أحدث المقالات

12 عاماً مرت على انتصار 25 أيار الَّذي حقَّقته المقاومة الإسلاميَّة في لبنان، كان يوماً تاريخياً مشهوداً أدهش العالم وأدهش الجماهير العربيَّة الَّتي كادت قاب قوسين أو أدنى من التَّسليم اللاإرادي لما يسمّى "دولة إسرائيل"، فقد أعادت تلك الأيادي القابضة على الزناد والعيون الساهرة على امتداد الوطن وما بعد الوطن إلى فلسطين، الأمل إلى الواقع العربي الَّذي عانى منذ العام 1948- عام النَّكبة الَّذي تمَّ فيه الإعلان عن قيام دولة "إسرائيل" في قلب الوطن العربيّ ـ من الانتكاسات العديدة الَّتي كادت تطيح بأيِّ فرصة للدفاع عن الحقّ العربيّ في استعادة فلسطين وجميع الأراضي العربيّة المحتلّة..لقد ولّت إلى غير رجعة تلك الحقبة الَّتي تمَّ في خلالها تنفيذ المخطَّطات الّتي حيكت سرّاً في الغرف الدّوليَّة المُظلمة، حيث كان يرسم الإطار العام للصّورة العربيّة الملائمة لقوى الهيمنة الغربيّة بقيادة الولايات المتّحدة الأمريكيّة، ومنذ ذلك التاريخ والعرب الأحرار يخوضون الحروب غير مكترثين بالتفوّق العسكريّ الإسرائيليّ، ولم يثنهم أو يحطّ من عزيمتهم أي تهديد ووعيد، خاضوا حروب الاستنزاف وتكبدوا الخسائر العظيمة، فتحقّقت بعض الانتصارات والإنجازات، إلى أن كانت الحرب المفصليّة في حزيران 1967، حيث مثَّلت النكسة الّتي مُني بها العرب،نقطة التحوّل الكبرى في مسيرة الصِّراع العربيِّ الإسرائيليّ، مع ما رافقها من حالة الصَّدمة النّفسيَّة والخيبة المعنويَّة الّتي أصابت النخب والمثقفين والقواعد الجماهيريّة الطّامحة للقضاء نهائيّاً على إسرائيل.

وسرعان ما استعاد العرب في مصر وسوريا في 1973 زمام المبادرة، إلا أنّ السّياسة في المواقع المتقدّمة خذلت السّلاح، حيث سارع بعض الزّعماء العرب الخائفين على مستقبل حكمهم إلى خيانة القضيَّة، فتعاملوا مع إسرائيل تحت عناوين ومبرّرات واهية لا تنطلي على كلّ ذي عقل سليم.. وبدأ العمل المحموم من قبل قوى الهيمنة الأمريكيَّة، لتكريس واقع الدَّولة القطريَّة على حساب الدّولة القوميّة، وسُخِّرت بغية الوصول إلى هذا الهدف كافة الطّاقات المتاحة الّتي تكفل دوام التّبعيَّة العمياء للغرب سياسيّاً واقتصاديّاً وثقافيّاً، وسلك الحكَّام العرب طريق التَّسوية، وعملوا على تسويق هذا المنهج المنافي للفكر القوميّ العربيّ المدافع عن القضايا العربيّة، وجرى التّفاوض، وأُبرمت معاهدات "السّلام" مع "إسرائيل"، والّتي مثّلت قمّة الإسفاف والإجحاف والظّلم بحق العرب من المحيط إلى الخليج.
وليكتمل مشهد الهزيمة، كانت المحاولات الجادة لتصفية القضيَّة الفلسطينيَّة، وتحويل الصّراع عن مساره الحقيقي، ليصبح صراع حدود لا صراع وجود، وهذا ما عبّر عنه التحوّل الجوهريّ في الخطاب العربي الرسمي، الّذي توجّه إلى الجماهير العربيَّة بمنطق تزييف الحقائق، وأنّه لا خيار ولا بديل من التَّسليم والاعتراف بإسرائيل، واعتبارها دولةً طبيعية التكوين والجوار، وأن الصراع الدائر إنما هو فقط على قطعة أرضٍ هنا أو قطعة هناك، وهذا الأمر إنَّما يُحَلّ دبلوماسيّاً، وصولاً "إلى التَّعايش وبسلام" بين أبناء العم
!
ولعلّ هذا ما أرسته مضامين زيارة السّادات إلى إسرائيل العام 1977، في سياق "تسويق التّسوية" الّتي جرى الإعداد لها سرّاً، لتظهر بعدها إلى العلن دون خجلٍ، مسوّغة بذرائع واهية، تمثّلت بدعوى إنقاذ ما يمكن إنقاذه من أرض، وبدعوى السّلام من أجل الطّعام، ومبدأ استحالة تحدّي إسرائيل ومواجهة ترسانتها العسكريّة، ومن خلفها الولايات المتّحدة الأمريكيّة، وضرورة الأخذ بمنهج الواقعيّة واعتبار أن من يذهب في غير هذا الاتّجاه إنّما هو مغامر مجنون يأخذ الأمّة إلى أنفاقٍ مظلمةٍ وأفقٍ مسدود، ويعيد العالم العربيّ إلى عصر الكهوف المظلمة

وعلى الرغم من هذه الأجواء، وأمام تلك الصّورة المأساويّة، حيث أصبح التَّفريط بالحقوق العربيّة والإمعان في الاستسلام، خياراً استراتيجيّاً عند الحكّام العرب، يقابله استرخاء الشّعب العربيّ، وفي ظل استمرار إسرائيل بتنفيذ مخططها التوسعي، حيث اجتاحت لبنان مرتين، وكان الاجتياح الكبير في العام 1982، إذ دخلت جحافل العدو إلى بيروت آنذاك، وحتى إنه لم يسلم منها حجر أو بشر جراء الهمجيَّة الصهيونيَّة، وكأنَّ زلزالاً ضربها فسوّاها خراباً، لم يؤد كلّ ما جرى إلى إخضاع أبنائها والنيل من صمودهم وإرادتهم في المقاومة، فأعلنوا بداية عهد جديد، هو عهد المقاومة.

لقد كان خيار المقاومة خيار الأبطال الذين قرروا الإعداد لمواجهة العدوان الصهيوني الغاشم بكل الإمكانات المتاحة، وبالرّغم من اختلال موازين القوّة العسكريّة لصالح الكيان الصّهيونيّ، استطاعت المقاومة بقوّة الإرادة والعزيمة والتّخطيط الهادئ البعيد عن الحماس والانفعال، وبأسلحةٍ متواضعةٍ، أن توجّه الضّربات المُحكمة والمؤلمة للعدوّ، لتربك مخطّطاته، وتلحق به الهزيمة تلو الهزيمة، وتكسر العديد من القواعد والمقولات الّتي استسلم لها العرب ردحاً طويلاً من الزّمن، فمن عمليَّة أنصاريَّة وما لحقها من عمليات نوعية كبدت العدو خسائر جمّة، أدت به إلى أن يأخذ بسياسة العقاب الجماعي لبنان مقاومةً وشعباً، حيث شنّ عدواناً واسعاً على لبنان صيف 1993، وبعدها حرب عناقيد الغضب فجر 11 نيسان 1996، وما شهدته تلك الحروب من مجازر دمويَّة كان أفظعها مجزرة قانا الَّتي راح ضحيّتها 106 شهداء معظمهم من الأطفال والنساء والشيوخ، والتي أظهرت بشاعة وبربرية إسرائيل ووحشيتها.. كل ما حدث لم يزد المقاومة إلا عزيمةً وإيماناً بصوابية خيارها، ومع بداية أيار بدأ حلم التحرير يتحقق، وأضحى حلم استعادة الأرض حقيقة واقعية.
لقد عرف هؤلاء الأحرار أنّها حرب إرادات يُهزم فيها من تهون عزيمته وتسقط إرادته، وينتصر فيها من يتحلّى بالإرادة الصّلبة والعزم على مواصلة الطّريق حتّى تحقيق النّصر مهما بلغت التّضحيات.. فقُهر بذلك الجيش الّذي لا يُقهر، وقاومت العين المخرز، واندحر العدو يجرّ خلفه أذيال الخيبة والانكسار من جنوب لبنان في العام 2000. ثم تكرّر المشهد في 2006، حيث تحقّق النّصر التّاريخيّ الضّخم الّذي لم يستفد منه لبنان فحسب، بل أسّس لمعادلاتٍ وتوازناتٍ إقليميّةٍ جديدةٍ لحساب قوى الممانعة، وساهم في ضخّ الدّماء في عروق الحركات المقاومة في كلِّ بقعةٍ من عالمنا العربيّ، وهذا ما تجلّى في الانتفاضات الفلسطينيَّة وفي حرب غزَّة، فخرجت المقاومة منها منتصرةً، إذ إن الحرب عزَّزت القدرة والإمكانيّة العمليّة على إلحاق الهزيمة بالعدو وردعه، فبات العدو يحسب لها ألف حساب قبل الإقدام على أيّ مواجهةٍ، لأنّه بات يعرف فداحة أيّ عمل أحمق قد يقوم بارتكابه، فالحرب لم تعد كما تعوّدها من قبل نزهةً تنقضي في غضون أيّام، لا بل سويعات.. إنما أصبحت درباً عسيراً محفوفاً بالمخاطر والألغام
.
لقد تحقَّق هذا النصر بفضل الإيمان العميق بالقضيَّة ووعي هذه المقاومة وكفاحيتها واستيعابها دروس الماضي ودأبها على التعلم والأخذ بأسباب القوة في كافة المجالات.. وبفضل صمود الشعب ودعم الدول الممانعة
.
نعم، لا تزال إسرائيل قادرة على أن تقصف وتدمر بهمجيتها كل لبنان، ولكن لم يعد بوسعها أن تنتصر، وهذا هو الجوهر الأساس الذي رسخته المقاومة في وجدان الأمة وضميرها.. لقد ولّى زمن الهزائم

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً