لعلّ من أبرز مظاهر الخطر وأشدها قسوة على الواقع اللبناني، تلك المتمثلة بشعور فئة من الفئات بأنها هي الفئة المحرومة والمضطهدة، والمستهدفة في كل شيء، وبالتالي فهي التي تدفع الأثمان باهظة من لحمها الحي ومن مستقبل أبنائها وأهلها وما إلى ذلك…
بيد أن هذه الظاهرة ـ إذا صحّ أن نسميها كذلك ـ تكاد تكون حال جميع اللبنانيين في هذه المرحلة بالذات، ربما لإحساسهم العميق بأن التطورات في المحيط توشك أن تدخل إلى كل بيت من بيوتهم، وللحسابات التي تُضرب فيها الأخماس بالأسداس فيظهر فيها هذا الفريق بمظهر الفزّاعة للفريق الآخر.. ويبدو ذاك الفريق كمتربّص للآخرين عند المنعطفات السياسية أو الأمنية المقبلة…
وهكذا.. حتى يدخل القلق والوهم إلى كل البيوت وكل المكوّنات اللبنانية، ولعلّ ما يزيد الطين بلّة في هذا الأمر أن التصريحات والمواقف السياسية الداخلية غالباً ما تنطلق من خلال حسابات ذاتية لدى هذا الفريق أو ذاك، أو أن «قراءتها» تتم على هذا النحو، وبالشكل المخيف والمثير للقلق والوهم والحسابات المعقدة…
ولكن التجارب التي مرّ بها اللبنانيون على طول الخط، ومنذ الاستقلال إلى يومنا هذا، أكدت بما لا يبقي مجالاً للشك، أن الحسابات الذاتية لا يمكن أن تكون مدعاة للطمأنينة والراحة، وأنه لا مجال لاستقرار البلد وفق منطق الغالب والمغلوب، لأن هذه الصيغة لا يمكن أن تكون صيغة ناجحة في أي بلد، وخصوصاً في لبنان، وبالتالي فلا مجال للذهاب بعيداً في نغمة الخوف والخوف المضاد أو في طريق الإحباط هنا أو هناك، لأن البناء على هذا الأساس يعني الهدم لمسيرة التعايش والوحدة، حتى أن نغمة الأكثرية والأقلية لا يمكن أن تساهم في تركيز قواعد الاستقرار الداخلي، وبالتالي لا بد من العودة إلى القاعدة الأساس القائمة على المواطنة التي يُصار فيها إلى احترام الإنسان ـ المواطن على أساس كفاءاته وعطاءاته بعيداً من كل الحسابات السياسية والطائفية والمذهبية وما إلى ذلك…
إننا نلمح مشهداً خطيراً في هذه الأيام، حيث أن اللبنانيين، بجميع فئاتهم وقواهم السياسية ومواقعهم الطائفية، يشعرون بمظالم تعرضوا أو يتعرضون لها الآن، ليكون الرهان على استخدام العنف والقوة لرفع الحيف اللاحق بهم هو أحد الرهانات التي يعتبرونها منجاة، ولكنها في الحقيقة هي الفتنة بعينها، لا بل هي الحالقة التي تثير هلع اللبنانيين، لأنهم عاشوا كل آلام الحروب الداخلية واكتووا بنيرانها وعرفوا أن أية قوة عصبوية لا يمكنها ـ في نهاية المطاف ومهما أغلقت أعينها ـ أن تحجب الرؤية عن التنوع اللبناني الرافض للانخراط في عصبوية من هنا أو من هناك مهما كان لونها…
طوقوا نيران الفتنة
ولذلك، فإن أفضل ما يمكن أن ينتفع به اللبنانيون ـ وخصوصاً أمام الهواجس الكبرى التي برزت في الأيام الماضية ـ هو أن يعملوا جميعاً على الاستفادة من تجاربهم المريرة، والعمل سريعاً لتطويق نيران الفتنة بالوحدة الداخلية، وبالإصرار على حماية المؤسسات التي يمثل تداعيها ليس انهياراً لمشروع الدولة، بل سقوطاً للوحدة الوطنية…
ونحن في هذا بأمس الحاجة للإطفائيين الذين يعملون على هدم خطوط التماس النفسية التي ترتفع بين الطوائف في هذه الأيام، والذين يصرّون على قول التي هي أحسن، والدفع بالتي هي أحسن، ولا ينخرطون في خطابات التمذهب والتعصب والانغلاق على الذات…
لقد قالها رسول الله(ص): «من تعصب أو تُعصب له خلع ربقة الإيمان من عنقه».. ولذلك فحذار من العصبية، وحذار من الخطابات النارية مهما تراكمت الأخطاء.. وتعالوا جميعاً إلى الخطوط التي رسمها الإسلام لوأد الفتنة، تعالوا إلى «الكلمة السواء» وإلى رفض التنازع الذي لا يُفضي إلا إلى الفشل وذهاب الريح، تعالوا إلى الحوار الذي لا بديل عنه لتخطي منعطفات هذه الأزمة التي يتخيّل هذا الطرف أو ذاك أنه لا بد من الحسم فيها، فيما اللعبة الدولية والإقليمية هي الأكبر من الجميع، والتي قد تعيدنا إلى دور سبق أن مارسناه واحترقنا بنيرانه، دور الحطب لكل هذه النيران المنبعثة من حولنا وعلى امتداد المنطقة…
وإذا كان الحوار هو الحل وهو الخلاص للبلد فإن الحوار على مستوى الدائرة الإسلامية هو السبيل الوحيد الذي لا يمكن الانعطاف حوله في أي ظرف من الظروف، وخصوصاً في الظروف الراهنة.. لأننا عندما نتكاشف ـ كما هي وصية الرسول الأكرم(ص) ـ فلن نتدافن، ولن نتدافع إلا تدافع المحبة والإخلاص، فليس السنة مشكلة الشيعة في لبنان أو خارج لبنان، وليس الشيعة هم مشكلة السنة في لبنان أو خارجه، إنه الكيان الصهيوني عدو السنّة والشيعة…
كذلك، فإن الدعوة نفسها لا بد من أن توجه لشركاء الوطن من المسيحيين الذين نتوحد معهم على المستوى الإنساني العام، فضلاً عن المصالح المشتركة في الداخل، وعلى الوقوف ضد الخطر الصهيوني من الخارج…
فلماذا لا نصوّب الحراب والكلمات والمواقف تجاهه، وخصوصاً في الوقت الذي يهوّد البقية الباقية من قدسنا الشريف، بعدما مضى بعيداً في استيطانه للضفة الغربية، ويعمل لتقويض المسجد الأقصى ويسعى لمد أذرعه الأمنية والسياسية والاقتصادية إلى أبعد مكان في المنطقة العربية والإسلامية…
تعالوا إلى الحوار واللقاء، فقد شبعنا استعراضاً وكلمات قاسية من هنا وهناك، وبتنا بأمسّ الحاجة للكلمة الهادئة والموقف الرصين وحوار المحبة…