أنزل الكتاب ليفرق ويفصل بين الحق والباطل، بين الصواب والخطأ، ولكن مشكلة الناس أنهم لم يفهموا الكتاب حقّ فهمه، ولم يتدبروا حقّ التدبُّر فيه، فحرفوا الكلم عن مواضعه، واختلفوا فيه، وحاول كل فريق أن يتخذ هذا الكتاب حجة على ما ينتفع به»([15]). ويقول في تفسير الآية الأولى من سورة يونس: «في هذا إشارة إلى ما تشتمل عليه هذه السورة وبقية السور من آيات الله تعالى؛ ليتدبرها الإنسان؛ كونها تمثل كتاب الله الذي هو الحقيقة الخالدة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. وهذا الكتاب الحكيم المشتمل على الحكمة يرفع من مستوى الناس في الحياة، وينظم أوضاعهم، ويحل مشاكلهم، ويؤدي التمسك به إلى النجاة في الدنيا والآخرة. وقد حدثنا الله في أكثر من آية أنه تعالى جمع لرسله الكتاب والحكمة، فالكتاب يعطينا الخط النظري للعقيدة والشريعة، والحكمة تعطينا الأسلوب العملي الذي يؤدي بنا إلى أن نضع الشيء في موضعه، ونتحرك وفقاً للنتائج التي يريد الله لنا أن نبلغ فيها أهدافنا بكل قوة وسلامة»([16]). لكن هذه المرجعية تواجه سؤالاً حادّاً في ظل التعدد المعرفي، يطرحه غسان عثمان في شكل تساؤل عن قدرة النص في حركة النهوض: «هل يقدم النص القرآني خطاباً نهضوياً، يصلح لإدارة أزمات الوعي العربي الإسلامي في عصرنا الراهن؟ بل هل يستطيع النص القرآني أن يقدم إجابات لزمان غير زمان تنزيله؟! للإجابة عن هذا السؤال علينا القول: إن النص القرآني يحمل بين طياته فلسفة اجتماعية وإيكولوجية، والنص القرآني نَزَّاع إلى المستقبلية، فآياته تتحرك في إطار التجديد لما كان قائماً في زمانه، وإلى الجديد غير المجهول في مستقبله»([17]). ويرى نجف علي ميرزائي في كتابه «فلسفة مرجعية القرآن المعرفية» «أن هجر القرآن الكريم في ساحة إنتاج العلم الديني شكَّل هوة بين الأفكار الدينية والفقهية والعقائدية التي أنتجها العلماء وبين متطلِّبات المسلم المعاصر وحاجياته»([18]). على أن هذه المرجعية لا تعني إبعاد السنة النبوية بمقدار ما تتطلع وتسعى للوصول إلى الحقيقة. «وهكذا فإن هذا النوع من الناس لا يسير في طريق إلا إذا عرف معرفة يقينية أن هذا الطريق يؤدي إلى الله والسلامة. ولكن المشكلة في الناس أنهم يتبعون الظن والوهم اللذين لا يرتكزان على حجة، وإنما هي تخيلاتهم وأوهامهم وظنونهم التي يتبعونها، ولا يتركون لأنفسهم المجال ليدرسوا الحجة على الأمور والقضايا، أو ليدرسوا البرهان والأسس التي تقوم عليها هذه القضايا»([19]). ويقول في حوار مع مجلة الحياة الطيبة: «نحن نعتقد أن على المفسِّر أن يجعل القرآن إمامه، لا أن يكون هو إمام القرآن. علينا أن نأخذ عقيدتنا من القرآن، ولا نُخضِع القرآن لعقائدنا. فعندما يكون القرآن ظاهراً في شيء يوجد دليل عقلي قطعي على خلافه فهنا لا نأخذ بهذا الظاهر، كالآيات الظاهرة في الجبر والتجسيم، وغير ذلك. وكما نعتقد بالتوحيد فإننا كذلك نعتقد بالنبوة، ولكن من أين نأخذ مفاهيمنا عن التوحيد والنبوة؟ لا بد أن نأخذها من القرآن»([20]). ولا يخفى أن بواعث التمسك بمرجعية القرآن وأولويته على النصوص في فكر السيد فضل الله تنطلق من فكره الوحدوي، الذي يرى فيه ضرورة من ضروريات نجاح الحركات الإسلامية، ومن النصوص القرآنية والنبوية التي تؤكد على هيمنته على ما عداه باعتباره ميزان الحق والباطل، والهدى والضلال، لأنه لا يرى في بعض المصادر الروائية والتاريخية قطعية صدورها، بل ربما تعرضت للتشويه، «ومن خلال ذلك لـم يكن النقل دقيقاً في ما ينقله كلّ فريق عن الآخر، ولـم تكن الدراسة بالمستوى العلمي الموضوعي في ما يناقش بعضهم بعضاً في فهم المضمون، ونقد السند، ودراسة الأجواء. فقد يكفي أن نجد نصاً يدين الفريق الآخر لنكتشف فيه أساس الضلال، وربما كان المصدر غير أمين، أو لـم يكن قطعياً يؤكد القناعة؛ لأنّ المصادر لـم تمثّل في أكثرها ـ فيما عدا القرآن ـ الحقيقة المعصومة التي لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها. فقد درج المؤلِّفون في الروايات على خلط الغثّ بالسمين، وقد يحمل بعضهم رأياً شخصياً فينسبه الآخرون إلى المذهب كلّه، لأنّ صاحب الكتاب ينتمي إلى هذا المذهب، دون الالتفات إلى أنّ الناس الذين قد يتفقون معه في صفة المذهب قد لا يتفقون معه في هذا الرأي، وقد يفسِّرون النص الذي اعتمد عليه بطريقة أخرى، وقد لا يكون محل اعتمادهم أساساً»([21]). فمرجعية القرآن عن السيد فضل الله لا تعني بأي شكل من الأشكال التقوقع والاختزال في تاريخية النص، وفهمه حسب المعاني التي ضبطت زمن نزوله، أو في فترات زمنية لاحقة، لكنها تعني الانفتاح على النص عبر حركته المعاصرة. «مرجعية النص عند التيار الحديث مدخلٌ لاكتشاف جديد للنص من خلال الجدل معه، هذا الجدل الذي سمّاه بعضهم «استمرارية الوحي»، أي الارتقاء في فهم الدين باعتماد المعرفة بمجالاتها الجديدة وما يطرحه الواقع من معضلات»([22]).

4ـ سلاسة الأسلوب في تبيين آرائه

سلاسة الأسلوب وسهولة العبارة التي استخدمها السيد فضل الله في محاضراته التفسيرية جعلت للمفاهيم القرآنية حضوراً في الوسط الاجتماعي. فالمحاضرات تميَّزت ببعدها عن التعقيد وتنميق المصطلحات، حتى عند استجلائه للحقائق القرآنية التي يخالف فيها كبار المفسِّرين، فهو يقدِّمها للقارئ سهلة الفهم، شديدة الوضوح. فيقول مثلاً حول مسألة التحدي القرآني: «يذهب كثير من المفسِّرين، ومنهم: السيد الطباطبائي، إلى أن التحدي كان بكل ما في القرآن من أسرار ومعارف وعلوم؛ لأن الخطاب موجَّهٌ إلى كل الناس، من عرب وعجم، فمَنْ لا يملك معرفة اللغة العربية كيف يمكن أن يوجَّه إليه التحدي في البلاغة؟ نحن نخالف السيد الطباطبائي في ما ذهب إليه، ونرى أن التحدي كان بالبلاغة؛ لأننا عندما ندرس بعض سور القرآن فإننا لا نجد فيها أسراراً علمية أو تشريعية، كما في سورة الكوثر وغيرها. نعم، لو كان التحدي بأن يأتوا بمثل القرآن كله لكانت المسألة تحتمل ذلك»([23]). ويقول حول قصة نبي الله نوح×: «وقد يتساءل البعض: هل يحمل سؤال نوح× لربه اعتراضاً على أمره؟ بالطبع لا، فهو لا يعترض عليه سبحانه، خصوصاً مع هذا الإخلاص الذي بذل فيه حياته في الدعوة على مدى ألف إلا خمسين من السنوات، إنه مجرد تساؤل يوحي للآخرين بأن لا يندفعوا في أي موقع عاطفي مع أولادهم إذا ما ساروا في خط مغاير لخط الله تعالى، وعندها يقعون في الجهل»([24]). ويقول في قصة يوسف: «وهنا ربما يتساءل البعض، ويقول: كيف يجزع يعقوب، وهو نبي؟ نجيب عن ذلك بأنه× لم يفعل أي شي يؤذي جسده، ولكن كان يعيش الحزن الهادئ، حيث ابيضَّت عيناه من البكاء، كنتيجة طبيعية للعوارض التي أوجبت فقدان بصره»([25]). ولا شك أن سلاسة الأسلوب، وسهولة العبارة، تجسر الهوة بين النص والقارئ من جهة، وبين النص والمفسِّر من جهة أخرى، وتبلور لحضور مفاهيم المفسِّر وآرائه، وتكوين زخم معرفي يساهم في رفع المستوى المعرفي والإدراكي لقضايا العصر وحاجاته. ويبدو أن سلاسة الأسلوب، وسهولة العبارة في التفسير، نهج طغى على بعض من النتاج التفسيري المعاصر، من أمثال: خلاصة التفاسير في أوضح التعابير، للشيخ محمد جواد مغنية؛ وتفسير الجوهر الثمين، للسيد عبد الله شبر؛ وتفسير القرآن الكريم، للسيد الشيرازي. وهي تهدف لتكوين علاقة بين النص والإنسان المسلم، قائمة على المعرفة والعلم.

الهوامش

(*) كاتب في الثقافة الإسلامية، من البحرين.

([1]) عبد الكريم شرفي، من فلسفات التأويل إلى نظريات القراءة: 255.

([2]) د. أحميدة النيفر، النص الدينين والتراث الاسلامي، قراءة نقدية: 105.

([3]) السيد محمد حسين فضل الله، حركة النبوة في مواجهة الانحراف: 6.

([4]) المصدر نفسه: 29.

([5]) المصدر نفسه: 46.

([6]) المصدر نفسه: 267.

([7]) د. عباس رحيلة، موقع حراس العقيدة.

([8]) السيد فضل الله، تفسير من وحي القرآن، تفسير سورة آل عمران، الآية: 1 ـ 6، موقع بينات.

([9]) المصدر نفسه: 60.

([10]) المصدر نفسه: 177 ـ 178.

([11]) المصدر نفسه: 296.

([12]) موقع السيد فضل الله (بينات)، السيرة النبوية.

([13]) النص الديني والتراث الإسلامي، قراءة نقدية: 109.

([14]) السيد فضل الله، الحوار في القرآن، موقع التنوع الإسلامي، مقال منهج الحوار في القرآن الكريم.

([15]) المصدر السابق: 222.

([16]) المصدر السابق: 11.

([17]) صحيفة النبأ، العدد الإلكتروني رقم 137، (مشروعات النهضة العربية وغياب المرجعية القرآنية).

([18]) جريدة المرفأ الإلكترونية، العدد 21.

([19]) السيد فضل الله، حركة النبوة في مواجهة الانحراف: 61.

([20]) موقع السيد فضل الله (بينات)، من وحي القرآن، حوار مع السيد فضل الله.

([21]) السيد محمد حسين فضل الله، طريق التكفير في مشروع الوحدة، الوحدة الإسلامية، موقع بينات.

([22]) النص الديني والتراث الإسلامي، قراءة نقدية: 177.

([23]) المصدر نفسه: 147 ـ 148.

([24]) المصدر نفسه: 173.

([25]) المصدر نفسه: 253.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً