مقدّمة
ليس ثمّة “شبحٌ” يهدّد أرواح الملايين من النّاس كذاك الّذي تخلقه الإنقسامات المذهبيّة والطّائفيّة. التّاريخ البعيد كما القريب يدلّل على أنّ أكثر المعارك شراسةً، وأشنع المشاهد فظاعةً وأطول الحروب مدّةً، هي تلك الّتي تُخاض باسم الدّين، الّذي قُزّم هو نفسه بالمذهب. وعند التّساؤل عن ماهيّة السّبب، الّذي يحول دون أن يأخذ النّاس عبرةً من ذاك الماضي، لتفادي ما كان فيه من مآسي، وعند الغوص في أعماق ذاك الكائن البشري “المذهبيّ”، الّذي لمّا يزل نموذجه يُستنتسخ في أيّ عصر، يتراءى في الأفق “شبحٌ” أعظم، هو ذاك المسمّى بـ “الحقيقة”، أو بتعبير أدقّ وأخلص شبحٌ يتعلّق بكيفيّة التّعاطي مع تلك الأخيرة.
على أنَّ الإنسان، مهما بلغت درجة ذكائه، ومهما كان في شخصيّته باحثاً أم متلقيّاً، حالما يصل إلى مكانٍ تنقطع فيه الحاجة إلى السّؤال، نتيجة اعتقاده بامتلاك الأجوبة/ الحقيقة كاملةً، ومن ثمّ يصبح كائناً “يقينيّ الإجابات”، فإنَّ نشوة الإكتفاء ستكفيه ليتحسّس معاني القوّة، ما يخوّله الإنتقال إلى مرحلتين: الأولى وهي السَّعي إلى نشر تلك القوّة/الحقيقة، والثَّانية وهي السّعي إلى محاربة الضّعف المتمثّل بالجهل بـالحقيقة، أو بفعل إنكارها.
إلّا أنَّ الحقيقة كمفهوم فلسفي تغيب نسبياً عن الفضاء الدّيني لصالح تمظهر مفهوم آخر يكتنز مضامينها، وهو ما يُعرف بـ”الحقّ”. وهذا الأخير كمصطلح ديني هو النّقيض المباشر للـ”باطل”، الّذي تدعو كلّ ديانةً إلى تفاديه ومنع انتشاره تحت مسمّى “إحلال الفساد”. وبالتالي، لا يعود امتلاك الحقّ مرتبطاً بارتقاء الفرد ذاتياً وعلوّه فحسب، وإنّما يُترتّب على ذلك مسؤوليّة دينيّة، تنطلق من مفهوم عريض وهو الإصلاح، لتصل إلى ممارسة عمليّة، تتعلّق بشكلٍ مباشر بمحاربة الفساد، كاستجابة للدَّافع الإيماني، غير المرتبط بـ مفهوم الإيمان بوصفه حالة وجدانيّة روحيّة، بقدر ما هو مرتبطٌ به كقناعة يقينيّة صرفة. وتلك القناعة ستدخل لاحقاً في إطار تحديد هويّة الفرد، الّتي بموجبها تتحدّد شخصيّة “الآخر”، الّذي سيُحاكم بطبيعة الحال وفقاً لميزان المعتقدات الّتي عقدت عقل المؤمن بها على الحقّ، كما يدّعي هذا الأخير.
كيف تتكوّن الذّهنية المذهبيّة
هذه المفاهيم الثلاث: الحقّ- المعتقد- الآخر، تتشابك أحياناً فيما بينها لدى العقل الإنساني بطريقةٍ ما، لتشكّل في النّهاية الثّالوث الّذي يُكوّن العقليّة الإقصائيّة، ويغذّي نشوة الإكتفاء. وحاصل هذا التركيب البشري الجامع ما بين الإقصاء والإكتفاء هو ولادة حالة “الإصطفاء”، بحيث يشعر الفرد بأنّه بات وكيلاً للإله على الأرض، فيغدو كائناً ساعياً إلى تصريف اكتفائه عبر نشر “الحق”، وتصريف إقصائه عبر الإلغاء العملي للآخر، الّذي سيذهب إلى معجمه الدِّيني ليبحث عن الحقل المعجمي الّذي يوصّف به هذا الآخر، فينتقي مفردات من قبيل: الضّال، المُضلّ، الكافر، المرتدّ…
الأمر إذاً سيصبح أشبه بمعادلة حسابية: كلّما صُرّف الإكتفاء (العمل على نشر الحقّ) وفُعِّل الإقصاء (محاربة الآخر رمز الباطل)، كلّما علت نسبة الإصطفاء حسب اعتقاد هذا النّموذج من الأفراد المتديّنين.
وإذا ما توافقنا على كون أنَّ هذا التّوصيف يعكس الملاحظة العيانيّة والحسيّة للعديد من البيئات والشَّخصيّات المتديّنة، فإنّه كنتيجة لذلك سيصبح من غير المستغرب على الإطلاق عدم توقُّع حدوث اقتتال ما بين المتديِّنين، وُجهته الأساسيّة لدى جميع أطراف النّزاع: نصرة الحقّ على الباطل؛ ومن غير المقنع أيضاً اعتبار أيٍّ طرف من أطراف الإقتتال الديني بأنّه غير مخلص لدينه، بل على العكس تماماً، بحيث بالإمكان التّصديق شبه المطلق بأنَّ كلَّ الأطراف بهذا المعنى هي شديدة الإخلاص لدينها، ولاقتتالها الخالص “في سبيل الله وفي سبيل إظهار الحقّ على الدّين كلّه”.
ومن هذا المنطلق، كثيراً ما تُطرح الإشكاليّة المتعلّقة بارتباط النّزعة العنفيّة بالدّين بذاته، وإن اقتصر العنف على شكله الرّمزي، المتعلق بالإقصاء اللَّفظي والتَّوهين بالآخر.
على أنَّ ما ورد أعلاه، ــ وإن كان حسب رأي كاتبه يمثّل ترجمةً للكثير من التمظهرات العملية لغالبية أو للعديد من الأنماط الفكريّة الدينية، غير المتّصلة بدينٍ دون سواه، وغير المقتصرة على عصرٍ دون آخرـ يبقى محدداً بجانب واحد ـ هو بطبيعة الحال متطرّف ـ في كيفيّة التّعامل مع ثنائية الحقّ/ الباطل.
المعضلة إذاً تبدأ من هنا أوّلاً. من ذهنيّة “التّعامل” مع المفاهيم، لا من المفاهيم بحدّ نفسها. ولذلك، ستعرض السّطور المتلاحقة ذهنيّةً أخرى، منطلقة من نفس التراكيب: الحقّ، المعتقد، الآخر، لكنّ طريقة التعامل معها ستؤسّس لنتائج مختلفة، بل معاكسة بتعبيرٍ أصدق.
منطلقات الذّهنيّة غير المذهبيّة
ينطلق صنفٌ آخر من المتديِّنين من منطلق أنَّ الإنسان بحدّ ذاته غاية، فيظهر مفهوم الدّين كمكمّل لارتقاء إنسانيّة الإنسانيّة، ويصبح فهم التّشريعات الدّينية منطلقاً من هذا الأساس، وتغدو العبوديّة الخالصة للرّب خالق الكون والإنسان فعل تسامٍ وتنزُّهٍ عن النّزعات السلطويّة، وفعل تهذيبٍ للنّفس، وعملَ انقياد للضّمير الدّيني الّذي بطبيعة الحال سيتلاقى مع الضَّمير الإنساني، وبالتالي فإنَّ أي انتفاءٍ للتَّلاقي ما بينهما لا بدّ وأن يتُرجم لغطاً ما في فهم الدّين، أو نقصاً ما فيما وصل إلينا من معلوماتٍ وأسانيد عنه، أو أحاديث ارتبطت به، أو قصوراً في فهم الأبعاد التاريخية لبعض الأحكام، الّتي كانت تتلاقى مع الأحكام الضّميريّة إن صحّ التعبير في زمنٍ من الأزمان، إلّا أنَها باتت تتنافى معها في عصورٍ متقدّمة.
بهذا المعنى، يكمّل الدّين في الأساس بناء كائن أخلاقي إنساني، يستهدي بتشريعات الدّين ليؤسّس تالياً لمجتمعٍ أخلاقيّ قائمٍ على العدالة، الّتي تضمن حقوق الإنسان وكرامته وتصونه من الفساد الّذي سيعود بالضّرر في نهاية المطاف على الإنسان.
وهكذا، يصبح الحقّ صراطاً فردياً يقتنع به المتديّن ليحدّد له الطريق الواضح الّذي يمشي عليه في الحياة بثقة وصلابة، ويصبح المعتقد عاملاً مكوّناً للهويّة الشّخصيّة الّتي تطرح نفسها من بين مختلف الهويّات المتعدّدة، انطلاقاً من الحقّ الإنساني الّذي يكفل أن لا إكراه في فرض الهويّة على الآخر، ويصبح الآخر هنا جزءاً من الأنا، أي أنَّه يغدو من صلب اهتمام الأنا احترام الآخر وضمان حقوقه، وعندها سيسعى الأنا بطبيعة الحال إلى دعوة الآخر إلى “الحق” حسبما يعتقد، لكن بروحيّة الهادي والمحبّ ، لا بشخصيّة المعاند أو المستفزّ.
وعلى هذا الأساس، فإنَّ مفهوم الإصطفاء إن تبنّاه هذا النموذج من المتديّنين، سيصبح مقروناً أوّلا بمدى تمظهر “الدّين الأخلاقي” في شخصيّتهم، بما يعنيه ذلك من اقتران الأخلاق الدينية بالضمير الإنساني والقيم العامّة، وإنَّ مفهوم نشر الحق أو المعتقد سيتعلّق أولاً وأساساً بمدى تجلّي حسن الصّورة الأخلاقية، وحسن الأسلوب في الدّعوة، على اعتبار أن حسن الأسلوب يدخل في إطار منظومة الأخلاق الحوارية مع الآخر، ويحقّق الغايات المرجوّ التوصُّل إليها بما لا تخدمه الفظاظة في طرح الفكرة، أو في تطبيقها.
إنَّ ثلاثيّة الحقّ، المعتقد، الآخر قد تجلّت في هذا النموذج بصورةٍ معاكسة للأولى، على رغم إمكانيّة انتماء النموذجين إلى ديانة واحدة. وتلك الصّورة لا بُدَّ وأن تختزن مضامين الإنفتاح على الآخر وبحث سبل التلاقي معه انطلاقاً من دافع المحبّة أولاً، والمسؤولية أمام الله ثانياً. ولعلّ هذا التّركيز على الجانب الأخلاقي الّذي يلجأ إليه هذا الصّنف الأخير، بالإمكان التماسه من الحديث النّبوي الشّريف القائل: “خياركم في الإسلام خياركم في الجاهليّة “. فأهل الجاهلية هؤلاءلم يكونوا على دين الإسلام، إلا أنَّ الحديث يعترف بأنّهم كانوا أخياراً، وفي ذلك دليل على أنَّ خيريّة الإنسان كأساس هي غير ذات صلة بدينه، بقدر ما هي مرتبطة بالحفاظ على الجانب الإنساني القيمي فيه وتفعيله في العلاقات مع الآخر داخل المجتمع. ولعلّ الجزء المُكمِّل للحديث يوضّح الصّورة بشكلٍ أفضل إن ثبت متنه: “وشركم في الإسلام شركم في الجاهلية “، فالإرتباط بالدين الإسلامي لا يُلغي من إمكانيّة أن يكون المتديّن شرّيراً في بعض جوانبه، بل على العكس، فإنَّ فهمه للدّين هنا لم يزده سوى تغييرٍفي القناعة والفكر حول الوجود، أمّا من النّاحية الإنسانيّة، فلم يتغير شيء. بل ربّما زاده فهمه للدّين شروراً، حسبما ورد في بداية الكلام عن تأثير مفهوم الحقّ في العقليّة الجامدة الإقصائيّة.
تعديل الذّهنيّة كأساس لمحاربة المذهبيّة
إنَّ بالإمكان إذاً للدّين نفسه أن ينتج نوعين من المتديّنين: نوعٌ عدوانيٌّ وآخر رحمانيّ (حسب تعريف الدكتور حيدر حب الله). إلّا أنَّ العبارة ملغومة هنا. فليس الدّين هو السّبب في ذلك كما هو سالف للذّكر. الأمر مرتبطٌ بالشّخصيّة الإنسانيّة والذّهنيّة التفاعليّة قبل كلّ شيء. هو متعلّق بطريقة الفهم الشموليّة أو الإنتقائيّة، والإنسانيّة المرنة أوالهندسيّة الممكننة.
ولذلك، فإنَّ التّفكير بالحلول الجديّة من أجل محاولة تجنّب الإقتتال باسم الدّين أو المذهب (أي باسم إحقاق الحق الإلهي إن صحّ التّعبير)، لا بُدَّ وأن ينطلق في الأساس من العمل على تعديل الذّهنيّة و الشّخصيّة، واستحضار كافّة المواد الدّينيّة الّتي تؤكّد على هذه الذّهنيّة المنفتحة في التّعاطي مع المفاهيم والحقائق، ونبش التّراث الدّيني الإنساني، تأكيداً على فكرة أنَّ الدين ينطلق في شقّيه الأخلاقي والتّشريعي، وأنَّ التّشريع لا يتعارض مع أي عمل أخلاقي، وإن تعارض فثمّة خلل ما في فهمه أو في تأويله.
لقد تنبّه بعض العلماء إلى خطورة تفشّي النّمط الأوّل من المتديّنين، وما يولّده ذلك من اصطفافات مذهبية ستتحوّل إلى اقتتالات على أرض الواقع حالما سنحت الفرصة. ولم تخلُ السَّاحة الدّينيَّة يوماً من الأصوات الدَّاعية إلى التّلاقي مع الآخر، وإلى إعادة بناء الشَّخصيّة المتديّنة من خلال تغيير ذهنيّة التَّعاطي مع الأمور، إلّا أنَّ أغلب هذه الأصوات لم تكن سوى صرخاتٍ من هنا وهناك، دون أن تدخل في إطار مشروعٍ جادٍ يحدّد سُبل المعالجة أو التّغيير، اللهمّ إلا بعض الإستثناءات. على أنَّ البعض ممّن تنبّه إلى خطورة مآلات الذّهنيات المتعصّبة والمذهبيّة قد سعى مبكراً إلى وضع الخطوات العمليّة، وكان من أبرزهم العلامة المرجع السّيّد محمّد حسين فضل اللّه(ره)، إلّا أنَّ استجابة السّاحة لتلك المواقف والمشاريع لم تكن بالحجم المطلوب، لأسبابٍ عدّة، أبرزها عدم الوعي إلى الذّات المتديّنة على ما هي عليه، واعتبار البعض أنَّ المرحلة تتطلّب بناء القوّة العمليّة على الأرض دون الحاجة إلى الفكر، لأنَّ اللجوء إلى الفكر اليوم وتغيير الذّهنيّة قد يستضمن شيئاً من الضّعف راهناً حسب اعتقادهم. وهذه إشكاليّة أخرى قد تطرح، فيما يتعلّق بثنائية الضعف والقوّة، ليس بالوارد مناقشتها هنا.
السّيّد فضل الله كنموذج أبرز في بناء الذّهنيّة المنفتحة والشخصية الوحدوية الجامعة
يُعدّ العلّامة السيّد محمّد حسين فضل الله رحمه اللّه من أبرز المراجع الشّيعة الكبار الّذين عملوا طيلة حياتهم ضمن إطار مشروع منهجي متكامل، محدّد القواعد والأسس، ومعتمدٍ على مرجعيّة عليا وهي القرآن الكريم، ليستهدي منه روحاً وفقهاً. على أنَّ العلامة الرّاحل قد امتاز باستحضاره الملحوظ في كلّ لقاءاته وخطبه لكلّ النّصوص الدّينيّة المتضمّنة للقيم، مع التركيز على مفاهيم الرحمة والرفق والإنفتاح. ولعلّ المتابع لخطابته أو المعاصر له سيلحظ تكرار استعماله لفظة: أيها الأحبّة، ومدى تكراره لبعض الآيات الّتي عمل على نبشها إن صحّ التعبير من القرآن وجعلها “آيات شعارات”، لتكون الخطّ العريض الّذي يرسم المسار العام لشخصيّة المسلم. والظّاهر أن تلك الآيات كانت تشكّل مبادئ ينطلق منها في أيّ موقفٍ كان يطلقه، سياسياًكان أم دينياً أم تربويّاً أم غير ذلك. ومن أكثر الآيات/الشّعارات ترداداً على لسانه: (ادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم )، (وإنّا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ مبين)، ( ولو كنت فظّاً غليظ القلب لانفضّوا من حولك)، (ولا تسبّوا الّذين يدعون من دون الله فيسبّوا الله عدواً بغير علم)، (وقولوا للنّاس حُسنا)…
وبالإمكان الإستنتاج من الكتب الّتي كتبها أو التي جُمّعت من محاضراته أنّه عمل على خطّين موازين يشكّلان معاً مشروعاً متكاملاً: الأوّل وهو خطّ الدّاعي، بحيث أنَّ مسار الدّعوة اعتمد بشكلٍ أساس على بناء الفرد المسلم البناء الإنساني، لتكون إسلاميّته عين إنسانيّته، ثمّ عمل على خطّ الفكر، ليكون الفكر منطلقاً من المبادئ نفسها الّتي تكوّنت منها شخصية المسلم. فالمسلم الحركيّ كما يرى سماحته لا يعيش الإزدواجية في الشخصية والمواقف والمبادئ، بل إنَّ المبادئ الإسلاميّة الإنسانيّة بطبيعة الحال تطبع كلّ موافقه الشخصية أو الإجتماعية أو السياسية.. بطابعها. ولأنَّ من أبرز الأسس الّتي دعا إليها في تكوين الشخصية الإسلامية في تعاطيها داخل المجتمع هي الإنفتاح على الآخر مهما كان مختلفاً، والعمل على التقارب الإنساني والفكري والتلاقي معه، فإن تلك الأسس نفسها هي الّتي حكمت مساره الفكريّ والسياسيّ، بحيث ما برح يبحث عن سبل التلاقي مع المختلف في كلّ ساحات الإختلاف، ومن هنا كانت الوحدة شعاره البارز في حياته. الوحدة من منطلق رحماني إنساني، قبل أن تكون من أي منطلقٍ آخر، بما يعني ذلك السعي للّقاء على القيم والمبادئ، بغضّ النّظر عن كلّ الإختلافات، مركّزاً على قاعدةٍ أساسيّة تحكم أي عملية حوارية سواء في الإطار الإجتماعي أو الفكري أو غير ذلك، المنطلقة من الآية الكريمة: “وإنّا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ مبين”. وهذه الآية الّتي لطالما اعتمد عليها هي التّي حدّدت بوضوح كيفيّة تعاطي المرجع السيد محمد حسين فضل الله مع مفهوم الحقّ والحقيقة، كما حدّدت كيفيّة التّعاطي مع الآخر المختلف، انطلاقاً من مناقشة كل طرف من أطراف الحوار لمعتقده. أي بمعنى أو بآخر، استند رحمه الله إلى تلك الآية ليحدّد بوضوح طريقة التعامل مع ثلاثيّة الحقّ/المعتقد/ الآخر الآنف الحديث عنها سابقاً، ولينطلق منها، أي من الآية، كعمل أساسي وجوهري ومفصلي من أجل تغيير الذّهنيّة الدّينية المتعصّبة، وكأنّه في هذه الحال قد استحضر الحل الديني القرآني المرجعي الّذي يبدأ منه ليفكّك كل حدّيّةٍ وقطعيّةٍ وتطرّفٍ في السلوك والتفكير والتديّن.
إشكالية الوحدة في ظلّ الواقع الرّاهن
لعلّ تفكيك المعضلة الأساس قرآنياً، والمتمثّلة بطريقة التعامل مع مفهوم الحقّ، بحيث أصبح الآخر المختلف على أساسه باطلاً، هي الّتي دفعت المرجع السّيّد محمد حسين فضل الله إلى إعطاء مساحةٍ واسعة من خطاباته وكتبه ومواعظه من أجل وضع مشروعٍ متكاملٍ لمعالجة الميدان الأساس الّذي تبرز فيه هذه الذّهنية( أنا الحقّ والأخر هو الباطل)، وتُخلّف وراءها أرواح النّاس ودماءهم، وهو ميدان الصّراع السّنّي الشّيعي، لأنّه أزهق على مرّ التاريخ مئات الأرواح، وفتّت العالم العربي، ولأنّه في أساسه ينطلق بعيداً عن المفهوم القرآني في طريقة التّعاطي مع الإختلاف، وفي التّوصية بالحقّ( وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر) لا القتل باسم الحقّ.. فكان أن أطلق مشروعاً وحدوياً سعى له وكرّسه في كلّ خطاباته ومواقفه، لإيمانه بأنَّ أيّ نهضةٍ للعالم الإسلامي لا تمرّ دون حلّ المعضلة السّنيّة الشّيعيّة، الّتي استُغّلت بما فيه الكفاية عبر الزّمن لتفتيت المنطقة وإخضاعها للإستعمار الغربي.
ولأنَّ المرحلة الرَّاهنة تشهد استقطاباً مذهبياً حادّاً، وحروباً دينيّة تتمظهر بأبرز تجلياتها بالصِّراع السُّني الشّيعي، فإنَّ إشكاليّتين تطرحان نفسيهما في هذا الإطار: الأولى: هل فشلت فكرة الوحدة من الأساس، لاكتنازها شيئاً من الطّوباويّة الفكريّة، أو المثاليّة غير الواقعيّة، على اعتبار أنَّ الظّروف على أرض الواقع حالما تصبح مهيّئةً للصراع، فإنَّ الإصطفافات ستظهر بشكلٍ سريع، حتّى ولو كان الخطاب السابق على هذه الظّروف يدعو إلى التلاقي. والثانيّة: هل كانت المشاريع الوحدويّة غير مكتملة وغير جديّة حتّى لم تؤدّي إلى نتيجتها، وبالتالي فإنَّ فكرة الوحدة هنا ليست ذات نقاش، بل إنَّ مدى تطبيق واستكمال المشروع والإستراتيجيّة المتكاملة لإحقاقها على أرض الواقع هو محور الحديث. من هنا، كان لا بدّ من إعادة دراسة المشروع الوحدوي للعلامة السّيّد محمّد حسين فضل الله، من أجل إعادة مناقشته من خلال مقارنته بالأوضاع الرّاهنة، ومعرفة بأي الإشكاليتين الواردتين أعلاه بالإمكان إلصاقه: بأنّه كان مشروعاً طوباوياً وبالتالي غير واقعيّ، أم بأنّه لم يسمح له بالتّطبيق المتكامل على أرض الواقع، واستُبعِد من دوائر الحلول الفكرية والواقعيّة قبل أن يُستبعد من دوائر العمل التّطبيقيّة، ولهذا فإنَّ النتائج على أرض الواقع اليوم كارثيّة.
مرتكزات الوحدة لدى السّيّد فضل الله
بالإستناد إلى كلّ ما تقدّم، بالإمكان اعتبار أنَّ الوحدة ليست دعوة حلّ في منظور العلامة السّيّد فضل الله، وبالتَّالي هي ليست مشروع ردّ فعل، بل هي منهج تفكير وفعل بناء، أي أنّه فعل ارتكاز وتأسيس، لا فعل ترميم. وبطبيعة الحال، فإنَّ أي مشروع تأسيس خصوصاً إذا ما كان فكريّاً أو إجتماعياً سيكون لا محالة أصعب من أي “رَوْتشة” لازمة تطرأ على البناء، لأنَّ التّأسيس القديم قد تجذّر مع الوقت في عقول الأجيال، ومن الصّعب عليك أن تغيّر فكرة، لاقتناع معتنقها بأنها الصّواب، ومن ثمّ لا يهتزّ هذا الإقتناع إلا إن اهتزّت نتيجته على أرض الواقع. وهذا التّأسيس القديم، توصيفاً، أسّس ذهنيّة ثقافيّة للمسلمين، تؤكِّد على الشَّخصيَّة الإسلاميَّة المذهبيَّة في انتماءاتها، قبل التَّأكيد على الشَّخصيَّة الإسلاميَّة العامَّة.
وعلى هذا الأساس، فإنّه انطلق في تحليل المشكلة من خلال توصيف مكمن الخلل، انطلاقاً من النواة، وصولاً إلى الحواشي.
وقبل الشّروع في تلخيص أبرز المعالجات الفكرية لموضوع الوحدة في المشروع المتكامل الّذي رسمه العلامة الرّاحل، فإنَّ بالإمكان سرد الخطوط العريضة الّتي حكمت مشروعه، وهي تستند إلى مبادئ محدّدة، أبرزها:
-الإختلاف غنى، وهو غير مرادف للخلاف، وبالإمكان تلمّسه بين أفراد الجماعة نفسها، كما أنَّ التلاقي لا يعني إلغاء التنوّع (الإيجابية المتحركة من مواقع الإختلاف في الرأي، لا تعني الإنتقال إلى الجانب الآخر، بل تعني الوقوف على الأرض المشتركة من دون تشنُّجٍ وانفعال)
– أخلاقيّة الإنسان هي الإساس في إدارة التعاطي مع الإختلاف.( الصِّراع الفكري يرتبط بالأخلاق بقدر ما يرتبط بالفكر).
– القرآن يحدّد منهجاً واضحا لإدارة الإختلاف والنقاش، وبالتالي يرسم الأطر العامّة لأخلاقية الإنسان.
– الإكتفاء بالخطاب الوحدوي (وإن كان مطلق الخطاب مخلصاً) مع الإبقاء على الإزدواجية، بحيث يكون الخطاب الإعلامي غير الخطاب والذّهنيّة والتّربية الشعبيّة هو أول الطريق لفشل أي مشروع للتلاقي.( إذا أردنا لكلّ المشاريع الوحدويّة أن تنجح، فإنّ علينا أن نعيش شخصيّة الوحدويّ)
– رصد العوامل الّتي تعمق الفروقات بين المذاهب، والتي تحوّل الإختلاف إلى خلاف، أي بما يعني ذلك تشخيص مسببات المرض، ووضع معالجات من خلال تقديم أطروحات بديلة، فكريّةً كانت أم عمليّة.
A- فيما يتعلّق ببناء الشّخصيَّة الوحدويَّة
“إنَّنا بحاجة إلى الإنطلاق في خط التَّربية للشخصية الإسلاميَّة في كل مجالاتها العملية العامة والخاصة، من خلال الإبتعاد عن الأجواء الإنفعالية، والتركيز على الأجواء العاقلة الهادئة، لأن التربية لو استطاعت أن تأخذ مجالها الطبيعي، لأمكن لقضايانا المصيرية أن تقف على قاعدة صلبة من الفكر العميق والرؤية الواضحة، والإيمان المنفتح، والروح السمحة، والواقعية الهادئة، لأنَّ الإنسان الذي يحمل مسؤولية هذه القضايا، يتحوَّل إلى إنسان مسؤول يعيش المسؤولية في عمق إحساسه بالله وبالحياة وبالإنسان، في الإطار الإسلامي الواسع الذي يدفع الإنسان إلى السير في الصراط المستقيم الذي لا مكان فيه إلا للإسلام”.
1- الإختلاف كظاهرة سننيّة
ينطلق السّيد محمّد حسين فضل الله من تربية العقليّة الإسلاميّة على أنَّ الإختلاف أيّاً كان مجاله فكرياً أو إجتماعياً أو سياسياً أو عقائديّاً هو ظاهرة سننيّة من غير الإمكان تحجيمها وتجميدها في أيّ زمنٍ على امتداد التّاريخ والمستقبل، بل على العكس، فإنَّ المنطلق القرآني في هذا الموضوع يشي بأنّه سنّة مطلوبة ولها غايتها، أي أنّ له بُعداً غائيّاً ومقصدياً، وليس مجرّد سمة ناتجة عن التفاعل الإنساني، وهذا ما تشير إليه الآية الكريمة: (ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين ( 118 ) إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) ، والإلتفات لعبارة (ولذلك خلقهم) تفيد بوضوح بأنَّ الإختلاف مطلوب، بل إنّه سببٌ لخلق الناس وتفاعلهم.
ومن هذا المنطلق، فإنّه أكّد على أنَّ مشاكل النّاس بينهم وبين بعضهم في كافّة ميادين الحياة تنطلق من سوء إدارة عمليّة الإختلاف، النّاتج عن التّعصُّب للرّأي أو للـ “حقّ”، ومقارعة الرّأي الآخر على طريقة مقارعة الباطل لإزهاقه. الأمر الّذي دفعه إلى التّركيز على البعد الأخلاقي في الجانب الإنساني، لأنّه يؤنسن عمليّة الإختلاف ويروّض طريقة إدارته إنطلاقاً من الحرص على التّلاقي والإنفتاح على الآخر، لا من السّعي إلى استفزازه عبر محاولة استبعاده. وهذا الجانب الأخلاقي هو الّذي يرسم طرائق التّعاطي مع الإختلاف وكيفيّة تقديم الآراء المختلفة بأسلوب فيه من المرونة السّلسة.
2- إدارة الإختلاف حسب المنهج القرآني
عمل السّيد محمّد حسين فضل الله بادئ ذي بدء كأولى خطوات البناء على استحضار الخطاب القرآني بغية تأصيله في الشخصية التربويّة الإسلاميّة لتستهدي بها في أية عمليّة لإدارة الإختلاف، وقد أفرد كتاباً تحت مسمّى “أسلوب الدّعوة في القرآن” شرح فيه أساليب الدعوة ومخاطبة الآخر حسبما جاء القرآن على سردها. ثمّ لم ينفكّ يؤكّد على تلك الأساليب البانية للشخصية الإسلامية في كلّ مواعظه التربوية، وفي كل خطاباته الفكرية، حتّى لكدنا نرى أن الآيات /الشعارات الّتي استنهضها سماحته من جديد من الخطاب القرآني تظهر في كافّة كتبه إلى حدٍّ ما، مع التّأكيد الدّائم من قبله بأنَّ القرآن الكريم هو بمجمله كتاب حوار، وأنَّ ما من أحدٍ مستبعد في عمليّة التّواصل، لا سيّما أنَّ الله بحسب السّرديّة القرآنيّة قد حاور إبليس نفسه. وفيما يلي ذكرٌ لأبرز تلك الآيات وشرحٌ للمقصد المستوحى منها بحسب رأي العلّامة السّيّد فضل الله(ره):
-(وإنا أو إياكم لعلى هدىً أو في ضلالٍ مبين): المقصود من ذلك أن هناك حقيقة، وأنّ هناك شكّا مشتركاً، وأنّ الطّرفين يريدان أن يحركّا هذا الشّكّ في طريق اليقين حتى يلتقيا بالحقيقة. وبالتالي فإنّ إدارة الإختلاف تنطلق من إثارة نقاط اللقاء في بداية الحوار لإيجاد جو نفسي إيجابي، واستبعاد إعطاء الرأي حول وجهة النظر الأخرى، باعتبار أن هذا الأسلوب قد يخلق لدى الآخر روحية مضادة تعقد حركة الحوار.. وهذا من شأنه أن يؤسّس لبناء الذِّهنية الموضوعيَّة، أو الأقرب إلى الموضوعية في مواجهتها للأفكار والأحداث، والمبتعدة عن الإطار العاطفي الذي يتعامل مع القضايا من موقع العاطفة.
– (ادفع بالتي هي احسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنَّه ولي حميم) (قولوا للناس حسناً): والمقصود منها أنَّ أصل المشكلة ينحصر في أخلاقيَّة الإنسان الباحث في مواجهته لمسائل الخلاف، ما يفرض أساساً معالجة الجانب الأخلاقي في شخصيَّته، فيعود” إنسان الحوار بدلاً من أن يكون إنسان التَّعصب، حتى تصل روحيته الأخلاقية إلى الذُّروة الَّتي يُحوِّل الإنسان فيها أعداءه إلى أصدقاء، بحسب المنهج القرآني في إدارة المسألة الخلافية.
-(ولا تنازعوا فتفشلوا وتذهب ريحكم ) (وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان) (واعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا): وهذه الآيات تركّز على خطورة تحويل الخلاف إلى نزاعٍ واختلاف، وما يتأتَّى عن ذلك من حسميّة الفشل، تماماً كما تؤكّد على ضرورة التّعاون على تقوى الله والإعتصام بحبله، وما يتأتّى عن ذلك من استبعاد الفُرقة والإنقسام.
3- خطاب أهل البيت(ع) كمكمّل للخطاب القرآني وتأكيد عليه
ثمّ يؤكّد السّيّد فضل الله على أنَّ هذا المنهج القرآني الدّاعي للإنفتاح ومحاولات التلاقي مع المختلف نجد له ترجمةً في خطابات أهل البيت(ع)، ويستحضر في سبيل ذلك بعض الكلمات والخطب:
– الإمام علي(ع): “إني أكره لكم أن تكونوا سبَّابين، ولكنّكم لو وصفتم أعمالهم، وذكرتم حالهم، لكان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبكم إياهم، اللَّهم احقن دماءنا ودماءهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغي والعدوان من لهج به”.
– الإمام علي(ع): “لأسلّمن ما سلمت أمور المسلمين”.
– الإمام الصّادق (ع): “أوصيكم بتقوى الله، ولا تحملوا الناس على أكتافكم فتذلوا، إن الله تبارك وتعالى يقول في كتابه: (قولوا للناس حسنا)، عودوا مرضاهم، واشهدوا جنائزهم، واشهدوا لهم وعليهم، وصلوا معهم في مساجدهم..”
– الإمام الصّادق(ع): “ما أيسر ما رضي به الناس عنكم، كفوا ألسنتكم عنهم”.
إنَّ هذه الإستشهادات يستوحي رحمه الله منها أنّه لا بدّ من توجيه الشّخصّية الإسلاميّة إلى عدم خوض التحديات” بطريقة الإساءة إلى مشاعر المسلمين الآخرين، وإلى أنَّ الطَّريقة الإسلاميَّة ترى في خلافات المسلمين مهما بلغت قسوتها حالةً طارئة، لا تلغي الإحساس العميق بالوحدة الإسلامية الشُّعوريَّة المنفتحة على الواقع، دون أن تتجاوز خطوط الضَّلال”، وأنَّ مقتضى الأخلاقية الإنسانية والإسلاميّة يتطلّب بشكلٍ أساس عدم استفزاز الآخر مهما بدر منه من مواقف، بل على العكس ملاقاته، ليس من موقع الضعف، بل من موقع الحفاظ على أمور المسلمين ووحدتهم.
B- خطوات عملية لمعالجة الإصطفافات المذهبية والسير في طريق الوحدة
حاول السّيّد تشخيص الأسباب الحقيقية الدّافعة إلى تحريك الشّخصيّة المذهبيّة في الإنسان المسلم، على اعتبار أن تشخيص الدّاء هو بداية تفعيل الدّواء.
وقد لاحظ سماحته أنَّه ثمّة أسباباً عديدة تؤسس لثقافة الفرقة والإختلاف، أبرزها ذاك الإنغلاق النفسي قبال الآخر، الذي يمنع حيوية الحوار وحركيته، ويحوِّله في حال وجوده إلى عملية وقت ضائع؛ وتلك القدسية الممنوحة للتراث المذهبي، وتلك الغيرة الملحوظة على الشخصيات الإسلامية في ظلّ غياب الغيرة على الرسالة نفسها، والإنطلاق من التربية على الشخصية المذهبية لا الإسلاميّة، هذا بالإضافة إلى أن الوحدة ممنوعة غربيا، لأنّ الإستعمار الغربي يبقى يغذّي الشحنات المذهبيّة في سبيل تمرير مشاريعه في المنطقة، كما بالإضافة إلى أنَّ “الصراعات القومية التي فرضت نفسها على حركة التاريخ الإسلامي، أطلقت في السَّاحة الفكرية والسياسيَّة شخصيَّات مصطنعة، سعت إلى” ربط المسلم تارةً بتاريخه السَّابق على الإسلام، وتارةً أخرى بالقوميَّة ذات العصب العربي والفارسي، فتحوَّل الإسلام إلى عنصر طارئ على الشَّخصية، لا أصالة له في عمق ذاك المسلم وفي تاريخه”، حتّى “أصبحت المفاهيم القوميَّة والإقليمية فيما بعد إطاراً عقيديّاً تحول إلى تنظيمٍ حزبي، فتنوعت الأحزاب القومية والوطنية، وفرضت العصبيات نفسها، وبدأت الإتِّهامات بالتبعيَّة توجَّه إلى هذا الحزب أو ذاك، وتمَّ الإنفصال بالمسلمين عن الشَّخصيَّة الإسلاميَّة، وقد أسهم ذلك في صياغة ألوان جديدة من الحكم وأساليبه وشخصياته”. زد إلى ذلك حملات التّشويه من هنا وهناك التي تُلحق بالعالم في حال كان شيعيا والتزم فقهاً سنيّاً أو العكس، ولو في بعض المسائل، ” ولذلك فإنَّ المسألة تحتاج إلى علاج نفسي من جهة، كما تحتاج إلى معالجة منهجية من جهة ثانية”.
ومن هذا المنطلق،حاول سماحته وضع معالجاتٍ تتمثّل بخطوات عمليّة بالإمكان اتباعها من أجل إنجاح مشروع التلاقي والإنفتاح على الآخر، والحدّ من تصدير المزيد من نماذج التدين المذهبي والمتعصّب. وبالإمكان تلخيص تلك الخطوات( بعد التّأكيد على البناء الأخلاقي الحواري) بالآتي:
– التّعمّق في دراسة الخلافات بين أهل المذهب نفسه، أي بين السّنّة أنفسهم، وأهل الشّيعة أنفسهم، ليتفهّم الفريقان أنّ الخلافات بينهما ليست بأكثر من الخلافات داخل كل فريق، فيُعمل على بسط الخلافات وأن لا يُجعل منها شيئاً ضخماً.
-الإلتقاء على كلّ نقاط اللّقاء بين الطرفين الإسلاميين، سواء فيما يتعلق بالأخطار المحيطة بالعالم الإسلامي، أو بالمصالح الّتي تتمثّل في الواقع الإسلامي أمام المستكبرين والكافرين، أو غير ذلك من الأمور المشتركة، وإثارة الشعور بالمسؤولية اتجاهها.
– أن يعتبر الإسلاميّون أنَّ ما ورثوه من فكر وما التزموه من عقيدة ليس هو ذات كل واحد منهم، بل هو شيء جاء من الآخرين السابقين، إذا رأيناه مفيداً أبقيناه، وإذا رأيناه غير مفيد استبدلناه بغيره. أي بما يعني ذلك نزع صفة القداسة عن كل ما تعارفنا عليه من أفكار ومفاهيم، فتصبح قابلة للبحث من جديد(” لا مقدسات في الحوار، حاوروا بعضكم البعض في كل شيء، شرط أن يكون الحوار موضوعياً عقلانياً مرتكزاً على تقوى الله باتجاه الهدف الكبير(واعتصموا بحبل الله ولا تفرقوا”)). (“إنّ قداسة أي مفهوم لا تنطلق من كونه تراثاً للطّائفة أو المذهب، بل تنطلق من عمق الحقيقة الدّينية الخاضعة للبراهين والحجج العلميّة من خلال المصادر الأصيلة للفكر الإسلامي”)
– أن نعمد من جديد إلى غربلة العقائد والعادات والفتاوى الشَّائعة لدى الأمة، من أجل إخضاعها للمقاييس الفنية الإجتهادية في فهم الكتاب والسنة، وتقويم الأحاديث في صحتها وضعفها، بما يعني ذلك توثيق الأحاديث التفسيرية من حيث السند، ودراسة الأحاديث التَّفسيرية من حيث المضمون، إنطلاقاً من القاعدة القرآنيّة: (فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرَّسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلا).
– إيجاد فقهٍ متجانس، يؤكِّد فيه الفقهاء من هنا وهناك، بالبحث الأصولي، الَّذي يرتكز على الإجتهاد، على الأسس المشتركة الَّتي يتفق عليها الجميع في قواعد الأدلة ومصادر الشريعة، بحيث ينطلق الحديث فيه بالأسلوب الإسلامي، الَّذي يستنطق هذا المصدر أو ذاك، دون عقدة ذاتية، أو صفة مذهبية.
-أن يعمل الشِّيعة على توضيح الخط الإسلامي الأصيل، في ما يعتنقونه من أفكار ومفاهيم في جانب العقيدة، أو في نطاق الأشخاص، أو في تفاصيل الشَّريعة، وذلك بالأساليب المتحركة في ساحة الصراع، وبالعمل على كتابة ذلك بطريقة واضحة صريحة، وأسلوب علمي لا تعقيد فيه، وأن يعيشوا في تحركهم السياسي من مواقع السياسة الإسلامية العامة،(” لأنَّهم لا يستطيعون الوصول إلى الأهداف الكبرى إلا في الدَّائرة الإسلاميَّة الكبيرة… الإنطلاق من صفة الإسلام في أي تحرك فكري أو عملي، هو الذي يحقق لأي فريق إسلامي القدرة النفسية على مواجهة أية قضية فكرية أو شرعية بجدية الإهتمام”).
– وضع برنامج ثقافيٍّ تربويٍّ يعمل على أساس إنتاج الذّهنيَّة الإسلاميَّة، الَّتي يتحسَّس فيها المسلم إسلامه قبل أن يتحسَّس مذهبه.
– الإشتراك في الممارسات العبادية على مستوى صلاة الجمعة والجماعة، وفي المعاملات والعلاقات على صعيد الواقع القانوني الشرعي.
-تحويل الثَّقافة التقريبية الوحدوية إلى ثقافة شعبية عامة فاعلة في الوجدان الوحدوي العام، بما يعني ذلك أن يلعب المثقفون والحركيون دورهم داخل المجتمع، على اعتبار أنّه”كلَّما استطعنا أن نجعل القاعدة أوسع، كلَّما استطعنا أن نجعل الفكرة أعمق”.
– تثقيف الناس بأن التنوع لا ينافي الوحدة، أي أنَّ الوحدة في القاعدة الفكرية لا تتنكر للتنوع في التفاصيل.
-إقامة خطَّة محدَّدة تؤكِّد التَّصور الواضح لعقيدة الإسلام وشريعته وأساليبه وأهدافه، بحيث يتمُّ التَّكامل بين المفكرين والمجتهدين في أعمالهم الثَّقافيَّة والفقهيه، من أجل تقريب المضمون الإسلامي إلى وجدان المسلمين، وترتيب مفرداته لتركيز القاعدة الفكريَّة الواحدة، فلا تكون لدينا عدَّة إسلامات، لأنَّ مثل هذا الواقع التَّصوُّري في الوجدان الإسلامي يقف حاجزاً بين الدُّعاة وبين الإنفتاح على الآخرين في تقديم الصُّورة الموحَّدة للإسلام.
– العودة إلى الأصول، أي إلى العصور الأولى، حيث كان المسلمون يتحركون ويعيشون ويختلفون، ولا يشعرون بوجود فواصل عميقة تجعل من كل فريق مجتمعاً مغلقاً.
– عقد مؤتمر إسلامي بين السنة والشيعة لدراسة مسألة رفض التحريف في القرآن الكريم.
– تنفيذ خطة إعلامية تمنع أنصاف العلماء والمبلغين من الحديث غير المسؤول .
– الإتفاق على المفهوم الإسلامي للكفر والإيمان والشرك والتوحيد.
– أن تتحول صيغة الأبحاث الفكرية القائمة على مناقشة الأفكار الإسلامية المختلفة من صيغة تتخذ صفة الهجوم والدفاع، إلى صيغة تأخذ شكل البحث والتحليل الدقيق للقضايا المطروحة في البحث.
– العمل على تفريغ الشَّخصيّة الإسلاميّة من كلّ التّخلّف الثّقافي أو من الحالة الشرقية المتخلّفة الّذي تجعل الإنسان غير مطيقٍ للإطلاع على الفكر الآخر ومناقشة ما عنده.
– التركيز على الخسائر الّتي يمكن أن تلحق بالمسلمين من جراء الخلافات الطائفية.
– عدم اليأس والإحباط بفعل فشل التجربة في ظروفٍ محدّدة، لا سيّما أنَّ الدعوة إلى الوحدة تستبطن إدراكاً مسبقاً بأنّنا (نحتاج إلى وقت طويل حتى نستطيع أن نزلزل هذا الجبل من الجهل والتخلف، ونكون كمن يريد أن يهدم الجبل بفأس صغير)، خصوصاً وأنَّ توحيد المسلمين ضمن مواقف موحَّدة، هي من أصعب القضايا تعقيداً، كونها تصطدم بالقوى العالمية ذات المصالح السِّياسيَّة والعسكريَّة. وفي هذا الإتجاه، تحتاج القضيَّة إلى جهودٍ متواصلة في عملية الدَّعوة التَّوحيديَّة، التي” تنطلق من واقع الشُّعور بالتَّمايز الحضاري الإسلامي ضد القوى الأخرى، وإلى بذل التَّضحيات، والتَّمسُّك بحبل الصَّبر والإيما”ن.
هل فشل مشروع السيّد فضل الله الوحدوي؟
لا يختلف اثنان على أنَّ المنطقة العربيّة تشهد اليوم صراعاً حادّاً واستقطاباً مذهبياً خطيراً لمّا يزل يفتك بأيّ شكلٍ من أشكال الوحدة، وطنيّةً كانت أم إسلاميّة أم غير ذلك. بل إننا بتنا أمام “إسلامات” متعدّدة، لكلّ منها إسم وصورته ومبادئه وعقائده، الّتي لا تتوانى عن تحليل دم المسلم الآخر ولو كان من نفس المذهب، في حال اختلف في إحدى مبادئها.
مشهدٌ كهذا أطلق السؤال حول فشل المشروع الوحدويّ، وأصبح التّيّار الشّعبي الّمتربّي على ذهنيّة “الإصطفافات الواضحة” يعيّر أصحاب التّفكير الوحدوي، من خلال القول الشّعبي الّذي يتردّد اليوم على ألسنتهم: ألم نقل لكم أنَّنا لن نلتقي، وأنّهم يخطّطون للقضاء علينا تحت الطّاولة منذ مدّة، والتّاريخ يشهد.. فلماذا نلهث وراء الآخرين، بدلاً من أن نصنع قوتنا الخاصّة لنحمي أنفسنا منهم!!..
على أنَّ سؤال الفشل هنا يبقى ناقصاً واختزاليّاً، أو ثانويّاً، ذلك لأنّه ثمّة سؤالٌ آخر لا بُدَّ وأن يستبقه: هل أُفشل المشروع الوحدويّ منذ بداية انطلاقاته؟ هل سُمح له في التّطبيق بالأساس؟ ألم يكتفي أصحاب القرار في العالم الإسلامي بتظهير الصورة الوحدويّة، دون العمل على بناء فكرٍ وحدويٍّ وذهنيّة منفتحة على الآخر، الأمر الّذي أفرز ازدواجيّةً واضحة ما بين الخطاب الإعلامي والخطاب الشّعبي العام، المرتكز والمتربّي على ذهنيّة المؤامرة والخوف من الآخر؟
إنَّ الفارق بين الفشل والإفشال يتيح لنا الإجابة عن مآلات المشروع الوحدوي فيما لو سُمح له بالتّطبيق، كما ويتيح لنا الإجابة عن واقعيّة الطَّرح الوحدوي. ولعلّ ما يُدلّل على واقعيّته، هو اضطرار البعض في المواقع الإسلاميّة اليوم إلى إعادة إنتاج الخطاب الوحدوي نفسه الّذي ما برح العلامة فضل الله يجهر به طوال حياته، إلا أنَّ الدّافع لم يكن بنيوياً بقدر ما كان دفاعيّاً، بمعنى إدراك أنَّ المصلحة الإسلاميّة اليوم في ظلّ هذا التّمزّق والتّفتت تتطلّب إظهار هذا الجانب الجامع، الّذي يحاول تطمين الآخر، ولا يحاول استفزازه. بل أكثر من ذلك، إنَّ الأصوات الداعية إلى إعادة تنقية التّراث من الأحاديث المضلّلة وغير الموثوقة ارتفعت بعد أن تحسّست الخطر، ثمَّ إنَّ الخطابات الرّافضة لسبّ عقائد الآخرين ورموزهم قد تكثّفت في الفضاء العام، ولم يعد غريباً أن نسمع أن فلاناً الّذي ينتمي إلى طائفة معيّنة، والموجود في الموقع الرسمي والديني المعيّن، يصّرح بأنَّ التّصرّفات الإستفزازيّة لبعض أتباع طائفته هي الّتي ساهمت في إظهار حالات التطرف الإسلامي هنا وهناك. وبالتّالي فإن عملية المراجعة الذّاتية قد بدأت ولو كان مسارها بطيئاً، ولو كانت تحتاج إلى الوقت حتى تستحيل ذهنيةً شعبيةً تسعى للمراجعة ومحاسبة الذّات.
إنَّ هذا الواقع ليؤكّد على أنَّ المشروع الوحدويّ الّذي انطلق به السيّد محمّد حسين فضل الله، كان مشروعاً عميقاً من حيث التربية الإسلاميّة، ومن حيث النّظرة الإستراتيجيّة الداخلة ضمن إطار وضع حلول مستقبلية لمشاكل المنطقة. لأنَّ الإنطلاق من المراجعة الذّاتيّة، ولأن تفادي الإزدواجيّة ما بين التربية العامة والخطاب الإعلامي، هو الّذي يبعد طابع “التّقيّة” أو “النّفاق”، وهو الّذي يطمئن الآخر، وهو الّذي يشجّع هذا الآخر على أن ينفتح هو بدوره عليه، وينتج خطاباً كخطابه، الّذي لا يتنكّر للإختلاف، وإنّما يطمئنّ بأنّ هذا الإختلاف لا ينضوي ضمن مشروع إلغائي أو إقصائي.
ثمّ لماذا نرى أنَّ أتباع السّيّد محمّد حسين فضل الله(ره) لا يعيشون تلك الإزدواجيّة في حياتهم اليوميّة؟ ألا يعكس ذلك أنّه استطاع أن يربّي الشّخصية المنفتحة والوحدويّة من الجذور( على اعتبار أن المشروع الوحدوي هو في صلبه مفتوح انفتاح على الآخر كما يقول السّيّد)، وبالتّالي ألا يعكس ذلك واقعيّة طرحه؟ فكيف إذا التمسنا هذا التّرحيب به من الأطراف الإسلاميّة ذات المذهب المختلف عن مذهب سماحته وبفكره وبأتباعه؟ ألا يُترجم ذلك ارتياحاً جاداً إلى خطابه الّذي يرونه يعكس فكره وليس مصلحته؟
إنَّ ما عكسه الفهم المرعب للإسلام وما أنتجه من ممارسات شنيعة على أرض الواقع، يفرض على الإسلاميّين الآخرين أن يدافعوا عن صورة الإسلام من خلال محاولة تقديم الصّورة غير الإقصائية بل المنفتحة على الآخر. ولذلك فإنّهم يجدون أنفسهم يصيغون من جديد ذاك الخطاب الوحدويّ، وإن كانت الذّهنية الشعبية تحتاج إلى وقت لتنتج الخطاب ذاته، لأنَّ الخطاب وحده لن يكفي ما لم يواكب بتربية إجتماعيّة تؤكّد عليه.. وهذا ما يجب أن يتّم العمل على أساسه اليوم قبل الغد، وإلا فإنّنا سنبقى في حلقة مفرغة، تترجم خطاب المصلحة، ولا تنتج شخصيّة المبدأ، وخطاب المبدأ..
خلاصة
يختلف المشروع الوحدويّ الّذي صاغه السّيّد عن غيره من الأطروحات الوحدويّة بأنّه في صلب مشروع بناء شخصيّة إسلاميّة، وبالتالي فإنَّ الشخصية الوحدوية هي نتيجة تلقائية للشخصية الإسلاميّة في الأساس، أي إنّك تستطيع استبدال كلمة الوحدوي بالإسلامي، لأنَّ الإسلاميّ بطبيعة الحال لا بدّ وأن يكون وحدويّاً، استناداً إلى ما استوحاه من القرآن ومن شخصية الإمام علي(ع) ومواقفه وغيره من الأئمّة(ع). وبالتّالي فإنّ مشروعه كان ذا شقيّن: الأول بناء الفرد الإسلامي ذو الشخصية المنفتحة على الآخر(أي الساعية إلى التلاقي والوحدة)، بما يعنيه ذلك من تكوين مجتمع إسلامي وحدوي، والثَّاني وهو تصدير خطاب وحدوي وتطبيق خطوات عملية في سبيل تعزيز هذا المشروع. بهذا المعنى أمكننا القول ببنويّته، أي بأنه مشروع بنويّ تأسيسيّ، ومن هنا أمكننا تفهّم مدى مناهضته من قبل البعض، لأنَّ إعادة الـّتأسيس قد تتطلّب هدماً ما في كثير من الأحيان، وهذا ما يصعب على الكثيرين تقبّله، إلّا إن أجبرهم الواقع على ذلك.