بين الاستحالة والإمكان
د. الشيخ خالد الغفوري الحسني(*)
خلاصة المقالة
تناولت هذه الدراسة فكرة الملكية الاعتبارية للنفس من ناحية ثبوتها وعدمه. وقد اشتملت على ستّة محاور، بحثنا فيها ما يلي:
1ـ الأدلّة على ثبوت الملكية الاعتبارية للنفس، وعدم استحالة جعلها، وكذلك ثبوت ملكية منافع النفس، وملكية أعمالها، ملكية اعتبارية.
2ـ تعرَّضنا إلى نظرية الشهيد الصدر حول ملكية الأعمال، وناقشناها.
3ـ كما تناولنا ما يُصطلح عليه بملكية الذمم، وناقشناه.
4ـ ثمّ بيّنّا خصائص ملكية النفس، ومنافعها، وأعمالها.
مقدّمة
1ـ بيان المسألة
لا رَيْب في وقوع ملكية الإنسان للأموال المنفصلة عنه فيما لو تحقّق أحد أسباب الملكية. ولا داعي للبحث عن إمكان ذلك وعدمه. وأمّا ملكية الإنسان لنفسه فقد وقع فيها الكلام من قِبَل بعض الفقهاء من ناحية إمكانها، فضلاً عن وقوعها. ونحن في هذه الدراسة نُحاول تسليط الضوء على بحث هذه النقطة وما يتعلّق بها من الزاوية الفقهية، ونسعى لتحليل وتقويم كلمات الفقهاء.
2ـ ضرورة البحث
تتّضح ضرورة البحث من أهمّية الملكية ودورها في المجال الاقتصادي في حياة الإنسان. وقد عُنيَتْ الشريعة بالملكية وأحكامها عنايةً كبيرة. ولكنّ هذا البناء العلوي من الأحكام الشرعية بحاجةٍ الى تحليلٍ؛ لاكتشاف الأسس التحتية التي ينبني عليها. وهذا البحث، نقضاً وإبراماً، يقع في هذا السياق.
3ـ أهداف البحث
إنّ الهدف الأساس من فتح هذا الملفّ البحثي هو الوصول إلى رؤيةٍ متكاملة حول النظرية الصحيحة؛ لتحليل شبكة أسباب الملكية من وجهة نظر فقهية، والتمكن من تحصيل تفسيرٍ منسجم لها؛ باعتبار الدَوْر المؤثّر لمسألة ملكية النفس ثبوتاً وعدماً.
4ـ سابقة البحث
ثمّة مسألة تعرّض لها الفقهاء المتقدّمون، ألا وهي (مسألة شراء العبد نفسَه من سيّده)، وهل يصحّ أم لا؟ وهل يقع بيعاً أم عتقاً؟ وهل تشمله أحكام الخيار أو لا؟
وقد بنى بعض الفقهاء المتأخّرين هذه المسألة على مدى ثبوت فكرة الملكية الاعتبارية للنفس وعدمها. وأنا لا أعلم أوّل مَنْ أثار هذه الحيثية التحليلية على وجه التحديد، ولكنّها موجودةٌ في كتاب مكاسب الشيخ الأنصاري، وشرّاحه، ومَنْ تلاه من الفقهاء والباحثين، ولم أرَ مَنْ أفرد لها بحثاً مستقلاًّ مستوعباً.
هذا، وقد عقدنا البحث في ستّة محاور، وهي:
الأوّل: ملكية النفس.
الثاني: ملكية منافع النفس.
الثالث: ملكية أعمال النفس.
الرابع: نظرية الشهيد الصدر في ملكية الأعمال.
الخامس: الموقف من ملكية الذمم.
السادس: ما هي سمات وخصائص ملكية النفس، ومنافعها، وأعمالها؟
وإليك تفصيل البحث:
المحور الأوّل: ملكيّة النَّفْس
وهذه الملكية هي أمّ المملّكات، ومنها نشأت سائر الملكيات؛ فإنّ أوّل سلطان للشخص هو سلطانه على نفسه وملكه لها. ومُرادنا الملكية الاعتبارية الحقوقية، وإلاّ فالملكية التكوينية الحقيقية للنفس أمرٌ مسلَّم، ولا كلام لنا فيه.
تنبيهٌ
إنّ عنوان (الذاتية)، الذي هو أمرٌ اعتباري، يختلف بحسب اصطلاحنا عن عنوان (الذاتية) بحسب اصطلاح بعض الفقهاء، الذي يُريد به الملكية التكوينية، فيما نحن نُريد به ما لم يحتجْ إلى سببٍ خارج عن النفس وذات الإنسان.
الاستدلال
ونحن؛ بالنظر الى كلمات الفقهاء، ينبغي لنا أن نسير في الاستدلال ضمن مرحلتين: الثبوت؛ والإثبات.
المرحلة الأولى: هل أنّ اعتبار الملكية للنفس ممكنةٌ ثبوتاً أو لا؟
وقد يبدو في النظر إمكان القول بالملكية الاعتبارية للنفس؛ حيث لا مشكلة في البين. ولكنْ تبرز أمامنا إشكاليتان: عقلية؛ وعقلائية([1]).
الإشكالية الأولى: إشكالية الاستحالة عقلاً([2])؛ وذلك لأنّ ملكية النفس تكويناً ثابتة بالوجدان، واعتبار الملكية لها ما هو إلاّ تحصيلٌ للحاصل، وهو مستحيلٌ.
الجواب: الظاهر أنّ هذه الإشكالية لا مجال لها؛ فإنّ تحصيل الحاصل إنّما يكون حال تكرار الشيء بنفسه، وأمّا إذا كان كلٌّ منهما متفاوتاً مع الآخر؛ لاختلاف السنخ، فإنّ الملكية التكوينية هي مقولة واقعية خارجية تدخل ضمن الأعراض، وأمّا الملكية الاعتبارية فهي ليست من المقولات، وإنّما هي صورة ذهنية مفترضة، فلا استحالة في اعتبارها البتّة. فما يُراد تحصيله من الملكية الاعتبارية الافتراضية غير ما هو حاصلٌ من قبل، وهي الملكية الحقيقية والتكوينية.
الإشكالية الثانية: إشكالية الاستحالة العقلائية، لا العقلية؛ وذلك بسبب اللغوية، كما ورد في عبارات بعضهم([3]). فما دامت الملكية التكوينية متحقّقةً يكون اعتبار ملكيةٍ أخرى لغواً، لا تترتّب عليها أيّ فائدة، ولا سيَّما أنّ الثانية الاعتبارية ليست بأقوى من الأولى التكوينية، فهو استبدال الأدنى بالذي هو خير.
الجواب: ويرد على هذه الإشكالية، حلاًّ ونقضاً:
أمّا النقض فإنّ ثمّة ظاهرة مشابهة للملكية، وهي السلطنة، التي هي على نوعين: سلطنة تكوينية؛ وسلطنة اعتبارية. ولا يرى العقلاء أيّ غضاضة في جعل السلطنة للإنسان على نفسه واعتبارها. ولا لغويّة في ذلك، فضلاً عن استحالته.
وأمّا الحلّ فإنّ هذه الإشكالية سوف تنتفي فيما لو تصوَّرنا بعض الآثار العقلائية التي قد تترتَّب على اعتبار ملكية النفس. وهذا حاصلٌ؛ فثمّة آثار من قبيل:
المورد الأوّل: بيع النفس على الغير، كما كان يحصل في بعض المجتمعات غير الإسلامية، بل ربما نسمع أحياناً بحصول مثل ذلك في عصرنا الحاضر، فيصبح الحرّ عبداً.
المورد الثاني: شراء النفس من الغير، كما في شراء العبد نفسه بمكاتبةٍ أو ببيع. وقد أورد ذلك عددٌ غفير جدّاً من الفقهاء، من المتقدِّمين والمتأخِّرين([4]).
وهؤلاء الفقهاء الذين ذكرناهم بين مَنْ قَبل هذا البيع، صريحاً أو ظاهراً، وبين مَنْ احتمله أو تردَّد فيه، وبين مَنْ ردَّه. وموقف القسم الأوّل كاشفٌ عن عدم استحالة ملكية الإنسان لنفسه. وكذا موقف القسم الثاني، وإلاّ فلو كان مستحيلاً وفاسداً فلا معنى لاحتماله أو التردُّد. وأمّا القسم الثالث فهم وإنْ لم يرَوْا صحّة هذا البيع، لكنْ لا من جهة محذور الاستحالة، بل من جهاتٍ أخرى.
أجل، ثمّة مَنْ قال ببطلان هذا البيع من جهة محذور استحالة ملكية الإنسان لنفسه. ولكنّ هؤلاء لا يتجاوز عددهم عدد أصابع اليد، حَسْب تتبُّعنا، كالآخوند الخراساني والمامقاني والسيد محسن الحكيم، كما أشرنا قبل قليلٍ عند بيان الإشكالية الأولى([5]).
لا يُقال: إنّه يُشترط في البيع مغايرة المبيع مع المشتري؛ فإنّ الإنسان إنّما يشتري الأموال المنفصلة عنه، وفي شرائه نفسه يتّحد المبيع مع المشتري، أي يتّحد المالك والمملوك([6]).
فإنّه يُقال:
1ـ تكفي المغايرة الاعتبارية. وهي مصحِّحةٌ للتملّك، نظير: تملّك الإنسان ما على نفسه، كالدَّيْن يبيعه الدائن من المديون. غاية الأمر أنّه بعد هذا الاعتبار يسقط المال عن كونه مملوكاً له([7])، وحينما يشتري نفسه يصبح حرّاً([8])، أي لا يملك منافعه أحدٌ([9]).
2ـ أدلّة صحّة البيع ونفوذه له([10]).
كما لا يُقال: إنّه يُشترط في البيع مغايرة الثمن مع المبيع؛ فإنّ البيع هو مبادلة مالٍ بمال؛ لعدم تعقُّل بيع الإنسان أحد مالَيْه بماله الآخر. وفي المقام نفس العبد ملك للمولى، والثمن الذي هو ملك للعبد ملكٌ للمولى أيضاً، فكيف يبيع عبده بمال عبده الذي هو ماله؟!([11]).
فإنّه يُقال أيضاً: تكفي المغايرة الاعتبارية والتعدُّد الاعتباري بين المالك والمملوك؛ فإنّ الثمن وإنْ كان ملكاً للمولى إلاّ أنّه ملكه طولاً، لا في عَرْض ملكه للعبد؛ فإنّ الملك الواحد لا يجتمع عليه مالكان عَرْضاً، وأمّا طولاً فلم يقُمْ على امتناعه دليلٌ. فالثمن الذي يملكه العبد وإنْ كان ملكاً للمولى إلاّ أنّه ملكٌ له طولاً، والمثمن ـ وهو العبد ـ ملكٌ للمولى بلا واسطةٍ، فيجوز تبديل ملك له بلا واسطة بملك له بواسطة ملكه لصاحب المال. فاختلف المالكان اعتباراً([12]).
المورد الثالث: بيع وشراء بعض أعضاء البدن، كالكِلْية والكبد والدم.
المرحلة الثانية: هل ثمّة دليلٌ على اعتبار الملكية للنفس؟
الدليل الأوّل: لقد قام الارتكاز العقلائي على أنّ للإنسان سلطنةً اعتبارية على نفسه، ناشئةً من ملكيته التكوينية على نفسه، وسلطنته الحقيقية عليها. وأثرُها هو تمتُّع الإنسان بالحرّية، وعدم سلطنة الغير عليه، ولا مزاحمته. ولكنْ قد تنتقل هذه السلطنة على النفس وملكيتها إلى الغير؛ بسبب الرقّ. فالنفس تملك النفس، والنفس تملك الخارج من النفس. وملكها في المقامين بمعنىً واحد، وإنْ كان الأثر المترتِّب على ملكها للنفس هو الحرّية، والأثر المترتِّب على ملكها للخارج من النفس بمعنى العبودية والرقِّية. فالحرّ مملوكٌ لنفسه، والعبد مملوكٌ للأجانب، وسلطنة الحُرّ على نفسه وملكه لنفسه هو معنى القاعدة العقلائية القائلة: (الناس مسلَّطون على أنفسهم)، وسلطنته على الغير هو معنى: (الناس مسلَّطون على أموالهم)([13])([14]).
ولولا هذه الملكية الاعتبارية للنفس لما أمكن الحكم بالرقّية، ولا الحرّية، من قِبَل العقلاء. فحكم العقلاء بالرقّية والحرّية كاشفٌ كشفاً إنّياً عن وجود اعتبار ملكية الإنسان لنفسه في الرتبة السابقة. وإنّ هذا مرتكزٌ في الذهن العقلائي.
بل ولولا هذه الملكية الاعتبارية للنفس لما حُكم من قِبَل العقلاء بملكية سائر الأموال الخارجة عن النفس.
وقد أمضى الشارع هذا الارتكاز العقلائي([15]) في الجملة، لا بالجملة. وهذا الإمضاء لم يتمّ من خلال عدم الردع وسكوته فحَسْب، بل من خلال إقراره الرقّية والحرّية المترتّبتين على الملكية الاعتبارية، ومن خلال ما رتّبه عليهما من أحكام تكليفية ووضعية، كما هو الحال بالنسبة إلى الرقّية، من مشروعية البيع والوطء بملك اليمين وتحريم الإباق وغير ذلك.
أجل، قد منع من بيع الإنسان لنفسه، وإنْ أباح له شراءها، كما في باب المكاتبة. قال المحقّق الإيرواني: «وحَسْب ما ذكرناه ـ من أنّ كلَّ سلطنةٍ قابلة للنقل والتحويل بالبيع ـ جاز للشخص أن يبيع نفسه، لولا التعبُّد الشرعي بالمنع»([16]).
هذا، ونظراً للتسليم بإمضاء الشارع لهذا الارتكاز العقلائي نرى الفقهاء قد سلَّموا بقاعدة (الناس مسلَّطون على أنفسهم)، واستدلّوا بها في موارد كثيرة تفوق حدّ الحصر([17]).
المناقشة الأولى
لقد ناقش السيد الخوئي في ثبوت هذه القاعدة، وردّها بقوله: «إنّ هذه الجملة وإنْ وردت في كلمات الفقهاء، إلا أنّها لم تُذْكَر في شيءٍ من النصوص، ولم يدلّ عليها دليلٌ».
ثمّ تطوّع بذكر بعض الوجوه الممكنة للاستدلال على هذه القاعدة، وهي قوله تعالى، حاكياً عن موسى×: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي﴾ (المائدة: 25). ثمّ تصدّى لردّها؛ بكونها أجنبية عن السلطنة على النفس. ولا يصحّ الاستدلال بها؛ فإنّها في مقام بيان قدرة موسى× على تنفيذ أمر الله تبارك وتعالى، وأنّه لا قدرة له إلاّ على نفسه وأخيه، دون بني إسرائيل. وختم النقاش متسائلاً بقوله: «وأين هذا من محلّ كلامنا؟!»([18]).
والجواب:
1ـ إنّ هذه القاعدة وإنْ لم ترِدْ بألفاظها في النصوص، إلاّ أنّها قاعدة عقلائية قد أمضاها الشارع. والإمضاء يُفيد ثبوت الدليلية لها، فلا يصحّ إنكارها وإبعادها عن ساحة الاستدلال الفقهي.
2ـ إنّ عدم دلالة الآية المتقدّمة في المائدة على قاعدة السلطنة وإنْ كان صحيحاً، إلاّ أنّ ثمّة أدلّة أخرى، كقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (الأحزاب: 6)، وكذلك حديث الغدير([19])، وأيضاً كونها أولى من السلطنة على المال الثابتة بقاعدة: (الناس مسلَّطون على أموالهم) ([20])، كما سوف يأتي.
الدليل الثاني: التمسُّك بقوله تعالى: ﴿النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ وَأُوْلُو الأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ مِنْ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلَى أَوْلِيَائِكُمْ مَعْرُوفاً كَانَ ذَلِكَ فِي الْكِتَابِ مَسْطُوراً﴾ (الأحزاب: 6)([21]).
وتقريب الاستدلال بالآية: دلّت هذه الآية على أنّ للنبي‘ ولاية على الناس، وهذه الأولوية والسلطنة الثابتة للنبي‘ ثابتةٌ بالقياس إلى أولوية النفس بنفسها وسلطنتها عليها. وإنّ سلطنة النبي‘ وولايته مقدّمة على سلطنة النفس وولايتها على نفسها. ومن الواضح أنّ ولاية للنبي‘ هذه هي ولايةٌ تشريعية واعتبارية، ولازمها أنّ ولاية النفس على نفسها تشريعية واعتبارية أيضاً، وإلاّ فلا تصحّ نسبة الولاية التشريعية والاعتبارية إلى الولاية التكوينية؛ لكونها من سنخ آخر.
الدليل الثالث: قوله‘ في حديث الغدير المعروف: «…وأنا أَوْلى بالمؤمنين من أنفسهم، فهل تُقرّون لي بذلك وتشهدون لي به؟!»، فقالوا: نعم، نشهد لك بذلك، فقال: «ألا مَنْ كنتُ مولاه فإنّ علياً [= فهذا عليٌّ] مولاه»([22]).
وتقريب الاستدلال بهذه الرواية نحو ما تقدّم في الآية السابقة. ويزيد عليه بتثبيت أولوية للإمام عليّ× ومولويته، وهذا أمرٌ تشريعي أيضاً.
الدليل الرابع: لقد ثبتت قاعدة سلطنة الناس على أموالهم، بحيث يكون لهم حقّ التصرّف فيها، إلاّ ما حرَّمه الله تعالى. وليس لغيرهم أن يتصرّفوا في مال الغير إلاّ بإذنه، فهم بطريق أَوْلى مسلَّطون على أنفسهم وذواتهم([23])؛ فإنّ السلطة على الذات قبل السلطة على المال بحسب الرتبة، بل هي العلّة والملاك لها، حيث إنّ مال الإنسان محصول عمله([24]).
المناقشة الثانية
قد يُقال: إنّ الملكية الاعتبارية من الظواهر الاجتماعية، لا الفردية، فإنّ العقلاء إنّما اعتبروا الملكية حينما وقع التزاحم في المجتمع، وأمّا اعتبار ملكية النفس فيُلحظ فيها الشخص مستقلاًّ، لا بلحاظ عضويته في المجتمع. وهذا اللحاظ لا يهمّ العقلاء حتّى يُخصِّصوا له اعتبارات خاصّة وتشريعات، فتشريعها يكون عبثاً حينئذٍ، واعتبارها للشخص يكون لغواً محضاً([25]).
والجواب:
1ـ إنّ اعتبار الملكية على النفس أيضاً تكون بلحاظها كظاهرةٍ اجتماعية، فمع ثبوتها للنفس فلا أحد يُزاحمه على نفسه، وهو أَوْلى بها من غيره، ومع ثبوتها لغيره فهذا الغير هو أَوْلى بنفسه منه.
2ـ ليست الاعتبارات العقلائية المتعلّقة بالنفس بعزيزة، كقاعدة سلطنة الناس على نفوسهم.
المناقشة الثالثة
قد يُقال: إنّه لا ضرورة لافتراض ملكية النفس لنفسها اعتباراً، بل يكفي افتراض ولايتها وسلطنتها على نفسها. ومن هنا شاعت هذه القاعدة العقلائية: (الناس مسلَّطون على أنفسهم)؛ إذ المُراد بهذه السلطنة ولاية التصرُّف، لا الملكية.
والجواب:
إنّ ولاية التصرُّف هي حقٌّ اعتباري ناشئ من الملكية الاعتبارية، لا أنّه عينها، ولا أنّه يُغني عنها. ونظير ذلك: القاعدة الأخرى الواردة بالنسبة إلى الأموال: (الناس مسلَّطون على أموالهم)، فهي تُثبت حقّ الولاية للنفس على أموالها بالمطابقة. وهذا الحقّ إنّما نشأ بلحاظ ملكية الناس لأموالهم، فلكونها أموالهم، وأنّها ملكٌ لهم، ثبت لهم حقّ الولاية بالتصرُّف فيها، وبعبارةٍ أخرى: إنّ مالكية التصرُّف منبثقة عن مالكية الرقبة، فمالك العبد أَوْلى بالتصرُّف فيه، وهذه الأولوية نشأت من ملكه لرقبته.
هذا بحسب الأصل. ولكن لا مانع أحياناً من التفكيك بين ملكية الرقبة وبين أولوية التصرُّف في بعض الحالات الاستثنائية، الخارجة بدليلٍ خاصّ، كولاية الولي الخاصّ أو العامّ على الشخص أو المال.
كما يحصل التفكيك أحياناً بين ملكية الرقبة وبين منافعها، كملكية منافع الدار لمستأجِر الدار، مع كون رقبتها باقيةً على ملك مالكها المؤجِّر.
المناقشة الرابعة
قد يُقال: إنّه لا ضرورة في افتراض الملكية للشيء في رتبةٍ سابقة قبل إيقاع المعاوضات عليها، كالبيع، فيُمكن أن يقع البيع على ما ليس بمملوكٍ، بل يكفي في البيع المالية.
والجواب:
إنّنا لو قطعنا النظر عن ملكية المال الذي وقع مورداً للمعاوضة، كالبيع، فلا يبقى حينئذٍ أيّ معنى للمعاملة بنظر العقلاء. وإنّما يقدم العقلاء على المبادلة بين الأموال بلحاظ كونها مملوكةً لشخص أو جهة بخيط الملكية، على حدّ تعبير النائيني. فهم يستهدفون فكّ هذا الارتباط ـ سواءٌ قلنا بفكّ الخيط كلّه عن الشخص ونقله من عنق أحد المتعاملَين إلى الطرف الآخر، أي تبديل ملكية بملكية، أو قلنا بإبقاء الخيط على وضعه، وتغيير طرفه، وتبديل مملوكٍ بمملوكٍ آخر ـ فلا بُدَّ من لحاظهم الملكية على كلّ حال.
المناقشة الخامسة
قد يُقال: إنّ القول بالملكية الاعتبارية للنفس يستلزم سلطنة الإنسان على نفسه سلطنةً كاملة، فيفعل ما يشاء. ومن الواضح بطلان هذا اللازم؛ لمنع الشارع للإنسان من جملة من الأفعال والتصرُّفات الخارجية والقانونية، فالملزوم يكون باطلاً أيضاً.
والجواب:
أوّلاً: إنّ الملكية الاعتبارية لا تتنافى مع المنع الشرعي، مهما كانت دائرته واسعة أم ضيّقة، كما هو الحال بالنسبة إلى ملكية بعض الأموال الخارجية. فملكية ما لا يؤكل لا تتنافى مع حرمة الأكل، وملكية المصحف لا تتنافى مع حرمة بيعه من الكافر. فلا ملازمة بين الملكية وبين السلطنة المطلقة، فيُمكن للشارع أن يمنعه عن بيع نفسه، ويُقيِّد سلطنته على نفسه([26]).
ثانياً: إنّ هذا الإشكال لا يختصّ بالقول بملكية النفس، بل يشمل سلطنة الإنسان على نفسه؛ فإنّ السلطنة لا تستلزم الحرّية المطلقة، بل بإمكان الشارع أن يُقيِّدها، كما هو واقع فعلاً. وتقييد الشارع، كما لا يتنافى مع السلطنة، لا يتنافى مع الملكية الاعتبارية للنفس.
المناقشة السادسة
قد يُقال: إنّ افتراض الملكية الاعتبارية للنفس أو منافعها أو أعمالها هو تحصيلٌ للحاصل؛ لأنّ المفروض أنّ نفس الإنسان ومنافعه وعمله مملوكٌ له بالإضافة الذاتية، كما أنّ الله تعالى مالكٌ لمخلوقاته بالإضافة الذاتية الإشراقية([27])، فإنّه مع ثبوت الملكية التكوينية الحقيقية لا يُحتاج إلى الثبوت الاعتباري([28])، بديهة أنّ الثبوت الاعتباري إنّما يصحّ فيما إذا لم يكن هناك ثبوتٌ تكويني حقيقي([29]).
وقد فصّل المحقِّق الخوئي القول في توضيح ذلك، في مسألة (شراء العبد نفسه من سيّده وعدم ثبوت الخيار فيه) ـ حيث قال الشيخ الأنصاري بسقوط الخيار([30]) ـ، وأفاد في بيان الوجه: «أنّ المانع هنا عقليّ؛ بداهة أنّ المولى إنّما هو مالك للعبد بالإضافة الاعتبارية، كملكه لبقية أمواله ملكيّةً اعتبارية. وإذا ارتفع هذا الاعتبار فيكون العبد مالكاً لنفسه، وكذا لجميع أفعاله وأعماله ملكيّة ذاتيّة، حيث لا يكون لأحد التسلُّط عليه. وهذا عين الحرِّية، وليس شيئاً آخر وراءه. ومع هذا لا معنى لاعتبار ملكيّته على نفسه؛ لكونه لغواً محضاً، كما أنّ اعتبار الملكيّة لكلّ أحد على نفسه أو على أعماله وذمّته لغوٌ؛ لوجود إضافة الملكية في جميع ذلك ملكيةً ذاتيّة، والسلطنة الحقيقية من غير أن تقارنها سلطنة اعتبارية أصلاً. وهذه السلطنة هي التي أشار إليها عزَّ من قائلٍ: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي لاَ أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَأَخِي﴾ (المائدة: 25).
وعليه فلا معنى في هذه الصورة لشراء العبد نفسه، بل هو صورة بيع، وإنّما حقيقته العتق. فيكون ذلك نظير: العبد المكاتب؛ فإنّه ليس إلاّ عتقاً. وإطلاقُ البيع إنّما هو بالمشابهة والمشاكلة، كما لا يخفى.
بل نظير ذلك موجودٌ في هذا الزمان أيضاً، فإنّه إذا كان شخصٌ محكوماً بالإعدام في المحكمة الاختصاصية، وأعطى مالاً، و نجا من القتل، فإنّه يُقال: إنّه اشترى نفسه ممَّنْ كان حاكماً على قتله. وكذلك المقام.
وعليه فلا معنى لحصول البيع من الأوّل أبداً حتّى آناً ما؛ فإنّه لا يُقاس بالمانع الشرعي؛ فإنّه قلنا هناك بحصول الملكية آناً ما بمقتضى الجمع بين الأدلّة الشرعيّة. وهذا بخلاف المقام؛ فإنّ المانع عقلي، فهو مانعٌ من الأوّل.
وإلاّ لو كانت الملكية حاصلةً آناً ما لم يكن وجه للسقوط، بل كان باقياً إلى الأبد؛ لعدم الدليل عليه. وعلى هذا فليس المقام من المستثنيات، حتّى موضوعاً؛ لعدم كونه بيعاً أصلاً، كما لا يخفى.
أقول: الظاهر أنّه لا مانع من الالتزام بصحة البيع هنا؛ فإنّ الشأن هنا هو الشأن في أعمال الإنسان والكلّي في الذمّة؛ فإنّه يصحّ أن يشتري ويبيع ما في ذمّته للغير ومن الغير، غاية الأمر تبدّل الملكية الاعتبارية بالملكية الحقيقية؛ لكونها لغواً، وأمّا عدم جواز بيع نفسه فمن جهة ما دلّ على حرمة بيع الحُرّ، فيصح بيع المولى عبده من نفسه بالملكية الاعتبارية، وبعد الشراء يكون العبد مالكاً بالملكية الذاتية، كما أنّه مالكٌ لعمله وفعله وذمّته كذلك»([31]).
الجواب:
1ـ إنّ شراء العبد نفسه هو بيعٌ صورة وحقيقة، وليس عتقاً. بل إنّ نتيجته عين نتيجة العتق وهي الحرِّية. وأمّا دفع المال للخلاص من الإعدام فهو ليس بيعاً، لا صورة ولا حقيقة.
2ـ إنّ الآية الكريمة لا ربط لها بالملكية مطلقاً، لا الاعتبارية ولا الحقيقية، بل مفادها: إنّ موسى× لا قدرة له على امتثال التكليف إلاّ في حدود نفسه وأخيه، ولا قدرة له على بني إسرائيل.
3ـ إنّ ملكية العبد لنفسه هي ملكيةٌ حقيقية، وهذه الملكية ثابتة وباقية ما دام العبد حيّاً، ولا ترتفع بطروّ الملكية الاعتبارية عليها، وهي ملكيّة السيد له.
4ـ وممّا تقدَّم يتّضح عدم وجاهة القول بعودة الملكية الحقيقية للعبد بعد شرائه نفسه من سيّده؛ فإنّها لم ترتفع ولا لحظة حتّى تعود مرّة أخرى.
ثمّ لا أعلم كيف يُمكن تعقُّل أنّ الملكية الاعتبارية قادرة على خلق الملكية الحقيقية؟! إلاّ أن يتبدّل عالمنا هذا بعالم آخر.
5ـ إنّ اعتبار الملكية للنفس ليس لَغْواً، بل ثمّة غرضٌ عقلائي كامن وراءه، ألا وهو من أجل ترتيب بعض الآثار العقلائية عليه، كالحرّية والرقّية، وهما حكمان وضعيان شُرِّعا لكي تُبنى عليهما بعض الأحكام التكليفية، كما هو واضحٌ.
6ـ وأمّا عدم تصحيح بيع الحُرّ نفسه من جهة المانع الشرعي فهو تامٌّ، إلاّ أنّه كاشف عن إمكانه عقلاً وعقلائياً. ومقتضى إمكانه الثبوتي هو معقولية وعقلائية الملكية الاعتبارية للنفس. ومن هنا فإنّ بيع الحُرّ قد وقع حتّى في أيامنا هذه في بعض المجتمعات غير الإسلامية، وإنْ كان عملاً غير أخلاقي، وليس ذلك إلاّ من جهة اعتبار الملكية الاعتبارية للنفس.
7ـ إنّه في حالات بيع الحُرّ أو بيع عمله ومنافعه إنّما يُمكن تصحيح هذا البيع عند افتراض الملكية الاعتبارية للنفس وأعمالها في الرتبة السابقة، وإلاّ فلا يقع البيع؛ لأنّ البيع يقع على الشيء المملوك، عوضاً كان أو معوَّضاً. ولا يُعقل افتراض تبدُّل الملكية الحقيقية إلى اعتبارية. كما لا يُعقل نشوء الملكية الاعتبارية من البيع نفسه؛ فإنّ البيع سببٌ للمبادلة والمعاوضة بين الشيئين المملوكين، وليس سبباً لخلق ملكية من لا شيء.
ملحوظتان
الملحوظة الأولى: لقد سبق المحقِّقَ الخوئي في هذا التصوير لبيع النفس ومنافعها وأعمالها بعضُ مَنْ تقدَّمه من الأعلام، ومنهم: المحقِّق الإيرواني، فراجِعْ إنْ شئتَ([32]).
الملحوظة الثانية: إنّ المحقِّق الإيرواني قد عبّر عن ملكية الإنسان لنفسه في أكثر من مرّة بالسلطنة على النفس، وإنْ عبَّر أحياناً بالملكية.
وفي كلامه هذا احتمالان:
الاحتمال الأوّل: إنّه أراد الملكية الاعتبارية، فيكون موافقاً لما ذكرناه.
ومرحباً بالوفاق. ويُمكن أن يؤيِّده قرينتان:
القرينة الأولى: قوله بإمكان بيع الإنسان لنفسه لولا المنع الشرعي.
القرينة الثانية: ما فرَّعه على ذلك من تصويره لكيفية الانعتاق في شراء العمودين([33]).
الاحتمال الثاني: إنّه أراد الملكية التكوينية والحقيقية، لا الاعتبارية.
وهو الأظهر؛ لعدّة قرائن:
القرينة الأولى: تعبيره عنها بالسلطنة، الظاهر في إرادة السلطنة الفعلية والحقيقية، وهي التكوينية.
القرينة الثانية: تعبيره عن الحيازة في أنّها أمّ المملِّكات في بعض المواضع([34])، فلو كان يرى ملكية الإنسان لنفسه ملكية اعتبارية لصارت هذه أمّ المملِّكات، لا تلك.
القرينة الثالثة: إنّ القول بالملكية التكوينية للنفس هو المعروف بين الفقهاء، فلو كان مخالفاً لهم لنبَّه على ذلك.
المحور الثاني: ملكيّة منافع النَّفْس
وهذه الملكية مترشِّحة من السبب الأوّل ـ وهو ملكيّة النفس ـ، وهي مرتبة نازلة منها، أي لكونه مالكاً لنفسه بالملكية الاعتبارية اعتُبر مالكاً لمنافعها.
الاستدلال
1ـ إنّ الاستدلال المتقدِّم في إثبات الملكية الاعتبارية للنفس ـ من إمضاء الشارع للارتكاز العقلائي والسيرة العقلائية ـ يجري نظيره هنا. بل هنا الأدلّة الشرعية أوضح من الأولى وأكثر؛ لورودها في أبواب فقهية متعدّدة.
وهنا أمكن للشخص أن يبيع منفعته وأن ينقلها للغير بحسب الأصل، كاستئجار العالِم والخبير للانتفاع بعلمه وخبرته للمشورة، إلاّ إذا دلّ الدليل على المنع في بعض الحالات، أو ضمن قيود خاصّة، كالاستئجار للانتفاع الجنسي.
2ـ إنّ مؤدّى قاعدة السلطنة على النفس ـ الثابتة ببعض الأدلّة، من قبيل: الآية السابقة([35]) ـ هو ملكيّة المنافع، ولا معنى له غير هذا.
المحور الثالث: ملكيّة أعمال النَّفْس
وهذه الملكية مترشّحة من السببين الأوّل والثاني ـ وهو ملكيّة النفس؛ وملكية منافعها ـ، وهي مرتبةٌ نازلة منهما، أي لكونه مالكاً لنفسه بالملكية الاعتبارية، ومالكاً لمنافعه ـ وعمل الإنسان ما هو إلاّ استيفاءٌ لمنفعة النفس بواسطة أعضاء النفس ـ، تكون النتيجة الحاصلة، وهي المسمّاة بالعمل، مملوكةً لصاحب المنفعة، وأداة استيفائها، وهي أعضاء البدن.
الاستدلال
1ـ إنّ الاستدلال المتقدِّم في إثبات الملكية الاعتبارية للنفس ومنافعها ـ من إمضاء الشارع للارتكاز العقلائي والسيرة العقلائية ـ يجري نظيره هنا أيضاً. وما ورد من الشرع من أدلّة على ملكية العمل أوضح وأكثر ممّا دلّ على ملكية المنافع.
2ـ إنّ العمل الذي يُمارسه الإنسان يتوقَّف على التصرُّف بمنافع النفس. فالنجّار عندما يُمارس النجارة إنّما ينتفع بما في نفسه من يده ورجله ورأسه وسائر جوارحه، وما في نفسه من منافع، كخبرته ومهارته في النجارة. وإنْ كان قد ينتفع، مضافاً إلى ذلك، بآلات النجارة أيضاً. وحيث إنّه مالك لمنافعه فيكون مالكاً لعمله الذي هو تجسيدٌ لمنافعه.
وهنا أمكن للشخص أن يبيع عمله وأن ينقله للغير بحسب الأصل، كاستئجار النجّار للنجارة، إلاّ إذا دلّ الدليل على المنع في بعض الحالات، أو ضمن قيود خاصّة، كالاستئجار لصنع الخمر أو لممارسة الفواحش.
ملحوظةٌ
لقد تعمَّدْتُ التفرقة بين ملكية المنفعة وملكية العمل، وإنّما فرَّقت بين المنفعة والعمل، مع أنّهما قد يُعتبران متّحدين في بعض الأحيان، ومندكّين من حيث الملكية؛ لأنّه في الإنسان قد تصدق المنفعة أحياناً مع عدم صدق العمل عليها، كمَنْ استأجر جاريةً جميلة للنظر إليها، والاستمتاع بجمالها، دون أن تقوم هي بأيِّ عمل، وكسكنى الدار واستيفاء منفعتها.
وأمّا بالنسبة إلى غير الإنسان فالأمر مختلفٌ. ففي الحيوان يكون العمل والمنفعة متّحدين في النظر العقلائي، وإنْ أمكن التفرقة بينهما واقعاً. ففرقٌ بين الانتفاع من صوف الغنم وبين استعمال البقر في حَرْث الأرض. والفرق بين الإنسان والحيوان في هذه النقطة هو إمكان ترتُّب بعض الآثار؛ نظراً لما يتمتَّع به الإنسان من إرادة وقصد وتعهّد والتزام، وأمّا في الأموال الصامتة فلا وجود إلاّ للمنفعة.
المحور الرابع: نظريّة الشهيد الصدر في ملكيّة الأعمال
إنّ مالكية الإنسان لعمله ليست بمعنى الملكية الاعتبارية، التي جُعلت بلحاظ الأموال المنفصلة عنه. نعم، الإنسان مالكٌ لأعماله بملكية حقيقية، بمعنى قدرته وسلطته التكوينية عليها، بحيث إنْ شاء فعل وإنْ شاء ترك. وترتَّبت على هذه الملكية التكوينية ملكية أخرى بمنطق العقل العملي، وهي أيضاً حقيقية، وليست جعلية واعتبارية، وهي كون الإنسان أَوْلى بأعماله من غيره. فالملكيّة بهذا المعنى لا هي أمرٌ اعتباريّ وجعليّ، كما في ملكيّة الأموال المنفصلة عن الإنسان، ولا هي أمرٌ تكوينيّ خارجيّ، كما في المعنى الأوّل لملكيّة الأعمال، وإنّما هي أمرٌ خلقيّ، وراجع إلى حكم العقل العمليّ.
وأولويّة الإنسان بعمله تارةً تكون بلحاظ الفعل والترك؛ وأخرى بلحاظ التصرُّف الوضعي في أعماله، كما في الإيجار.
والأوّل يكفيه حكم العقل العمليّ، بلا حاجةٍ إلى أيّ جعلٍ.
والثاني بحاجةٍ إلى صغرى مجعولة، وهي جعل أصل ذاك التصرُّف الوضعيّ، كجعل قانون الإيجار. فإذا تمّ الجعل صغرويّاً طبّقت عليها الكبرى المعلومة بالعقل العمليّ، وهي أولويّة الإنسان بعمله، فكان له هذا التصرُّف، لا لغيره.
وأولويّة الإنسان بأعماله إنّما هي أولويّة في مقابل سائر الناس، وليست أولويّة في مقابل الله تعالى، ولا هي مقابل منع العقل العمليّ عن بعض الأعمال. فكذب الإنسان مثلاً مملوكٌ للإنسان، بمعنى أنّه أَوْلى بالاستفادة منه من غيره، لكنّه ممنوعٌ عليه بحكم العقل العمليّ. كما أنّ الله تبارك وتعالى له أن يمنعه من عملٍ ما، والله تعالى مالكٌ لمخلوقاته، بمعنى أنّه هو الذي خلقهم وكوَّنهم بقدرته، وهذا يقابل القدرة والسلطنة الثابتة للإنسان على عمله، ويترتَّب على هذا حقّ المولويّة.
وهذا الحقّ له مظاهر أربعة:
1ـ حقّ الطاعة. فلو نهاه عن عملٍ ما لم يكن للعبد حقّ المخالفة.
2ـ حقّ أخذ أعمال الشخص منه قَهْراً، كأنْ يجوِّز لأحدٍ أن يستوفي منه عمله جَبْراً. وهذا ما يقابل مالكيّة الشخص لأعماله.
3ـ حقّ التصرُّف الوضعيّ في أعمال الشخص، كأنْ يجعل عمل زيد مملوكاً لعمرو. وهذا ما يقابل مالكيّة الشخص للتصرُّف الوضعيّ في عمله. وهنا تكون الكبرى مندمجة في الصغرى، وثابتة بنفس حقّ المولويّة، بلا حاجة إلى جعلٍ من قبل جاعل.
4ـ حقّ القيمومة على شخصٍ، بأنْ يتصرَّف تصرُّفاً وضعيّاً في عمله، كما في السابق، لكنْ لنفس العامل، بأن يعطي عمله لشخصٍ آخر بعوضٍ لنفس العامل. وبكلمةٍ أخرى: أن يقف تجاه العبد موقف الوليّ تجاه الصبيّ.
أمّا إذا تجاوزنا حقّ الله تبارك وتعالى، وحكم العقل العمليّ، وقسنا الإنسان إلى سائر أفراد البشر، كان كلُّ إنسانٍ أَوْلى بعمله من غيره. وهذه الملكيّة الحقيقيّة للناس لأعمالهم كأنّها هي التي أوْحَتْ إليهم بفكرة جعل الملكيّات.
والملكيّة الاعتباريّة للأعيان المنفصلة عن الإنسان تترتَّب على ملكيّته لعمله بحسب الارتكازات العقلائيّة بهمزة وصلٍ، وهي الحيازة أو العلاج([36]).
المناقشة
أوّلاً: إنّ كون الإنسان مالكاً لأعماله بالملكية الحقيقية أمرٌ لا رَيْب فيه. ولكن ترتَّبت على هذه الملكية الحقيقية ملكية اعتبارية وجعلية، أي إنّها هي المِلاك في جعلها، وليس جعلها واعتبارها لغواً، بل جُعلت لغرض عقلائي، وهو تنظيم تعامل الناس بعضهم مع البعض الآخر اقتصادياً، نظير: اعتبار ملكية الإنسان لما تحت يده من أعيان وأموال فعلاً، إلى جانب سلطته التكوينية عليها. فلا لغوية في هذا الجعل.
ثانياً: إنّ ملكية الإنسان لأعماله ليست برزخاً بين عالَم التكوين وعالَم الاعتبار؛ فإنّ الملكية نوعان لا ثالث لهما؛ إمّا تكوينية؛ وإمّا اعتبارية. وأمّا الملكية الأخلاقية فلا وجود لها إلاّ في ذهن مُدَّعيها.
ثالثاً: إنّ المقولات الأخلاقية تتعلَّق بواقع الأفعال من حيث اتّصافها بالحسن أو القبح، كحسن الصدق وقبح الكذب، ولا شأن لها بالأشياء وأوضاعها وأوصافها، ككونها حلوة أو مُرّة، وكونها ملكاً أو لا، والتي هي متعلّقات للأفعال. وتشخيص ذلك يتمّ من خلال إدراك العقل التأمُّلي لعالَم الخارج، أو من خلال الاعتبارات العقلائية، لا من خلال إدراكات العقل العملي.
رابعاً: وحيث كانت الملكية من الاعتبارات العقلائية المجعولة لغرض تنظيم علاقات الناس فيما بينهم من الناحية الاقتصادية يعتبر العقلاءُ الإنسان مالكاً لأعماله التي لها قيمة اقتصادية، ولا شأن لهم بغيرها من الأفعال، كالصدق والكذب.
خامساً: إنّ مقتضى أولويّة الشخص بأعماله من غيره أنّ تصرُّف الغير بأعماله يكون ظلماً وقبيحاً بحسب منطق العقل العملي. وهذا بدوره يتوقَّف على افتراض كون تلك الأعمال مملوكةً لصاحبها في الرتبة السابقة. وهذه الملكية المفترضة لا مناص من كونها اعتبارية؛ إذ لا قبح في التصرُّف بما هو مملوكٌ للغير بالملكية الحقيقية، كالتصرّف بأفعال الإنسان إذا كان مملوكاً لغيره، مع كون ذلك الإنسان مالكاً لأعماله تكويناً في الوقت نفسه، وكالتصرُّف بمنافع الحيوان مع كونها تكويناً مملوكة لذات الحيوان في ذات الوقت، وإنّما القبح في التصرُّف بما هو مملوكٌ للغير اعتباراً.
سادساً: إنّ التصرُّف الوضعي ليس هو سوى التصرُّف الاعتباري، كعقد الإجارة، فإنّه ليس تصرُّفاً خارجياً كي يُمكن وصفه بالأخلاقي أو بغير الأخلاقي. وحقيقة هذا التصرّف الاعتباري هو اعتبار العقلاء عقد الإجارة سبيلاً لنقل ملكيّة الأعمال من صاحبها الأوّل إلى الغير. فملكية الإنسان التكوينية لأفعاله التكوينية نوعٌ واحد، وهي سلطة الإنسان على الفعل والترك، وأمّا التصرُّفات القانونية فهي ليست سوى تلك القوانين التي اعتبرها العقلاء لتنظيم العلاقات الاقتصادية، كالملكية وكيفية تبادلها ونحو ذلك.
سابعاً: إنّ ملكية الإنسان الاعتبارية لأعماله ملكية ثابتة رتبة قبل اعتبار قوانين الإجارة والنقل والانتقال؛ لأنّها هي الموضوع للإجارة.
ثامناً: إنّ دعوى كون التصرُّف القانوني يشكِّل صغرى لكبرى أولويّة الإنسان بأعماله ليس صحيحاً؛ فإنّ التصرّف القانوني الاعتباري مُباحٌ لكلّ أحدٍ، غاية الأمر إنّه تارة يترتَّب عليه الأثر إنْ توفَّرت فيه الشروط التي اعتبرها العقلاء؛ وأخرى لا يترتّب عليه أثر إنْ كان فاقداً لتلك الشروط. فقد يقع عقد الإجارة خارجاً، فإنْ توفّرت الشروط فيه، ككون الأجير مالكاً لأعماله ملكية اعتبارية محجوراً عليه؛ لصغرٍ، فلا يترتَّب على عقد الإجارة أيُّ أثرٍ، كما لو وقع العقد فضولياً.
تاسعاً: إنّ القيمة الأخلاقية للفعل واحدةٌ، فإمّا أن يكون قبيحاً أو حسناً. ولا يُعقل أن يُصدر العقل العملي حكمين فعليّين متضادّين: أحدهما: أولوية الإنسان بأفعال نفسه وإباحة التصرُّف له فيها؛ والآخر: منعُه منها. فكذب الإنسان كيف يكون مملوكاً ومباحاً بحكم العقل العملي، ثمّ يعود العقل العملي ويمنعه منه؟!
ولكنْ في ضوء ما تصوَّرناه من تكييف للملكية الاعتبارية لأفعال النفس يكون حلُّ المسألة بسهولةٍ، وهو كون الاعتبار الأوّل منصبّاً على الملكية، والاعتبار الآخر هو عبارةٌ عن تحديدٍ لطرق نقلها، والتعامل عبرها مع الغير. فلا تهافت في الجعل.
وأمّا لو قيل بأنّ كلا الحكمين عقليّان، فهما فعليّان في الوقت نفسه؛ لأنّ حكم العقل بأولويّة الإنسان بأفعاله، وأحقِّيته بالفعل والترك، منحفظٌ مع انحفاظ حكمه الآخر في الوقت ذاته بمنعه من بعضها.
عاشراً: إنّ ملكية الإنسان لأفعاله إذا لوحظت بما هي ملكية تكوينية فهي بمعنى سلطة الإنسان على الفعل والترك، وأمّا إذا لوحظت بما هي اعتبارية فهي بمعنى قدرته على إبقاء إضافتها له، أو نقلها إلى الغير، أو تبديلها بمالٍ آخر. وأمّا دعوى ثبوت الأولوية للإنسان على الفعل والترك فهي ناتجةٌ عن خلطٍ بين مقولتين مختلفتين سنخاً.
الحادي عشر: إنّه فرقٌ بين الأولوية وبين الملكية مفهوماً مطلقاً. وليس مفهمومهما واحداً؛ فإنّ الأولى عبارةٌ عن حقٍّ، والحقّ بالمعنى الأخصّ غير الملكية، فلا ينبغي الخلط بينهما.
الثاني عشر: لقد أشَرْنا في موضعٍ من هذا البحث إلى أنّ حقّ الأولوية للإنسان على أفعاله، وسلطنته عليها، ناشئٌ من الملكية الاعتبارية، ومتأخِّرٌ عنها رتبةً، وليس هو عينها.
الثالث عشر: إنّ ما ذُكر في المظهر الأوّل من مظاهر حقّ المولوية لله تعالى، وهو حقّ الطاعة، فإنّه بناءً على مسلك حقّ الطاعة يثبت هذا الحقّ للمولى تعالى في عهدة الإنسان، فإنْ أمَرَه فعليه الإتيان بالمأمور به، وإنْ نهاه فيحرم عليه المخالفة. لكنّنا نسأل: ما هو نوع هذا الثبوت؟
أـ فإنْ كان ثبوت هذا الحقّ ثبوتاً اعتبارياً وتشريعياً فيمكن تصوُّر الطاعة والمخالفة حينئذٍ، وكذلك ترتُّب الجزاء الدنيوي والأخروي عليهما.
ب ـ وإنْ كان ثبوتاً حقيقياً تكوينياً فلا معنى لتصوُّر المخالفة، بل لا يصدر من الإنسان سوى الطاعة، كما هو الحال في طاعة السماوات والأرض لله تكويناً. وحينئذٍ لا معنى لترتُّب الجزاء على الطاعة، لا في الدنيا ولا في الآخرة.
ج ـ وإنْ كان ثبوتاً أخلاقياً فلا معنى لترتُّب الجزاء في الدنيا، ولا الثواب والعقاب في الآخرة على الطاعة والمخالفة، بل يثبت المدح والذمّ فقط.
الرابع عشر: وأمّا المظهر الثاني للمولوية الإلهية ـ من حقّه في أخذ أعمال الشخص منه قَهْراً مجّاناً، كأنْ يجوِّز لأحدٍ أن يستوفي منه عمله جبراً ـ فإنّ المراد بالأخذ القهري هنا الاعتباري التشريعي لا غير، كما هو واضحٌ.
الخامس عشر: وأمّا المظهر الثالث للمولويّة الإلهية ـ من حقّه في التصرُّف الوضعيّ في أعمال الشخص، كأنْ يجعل عمل زيد مملوكاً لعمرو ـ فهذا كسابقه، هو جعلٌ تشريعي لا غير، وإلاّ كيف يصحّ أن يكون مُقيّداً لمالكية الشخص للتصرُّف الوضعي في عمله، قال: «وهذا ما يقابل مالكيّة الشخص للتصرُّف الوضعيّ في عمله. وهنا تكون الكبرى مندمجةً في الصغرى، وثابتةً بنفس حقّ المولويّة، بلا حاجةٍ إلى جعلٍ من قبل جاعلٍ».
السادس عشر: وأمّا المظهر الرابع للمولوية الإلهية ـ من حقّه القيمومة على الشخص، بأن يتصرَّف تصرُّفاً وضعيّاً في عمله كما في السابق، لكنْ لنفس العامل، بأن يعطي عمله لشخصٍ آخر بعوضٍ لنفس العامل، وبكلمةٍ أخرى: أن يقف تجاه العبد موقف الوليّ تجاه الصبيّ ـ فهو كسابقه؛ إذ إنّ التصرُّف الوضعي وإعطاء العوض كلّ ذلك في عالَم الاعتبار والتشريع. مضافاً إلى أنّ هذا الحقّ مستبطن في سابقه.
السابع عشر: هل أنّ المراد حصر مظاهر المولوية الإلهية بهذه الأربعة فقط أو لا؟ إذ من الواضح عدم انحصارها في ما ذُكر؛ لأنّ مساحات التدخُّل الإلهي وتحديد تصرُّفات واختيارات الإنسان أوسع من ذلك بكثيرٍ.
الثامن عشر: كما لا يُعلَم هل أنّ النسبة بين هذه المظاهر الأربعة للمولوية الإلهية هي نسبة طولية أو عَرْضية؟ نظراً لوجود التداخل الواضح بين بعضها، دون البعض.
أقول: وهذان التساؤلان اللذان أثرناهما لَيكشفان عن وجود خللٍ في هذه الصياغة المقدَّمة من قِبَل الشهيد الصدر؛ بسبب عدم الجامعية، والتداخل.
والصياغة الفنّية لمظاهر المولوية الإلهية أن يُقال: إنّ له تعالى حقَّين: حقّ الطاعة على عباده؛ وله حقّ التشريع لهم؛ بسبب خالقيته وربوبيته لهم.
ودائرة التشريع هذه تعمّ التكاليف والأحكام الوضعية. والأحكام الوضعية لها عرضٌ عريض، من قبيل: تشريع اختصاص بعض الأشياء بالشخص، وترتيب آثار الملكية عليها، أو عدم ترتيب الآثار أو بعضها، أو تمليك ما يختصّ به الشخص لغيره، أو تشريع التصرُّف في ملكه بعنوان الولاية عليه، أو تشريع تملُّكه تعالى للأشياء، وغير ذلك.
كما أنّ الأحكام التكليفية لها عرضٌ عريض أيضاً، من قبيل: إيجاب بعض الأفعال، والإلزام بالإتيان بها، أو تحريم بعضٍ آخر، والإلزام بتركها، وإباحة قسمٍ آخر.
ومن هنا اتَّضح عدم اختصاص هذا البيان بملكيّة الأعمال، بل يعمّ كلّ أسباب الملكيّة وأنحائها، بل ويعمّ سائر المجالات التشريعيّة الأخرى، ولا يختصّ بالملكية فحَسْب.
التاسع عشر: لا أدري لِمَ هذا الخلط بين سلطات الحضرة الإلهية وسلطة الإنسان على أعماله؟! ولِمَ كلّ هذا التعقيد في كيفية تصوير سلطة الإنسان على أعماله؟! وما هي الضرورة لارتكاب مثل هذا التكلُّف والتعسُّف والمتعبة للنفس؟! مع كون القضية أبسط من هذا بكثير، وهي كون العقلاء قد وضعوا بإزاء الملكية والعلاقات التكوينية ملكية وعلاقات اعتبارية وجعلية بمقدار ما يُنظِّم شؤونهم الاقتصادية وسائر المجالات الحياتية الأخرى، وجاءت الشريعة فتابعت هذه الاعتبارات والارتكازات العقلائية، فأمضت ما تراه مناسباً منها، ورفضت بعضاً، وقيَّدت بعضاً، وأضافت اعتبارات جديدة. وكان من مصاديق ذلك ملكيّة الإنسان لأعماله.
ملحوظةٌ
لا ملازمة بين ثبوت الملكيّة للنفس ومنافعها وأفعالها وبين ثبوت المالية لها؛ فقد تثبت الملكية دون المالية، كما هو الحال في نفس الحُرّ؛ وقد يثبتان معاً، كما في منافع النفس وأفعالها، فهما مالان مملوكان.
المحور الخامس: الموقف من ملكيّة الذِّمَم
1ـ لقد تكرَّر على لسان الأعلام التعبير بـ (ملكية الإنسان لذمّته)، وأنّ هذه الملكية وزانها وزان ملكيّته لنفسه ومنافعه وأعماله، أي إنّه ـ بحَسَب الرؤية المشهورية ـ مالكٌ لها بالملكية الحقيقية، لا الملكية الاعتبارية([37]).
ونحن إذا أردنا أن نتماشى معهم لكان ينبغي علينا أن نضيف إلى الأسباب الثلاثة المتقدّمة من أسباب الملكية الذاتية سبباً رابعاً، ألا وهو (ملكيّة ذِمّة النفس).
2ـ بَيْدَ أنّنا إذا تأمّلنا جيّداً عرفنا أنّ بين الذمّة وبين الثلاثة المتقدّمة ـ النفس ومنفعتها وأعمالها ـ تفاوتاً ماهوياً؛ فإنّ النفس ومنفعتها وأعمالها لها وجودٌ حقيقي، ومن هنا بات من المعقول ثبوت ملكيّتين لها: ملكية حقيقية؛ وأخرى اعتبارية، في حين أنّ الذمّة هي اعتبارية، ولا وجود لها وراء اعتبارها، فهي وعاءٌ اعتباري للأموال الكلّية([38]). فلا معنى لعطف الذمّة على ملكية النفس ومنافعها وأعمالها، ولا معنى لوصف ملكيّتها بأنّها حقيقية؛ فإنّ هذا من الأخطاء الشائعة في الوسط العلمي الناشئة من المسامحة.
ولذا فقد تعمَّدنا هنا عدم إدراج (ملكية الذمّة) ضمن الأسباب الذاتية؛ لأنّ الذمّة لا تكون إلاّ اعتبارية فقط وفقط، كما أنّ الذمّة هي وعاءٌ للأموال، وليست من الأسباب المولِّدة للملكية.
3ـ كما أنّ الإنسان لا يملك ذمّة نفسه اعتباراً أيضاً، وإنّما يملك ما في ذمم الآخرين.
وعليه، فالإنسان لا يملك ذمّة نفسه، لا حقيقةً ولا اعتباراً.
4ـ إنّ ملكية الإنسان لذمّة غيره ليست من أسباب التمليك بتاتاً؛ لأنّ الذمّة هي مجرّد وعاء اعتباري تُضاف إليها الأموال الكلّية، وهذه الأموال لا بُدَّ من افتراض كونها قد مُلكت بسبب من الأسباب، وإنّما يُبحث لها عن مستقرٍّ، فاعتُبرت الذمّة مستقرّاً لها.
المحور السادس: ما هي سمات وخصائص ملكيّة النَّفْس ومنافعها وأعمالها؟
1ـ إنّ لدينا ثلاثة أسباب اعتبارية للملكية، وهي: ملكية النفس، وملكيتها لمنافعها، وملكيتها لأعمالها.
2ـ إنّ هذه الأسباب الثلاثة مستقلّة عن غيرها من الأسباب، وغير مندرجة في شيءٍ منها. كما أنّ سببية كلٍّ منها مستقلّةٌ بعضها عن البعض الآخر.
3ـ إنّ هذه الملكية هي ملكية ذاتية؛ لأنّها ليست ملكيةً لشيءٍ منفصل عن ذات الإنسان؛ ولأنّ منشأ اعتبارها الملكية التكوينية.
4ـ وهي ملكية أصلية. وإطلاق سمة (الأصلية) عليها لعدم تبعيّتها لغيرها، بل هي مجعولةٌ على نحو الاستقلال.
5ـ وهي ملكية أوّلية. وإطلاق سمة (الأوّلية) عليها لأنّ إضافة هذا المملوك إلى المالك لم تكن مسبوقةً بإضافةٍ إلى مالك قبله.
6ـ وهي ملكية قهرية وغير اختيارية. فسلطنة الإنسان على نفسه ومنافعها وأعمالها ليست بتسليطٍ من قِبَله، حتّى يرفع يده عنها، فالأمر ليس بيده؛ إنْ شاء ملك نفسه ومنافعها وأعمالها؛ وإنْ شاء لم يملك. ولا يُنافي القهرية إمكان نقل هذه الملكية فيما بعد، ولو ثبوتاً، نقلاً اختياريّاً، كما لو آجر نفسه. فسمة القهرية لهذه الملكية إنّما هي حدوثاً، لا بقاءً.
7ـ وهذه الأسباب هي أسباب بسيطة، غير مركَّبة.
8ـ إنّ هذه الملكيات مندكّةٌ في ملكية النفس. كما أنّ منافع العين مندكة في ملكية العين نفسها. وكما أنّ ملكية جزء العين مندكّة في ملكية الكلّ. إلاّ أنّه عند التفكيك تبرز لكلِّ عنصرٍ ملكية خاصّة به؛ نظراً لوجود الحاجة العقلائية إلى هذا التفكيك أحياناً. ومن هنا قلنا: إنّ ملكية منافع النفس وملكية أعمال النفس مترشّحةٌ من ملكية النفس. فلو آجر نفسه، أي ملّك عمله ومنافعه للغير، هنا يبقى هو مالكاً لنفسه، إلاّ أنّ ملكيّاته لعمله ومنافعه انتقلت إلى المستأجِر.
نتائج البحث
1ـ بعد أن بحثنا فكرة الملكية الاعتبارية للنفس أثبتنا إمكانية اعتبارها وجعلها، وأنّه لا محذور في ذلك عقلاً أو عقلائياً. كما أقمنا أدلّة اعتبارها.
2ـ كما أثبتنا فكرة الملكية الاعتبارية لمنافع النفس.
3ـ وأيضاً أثبتنا الملكية االاعتبارية لأعمال النفس.
4ـ وفي هذا الإطار تعرَّضنا لنظريةٍ دقيقة وعميقة للشهيد الصدر حول ملكية الأعمال، مفادها أنّ الإنسان مالكٌ لأعمال نفسه بملكية برزخية بين الملكية الاعتبارية والحقيقية، وهي سلطنته عليها. وبعد أن حلّلنا هذه النظرية تصدَّينا لمناقشتها وردِّها.
5ـ تعرَّضنا إلى ما يُصطلح عليه في كلمات الأعلام بـ (ملكيّة الذِّمَم). وأثبتنا عدم صحّة هذا الإطلاق.
6ـ وفي نهاية المطاف أبرزنا خصائص هذه الملكيّات الاعتبارية الثلاث ـ ملكية النفس ومنافعها وأعمالها ـ، من كونها: ذاتية، أوّلية، استقلالية، قهرية، بسيطة غير مركبة، وأنّ الملكيات الثلاث مندكّةٌ في ملكية النفس.
الهوامش
(*) عضو الهيئة العلميّة في جامعة المصطفى| العالميّة، ورئيس تحرير مجلّة فقه أهل البيت^. من العراق.
([1]) تنبيه: إنّ مآل الإشكاليّتين، بحسب النظرة الشائعة، إلى إشكاليةٍ واحدة؛ فإنّ إشكال اللغوية عندهم موجِبٌ للامتناع العقلي، فيما إنّ صدور اللغوية بحَسَب نظرنا ليس مستحيلاً؛ فما أكثر ما يقع من العقلاء من أمور تافهة، سواء أكانت تصرّفات خارجية أو اعتبارية، وإنّما هو أمرٌ ممكن، إلاّ أنّه خلاف الحكمة.
([2]) انظر: الآخوند الخراساني، حاشية المكاسب: 159. وعبارته: «عدم تعقّل تملّك الإنسان نفسه»؛ المامقاني، نهاية المقال في تكملة غاية الآمال: 26؛ الحكيم، نهج الفقاهة: 449 ـ 450.
([3]) انظر: التوحيدي، مصباح الفقاهة 6: 109 ـ 111.
([4]) انظر: القمّي السبزواري، جامع الخلاف والوفاق: 259؛ العلاّمة الحلّي، تذكرة الفقهاء 11: 68؛ العلاّمة الحلّي، قواعد الأحكام 2: 65؛ 3: 215؛ ابن أبي جمهور الأحسائي، الأقطاب الفقهية على مذهب الإمامية: 121؛ الكركي، جامع المقاصد 4: 287؛ الشهيد الثاني، الروضة البهية 8: 182؛ الشهيد الثاني، مسالك الأفهام إلى تنقيح شرائع الإسلام 3: 212؛ الفاضل الإصبهاني، كشف اللثام والإبهام عن قواعد الأحكام 8: 410؛ البحراني، الحدائق الناضرة 19: 65؛ العاملي، مفتاح الكرامة 4: 549؛ محمد المجاهد، المناهل: 335؛ كاشف الغطاء، شرح خيارات اللمعة: 41؛ النجفي، جواهر الكلام 34: 259؛ الأنصاري، كتاب المكاسب 5: 45؛ الإصفهاني الغروي، حاشية المكاسب 4: 88؛ الطباطبائي اليزدي، حاشية المكاسب 2: 26؛ الإيرواني، حاشية المكاسب 2: 10؛ الخوانساري النجفي، منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 20؛ النجم آبادي، حاشية المكاسب: 315؛ الشهيدي التبريزي، هدى الطالب إلى أسرار المكاسب 4: 417؛ المظفّر، حاشية المظفّر على المكاسب 2: 110.
([5]) انظر: الآخوند الخراساني، حاشية المكاسب: 159؛ المامقاني، نهاية المقال في تكملة غاية الآمال: 26؛ الحكيم، نهج الفقاهة: 449 ـ 450.
([6]) انظر: الخوانساري النجفي، منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 20.
([7]) انظر: الطباطبائي اليزدي، حاشية المكاسب 2: ؛ الإصفهاني الغروي، حاشية المكاسب 4: 88.
([8]) انظر: الخوانساري النجفي، منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 20.
([10]) انظر: الآخوند الخراساني، حاشية المكاسب: 159. وعبارته: «عدم تعقّل تملّك الإنسان نفسه»؛ المامقاني، نهاية المقال في تكملة غاية الآمال: 26.
([11]) انظر: الخوانساري النجفي، منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 20.
([13]) ابن أبي جمهور الإحسائي، عوالي اللآلي 1: 222، ح99. وانظر: المجلسي، بحار الأنوار 2: 272، ح7. وأوّل الحديث: «إنّ الناس…».
([14]) انظر: الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 16 ـ 17.
([15]) انظر: السبحاني التبريزي، المختار في أحكام الخيار: 666.
([16]) الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 17.
([17]) انظر: الأنصاري، كتاب المكاسب 6: 216؛ الهمداني، حاشية كتاب المكاسب: 483؛ الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 17؛ الإصفهاني، حاشية كتاب المكاسب 5: 345؛ الآملي، مصباح الهدى في شرح العروة الوثقى 11: 434؛ الخوانساري، جامع المدارك 3: 187؛ الخرّم آبادي، كتاب البيع (تقريرات السيد الخميني): 50، 65. الخميني، كتاب البيع 1: 42؛ 4: 237؛ التستري، النجعة في شرح اللمعة 8: 211؛ الحكيم، المرتقى إلى الفقه الأرقى/الخيارات (تقريرات السيد محمد الروحاني) 2: 329؛ الجزائري، القواعد الفقهية والاجتهاد والتقليد 6: 647؛ الجزائري، هدى الطالب في شرح المكاسب 3: 293، 601؛ الشيرازي، إيصال الطالب إلى المكاسب 1: 147؛ 2: 38، 276؛ 5: 70؛ 16: 55. اللنگرودي، الدرّ النضيد في الاجتهاد والاحتياط والتقليد 2: 249؛ جواد التبريزي، إرشاد الطالب إلى التعليق على المكاسب 4: 119؛ تجليل التبريزي، التعليقة الاستدلالية على تحرير الوسيلة: 381؛ المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 1: 27، 495؛ المنتظري، كتاب الخمس والأنفال: 70؛ كاظم الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة: 181.
([18]) محمد تقي الخوئي، كتاب النكاح 2: 366.
([19]) الصدوق، الخصال: 66، ح98. وانظر: الصدوق، معاني الأخبار: 67، ح8. وانظر: الكليني، الكافي 1: 420، ح42.
([20]) انظر: الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة: 181؛ المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 1: 495.
([21]) انظر: محمد الشيرازي، إيصال الطالب الى المكاسب 1: 147.
([22]) الصدوق، الخصال: 66، ح98. وانظر: الصدوق، معاني الأخبار: 67، ح8. وانظر: الكليني، الكافي 1: 420، ح42.
([23]) انظر: الحائري، ولاية الأمر في عصر الغيبة: 181.
([24]) المنتظري، دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية 1: 495.
([25]) انظر: التوحيدي، مصباح الفقاهة 2: 36، 40، 59؛ 6: 109 ـ 111.
([26]) انظر: الخوانساري النجفي، منية الطالب في حاشية المكاسب 2: 20.
([27]) انظر: التوحيدي، مصباح الفقاهة 2: 36.
([28]) انظر: المصدر السابق 2: 40.
([29]) انظر: المصدر السابق 2: 59؛ 6: 109 ـ 111.
([30]) الأنصاري، كتاب المكاسب 5: 45.
([31]) التوحيدي، مصباح الفقاهة 6: 109 ـ 111.
([32]) الإيرواني، حاشية كتاب المكاسب 2: 16 ـ 17.
([33]) انظر: المصدر السابق 2: 18.
([34]) انظر: المصدر السابق 2: 13 ـ 16.
([36]) انظر: كاظم الحائري، فقه العقود 1: 45 ـ 46.
([37]) انظر: التوحيدي، مصباح الفقاهة 2: 7.
([38]) انظر: محمد تقي الآملي، كتاب المكاسب والبيع 1: 352؛ النجفي، منية الطالب 1: 102، 110، وغيرها.
والفرق بين (الذمّة) و(العهدة) أنّ الذمّة وعاءٌ لأموالٍ وهمية تتعلّق بها الملكية؛ وأمّا العهدة فهي وعاء لمسؤوليات والتزامات. والفرق بينهما على حدِّ الفرق ما بين الأحكام التكليفية والأحكام الوضعية. (انظر: محمد باقر الصدر، موسوعة الإمام الشهيد السعيد محمد باقر الصدر/محاضرات تأسيسية 21: 224).
وهذا التفسير للعهدة يختلف عن تفسير المحقِّق النائيني؛ فإنّه فسَّرها بأنّها الوعاء الاعتباري للأعيان (انظر: محمد تقي الآملي، كتاب المكاسب والبيع 1: 352؛ موسى النجفي، منية الطالب 1: 102، 110).