حركة جديدة في الفقه الشيعي
في العقدين الأخيرين من القرن العشرين بدأت ملامح حركة جديدة تظهر في مجال الفقه الإسلامي الشيعي حول قضايا المرأة، لكن من دون أن تلفت النظر في وقتها على نطاق واسع في المجال الفكري والفقهي الإسلامي العام، حيث كان الانشغال بالشأن السياسي آنذاك في أوج شدته، ويكاد يغطي على كافة الميادين الأخرى، وذلك نتيجة التحوُّل الإسلامي الذي حصل في إيران، الحدث الذي نقل النخب والجماعات الإسلامية من هامش الفعل السياسي إلى قلب الفعل السياسي، وتقدم معه الاهتمام السياسي على باقي الاهتمامات الأخرى الفكرية والفقهية وغيرهما، حين كان للسياسة سطوتها التي لا تقاوم.
والذين حاولوا الكشف عن بداية ما أسموه التطورات الحديثة التي دخلت على الفقه الشيعي في الأزمنة المعاصرة، توقفوا عند هذه الفترة وهم يؤرخون لبداية هذه التطورات الحديثة، وهذا ما أشار إليه الباحث الإيراني الشيخ مهدي مهريزي وهو يتحدث عن التطور الفقهي الجديد في مسألة بلوغ الفتيات، إذ يقول: «كان السائد في الفقه الشيعي أن الفتاة تبلغ في سن التاسعة، ولم يحصل أي إعادة نظر في هذا الرأي، بل إن هذا التصور لم يكن يخطر على بال أحد، ولكن أعيد النظر في هذا الموضوع في السنوات الأخيرة، ولعله من الممكن حصر زمن هذا التغيير بعام 1980م، حيث قدحت هذه الفكرة في أذهان قسم من علماء الدين ودعتهم إلى بحث هذه المسألة والتأمل فيها، وقال بعضهم بعدم موضوعية تعيين سن بلوغ محدد للفتيات، وإنما الملاك في بلوغ الفتيات هو الحيض» [1].
وتنامت هذه الحركة الجديدة في الفقه الشيعي ونضجت وتراكمت مع العقد الأخير من القرن الماضي حيث فقدت السياسة بعض سطوتها الشديدة التي كانت عليها في حقبة الثمانينات، واستعاد الفكر الإسلامي بعض توازنه، ورجع إلى ساحته وساحة الفقه الإسلامي بعض رجاله الذين انصرفوا من قبل وانقسموا في ساحة السياسة.
وخلال هذه الفترة وتحديداً عام 1994م صدر كتاب (مسائل حرجة في فقه المرأة) للشيخ محمد مهدي شمس الدين، ويصلح هذا الكتاب أن يؤرخ للتطور الفقهي الذي حصل خلال هذه الفترة، وعن اقتراب الفقه الإسلامي الشيعي من المسائل التي وصفها الشيخ شمس الدين بالحرجة في فقه المرأة، وهي المسائل المتعلقة بأحكام علاقة المرأة بالسياسة والمجتمع والدولة.
وفي هذا الكتاب قدّم الشيخ شمس الدين تأملات في نقد وتجديد منهج النظر والاستنباط الفقهي في مجال أحكام المرأة والأسرة، وناقش بعض الآراء ووجهات النظر المطروحة والمتداولة في هذا الشأن، ناقداً لها ولمنهجية استنباطها، ومتبنياً لآراء ووجهات نظر استدلالية وبرهانية مغايرة في المعنى والمبنى.
وقد حافظت هذه الحركة الجديدة في الفقه الشيعي على نموها وتطورها مع دخول العالم القرن الحادي والعشرين، ويمكن القول: إن الاجتهادات الفقهية الجديدة التي ظهرت خلال هذه الفترة في مجال المرأة لعلها الأكثر أهمية وتميُّزاً، وتتفوق من هذه الناحية وتتقدم على الاجتهادات والتجديدات السابقة عليها.
ويُعَدُّ الشيخ يوسف الصانعي المرجع الديني الموجود في مدينة قم الإيرانية، الأكثر بروزاً خلال هذه الفترة حيث طرح العديد من الآراء ووجهات النظر الجديدة واللافتة في مجال المرأة وعلى أساس قواعد أصول منهج الاستنباط في الفقه الاستدلالي.
وقد وجد بعض الباحثين أن الاجتهادات والتجديدات الفقهية التي طُرحت خلال هذه الفترة في مجال المرأة؛ تؤرخ لمرحلة جديدة، وهذا ما ذهب إليه الشيخ مهدي مهريزي وهو يتتبع تاريخ تطور الاتجاهات الدينية المعاصرة في إيران حول مسألة المرأة، والتي قسَّمها إلى ثلاثة اتجاهات، تنتمي إلى ثلاثة أطوار زمنية، وهي حسب رأيه: الاتجاه التراث التقليدي الذي يبدأ مع عصر الحركة الدستورية في إيران مطلع القرن العشرين، والاتجاه الكلامي – الاجتماعي ويبدأ من ستينات القرن العشرين، والاتجاه الفقهي والحقوقي الذي يبدأ عنده مع بداية الألفية الثالثة، ويؤرخ الشيخ المهريزي لهذا الاتجاه بدءاً من الشيخ يوسف الصانعي الذي عَدَّه رائد طرح الآراء الفقهية الجديدة في العصر الحاضر على شكل فتاوى في الرسالة العملية [2].
وتدعمت هذه الحركة الجديدة خلال هذه المرحلة بإسهامات فكرية وفقهية من آخرين يجمعهم المنحى التجديدي، ومن هؤلاء الشيخ إبراهيم الجناتي الذي يَعُدُّه الشيخ المهريزي بأنه من رواد الاتجاه التجديدي الذين حققوا تحوُّلاً في مناهج الاجتهاد، وأساليب الدفاع عن الفقه الإسلامي، ومن هؤلاء أيضاً السيد محمد البجنوردي عضو مجلس القضاء الأعلى سابقاً في إيران، إلى جانب آخرين.
وهذه الحركة الجديدة التي تنامت وتراكمت، ووصلت إلى هذا المستوى من التطور والتجديد في فقه المرأة، يبدو أنها سوف تحافظ على بقائها وحضورها، خصوصاً وأنها تستند إلى قواعد وأصول استدلالية وبرهانية، وتتصل بحقل علمي يُعَدُّ من أبرز حقول الدراسات الإسلامية وأكثرها عراقة وثراء، وهو حقل الفقه الإسلامي الذي عُرفت به الحضارة الإسلامية أكثر من أي حقل آخر، وتميَّزت به حتى وُصفت بحضارة الفقه.
ولكون التجديد يتصل بقضايا المرأة الأمر الذي يؤكد الحاجة لهذه الحركة، ويلفت النظر إليها، ويساعد على بقائها وحضورها وذلك لتأخر التجديد والنظر الاجتهادي الجديد في هذه القضايا المتصلة بالمرأة، والتي كانت بأمس الحاجة والضرورة إلى المراجعة وإعادة النظر بعد التغير الواسع والكبير الذي حصل في واقع المرأة اليوم.
وما هو جدير بالإشارة أن مستوى التطور الراهن الذي وصل إليه التجديد الفقهي في مجال المرأة، لم يصل إليه بهذا المستوى من قبل، ومازال يحافظ على وتيرته المتصاعدة كمًّا وكيفاً في سبيل حماية وضمان كرامة وحقوق المرأة، وإظهار الفقه الإسلامي بموازين العدل، ولرفع الظلم والتمييز الواقع ضد المرأة، هذا من جهة.
ومن جهة أخرى، يمكن القول: إن الفقه الشيعي بات يتقدم اليوم على باقي المذاهب الفقهية الإسلامية الأخرى في مجال التجديد الفقهي حول المرأة، ولعل هذا التقدم يرجع إلى أمرين متلازمين، الأمر الأول له طبيعة موضوعية ويرجع إلى ارتباط الفقه الشيعي بتجربة الدولة في إيران، التجربة التي فتحت عليه آفاق الاجتهاد والتجديد الواسع والملحّ استجابة وتفاعلاً مع متطلبات ومقتضيات الأسلمة الشاملة على مستوى المجتمع والدولة. الأمر الثاني له طبيعة ذاتية ويرجع إلى باب الاجتهاد المفتوح في الفقه الشيعي الذي جعله يحافظ على عنصر الحركة الحيوية في بنيته الداخلية، ويكون أكثر استعداداً وقابلية في التواصل والاستجابة لتطورات العصر وتحولات العالم، وفي القدرة على مواكبة ما يطرح ويثار من إشكاليات وشبهات لها علاقة بالعلوم والمعارف الإسلامية، وهكذا في القدرة على مواكبة ما يستجد من تطورات وإنجازات في ميادين الفكر والمعرفة.
والاجتهاد المفتوح هو الذي يُشكِّل أرضيات انبعاث نزعات الإصلاح والتجديد في الفقه الإسلامي، وفي المعرفة الإسلامية بصورة عامة، وهو الذي يحرِّض على انبعاث مثل هذه النزعات ويدعمها، ويضمن لها بقاءها واستمراريتها، ويزودها بالحيوية والفاعلية.
والملاحظة الجديرة بالتنويه أن هذه التطورات الفقهية الجديدة التي حصلت ومازالت تحصل اليوم، تصلح أن يؤرخ لها في حركة تطور علاقة الفقه الإسلامي الشيعي بموضوع المرأة، وذلك لأنها وصلت إلى مستويات من التجديد لم تصل إليه بهذا المستوى من قبل، ولأنها أيضاً باتت تعبّر عن نمو حركة جديدة لها روادها ونسقها الفكري والاجتهادي في داخل الفقه الإسلامي الشيعي المعاصر.
ومن المرشح لهذه الحركة الجديدة المحافَظة على نموها ووجودها، ومتى ما ظهرت مثل هذه الحركة فإنها لن تتراجع بسهولة، أو تتلاشى بسرعة حتى لو تباطأت مسيرتها في النمو، أو تأخرت في التمدد والاتساع، وتعرضت للنقد والمواجهة، وذلك لكون أن هذه الحركة قد تأخرت كثيراً قبل ظهورها، وتراكمت الحاجة إليها بصورة كبيرة، وهي الحاجة التي أعطت، وسوف تُعطي هذه الحركة زخماً وقدراً من البقاء والاستمرار.
ثم لكون أن المرأة المسلمة المعاصرة التي تعلمت وتثقفت، وانخرطت في كافة ميادين العلم والحياة؛ لم تعد تحتمل تلك الصورة التي تنتقص من كرامتها وإنسانيتها، وتشكك في عقلها ودينها، ولم تعد تقبل بذلك التمييز الذي يمارس بحقها بعيداً عن موازين العدل ونظام الحقوق.
كما أن تطورات العصر أخذت تُجابه وتُحاصر الفقه الإسلامي بالعديد من التساؤلات والإشكاليات الحرجة والملتبسة والتي لابد من مواجهتها والتفاعل معها.
وهذا يعني أن واقعاً جديداً بات ينتظر المرأة، وهذا الواقع آخذ في التشكل بالقوة أو بالفعل، على المدى القريب أو المدى البعيد، وعلى مستوى الواقع الفعلي، أو على مستوى منظورات الرؤية.
هناك صورة قديمة تشكَّلت حول المرأة في داخل الفقه الإسلامي، وظهرت وتجلَّت في بعض الفتاوى والأحكام الفقهية، هذه الصورة حين التعرف عليها فإنها تصدم بشدة المرأة المسلمة المعاصرة، وسوف ترى فيها تشويهاً وانتقاصاً لمكانة المرأة وكرامتها ونوعاً من أنواع التغييب والاستعلاء عليها، وشكلاً من أشكال التمييز الذي يُمارس ضدها، وتعسُّفاً وانتهاكاً لحقوقها.
وقد تتبع الشيخ المهريزي مثل هذه الفتاوى والأحكام التي وردت في كتب الفقهاء ومصنفاتهم الفقهية، وأشار إلى بعضها في كتابه (نحو فقه للمرأة يواكب الحياة)، ومن هذه الأحكام:
1- في مسألة الحضانة: تساءل الفقهاء: هل يجب أن تكون الحاضنة عادلة أم يكفي فيها الأمانة؟ قال بعضهم بعدم اشتراط العدالة لأن أكثر النساء فاسقات.
2- في مسألة صلاة الميت: وعند السؤال عن: هل يجوز للمرأة الصلاة على جنازة الرجل؟ أمام هذا السؤال أجاب الشافعي برأيين، قال في أحدهما: يجب أن يصلي عليها الرجل، لأن الرجال أقرب إلى الله، ودعاؤهم يستجاب أسرع من النساء، وإذا صلَّت عليها امرأة فذلك بمثابة إهانة للميت.
3- في مسألة إرث الخنثى: تساءل الفقهاء: هل يجب أن يكون نصيب الخنثى من الإرث كسهم الذكر أم كسهم الأنثى؟ قال بعضهم نقلاً عن القرطبي في كتابه (جامع أحكام القرآن): يجب أن يجري عليها الفحوص الجنسية أولاً، وإذا لم تُفلح هذه الفحوص في تحديد جنسيتها يجب عدُّ أضلاعها فإذا كانت أضلاعها قليلة فهي رجل، لأن أحد أضلاعه خلقت منه المرأة، وإذا كانت أضلاعها أكثر فهي امرأة.
4- في مسألة أوصاف مستحقي الزكاة: قال الفقهاء: إن الإيمان والفقر شرطان في استحقاق الزكاة، والعدالة ليست شرطاً في ذلك، لأن مستحقي الزكاة من النساء، والنساء أكثرهن فاسقات.
5- في مسألة زواج العبد بالمرأة الحرة دون إذن مولاه: أفتى الفقهاء بأن مثل هذا الزواج هو زنا، لكن لا يقام فيه حد الزنا، لأن الرجل عبد والمرأة ضعيفة العقل.
6- في مسألة الحرب بين المسلمين والكفار: إذا تحارب المسلمون والكفار ثم تصالحا واتفقا على إعادة من يلجأ أي منهما إلى الطرف الآخر. أمام هذه المسألة أفتى بعض الفقهاء بأن مثل هذا الحكم يسري على الرجل دون المرأة؛ لأن النساء ضعيفات العقول، وبالتالي إذا لجأت مسلمة من الكفار إلى المسلمين لا يجوز إعادتها إليهم لأنها قد ترتد عن الإسلام [3].
هذه بعض النماذج القليلة التي تكشف عن ملامح صورة متوارثة عن المرأة في الفقه الإسلامي، وعند الفقهاء، أو عند بعضهم، ولاشك أن المرأة المسلمة المعاصرة لا تقبل بهذه الصورة وبقائها، وهي تكافح اليوم وبكل جهد لتغيير تلك الصورة ونقدها والإطاحة بها، فلم يعد الجهل والأمية يغلبان على شخصية المرأة اليوم، كما كانا يغلبان عليها في السابق، وهذا القدر من التغيير في انتقال المرأة من الأمية إلى التعلم، يكفي لتغيير كامل الصورة عن المرأة؛ لأن بهذا التغير تتغير رؤية العالم عند المرأة، الرؤية التي تؤثر في منظومة تفكير المرأة، وفي طبيعة مواقفها وسلوكاتها في المجتمع والحياة.
وقد وجد أصحاب المنحى الجديد أن هذه الصورة حول المرأة في الفقه الإسلامي بحاجة إلى مراجعة ونقد لأنها لا تنسجم وتتعارض مع رؤية الإسلام للمرأة التي كرَّمها، وأعاد لها شخصيتها، وضمن لها حقوقها، وعَدَّ النساء شقائق الرجال.
وفي هذا النطاق يرى الشيخ يوسف الصانعي «أن شكل القوانين الموجودة حاليًّا فيما يرتبط بالمرأة، لم يبلغ حتى الآن مستوى الانسجام الكامل مع الإسلام، كما أنه لم يحقق المواكبة الضرورية لما يطرأ من تحولات في المجتمعات الحديثة» [4]. وحين يناقش بعض النصوص الدينية التي أعطت الرخصة للأب والجدّ في تزويج البنت غير البالغة، والتي جاءت على صورة أسئلة موجهة للإمام المعصوم، كسؤال عبدالله بن الصلت حين سأل الإمام الصادق (عليه السلام) عن الجارية الصغيرة يزوجها أبوها وهل لها أمر إذا بلغت؟ أجاب الإمام: لا ليس لها مع أبيها أمر. وفي هذا الشأن يعقب الشيخ الصانعي بالقول: «إن هذه الأسئلة إنما انبثقت من العرف والثقافة اللتين كانتا رائجتين في ذلك الزمان، حيث لم يكن يتعارف تزويج الأمّهات لبناتهنّ، وبعبارة أخرى: إن سلطة الرجل آنذاك لم تكن لتسمح بتدخّل الأمهات في هذا الموضوع، بل كان الرجل هو من يدير تمام أمور الحياة لوحده، بحيث لم يكن للنساء من دور في هذا المضمار، ولم يكن كعصرنا الحاضر تبدي المرأةُ رأيها فيه، بل ويمكنها أن تغدو مع ذلك محامياً أو وزيراً أو طبيباً» [5]. ومن جهته يرى السيد محمد البجنوردي وبطريقة ناقدة أن بعض الفتاوى أكثر تعسفية فيما خصّ فقه المرأة لدى بعض الفقهاء في بعض الأوساط، وأكثر الفقهاء -حسب نظره- لديهم حرج في هذا المجال [6]. ولهذا يعتقد أن الفقهاء والحقوقيين لو أعادوا النظر في الموارد المتصلة بمسائل المرأة مثل مسألة الشهادة، وإرث الزوجة من زوجها المتوفى، وكيفية القصاص وألوانه، ومسألة الديات، وتولي القضاء، ومسائل أخرى مرتبطة بحقوق المرأة في الفقه المدني والجزائي، ووردوها برؤية منفتحة فإن كثيراً من هذه الأحكام سوف يتغير، وإن بالإمكان إجراء تغييرات في المواقف الفقهية تجاه الكثير من الأحكام التي ينظر إليها اليوم بوصفها تمييزاً ضد المرأة [7].
وبسبب تلك الصورة أثار البعض من داخل الوسط الديني شبهة حول الفقه، وكيف أن الفقهاء تجاهلوا حقوق المرأة الاجتماعية، وأوجدوا بوناً شاسعاً بينها وبين الرجل، وقد طرحت هذه الشبهة على الشيخ المهريزي في حوار معه حول مكانة المرأة في الفقه الإسلامي، ومع أنه رأى أن السؤال لا يخلو من مغالطة، إلا أنه ختم جوابه بالقول: إن بعض آراء الفقهاء قلَّما تأخذ بالحسبان الحقوق الاجتماعية للمرأة، إلى جانب وجود فقهاء وخاصة من المعاصرين أعادوا النظر في تلك المسائل المرتبطة بالحقوق الاجتماعية للمرأة [8].
وعندما سئل عن الأحكام التي لا تنسجم مع واقع المرأة وينبغي أن يعيد الفقهاء النظر فيها؛ قال الشيخ المهريزي في خاتمة الجواب: «إن جميع مسائل المرأة بحاجة إلى إعادة نظر، إذ إن المسائل التي قد ندافع عنها اليوم مثل قاعدة الإرث يجب أن نعيد النظر فيها، ونرى كيف يمكن اليوم تبيينها، أو كيف يمكن درء الشبهات المثارة حولها» [9].
ومن الواضح أن منشأ تلك الصورة المتشكلة حول المرأة في تصورات بعض الفقهاء ترجع بشكل أساس إلى نصوص وروايات وردت في كتب السنة الشريفة، وكانت بحاجة إلى مزيد من الفحص والتشخيص في سندها ومتنها قبل العمل بها والبناء عليها، والكشف عن كيفية التعامل معها لكونها تحتمل تفسيرات وتأويلات متعددة ومتباينة، ولا تخلو من غموض والتباس، إلى جانب الحاجة في الكشف عن طبيعتها وقيمتها التاريخية والأخلاقية، والنظر إليها في إطار الرؤية الكلية للإسلام، وبصورة خاصة في إطار رؤية الإسلام الكلية للمرأة.
وقد تعرضت كل النصوص والروايات إلى مراجعات ومحاكمات من فقهاء معاصرين، وبالذات من أصحاب المنحى التجديدي في الفقه، فحين يتحدث الشيخ محمد مهدي شمس الدين عن طبيعة النصوص المروية في السنة حول المرأة فإنه يقسمها إلى قسمين: إلى نصوص ضعيفة السند أو مرسلة أو مرفوعة، لا تصلح أن تكون أدلة على الحكم الشرعي، وإلى نصوص معتبرة شرعاً بين صحاح وموثقات وحسان، فهي من ناحية السند صالحة للدلالة على الحكم الشرعي إذا ثبت أنها واردة لبيان الحكم الشرعي الإلهي، ولم تكن تدبيراً لمواجهة حالة طارئة، أو توجيهاً خاصًّا بشخص معين في حالة معينة.
وفي نقده لطريقة تعامل الفقهاء مع هذه النصوص يقول الشيخ شمس الدين: «جرى كثير من الفقهاء في فقه المرأة على العمل بما روي من النصوص من دون احتراز عن الأحاديث الضعيفة، ومن دون محاكمة لمتون الأحاديث المعتبرة» [10].
وعندما تعرض الشيخ الصانعي لمثل هذه الروايات في سياق بحثه عن نقد مستندات النظرية المشهورة عند الفقهاء في إثبات ولاية الجد ونفي ولاية الأم على الأولاد الصغار المتوفى أبوهم، يشير إلى طائفة من الروايات واردة في كتاب الوصية، حيث استغرب وجود روايات تضع المرأة وشارب الخمر في مصاديق السفهاء، وحسب قوله: «والذي يبعث على الأسف والاستغراب ولا يمكن قبوله بأي وجه من الوجوه، أن هناك ثلاث روايات واردة في باب الوصية، يمكن أن يثار فيها احتمال الدَّسّ والوضع والنوايا السيئة. ومفاد هذه الروايات عَدّ كلٍّ من المرأة وشارب الخمر من مصاديق السفهاء في قوله تعالى: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ﴾ [11] وأنهما لا يصلحان وصيًّا».
وبعد أن أشار إلى هذه الروايات الثلاث، ومنها موثقة السكوني عن جعفر بن محمد عن آبائه عن علي (عليه السلام) قال: «المرأة لا يُوصى إليها؛ لأن الله عز وجل يقول: ﴿وَلاَ تُؤْتُواْ السُّفَهَاء أَمْوَالَكُمُ﴾». ويُعقِّب الشيخ الصانعي بقوله: «إن مفاد هذه الروايات مخالف للأصول القرآنية والسنتية والعقلية المسلمة؛ ولهذا لا يمكن الأخذ بها حتى لو كان بعضها صحيحاً من ناحية السند، فهل يمكن القول بأن تمام النساء من السفهاء؟ هل يمكن نسبة ذلك إلى النسوة العظيمات جميعهن في تاريخ الأديان وتاريخ الإسلام» [12].
ومن هذه الروايات اقترب الشيخ الصانعي وشكَّك في صحة ما ورد في نهج البلاغة حول نقصان عقل النساء وإيمانهن، وعَدَّ هذا الأمر من الواضحات، وحسب كلامه «من الواضح أن ما جاء في نهج البلاغة لأمير المؤمنين (عليه السلام)، حول نقصان عقل النساء وإيمانهن ليس صحيحاً، بل لابد من طرحه عرض الجدار، أو ردّ علمه إلى أهله، وهم المعصومون صلوات الله عليهم أجمعين، ذلك أنه من المسلَّم أن مفاد هذه النصوص مخالف للقرآن والقواعد؛ إذ كيف يمكن أن يأمر الله النساء بترك الصلاة في بعض الأوقات، فيتركنها، امتثالاً لأمره وإطاعة لمطالبه، ثم يكون ذلك موجباً لنقص إيمانهن؟ فهل طاعة الأوامر الإلهية توجب نقصان الدين والإيمان؟» [13].
لهذا كان من الضروري تغيير تلك الصورة المتوارثة عن المرأة في الدراسات الفقهية، الصورة التي تنتمي إلى الماضي، ولم تعد صالحة للبقاء في الحاضر، وهي لا تسيء فقط للمرأة، وإنما للفقه الإسلامي وللفقهاء كذلك، وذلك لأن واقع المرأة المسلمة اليوم يقدم صورة مغايرة تماماً لتلك الصورة القديمة، وهذه الصورة المغايرة ينبغي أن تلغي تلك الصورة القديمة وتحلَّ مكانها.
وما يميِّز المنحى الجديد في الفقه الإسلامي أن الصورة التي يعبر عنها حول المرأة تنتمي إلى واقع المرأة اليوم، بخلاف ما هو سائد في الفقه الإسلامي الذي تنتمي صورته عن المرأة إلى الواقع المتوارث من القديم، وهذه من المفارقات التي تفاصل بين المنحى الجديد والمنحى القديم في الفقه الإسلامي.
التحرر من آراء السابقين
التحرر من آراء السابقين هي السمة البارزة التي ظهرت وتجلت عند أصحاب المنحى الفقهي الجديد في الموقف تجاه المرأة، ولا ينبعث التجديد عادة في أي زمان ومكان، وفي أي بُعد ومجال إلا بعد التحرر من آراء السابقين، والتخلص من ذهنية الخضوع والتبعية، وامتلاك الشجاعة الفكرية، وحين ينظر الناس لأنفسهم على أساس أنهم رجال وأولئك رجال، أولئك اجتهدوا في زمانهم وهم يجتهدون في زمنهم.
وانفتاح باب الاجتهاد في الفقه هو الذي يولد الاستعداد للتحرر من آراء السابقين، وينمي هذه الروح، ويخلق مثل هذه الشجاعة.
ونلمس مثل هذا الموقف عند السيد البجنوردي الذي يرى أن من الشروط الذاتية والموضوعية التي يجب توافرها عند الفقيه ليكون مجدِّداً، هو عدم الالتزام بآراء من سبقه من الفقهاء، وأن يتحرر من سلطة القدماء المعرفية والفقهية، ويضيف فإذا اعتقد الفقيه أن المتقدمين أفقه منه وأعلم سيشكل هذا الاعتقاد قيداً ومعوقاً اجتهاديًّا، يجعله يصبُّ جهده للبحث عن أدلة تدعم آراءهم وتصوِّبها نتيجة لوقوعه تحت تأثير سلطة أولئك [14].
وحينما يصل البجنوردي إلى موضوع المرأة، يرى أن الموقف الفقهي من مسائل المرأة كان متأثراً برأي الأوائل، وأن الفتاوى السائدة في هذا الشأن متأثرة بآراء القدامى وحسن الظن بهم، وبالبيئة والتقاليد والأعراف، وعدم الجرأة على مخالفة مشهور الفقهاء. ويرى في المقابل أن باب الاجتهاد مفتوح، وفي الأصل يحرم على المجتهد أن يقلد رأي غيره، بل عليه أن يفتي بما يراه بقطع النظر عمَّا قاله الآخرون، ويستقل برأيه واجتهاده واستنباطه [15].
وعندما بحث الشيخ محمد مهدي شمس الدين مسألة أهلية المرأة لتولي السلطة العليا في الدولة الحديثة، تبيَّن عنده بعد النظر في الأدلة أن ما تسالم عليه الفقهاء من عدم مشروعية تصديها وتوليتها للسلطة، هي دعوى ليس عليها دليل معتبر، وأمل أن يكون هذا البحث حافزاً للفقهاء على إعادة النظر والبحث في بعض المسلمات الفقهية بإعادة النظر والبحث في أدلتها، وفي طرق الاستدلال عليها، وعدم الاسترسال في الاتكال على فهم فقهائنا القدماء [16].
وفي هذا السياق أيضاً يرى السيد محمد حسين فضل الله «أن اجتهاد القدماء كان مرتكزاً على ثقافتهم، ونحن نعرف أن القدماء اختلفوا فيما بينهم حسب اختلاف ثقافتهم، ولذلك يمكن لنا أن نختلف مثلهم بأن ندرس النصوص دراسة جديدة كما لم يدرسها أحد قبلنا، مع ملاحظة الفهم السابق عندما نريد أن نؤكد فهمنا» [17].
وفي مجال التطبيقات الفقهية أظهر الشيخ يوسف الصانعي استقلالية في الرأي وتحرراً من آراء الفقهاء السابقين، وتجلى ذلك في دراساته الفقهية الجديدة والمعاصرة حول مسائل المرأة التي توصل فيها إلى آراء واجتهادات خالف فيها رأي المشهور عند الفقهاء، وظل ينتقد مستندات نظرياتهم، ودخل في محاكمات استدلالية مع هذه النظريات، تثبيتاً لرأيه، وتأكيداً عليه بالقواعد والأصول الاستدلالية والبرهانية، ونفياً لرأي المشهور، وتضعيفاً له، وكشفاً عن ثغراته وما يعتريه من ضعف وخلل وعدم تماسك.
وسوف نتحدث لاحقاً عن بعض هذه الآراء والاجتهادات، والجديد الذي تميزت به عن رأي المشهور. ولولا هذا التحرر من سلطة القدماء وهيبتهم ما انبعث اليوم في داخل الفقه الإسلامي هذا المنحى الفقهي الجديد.
مرجعية الرؤية القرآنية
من السمات الأساسية التي ميَّزت أصحاب المنحى الفقهي الجديد في تكوين رؤيتهم للمرأة استنادهم الواضح إلى القرآن الكريم في الاستنباط الفقهي، وفي محاكمة الروايات الواردة في كتب الحديث، وفي اكتشاف رؤية الإسلام الكلية للإنسان والمجتمع والكون، وملامح ومكونات هذه الرؤية في مجال المرأة.
فقد وجد هؤلاء أن هناك مفارقة بيِّنة بين الصورة التي يعرضها القرآن الكريم للمرأة، والصورة التي تعرض لها الكثير من الروايات في السنة الشريفة، فالقرآن الكريم تحدث عن نماذج للمرأة متعالية عن تلك النواقص التي أشارت إليها بعض الروايات وربطتها بالمرأة، ومن هذه النماذج امرأة فرعون التي ضرب القرآن الكريم بها مثلاً للذين آمنوا، في إشارة لعظمة هذا الموقف، والحاجة الملحة لتذكره المستمر، والاعتبار به في كل زمان ومكان، قال تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ﴾ [18]، فقد صوَّر القرآن بهذا النموذج كيف يمكن أن يتغلب الإيمان عند المرأة وهي في قمَّة مركز السلطة والجاه والرفاه والنعيم الذي لا يُضاهى ولا يُوصف، ومن الصعب التخلي عنه، في ظل هذه الأجواء التي تظهر عادة ضعف المرأة لكونها ميَّاله بطبعها إلى الرخاء والنعيم، وإلى الجمال والزينة، في ظل كل ذلك أظهرت امرأة فرعون إيمانها، وكشفت عن قوة حقيقية في شخصية المرأة جعلتها تتغلب على الضعف الذي هو من أكثر ما يميز المرأة.
ولعل القرآن الكريم تقصَّد أن يسمي هذه المرأة باسم امرأة فرعون حتى يضرب بها مثلاً، وعندما قالت: ﴿رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ﴾ كأنها أرادت أن تُصوِّر مستوى النعيم والرفاه الذي كان يحيط بها من كل جانب، وأرادت من الله أن يُعوِّضها عن ذلك ببيت في الجنة، فالمرأة التي تظهر هذا المستوى من الإيمان، ويتغلب عندها الإيمان في مثل هذا الموقف الذي يختاره الله ليضرب به مثلاً حتى يتذكره الناس وينتبهوا إليه، فهل يصح بعد ذلك القول والادِّعاء أن المرأة والنساء ناقصات الإيمان!
والنموذج الآخر الذي تحدث عنه القرآن الكريم، هو نموذج بلقيس ملكة سبأ، في إشارة منه لتصوير رجحان العقل عند المرأة، وهي القصة التي لا يكاد الحديث يتوقف عنها في كل حديث يتناول موضوع المرأة ويقترب منه، وذلك لشدَّة أهمية هذا الموقف الذي يظهر حكمة وتعقل المرأة في أشد الظروف خطورة، ولكون الموقف يتحدث عن علاقة المرأة بالحكم والدولة، وهو من المواقف البليغة للغاية التي تحدَّث عنها القرآن، وهو من أكثر المواقف أهمية في دحض تلك التصورات التي تنتقص من مكانة ودور المرأة.
كما تُعَدُّ هذه القصة أهم قصة تحدَّث عنها القرآن حول علاقة المرأة بالحكم والدولة، حيث يقول تعالى: ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (31) قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ (33) قَالَتْ إِنَّ المُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ المُرْسَلُونَ﴾ [19].
وأول ما يلتفت إليه الشيخ محمد مهدي شمس الدين وهو يتحدث عن هذه القصة، أنه لم يرد في هذه الآيات تنديد أو نقد لكون بلقيس ملكة بوصفها امرأة، كما لم يرد تنديد أو نقد لشعب سبأ على أنه خضع لحكم امرأة وهي بلقيس، ويُعلِّق الشيخ شمس الدين على هذه الملاحظة في الهامش بقوله: «وهنا نلاحظ أنا لا نجد في القرآن كله منعاً أو ذمًّا لكون المرأة ذات سلطة في المجتمع، أو لكون المجتمع محكوماً ومقوداً من قبل امرأة» [20].
ويختتم الشيخ شمس الدين ملاحظاته حول هذه القصة بقوله: «إن هذا المثال يكشف عن أن شخصية المرأة مؤهَّلة للحكم والقيادة كالرجل، وأنها كالرجل أيضاً يمكن أن تقود إلى خير ويمكن أن تقود إلى شر، وأن الضعف والخوف والقصور الفكري ليست طبائع في المرأة، بل هي نتيجة تربية خاصة وثقافة معينة درجت بعض المجتمعات عليها» [21].
وقد أظهر لنا القرآن الكريم في هذه القصة كيف أن المرأة يمكن لها التفوق على الرجل في أهم أمرين طالما حاول الرجل أن يتملكهما لذاته، ويعدّهما من أوثق الأمور ارتباطاً بهوية الذكورة وطبيعتها، هما العقل والسلطة، وأراد أن يوجه المعرفة والتاريخ بما يخدم هذا الأمر والبرهنة عليه، وهذا ما دحضته هذه الآيات التي صوَّرت انحياز المرأة إلى العقل حين شاورت بلقيس أهل الحل والعقد عندها ولم تستبد برأيها ﴿قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُونِ﴾ في مقابل انحياز الرجل إلى القوة والتظاهر بها ﴿قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ﴾.
فالمرأة التي يصوِّرها القرآن الحكيم برجحان العقل فهل يصح لنا اتهام النساء بنقصان العقل!
وبعد أن تطرق الشيخ شمس الدين لهذه الأمثلة والقصص أراد منها التأكيد على ما أسماه مرجعية الرؤية القرآنية في عملية الاستنباط الفقهي، حيث رأى أن تلك الأمثلة تكشف عن الرؤية الإسلامية لموقع المرأة في نظام القيم ونظام الحقوق والواجبات في الشريعة الإسلامية، وأن هذه الرؤية القرآنية -حسب رأيه- هي المناخ التشريعي للأحكام، فهذه الأحكام ليست بلا جذور، وليست بلا إطار وفلسفة، بل هي تركز على قاعدة عامة تعبّر عنها هذه الرؤية القرآنية، وبذلك تكون هذه الرؤية مرجعاً في فهم النصوص التشريعية وتفسيرها [22].
وحين أشار الشيخ شمس الدين إلى منهج التعامل مع النصوص الواردة في السنة حول المرأة والأسرة أكد ضرورة ملاحظة هذه النصوص على ضوء التوجيه القرآني، وأما ملاحظتها بمعزل عن التوجيه القرآني فسوف يؤدي حسب تقديره إلى خلل في عملية الاستنباط.
وعند الشيخ يوسف الصانعي نلمس وبوضوح كبير استناده إلى القرآن الكريم وإلى الأصول القرآنية في دراساته الفقهية حول المرأة، وعلى أساس هذه الأصول القرآنية ظل يُحاكم ويرجِّح الروايات من جهة المعارضة أو الموافقة، وهكذا في صياغة آرائه، واستنباط اجتهاداته.
وفي نطاق هذه الملاحظة تتكشف مفارقة ما بين المنحى القديم في الفقه والذي يستند بصورة أساسية إلى النصوص الواردة في كتب السنة، وبين المنحى الجديد الذي يحاول أن يستند بصورة أساسية إلى نصوص القرآن، وجعل الأصول القرآنية حاكمة على السنة وموجِّهة لها ومفسرة، وبالعودة إلى جميع آيات القرآن وليس آيات الأحكام فقط والتي تقدر بخمسمائة آية وتزيد أو تنقص. وإذا كان المنحى القديم في الفقه أخذ من القرآن آيات الأحكام فحسب، فإن المنحى الجديد حاول أن يجعل من القرآن بكل آياته مرجعاً وموجِّهاً ومفسِّراً لجميع مسائل الفقه، ومنها مسائل المرأة.
التفكيك بين الشريعة وأقوال الفقهاء
إن اللحظة التي يتم فيها التنبه إلى ضرورة التمايز والتفكيك بين ما هو ثابت، وما هو متغير، وبين ما هو من الدين أصالة وما هو من الفكر اجتهاداً، في مثل هذه اللحظات تتهيَّأ فرص انبعاث فكرة التجديد، الفكرة التي تلامس وبشكل أساس ما تعلق بالفكر الإنساني فحصاً ونقداً وتفكيكاً في نطاق الهدم، وسعياً وتطلعاً نحو الإبداع والابتكار والاكتشاف في نطاق البناء.
والقصد من هذا التفكيك بين ما هو من الدين، وما هو من الفكر الإنساني، حتى لا يفهم التجديد في حالة انبعاثه ويفسر بوصفه خروجاً على الدين أو تجاوزاً له، ولا حتى احتكاكاً ومسًّا به، ولقطع الطريق على الذين يعترضون على هذا النهج ويرفضونه، ويضعون العراقيل في دربه، ويوهمونه بالخروج على الدين، أو التجرُّؤ عليه، وتمييع التعامل معه، هذا من جهة. ومن جهة أخرى يأتي هذا التفكيك لكي يعطي الناس أنفسهم الحق في فحص ونقد الأقوال والنظريات التي تحسب وتصنف على الفكر الإنساني بوصفها اجتهادات وتصورات قابلة للخطأ والصواب، ومعرضة للنقص وعدم الكمال، وتتأثر بشروط ومقتضيات الزمان والمكان، وبطبيعة المجتمع والبيئة الثقافية، الوضع الذي يجعلها تتأثر من حيث قيمتها وحيويتها مع تقادم الزمن المتسارع في حركة والمتغير في مساراته.
ويُعبِّر هذا التفكيك عن تطور فكري ومنهجي، يُعدُّ ضروريًّا ولابد من الوصول إليه لكي تتحدد وتتبلور طرائق ومنهجيات الفهم والتعامل مع ما هو من الدين ويكون أزليًّا ومتقادماً مع الزمن، وما هو من المعرفة الإنسانية ويكون نسبيًّا ومتغيِّراً.
ومن دون هذا النمط من التطور يلتبس التجديد ويكون غامضاً، ومعرضاً لسوء الفهم والتفسير لعدم الوضوح في طبيعة حدوده وجماله وغايته، وهل هو تجديد في الدين أم في المعرفة الدينية؟ وتعدُّ هذه الإشكالية واحدة من أعقد الإشكاليات في المسيحية والفكر المسيحي بعد أن امتزجت المعرفة الدينية البشرية بالدين منذ القدم، وبات من الصعب عند المسيحيين فصل هذين الأمرين والتفكيك بينهما، الوضع الذي ترتب عليه تعدد واختلاف التفسيرات والتأويلات بحسب تعدد الأناجيل.وعلم اللاهوت -الذي عرف في الفكر المسيحي- جاء أساساً لكي ينظم المعرفة الدينية المسيحية في إطار ما حصل فيها من تعدد واختلاف في التفسيرات والتأويلات.
وفي مجال الفقه الإسلامي تنبَّه أصحاب المنحى الجديد إلى مثل هذا التفكيك حين ميَّزوا بين الشريعة وأقوال الفقهاء، وشكَّل لهم هذا التفكيك مدخلاً في نقد وفحص أقوال الفقهاء وعدم التسليم الكامل بها، وفي البحث والكشف عن آراء واجتهادات جديدة ومعاصرة مرتكزين فيها على القواعد والأصول الاجتهادية المتعارف عليها عند أهل هذا الفن.
ونلمس هذا التنبيه في التفكيك وعلاقته بالتجديد عند الشيخ الصانعي حين تساءل عن سبب الاختلاف وعدم المساواة بين الزوج والزوجة في تبادل الإرث بينهما، حيث يُمنح الزوج عندما يكون هو الوارث الوحيد لزوجته ما زاد على سهمه من الإرث، ولا تمنح الزوجة عندما تكون هي الوارث الوحيد للزوج ما زاد على سهمها، فما هو مستند هذا الحكم؟ هل الشريعة هي التي أرادت ذلك لمصالح دقيقة وعميقة؟ أم أن منشأ هذا الحكم استنباط فريق من الفقهاء امتزج بحكم الشرع فأنتج ذلك الحكم؟
من هنا يرى الشيخ الصانعي أن المدارك والمستندات التي اعتمدت هنا بحاجة إلى إعادة قراءة ودراسة فقهية معمقة، أراد أن يمهد لها ببعض النقاط، من هذه النقاط قوله: «لابد من التمييز بين رأي الفقيه وبين الشريعة الواقعية، وهذه ضرورة لازمة، إذ بدونها لا يمكن القيام بأيِّ تغيير في النظام الفقهي والحقوقي، بمعنى أنه ما دام هذا التصوُّر راسخاً في الأذهان، مهيمناً عليها، أي اعتقاد التطابق والتماهي بين الشريعة والسنَّة من جهة وفتوى الفقيه من جهة ثانية، فسوف تظل الشريعة الحقيقيَّة رهينةً ومنحصرة بفتوى الفقيه، فتكون أيُّ مخالفة نظرية أو عملية له مخالفةً لأحكام الله تبارك وتعالى، ومن ثم ستكون أيُّ محاولة مغايرة في هذا المجال تعدِّياً على حريمٍ لا يجوز التعدّي عنه، وهذا ما سيفقدنا أيّ قدرةٍ على الإصلاح أو التغيير في الفقه الإسلامي، بل سيعني ذلك انسداد باب الاجتهاد أو موت البحث والتحقيق، والختم على الفقه بختم النهاية» [23].
كما نلمس هذا التنبُّه عند السيد محمد البجنوردي وهو يناقش إمكانية إعادة النظر في اختلاف الحقوق بين الرجل والمرأة، حيث يرى أن «ليس كل ما هو في الفقه جزءاً من الدين، وذلك أننا الشيعة نعتقد بأن المجتهد يخطئ ويصيب، فكثيرة هي الموارد التي تعتبر فقهيًّا حقوقاً خاصة بالرجل أو المرأة، أو ينظر إليها على أنها تختلف بين الرجل والمرأة يمكن إعادة النظر فيها، إنها قابلة لإعادة بحثها ودراستها مجدداً مثل شهادة المرأة، وإرث الزوجة من زوجها المتوفى، وكيفية القصاص وألوانه، ومسألة الديات وتولي المرأة القضاء، ومسائل أخرى» [24].
وعندما بحث الشيخ شمس الدين مسألة أهلية المرأة لتولي السلطة، دخل لهذه المسألة من باب التفريق بين ما أسماه بديهيات الفقه وبديهيات الشريعة، وافتتح كتابه بهذه التفرفة حيث قال: «لا ريب في أن كثيراً من بديهيات الفقه هي من بديهيات الشريعة خاصة فيما اجتمعت عليه مذاهب المسلمين وفقهاؤهم، ولكن لا يمكن للفقيه أن يجزم بأن كل ما كان من بديهيات الفقه فهو من بديهيات الشريعة، فقد ثبت أن بعض البديهيات في مذهب أو أكثر ليس من بديهيات الشريعة، وفي بعض الحالات فإن البديهيات في جميع المذاهب ليس من بديهيات الشريعة بل للنظر فيها مجال» [25].
التجديد الفقهي وروح العصر
نزعة التجديد وثيقة الصلة بالاقتراب من روح العصر، وإدراك شروط ومتطلبات العصر، وبهذا الاقتراب والإدراك تنبعث فكرة التجديد أو نزعة التجديد، وفي هذه الحالة يكون الماضي في قياس مع الحاضر، وفي الحاضر يكون المتخلف في قياس مع المتقدم على مستوى المعرفة الإنسانية والتقدم المدني.
ومع هذا القياس تنكشف المسافة العلمية والمدنية التي تفصل الماضي عن الحاضر، وتفصل المجتمعات المتخلفة عن المجتمعات المتقدمة، ويأتي التجديد لغرض تدارك وعبور هذه المسافة، بقصد الوصول إلى المستوى الذي وصل إليه العصر من المعرفة والتقدم، أو امتلاك القدرة على مواكبته، أو امتلاك الاستعداد لبناء القدرة لمواكبته، ومحاولة فهمه وتكوين المعرفة به.
وفي مجال الفقه والشريعة الإسلامية يتأكد التجديد بالاستناد إلى قاعدة صلاحية وبقاء الشريعة لكل زمان ومكان، الأمر الذي يتطلب البحث الدائم والمستمر عن العلاقة بين الشريعة وقاعدة الزمان والمكان، أو بين الشريعة والعصر، لكي تحافظ الشريعة على دينامية التواصل الحيوي مع تقادم الزمان وتغيِّر المكان، ومع تحولات العصر وتطوراته. وقد تطور الوعي والإدراك بقاعدة الزمان والمكان، وتوسع حتى عُدَّت اليوم من المباني الفقهية التي يُستند إليها في استنباط الأحكام، وفي تطبيقاتها.
كما يتأكد التجديد في هذا المجال أيضاً بالاستناد إلى مبدأ ومفهوم الاجتهاد، الذي يراه الدكتور محمد إقبال مبدأ الحركة في الإسلام، وهو المفهوم الذي جاء لتشكيل العلاقة الدائمة والمستمرة والحيوية بين الشريعة والحياة، وبين الشريعة والعصر، وبواسطته تواكب الشريعة متطلبات الحياة المتجددة، ولتستجيب لمقتضيات العصر المتغيرة.
والعلاقة بالعصر تشكل مدخلاً أساسيًّا في فهم وتفسير مكونات وأبعاد وحتى فلسفة المنحى الفقهي الجديد في مجال المرأة، ومن طبيعة هذه العلاقة بالعصر أن تمثل حافزاً فعَّالاً ومستمراً يدفع نحو تبني واختيار منحى التجديد، لأننا في عصر يشهد أعظم ثورة في المعلومات، وتتراكم فيه المعرفة الإنسانية بصورة متسارعة، وتتلاحق فيه التطورات بطريقة مذهلة وفي كافة الميادين، وبات العالم فيه متداخلاً بين أجزائه المتباعدة في المعايير الجغرافية، وما يتحدث به العلماء عن إنجازاتهم واكتشافاتهم في الميادين المختلفة يبعث على الدهشة والإعجاب حقًّا.
لهذا فإن من يقترب من العصر سوف يتكون لديه عالم واسع الخيال والتأملات التي تدفع وبقوة نحو المراجعة والنقد وإعادة النظر، كما أن هذا الاقتراب من العصر له انعكاسات واضحة على طرائق النظر، ومنهجيات التفكير، وعلى طبيعة الذوق الفني.
ومن داخل الفقه الشيعي يُعَدُّ الشيخ الصانعي أحد أكثر الذين عبَّروا عن تأثير العلاقة بالعصر في منحى التجديد في الفقه، ولديه نص في هذا الشأن أظنه سيكون من نصوصه المشهورة، وسوف يُعرف به لاحقاً لشدة أهميته وبلاغته، وستظل الحاجة لتذكر هذا النص والعودة إليه ملحة عند الذين يبحثون عن علاقة الفقه بالعصر، وفي هذا النص يقول الشيخ الصانعي: «إن الحركة داخل النظام الفقهي، ومراعاة المصادر والموازين الاجتهادية الصحيحة، مع الإقرار بالاجتهاد الحراكي الحيّ مع الزمان والعصر، من ضرورات العصر ومتطلباته؛ ذلك أن المناخات الجديدة والتحوُّلات الحديثة صارت بحاجة إلى اجتهاد يقبل بتأثير عنصري الزمان والمكان، وتأثيرهما يحتاج بدوره إلى معرفةٍ بالاجتماع والمجتمع، والإقرار بتأثيرات الفتاوى اجتماعيًّا على حياة الناس، وهو ما يمكنه أن يقدِّم إجابات عديدة جدًّا للمشكلات المستجدة، وهي المشكلات التي يؤدي أخذها بعين الاعتبار إلى بث روح جديدة في الفقه، وفتح أفق جديد له، أما تجاهل ذلك كله فلن يجر سوى إلى التخلف عن الحركة المتواصلة الدؤوبة للمجتمع كله» [26].
ويكفي دلالة على هذا الإدراك عند الشيخ الصانعي لروح العصر، أنه عنون سلسلة أبحاثه الفقهية الجديدة بعنوان: سلسلة الفقه المعاصر، وظل يشير إلى هذا المعنى في مقدمات هذه الأبحاث لقناعته الراسخة بهذا المنحى، ولإثبات قدرة الفقه على إدارة الحياة البشرية المعاصرة، ونفي مظاهر العجز والجمود عنه.
وقد رأى الشيخ الصانعي أن هذا المنحى المعاصر بات يقلق الفقهاء، وحسب قوله: إن «من أكبر ما يقلق الفقهاء الملتزمين العارفين، خلوص الفقه الإسلامي وإنتاجيته، فمن جهة على الفقيه أن يراقب حركة الفقه ألَّا تنزاح عن الإطار القواعدي الاجتهادي لمصادر الوحيانية المقدسة، ومن جهة أخرى عليه أن يحمي الاستنباط والاجتهادات عن أن تغدو مظهراً لعجز الفقه عن إدارة الحياة البشرية» [27]، وعلى هذا النهج تنبني -حسب رأيه- فلسفة هذه الدراسات التي تسعى بجد -كما يقول- إلى الجمع بين الأصالة والواقعية، ولهذا فهي ترصد الموضوعات والمسائل الجديدة والمستجدة، وما يأمل منها أن تفتح السبيل إلى دراسات جادة وجديدة للفقه الإسلامي.
اجتهادات تساوي بين الرجل والمرأة
بعد أن تحددت الملامح الأساسية المكونة لهذا المنحى الفقهي الجديد في مجال المرأة، بات من الضروري الكشف عن طبيعة المكونات الاجتهادية التي تجلى فيها هذا المنحى وتميَّز بها. وفي هذا الشأن سوف نعتني بشكلٍ أساس بآراء واجتهادات الشيخ الصانعي لكونها الأكثر أهمية وظهوراً وتعبيراً عن هذا المنحى الفقهي الجديد، ولشدَّة عنايته بقضايا المرأة التي أفرد لها زاوية خاصة في موقعة الإلكتروني على الشبكة العالمية الإنترنت.
فقد جعل الشيخ الصانعي أساس عمله -كما يقول- الإعادة المتواصلة في النظر للأحكام، لأنه يرى أن هناك الكثير من الأحكام التي يمكن إعادة النظر فيها، وتطبيقها مع زماننا من دون أن يتأثر الإيمان والأحكام الأساسية للمسلمين بها، ويمكن معرفة ذلك حسب رأيه بأدنى مستوى من الدراسة، رغم ذلك ظلت هذه الأحكام دون تغيير.
ويُعرِّف الشيخ الصانعي عن حاله في مجال الإفتاء، بأنه ينظر في فهم الآيات والروايات وفي أصول الاستنباط على أساس مبدأ السهولة في الإسلام، واضعاً بين عينيه باستمرار وصية الشيخ محمد حسن النجفي للشيخ مرتضى الأنصاري في أن يقلل من احتياطاته لأن الإسلام شريعة سهلة.
وقد شرح الشيخ الصانعي آراءه الجديدة في سلسلة أصدرها بعنوان: (سلسلة الفقه المعاصر) في خطوة لعله يراد منها إبراز هذه الآراء والتعريف بها، خصوصاً في المجال الذي يتصل بقضايا المرأة، وهي القضايا التي تظهر وكأن هذه السلسلة من الدراسات جاءت من أجلها في الأساس.
ومن حيث التصنيف فإن هذه الدراسات على صغر حجمها تصنف على مجال الفقه الاستدلالي الذي تناقش فيه الآراء نقداً وتحليلاً، نفياً وإثباتاً على أساس الأدلة والبراهين من الكتاب والسنة والإجماع والعقل، وباقي القواعد والأصول الاجتهادية الأخرى.
وفي عرض هذه الآراء سوف نكتفي بالقدر الذي يعبِّر عن رأي الشيخ الصانعي من دون الخوض في تفاصيل المناقشات التفصيلية، ومن هذه المناقشات كما جاءت مرتبة في السلسلة:
أولاً: مساواة الرجل والمرأة في القصاص
رأى الشيخ الصانعي أن أحد الأسئلة الرئيسة في مسألة القصاص، يتمثل في تساوي أو عدم تساوي قصاص الرجل والمرأة، فالرأي المشهور عند الفقهاء -حسب قوله- يقوم على أساس مبدأ عدم التساوي في القصاص بين الرجل والمرأة، ومعنى ذلك لو أن رجلاً قتل امرأة فلا يمكن لأولياء المرأة قتله إلا إذا منحوا ورثة الرجل القاتل نصف دية الإنسان الكامل، أما إذا قتلت المرأة رجلاً كان بإمكان أولياء الرجل اقتيادها به، وكأن الفقهاء في تقديره يرون للذكورة فضيلة وأفضلية لذا يعتقدون بعدم وجود مساواة في القصاص بين الرجل والمرأة.
وتُعَدُّ هذه المسألة في نظر الشيخ الصانعي من الملفات التي يجابه بها الفقه الإسلامي حيث يصنفها البعض بأنها مخالفة لحقوق الإنسان وللعدل والإنصاف. والرأي الذي توصل إليه الشيخ الصانعي يقضي بتساوي القصاص بين جميع أصناف البشر، وأنه لا توجد أية خصوصية مميزة من ناحية الجنس والديانة، وكل ما كان مخالفاً لذلك لابد من توجيهه أو ردّ علمه إلى أهله، فالقرآن الكريم عَدَّ البشر جميعهم أبناء آدم وحواء، ولم يضع أي فرق أو تمييز بينهم في مبدأ الخلقة، وفي الطاقات الإنسانية الكامنة. وأن عدم التساوي هو ظلم بعيد عن الحقيقة والعدالة، ذلك أن النساء يساوين الرجال في الهوية الإنسانية، وفي الحقوق الاجتماعية والاقتصادية.
ومن جهة العقل يرى الشيخ الصانعي أن التمييز في القصاص لا ينسجم مع القواعد العقلائية المسلَّمة، والأحكام العقلية اليقينية، ذلك أن العقل يَعُدُّ الظلم من الله قبيحاً، وصدوره عنه تعالى محالاً، ومن الواضح عنده أن التمييز في القصاص مصداق بارز وظلم شاخص.
وقد رفض الشيخ الصانعي ما يقال من أن هذا التمييز له علاقة من جهة كون نفقة المرأة على الرجل، وعَدّ الرجل هو أساس اقتصاد الأسرة وعمودها، فهذا الرأي في نظره هو تبرير لا أساس ديني وعلمي له، ذلك أنه من اللازم صدقه على الأطفال الصغار، والعجزة الكبار، والرجال المقعدين، وممن لا يرتهن لهم اقتصاد الأسرة، وكذا يلزم صدقه على المرأة العاملة وهي كثيرة اليوم، رغم أنهم لا يرضون بذلك.
وأما الروايات الواردة في هذه المسألة فهي عنده أعجز من أن تقع مرجعاً للإفتاء أو إبداء الرأي الفقهي، نظراً لمخالفتها القرآن الكريم، إضافة إلى جملة من الإيرادات المسجلة عليها من جهة فقه الحديث [28].
ثانياً: مساواة الرجل والمرأة في الدية
يرى الشيخ الصانعي أن من الاستفهامات الجادة في الفقه الإسلامي، الاستفهام الذي يدور حول الدية وعدم تساويها بين الرجل والمرأة، فقد ذهب مشهور الفقهاء، بل يمكن القول تمام فقهاء الإسلام عدا نزر يسير إلى أن دية المرأة تقع على النصف من دية الرجل، كما ذهبوا في الجراحات إلى أن دية المرأة تساوي دية الرجل إلى الثلث، فإذا تجاوزت الثلث غدت دية المرأة نصف دية الرجل.
وبخلاف هذا الرأي المشهور يرى الشيخ الصانعي أن الروايات الواردة في مقام بيان الدية ومقدارها تدل على تساوي قيمة الدم، وليس هناك شواهد في القرآن الكريم تدل على مبدأ عدم التساوي، كما أن الأصول العامة والقواعد الكلية في الإسلام تشهد على هذا على التساوي.
ومن الآيات التي تطرق إليها الشيخ الصانعي وتوقف عندها في تساوي المرأة والرجل، قوله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ﴾ [29]؛ فهذه الآية -حسب قوله- تريد إيصال أمر إلينا، وهو أن الناس متساوون في الحقيقة الإنسانية، وأنه لا فرق بين الرجل والمرأة، الكبير والصغير، القوي والضعيف، وعقب ذلك تُصدر الآية حكمها بالقول أيها الناس اتقوا ربكم، ولا يظلم أحدكم الآخر في حق غيره، لا الرجل بالنسبة للمرأة، ولا الكبير بالنسبة للصغير، ولا القوي بالنسبة للضعيف، ولا المولى بالنسبة للعبد، وعليه وبدلالة هذه الآية يؤمر الناس بتجنب كل ما هو بنظر العرف والعقلاء ظلم، والله أولى بألَّا يفعل ذلك، وعليه فلا شك عنده في دلالة الآية على تساوي الناس، ورفع أشكال التمييز بينهم في الأحكام والقوانين.
وفي هذا النطاق انتقد الشيخ الصانعي ما ذكره البعض من فلسفة تشريع التفاوت في الدية وحكمته بالإشارة إلى المكانة الاقتصادية المختلفة التي يمثلها الرجل والمرأة، وذلك لكون أن الدية مرتبطة بالجانب البدني، ولأن بدن الرجل أكثر قوة وقدرة في مجال إنجاز الأعمال المادية من المرأة؛ لهذا كان للرجال مردود عملي أكبر من النساء، ولهذا كانت ديتهم أكثر.
ويرد الشيخ الصانعي على هذا الرأي ويرى أن هذا التبرير -حسب عبارته- غير تام، وأنه مجرد استحسان، ولا توجد له أي إشارة في النصوص الدينية، ويرى أن تفاوت الأداء الاقتصادي والنشاط الإنتاجي بين الرجل والمرأة أمر متغير وليس بقارّ، كما ليس له شكل ثابت في المجتمعات والثقافات المختلفة والمتنوعة حيث نرى اليوم أن النظام الأسري قد اتخذ لنفسه شكلاً آخر، وأصبحت المرأة في بعض المجتمعات المعاصرة تساهم في اقتصاد الأسرة بإنتاج أكبر أو مساوٍ لإنتاج الرجل نفسه.
ويساءل الشيخ الصانعي القائلين بهذه الفلسفة: لماذا لا يطبقون فلسفتهم هذه على الأطفال والذكور والإناث والعجزة من الرجال والنساء، وعلى الذين يجنون أرباحاً عالية في نشاطهم الاقتصادي، رغم أن هؤلاء جميعاً ليس لديهم معدل إنتاج اقتصادي واحد؟
وخلاصة القول عنده أن القرآن الكريم دالٌّ على لزوم دفع أصل الدية، دون أن يضع امتيازاً بين الرجل والمرأة، كما أن الروايات الدالة على تشريع الدية في الديانة الإسلامية تدلّ -كالقرآن- على المبدأ، ولا تضع تمييزاً بين الطرفين، والأمر عينه يجري في الأصول العامة والقواعد الكلية للإسلام، حيث تستدعي مساواة الدية بين الرجل والمرأة أيضاً.
وعلى هذا الأساس فإن الروايات المخالفة لهذه الأدلة والشواهد لا يمكن اعتبارها مدركاً لتأسيس رأي فقهي [30].
ثالثاً: ولاية الأم
يتفق مشهور الفقهاء -كما يقول الشيخ الصانعي- على أن حق الولاية على الأطفال الصغار يثبت بعد وفاة الأب للجد والد الأب، وإذا كان الجد ميتاً يصل الأمر إلى الأم لتولي أمور أولادها، ومحل الخلاف والنزاع عنده في هذه المسألة يدور في صورة كون المرأة كالأب أمينة على ولدها، ومن أهل التدبير والدراسة بشؤون رعاية الطفل ومصالحه، ولو افتقرت إلى أحد هذين الشرطين لا تصلها الولاية حينئذٍ على أولادها، تماماً كما لو فرضنا الأب فاقداً لأحد هذين الشرطين، فإنه لن يكون صاحب ولاية حينئذٍ.
وجهة البحث هنا تتحدد في أنه هل تفرض الأمومة عدم القيمومة أم لا؟
والذي يراه الشيخ الصانعي أن للأم ولاية على الأولاد الصغار بعد وفاة الأب، وأن ولايتها مقدمة على ولاية الجد والد الأب، وأن تصرفاتها في أموال صغارها وشؤونهم الحقوقية تقع نافذة.
وبعد أن ناقش الشيخ الصانعي في المقام الأول مستندات النظرية المشهورة في هذه المسألة وقام بنقدها وطرحها، انتقل إلى المقام الثاني، حيث أشار إلى شواهد تثبت عنده تقدم ولاية الأم، حيث رأى أن الاعتبارات والمناسبات العقلائية والدينية تصلح شاهداً على هذا التقدم لصالح الأم، فالعقلاء والعرف الإنساني، حسب قوله يرجحون الأم الأمينة المدبرة لمتابعة شؤون أولادها على غيرها، وذلك لكون أن محبة الأم وإرادتها الخير لأبنائها، وقرابتها الشديدة منهم يجعلها أكثر قرباً من أي طبقة أخرى من طبقات الأقارب عدا الأب، وإذا ما وضعناها مع الجد للأب أو أي واحد من الأقارب في رتبة واحدة، فمن الطبيعي عنده أن يرى العقل الجمعي للبشر، وفي الثقافة الإنسانية أن الأم أليق بذلك وأجدر.
والنصوص الدينية في الكتاب والسنة تؤيد -في نظر الشيخ- وبأشكال مختلفة احترام عواطف الأم وأحاسيسها، وقد شرح القرآن الكريم معاناة الأمهات في فترات الحمل والولادة، وظل يوصي الإنسان بوالديه حُسناً، وهي التوصية التي وردت أيضاً في العديد من الروايات المأثورة عن النبي وأهل بيته (عليهم السلام)، إلى درجة أن الشهيد الأول محمد بن مكي يذهب بالقول إلى أنه لو نادى الأب على الابن في صلاته المندوبة، يمكن للابن ألَّا يجيب والده ويمضي ليُتم صلاته، أما لو نادت الأم ولدها وهو في صلاة مستحبة استحب له قطع الصلاة وإجابة أمه.
ويُعقِّب الشيخ الصانعي على ذلك بالقول: إن مثل هذه الشواهد والنماذج كثيرة جدًّا في النصوص الدينية وفي الفقه الإسلامي أيضاً، ويستفاد من مجموعها -في نظره- أن الشريعة الإسلامية أولت أهمية وعناية خاصة بعواطف الأم ومشاعرها، وهذا ما يتحقق في هذه المسألة عبر تقديم الأم واعتبارها أسبق من الجد.
وحين يريد الشيخ الصانعي أن يلخص قوله في هذه المسألة يقول: «إن العمومات والمطلقات القرآنية والحديثية تثبت للأم ولاية على أولادها، وما اشتهر من تخصيص هذه العمومات وتقييد هذه المطلقات بخصوص الجد للأب تبيّن أنه ليس بالدليل التام، ولا يمكن إعطاء رأي فقهي على أساسه.
ووفقاً لعدم تمامية أدلة التخصيص والتقييد، تصل النوبة إلى الشواهد والقرائن التي ترجّح ولاية الأمّ.
وعليه، فالإفتاء بولاية الأمّ وتقدّمها على ولاية الجدّ، مطابق للقواعد والمناهج الفقهية» [31].
رابعاً: إرث الزوجة من الرجل في صورة الانحصار
ناقش الشيخ الصانعي هذه المسألة بناء على وجود مادة في القانون المدني الإيراني، والمتعلقة بإرث الزوج والزوجة توافق رأي مشهور فقهاء الشيعة، ونص هذه المادة: «عندما لا يكون هناك وارث آخر غير الزوج أو الزوجة، يأخذ الزوج تمام تركة زوجته المتوفاة، أما المرأة فتأخذ في هذه الحال نصيبها، فيما تظل بقية تركة الزوج محكومة بحكم المال الذي لا وارث له».
ويرى الشيخ الصانعي أنه بمجرد ملاحظة هذه المادة القانونية، يتسارع إلى الذهن سؤال عن سبب هذا الاختلاف وعدم المساواة في الحكم؟
ويضيف الشيخ الصانعي إذا كنا نمنح الزوج عندما يكون هو الوارث الوحيد لزوجته، ما زاد على سهمه من الإرث، فلماذا لا يُتخذ هذا الإجراء نفسه في حق الزوجة، فتأخذ بدورها تمام الإرث الذي بناه زوجها بمساعدتها ووقوفها إلى جانبه، بدل أن يظل محكوماً بحكم المال الذي لا وارث له؟
ويُعقِّب الشيخ الصانعي على هذا السؤال بالقول: لا نجد جواباً مقنعاً للإنسان الباحث عن العدالة يسكِّنه ويُهَدِّئُهُ، من هنا يضطر الفقيه الذي يرى الإسلام قائماً على العدالة، والعدالة قائمة عليه أن يتجه ناحية مستند هذا الحكم ومناقشته.
ومن الواضح عند الشيخ الصانعي أنه لا يمكن للفقيه أو الحقوقي أن يطلق العنان لنفسه في السعي وراء العدالة، بل لابد أن تكون مثله العليا متبلورة داخل نظامه الفقهي والحقوقي، وتكمن الصعوبة في هذا الجانب أن أغلب القواعد المتصلة بالإرث صريحة في أنه لا توجد إمكانية لإجراء تعديلات فيها على أساس من المصالح وليس هناك فقيه يكر ويفر في هذا الباب.
والأمر الذي جعل الشيخ الصانعي ألَّا يعرض عن البحث في هذا الموضوع -حسب قوله- هو المدارك والمستندات التي اعتمدت في هذه المسألة، والتي يراها بحاجة إلى إعادة قراءة ودراسة فقهية معمَّقة.
والنظرية المختارة عنده بعد فحص الأقوال ومناقشتها في هذا الشأن، تأخذ بتساوي الرجل والمرأة في صورة انحصار الورثة بأحد الزوجين، فإن الزائد على الفرض يُعطى لهما بعنوان الرد.
ويعتقد الشيخ الصانعي أن هذا الرأي هو أقوى الآراء وأقربها للواقع، وعلى تقدير عدم القول بهذا الرأي، فإنه يقدّم الرأي القائل باستحقاق الزوجة الزائد عن فرضها في زمان غيبة الإمام، ونتيجة البحث التي يختم بها: أن ردّ ما زاد إلى الزوجة في صورة الانحصار هو الرأي المنسجم مع العدالة، والأقرب للاحتياط [32].
خامساً: سلب صفة الذكورة عن المناصب الدينية والسياسية العليا
من الأبعاد الأساسية التي يشترك فيها أصحاب المنحى الجديد في الفقه الشيعي، التأكيد على سلب صفة الذكورة عن المناصب الدينية والسياسية العامة والعليا، والتي كان يحتكرها الرجل لنفسه ولزمن طويل، ويحرِّمها على المرأة، قاطعاً عليها طريق الوصول إليها.
وفي هذا النطاق لا يشترط الشيخ الصانعي صفة الذكورة في الولاية والحكم والمرجعية وسائر شؤون الفقيه، والمعيار لديه هو الفقه والتقوى، وبشأن القضاء يرى أن لا خصوصية للذكورة في القضاء، وليس هناك حجة شرعية على ذلك، وإطلاق أدلة القضاء عنده حجة على العموم والشمول، فكما أن الرجال مجازون من قبل الأئمة المعصومين (عليهم السلام) في التصدي للقضاء كذلك النساء مجازات من قبلهم، ولا سيما في شؤون المرأة وحقوقها. وعلى هذا النهج أيضاً الشيخ إبراهيم الجناتي الذي لا يشترط في مرجع التقليد أن يكون ذكراً، ولا مانع عنده من تصدي المرأة الحائزة على الشروط لمقام القضاء، ولا إشكال لديه في تصدي المرأة كذلك لسائر المناصب الاجتماعية والسياسية والعلمية والثقافية والإدارية والرئاسية، عندما يكون بمقدورها توليها والقيام بوظيفتها مع مراعاة الموازين الشرعية في الستر وغيره، وذكر الشيخ الجناتي هذه الآراء في رسالته العملية للعمل والالتزام بها عند من يرجع إليه في أمر التقليد.
ومن جهته يرى السيد محمد البجنوردي أن الأدلة نفسها التي تدل على جواز التصدي للرجل هي نفسها التي تدل على جواز التصدي للمرأة، سواء في السلطة التنفيذية أو السلطة التشريعية وفي كل إدارات ومناصب البلاد اللازمة لإدارة المجتمع وتسيير شؤونه دون تحديد أو تقييد. بشأن هذه القضايا يقول: بعد التحقيق الدقيق في الروايات والآيات وأقوال الفقهاء، واستناداً إلى بناء العقلاء، وفهم طبيعة القضاء الذي هو رفع الخصومة بين المتخاصمين، أو إحقاق الحق في الدعاوى الحقوقية والمالية، وإجراء الحدود في المسائل الجزائية، وجدت أن هذا المعنى لا يتم إلا بالعلم والحكم بالعدل، وهذا أمر لا علاقة للجنس به، بمعنى أنه يجب أن يكون رجلاً ولا يكون امرأة أو بالعكس، فحينئذٍ نقول بصراحة: للنساء أن يتصدين لأمر القضاء [33].
وبشأن الاجتهاد والإفتاء، يرى السيد البجنوردي أن الاجتهاد أو الإفتاء أمر واقعي يتعلق بمسألة القدرة على الاستنباط وتحصيل ملكة الاجتهاد، وسواء كانت هذه القدرة والملكة في نفس المرأة أو نفس الرجل، ولا شبهة عنده في أنه لا فرق بين الرجل والمرأة في أصل الاجتهاد والإفتاء [34].
ويتفق مع هذا النهج الشيخ محمد مهدي شمس الدين الذي صنَّف كتاباً في جواز تولي المرأة السلطة العليا التي هي رئاسة الدولة، بناء على خلفية المفارقة بين الدولة في المفهوم القديم حيث تجتمع عند رئيس الدولة جميع السلطات التنفيذية والتشريعية والقضائية، وبين الدولة في المفهوم الحديث حيث تتوزع السلطات على مؤسسات تتقيد بالقانون والدستور.
وعند تحرير هذه المسألة يتساءل الشيخ شمس الدين:
هل يجوز في الشرع الإسلامي للمرأة ذات الكفاءة العملية والذهنية والأهلية السلوكية والأخلاقية، أن تتولى الحكم في الدولة، فتكون رئيسة للدولة أو رئيسة للوزراء، فضلاً عن توليها إحدى السلطات الوزارية أو الإدارية، أو لا يجوز لها ذلك؟
ومن جهة أخرى: هل يجوز للمجتمع – الشعب أن يُولِّي زمام أموره إلى امرأة فيسند إليها مهمة رئاسة الدولة أو رئاسة وزرائها، فضلاً عن توليها سلطة أقل أهمية من ذلك، كأن تكون وزيرة أو رئيسة إدارية لإحدى الإدارات العامة في الدولة؟
والمسألتان -عنده- متلازمتان على الظاهر، فإذا جاز للمرأة أن تتولى جاز للشعب أن يُولِّي، وإذا جاز للشعب أن يُولِّي جاز للمرأة أن تتولى، إذ لا يتصور التفكيك في المشروعية، بأن يجوز لها أن تتولى ولا يجوز للشعب أن يُولِّيها، أو يجوز للشعب أن يُولِّيها ولا يجوز لها أن تتولى.
وعلى هذا، فإذا ثبت بالدليل الشرعي جواز تولي المرأة للحكم، ثبت بالملازمة القطعية جواز توليتها، وإذا ثبت جواز توليتها ثبت بالملازمة القطعية جواز توليها.
وقد بحث الشيخ شمس الدين هذه المسألة من وجهين:
الوجه الأول: عما إذا كان يوجد حظر شرعي على المرأة من هذه الجهة بأن يدل دليل معتبر عند الشارع على تحريم تولي المرأة للحكم وعدم أهليتها شرعاً لتولي هذه المهمة، باعتبار أنها مهمة مشروطة بالذكورة فلا صلاحية للمرأة تخولها توليها. وفي هذه الحالة يثبت بالملازمة عدم مشروعية توليتها من قبل الأمة، فإذا حصل ذلك وقع باطلاً ويكون توليها غير شرعي وتوليتها غير مشروعة.
الوجه الثاني: عما إذا كان يوجد حظر شرعي على الأمة من هذه الجهة، بأن يدل دليل معتبر عند الشارع على حرمة تولية المرأة للحكم من قبل الأمة، وعدم أهلية الأمة للقيام بذلك وعدم ولايتها على نفسها من هذه الجهة باعتبار أنها مهمة مشروطة بالذكورة. وفي هذه الحالة ثبت بالملازمة عدم مشروعية تولي المرأة للحكم، فإذا أقدمت الأمة على اختيار امرأة كان اختيارها باطلاً لا أثر له شرعاً، ويكون تولي المرأة المختارة للحكم -على أساسه- غير شرعي.
وحين يناقش الشيخ شمس الدين هذين الوجهين يرى أن فقهاء الشيعة الإمامية لم يحرروا مسألة تولي المرأة للحكم، بل لم يتعرضوا لشرط الذكورة في الحاكم في أبحاثهم الفقهية. وكذلك لم يتعرض المتكلمون منهم لهذه المسألة في أبحاث علم الكلام فيما يتعلق منه بمسألة الإمامة.
وأما الباحثون المعاصرون من الإمامية الذين بحثوا مسألة الحكم وتعرَّضوا لشروط الحاكم، ذهبوا إلى اشتراط الذكورة في الإمام/ الوالي ولم يجوِّزوا أن تتولى المرأة الحكم ورئاسة الدولة. وقد بنوا موقفهم الفقهي القاضي باشتراط الذكورة على ما تسالم عليه الفقهاء، بل ادُّعي عليه الإجماع، وهو اشتراط الذكورة في القاضي وعدم مشروعية تولي المرأة للقضاء، وعلى ما اشتهر -بل ادُّعي عليه الإجماع أيضاً- من اشتراط الذكورة في المفتي.
وقد اعتبروا الأدلة على اشتراط الذكورة في القاضي، أدلة على اشتراطها في رئيس الدولة، بالإضافة إلى نصوص أخرى في الكتاب والسنة استدلوا بها على هذه الدعوى.
كما لا يبعد عنده أن يكون استناد الموقف الفقهي للإمامية القاضي باشتراط الذكورة في رئيس الدولة، راجع إلى الخلفية الكلامية لولاية المعصوم الذي هو ذكر.
وبعد بحث مستفيض في أدلة اعتبار الذكورة في رئيس الدولة ثبت عنده أن لا دلالة على اعتبار هذا الشرط، وأن عدم جواز تولي المرأة القضاء من جهة اشتراط الذكورة في القاضي على المشهور لا يستلزم عدم أهليتها لتولي الرئاسة ولا يدل على اشتراط الذكورة في رئيس الدولة [35].
ويتفق مع هذا المنحى ويتناغم معه السيد محمد حسين فضل الله وآخرون أيضاً.
ولا شك في أن هذه الآراء تمثل أعظم تحوُّل في الدراسات الفقهية، وتفتح أمام المرأة جميع فرص المشاركة في الحياة العامة، وتضمن لها كافة الحقوق السياسية، وترفع عن طريقها جميع العقبات التي تحول دون وصولها وتسلُّمها المناصب العليا في الدولة.
وتقدم هذه الآراء صورة لامعة عن المرأة في المجال الإسلامي، ولعلها هي ألمع صورة عن المرأة في تاريخ الدراسات الفقهية الشيعية، فقد أظهرت هذه الآراء صورة المرأة الإنسانية التي تتساوى مع الرجل في الطبيعة الإنسانية لأنهما خُلقا من نفس واحدة، وبالتالي فلا فرق بينهما من هذه الجهة في أحكام الدية والقصاص.
كما أظهرت هذه الآراء صورة المرأة الزوجة التي تقف مع زوجها في بناء الأسرة والتكوين الاقتصادي للأسرة، وبالتالي فلا فرق من هذه الجهة بين الرجل والمرأة في تبادل الحق بالإرث في صورة الانحصار بينهما.
ومن جهة أخرى أظهرت هذه الآراء صورة المرأة الأم التي تشملها أدلة الإحسان والمعروف والخير والبر، وبالتالي فإن لها حق الولاية على أطفالها الصغار في حالة وفاة زوجها.
ومن جهة رابعة أظهرت هذه الآراء صورة المرأة العالمة والمجتهدة والأمينة التي لها أهلية الاجتهاد والإفتاء، وتولي القضاء والرئاسة العليا وسائر المناصب العامة الأخرى.
والسؤال: هل بإمكان هذه الصورة اللامعة والمتفوقة أن تحل مكان الصورة القديمة وتمحوها، هذا ما ينبغي أن تبرهن عليه المرأة نفسها، فهي أمام صورة جديدة عليها أن تتمسك بها، وتدافع عنها، وتُعلي من شأنها، وتظل تبرزها دوماً حتى تتلاشى وتضمحل تلك الصورة القديمة والمشوهة التي هبطت كثيراً بمكانة المرأة ومنزلتها، فالأمر إذن يتوقف وبشكل أساس على المرأة في إعطاء المصداق الحي والواقعي لتلك الصورة الذهنية.
_________________________________________________
[1] مهدي مهريزي. نحو فقه للمرأة يواكب الحياة، بيروت: دار الهادي، 2002م، ص225
[2] مهدي مهريزي. الاتجاهات الدينية في تاريخ إيران المعاصر: الموقف من مسألة المرأة، ترجمة: حيدر حب الله، نصوص معاصرة، مجلة فصلية – بيروت، السنة الثانية، العدد السادس، ربيع 2006م – 1427هـ، ص80.
[3] مهدي مهريزي. نحو فقه للمرأة يواكب الحياة، مصدر سابق، ص231.
[4] جميلة كديور. المرأة رؤية من وراء جدر، ترجمة: سرمد الطائي، دمشق: دار الفكر، 2001م، ص21.
[5] الشيخ يوسف الصانعي. قيمومة الأم، ترجمة: حيدر حب الله، قم: مؤسسة فقه الثقلين الثقافية، 1427هـ، ص35.
[6] السيد محمد البجنوردي. تجديد الاجتهاد: فقه المرأة نموذجاً، المنطلق الجديد، مجلة فصلية، بيروت، العدد السابع، خريف وشتاء 2004م، ص102.
[7] مهدي مهريزي. الاتجاهات الدينية في تاريخ إيران المعاصر: الموقف من مسألة المرأة، مصدر سابق، ص91.
[8] مهدي مهريزي. نحو فقه للمرأة يواكب الحياة، ص221.
[9] مهدي مهريزي. المصدر السابق، ص263.
[10] الشيخ محمد مهدي شمس الدين. الستر والنظر، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1994م، ص24.
[11] سورة النساء، الآية 5.
[12] الشيخ يوسف الصانعي. قيمومة الأم، مصدر سابق، ص42.
[13] الشيخ يوسف الصانعي. المصدر نفسه، ص44.
[14] السيد محمد البجنوردي. تجديد الاجتهاد: فقه المرأة نموذجاً، مصدر سابق، ص91.
[15] السيد محمد البنجوردي. المصدر نفسه، ص103 – 104.
[16] الشيخ محمد مهدي شمس الدين. أهلية المرأة لتولي السلطة، بيروت: المؤسسة الدولية للدراسات والنشر، 1995م، ص6.
[17] السيد محمد حسين فضل الله. قضايا المرأة في الاجتهاد الإسلامي المعاصر، الكلمة، مجلة فصلية، بيروت، السنة الثانية عشرة، العدد 46، شتاء 2005م – 1426هـ، ص96.
[18] سورة التحريم، الآية 11.
[19] سورة النمل، الآية 29 – 35.
[20] الشيخ محمد مهدي شمس الدين. الستر والنظر، مصدر سابق، ص34.
[21] الشيخ محمد مهدي شمس الدين. المصدر نفسه، ص36.
[22] الشيخ محمد مهدي شمس الدين. المصدر نفسه، ص38.
[23] الشيخ يوسف الصانعي. إرث الزوجة من الرجل في صورة الانحصار، ترجمة: حيدر حب الله، قم: مؤسسة الثقلين الثقافية، 1427هـ، ص12.
[24] مهدي مهريزي. الاتجاهات الدينية في تاريخ إيران المعاصر: الموقف من مسألة المرأة، ص90.
[25] الشيخ محمد مهدي شمس الدين، أهلية المرأة لتولي السلطة، مصدر سابق، ص5.
[26] الشيخ يوسف الصانعي. إرث الزوجة من الرجل في صورة الانحصار، مصدر سابق، ص13.
[27] الشيخ يوسف الصانعي. مساواة الدية: الرجل والمرأة والمسلم والكافر، قم: مؤسسة فقه الثقلين الثقافية، 1427هـ، ص9.
[28] الشيخ يوسف الصانعي، المصدر نفسه.
[29] سورة النساء، الآية 1.
[30] الشيخ يوسف الصانعي. مساواة الدية: الرجل والمرأة والمسلم والكافر، مصدر سابق.
[31] الشيخ يوسف الصانعي. قيمومة الأم، ص53.
[32] الشيخ يوسف الصانعي. إرث الزوجة من الرجل في صورة الانحصار، ص44.
[33] السيد محمد البجنوردي. تجديد الاجتهاد: فقه المرأة نموذجاً، ص101.
[34] السيد محمد البجنوردي. المصدر نفسه، ص104.
[35]الشيخ محمد مهدي شمس الدين. أهلية المرأة لتولي السلطة، ص41.