أحدث المقالات
 
يمر عالمنا العربي والإسلامي في الوقت الحاضر بأزمات داهمة ومقيمة([1]) حالت دون وصوله إلى تحقيق الحد الأدنى من تطلعاته وأهدافه السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وذلك في أن يرتقي بواقعه إلى مستوى الحياة اللائقة أسوة بباقي شعوب وحضارات العالم.. وأن يعيش معها بسلام وعدل وتكافؤ إنساني.

 وقد تعرض الشعب العربي على مدار تاريخه السياسي الحديث لأهم تلك الأزمات وهي أزمة وجود الأنظمة الشمولية التي وصلت إلى السلطة بقوة السلاح والمال، وتسلطت على رقاب العباد والبلاد باللاشرعية، وحافظت على طغيانها ووجودها بالسيف والعسف والقمع والاستبداد.. الأمر الذي جعل هذا الشعب العربي يفضل الركون والسلامة، ويلتزم أقصى حدود الانضباط في مواجهة جحافل الأمن والجيوش والاستخبارات.

 من هنا ـ وفي مواجهة ما يحدث- يمكن أن نعتبر أن صمت الشعب العربي من المحيط إلى الخليج (على كل تلك الهزائم والمآسي السياسية والاجتماعية) ما هو إلا نتيجة طبيعية ومنطقية لكل تلك الممارسات الظالمة التي ارتكبت بحقه، ولذلك ينبغي علينا ألا نتوقع من مواطن جائع خائف محبط مستضعف، عاطل عن العمل، وفاقد للأمل، أن يخرج معارضاً أو مناصراً لقضية معينة، إذ أن لديه ما يكفيه من الهموم والمخاوف والأزمات والابتلاءات والضغوطات اليومية على الصعيد المعيشي والشخصي والاجتماعي، وحين يفرغ منها قد يفكر بالشأن العام.

   وقد يبدو صحيحاً أن طبيعة "التواجد الجغرافي المميز" للعرب والمسلمين في موقعهم الراهن -المليء بالثروات والموارد والطاقات المادية والبشرية الكبيرة التي لن تنضب خلال مئات (وربما آلاف) السنين- هو أحد أهم الأسباب التي جعلت (وتجعل) هذه المنطقة عرضةً ـ على الدوام ـ لمختلف ألوان المؤامرات والفتن والاضطرابات والمخططات الإقليمية والدولية الرامية إلى تعميق سيطرتها وهيمنتها المباشرة على مقدرات المنطقة، ونيل ما يمكن نيله من مكاسب خاصة بالدول الكبرى، وتحقيق منافعها ومصالحها الاقتصادية والاستراتيجية على حساب المصالح الأساسية الخاصة بالسكان الأصليين والمالكين الحقيقيين لهذه المنطقة.

 ولكننا نعتقد بأنه من الأهمية بمكان أن نلاحظ أنه وبالإضافة إلى الدور المركزي الذي يلعبه "العامل الجغرافي" -في مجمل الأزمات التي عانت منها منطقتنا الإسلامية (وهي لا تزال تتلاحق فصولاً، وتتوالد ذاتياً وموضوعياً على مختلف الأصعدة والمستويات)- فإننا يجب علينا ألا نغفل عن أهمية العامل الداخلي في وصولنا إلى هذا المستوى المنحدر والخطير في أفكارنا وسياساتنا العملية التي نعاني فيها جميعاً من تعمق وتجذّر وامتداد ظاهرة وفكرة "الاستبداد([2]) المركّب والشامل" على كافة مواقع حياتنا فردياً ومجتمعياً.. ولذلك نحن نعتبر أن هذا المرض هو أهم مشكلة تعيشها الأمة في وقتنا المعاصر، وهي تريد أن تنفض عن نفسها ركام التخلف والاهتراء الحضاري، وتتحرك في الحياة والتاريخ لتنهض وتتطور وتزدهر وتنافس.. ولكنها حالياً لا تملك الطاقة الحركية التي تدفعها لبناء واقعها.. وهي طاقة الحرية المسؤولة والقدرة الواعية على الاختيار الصحيح والتفكير العلمي الممنهج، والتعبير السليم، والإبداع المتنامي المتراكم.. لأنها لا تزال في وضعية المتلقي والمتأثر والمنفعل بسبب بقائها مسجونة في قفص الاستبداد الذي صنع حواجز نفسية وفكرية وتاريخية عميقة يمنعها عن الحركة الإيجابية نحو بناء المستقبل المشرق.  

 فالاستبداد والتسلط بمختلف ألوانه وأشكاله هو شيء أعمى يسير عكس حركة التاريخ والحضارة والحياة الإنسانية الطبيعية.. لأنه يقف على طرفي نقيض من حرية الإنسان، ومن قدرته على تحقيق الاختيار السليم، بل إنه يشل طاقة التفكير واستخدام العقل والفطرة الصافية عند الإنسان، ويرهن مصائره للمجهول، ويجعله أسيراً بيد الجهل التخلف.. وهنا تقع الكارثة الكبرى عندما يفقد هذا الإنسان حريته.. لأنه يفقد معها كل شيء جميل في الحياة.. إنه يفقد العزة والكرامة والأخلاق والعلم، وبالتالي يكون مصيره الموت المحتم أو العيش على هامش الحياة والوجود.

 هذا وقد أدى تفاقم وضعية الاستبداد في بلادنا ـ مع تقادم العهود والأزمان- إلى قيام أنظمتنا وحكوماتنا المستبدة والمتسلطة بالضغط المستمر على العباد والبلاد، وعدم اهتمامها بأبسط حق من حقوق الإنسان وهو حق التعبير عن الرأي والاعتراض السلمي الهادئ على الممارسات الخاطئة والسياسات الظالمة الفاسدة والمفسدة([3]) التي أصبحت تتحرك علانية هنا وهناك، وبدأت تفعل فعلها السلبي في جسد هذه الأمة، خصوصاً بعد أن قام أصحابها بتقنينها ووضعها قسراً ضمن أنظمة السلوك اليومي الذي يجب أن يسير عليه الفرد والمجتمع، الأمر الذي أدى إلى أن ننتقل من هزيمة إلى أخرى ومن خسارة إلى أخرى، حتى وصلنا ـ في عالمنا العربي والإسلامي ـ إلى مرحلة الضياع والتشتت واللاتوازن، وبالتالي فقداننا القدرة على العمل والحركة، وامتناع واقعنا المتردي على الإصلاح (أو التغيير!)، وانتظاره التوجيهات والأوامر من البيوت السوداء والبيضاء.

 وبالنتيجة كان من الطبيعي جداً أن نصل إلى ما وصلنا إليه الآن ـ في داخل اجتماعنا الديني العربي والإسلامي ـ من انهيار وتفكك وتفرق، حتى تكالبت باقي الأمم علينا، بعد أن سيطرت الدولة المركزية والشمولية (الحديثة!) على كل مواقع الحياة العربية والإسلامية، وعلى حساب كل التنظيمات والمؤسسات الأصلية التي تتكون منها مجتمعاتنا الإسلامية.. حيث رأينا كيف فرضت تلك الدولة (بقوة الحديد والنار) وصايتها على المجتمع كله، وضربت قواه الأهلية والمدنية الحية، وسيطرت عليها بالكامل (إلغاءً أو إلحاقاً وتبعية).

 من هنا كان التحدي الأبرز والأهم الذي بات يواجه مجتمعاتنا الإسلامية ـ بمختلف نخبها وتياراتها وقواها الحية الفاعلة ـ هو ظاهرة "الطغيان والاستبداد السياسي" التي أضحت مسؤولية زعزعة أركانها وبالتالي إسقاطها ضرورة حيوية، ومدخلاً جوهرياً لإحداث أي تغيير أو إصلاح في عالمنا العربي الذي لا نزال نعايش فيه سلطات وأنظمة تسلطية قائمة على كمّ ٍهائل من مفاهيم القوة والضبط والردع والكبت والقمع، بما يسمح لها الحفاظ الأعمى على وجودها وديمومتها السلطوية حتى لو وصل الأمر أن تتآمر على جماهيرها مع المعتدين والمستكبرين الذين تدعي علناً مواجهتهم، وهي ـ في الحقيقة ـ تستغل كل الفرص لنيل ودّهم ورضاهم.

 فها هي السلطات العربية ـ القوية والشديدة جداً على شعوبهم، والضعيفة جداً أمام أعدائها ـ تعجز ـ وهي التي لا تزال تصم آذاننا بضرورة أن نسلم لها، وندفع تكاليف حروب لم تقع، وأسلحة مكدسة لم تستخدم، وأن نقدم أثماناً باهظة لأسلحة مخزونة في صحارى البؤس والعجز والموت ـ إنها تعجز (وهي القادرة أصلاً من خلال ثرواتها وإمكاناتها الضخمة) عن وضع خطط عملية لمواجهة المشروع التفتيتي الأمريكي ـ الصهيوني الذي يفتك بجسد الأمة، لا بل إنها لا تستثمر وجود هذا المشروع للبدء بإصلاحات جدية، وتحقيق انفراجات سياسية واجتماعية حقيقية، والانفتاح على شعوبها، ورفع مستواهم المعيشي والحياتي، وفسح المجال أمامهم للتعبير عن آرائهم وممارسة حرياتهم.. لكنها بالمقابل تستغل الخطر الصهيوني المحدق بالأمة فقط لكي تزيد من سطوتها وجبروتها وتحكمها بناسها ومجتمعاتها.

 وفي ظل وجود هكذا مناخ عام من القهر والقسر والضياع الكلي الشامل ـ الذي يتسبب به الاستبداد السياسي ـ فإنه لا يمكننا أن نتصور أبداً أن تقوم الدول والمجتمعات المصابة بتلك الآفة الخطيرة (ومنها مجتمعاتنا العربية والإسلامية) بأي منجز حضاري مشهود له، أو حتى تحقيق أي استثمار فعال لطاقتنا الحية في الخلق والابتكار في هذا الموقع أو ذاك إلا فيما ندر.. لأن طاقة معظم أبناء تلك المجتمعات (مجتمعات الاستبداد) ليست موجهة نحو العمل المنظم الفاعل المنطلق من خلال ضرورة ممارسة واجب النقد وتعميق الحس النقدي في الأمة، أي نقد الذات([4]).. وإنما الملاحظ أن طاقة أبناء الأمة موجهة أساساً باتجاه تحقيق غرض واحد هو تحصيل الحد الأدنى من لقمة العيش اليومية، ولذلك فإن هؤلاء لا يجدون ـ كما قلنا سابقاً ـ الوقت الكافي للتفكير أبعد من مرحلة "اللهم أعطنا خبزنا كفاف يومنا" أو بالتعبير العامي: "نمشي الحيط الحيط ونقول: يا رب السترة".. على اعتبار أن النظم الحاكمة عندنا (التي عسكرت مجتمعاتنا أو دجنتها من أجل أن تحسن الامتثال والتصفيق وتقديم فروض الطاعة وطقوس الولاء الأعمى للزعماء والرؤساء.. حتى تحولت مع الزمن إلى مجتمعات ميتة سياسياً، وفقيرة اجتماعياً، ومفقرة اقتصادياً، وبائسة ومحبطة ثقافياً.. ولذلك فهي قليلة الفاعلية والأثر، ليس فقط في أحداث العالم، بل في قضايا العرب المصيرية، إلا على نحو سلبي أو عقيم أو مدمر) قد سحقت ـ على امتداد كل هذه السنوات الطويلة، منذ عهود الاستقلال وحتى الآن ـ كل قيمة إيجابية، وإرادة خيرة عنده الفرد العربي والمسلم، وضربت كل مواقع العزة والكرامة لديه.. أي أنها أنهت مجمل الصفات والخصال النفسية الراقية التي من المفترض أن يتمتع بها أي إنسان صاحب هدف ومبدأ حقيقي في الحياة، والتي تدفعه لإحداث عملية التغيير والبناء والتضحية في طريق ذات الشوكة، ودفع الأثمان المترتبة على ذلك.

 لذلك إننا نعتقد أن الكتلة الشعبية العربية والإسلامية الراهنة ـ التي تشكل القاعدة الأساس في إحداث أي عملية تغيير أو إصلاح ـ قد أضحت معطوبة ومصابة([5]) بداء انعدام القدرة على العمل والتغيير، أي أنها أصبحت كتلة غير صالحة نفسياً وتاريخياً لعمل أي شيء سوى الكلام في الهواء والصراخ في البيوت، وأحياناً في صالات ودهاليز المؤتمرات.. الأمر الذي بات يتطلب ضرورة وجود كتلة تاريخية وشعبية جديدة تمتلك مقومات وخصائص نفسية فعالة مختلفة كلياً عما هو سائد عندنا الآن من أنماط فكرية وسلوكية([6]).. بحيث تكون قادرة معنوياً ومادياً على خلق الوقائع وإنتاج الحقائق اللازمة لممارسة الحرية الصحيحة والمسؤولة.. لأن الحرية هي الثمرة الطبيعية للنهوض والقدرة والفاعلية. والقدرة والفاعلية هي فعل خلق وبناء مستمرين، بقدر ما هي صناعة تحويل وتوليد.. وفعل الخلق والتوليد يحتاج إلى قيم معنوية ونفسية يجب أن تتوافر عليها الكتلة التاريخية المغيرة.

 طبعاً نحن لا نريد أبداً أن نعطي صورة مأساوية سوداوية عن الواقع العربي والإسلامي الراهن، وكأننا العجز المطلق هو المشهد النهائي الطاغي حالياً، كما وإننا لا نريد أن نصور أميركا وإسرائيل (أعداء الأمة) وكأنهم القضاء والقدر الحتمي المفروض على شعوب وحضارات العالم أجمع، ولكننا نريد أن نعطي للواقع العالمي الراهن صورته الواقعية الصحيحة لكي نتمكن من إنجاز شروط مواجهته بحسب المنطق العلمي والعقلي القائل بأن النتائج تأتي تبعاً لمقدماتها.. حيث أن مواجهة الحقائق الواقعية، وتقدير حجم وقوة العدو الحقيقية هي من أهم أسباب تحقيق النصر الحاسم في ساحة المعركة.. ونحن عندما نتحدث عن ضرورة تقدير واقعية الأشياء، فإننا نرفض بشدة منطق التخويف والهزيمة النفسية الذي يستخدمه أصحاب النفوذ والقوة في أي مجتمع في محاولتهم فرض أمرهم الواقع على الناس.. وهذا أمر أشار إليه القرآن الكريم في قوله تعالى: ]فاستخف قومه فأطاعوه [.. حيث أن فرعون كان يستخدم أسلوب الهزيمة لدى الناس، ليفرض إرادته واستكباره عليهم.

 بناءً على ذلك يجب أن لا نفزع من كل تلك الأساليب..بل يجب أن نكون أقوياء، وأعزاء بالله تعالى، وأن نردد مع القرآن قوله تعالى: ]الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيماناً وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل[.. فالله تعالى يريدنا هنا أن نعيش معه، مع كلماته وقرآنه([7])، ليوجه حياتنا، وينظم مساراتنا، ويدعم كياناتنا النفسية.. لأننا إذا انفصلنا عن الله القرآن ـ الذي هو محور حركة المسلمين ـ انفصلنا عن ذواتنا وقدراتنا وطاقاتنا، وعشنا حالة الرعب والهزيمة النفسية والروحية التي يحاول الآخرون فرضها علينا في مواقع مختلفة، وهي هزيمة أن يهرب الإنسان من ذاته وثقافته الأصيلة، ومحددات سلوكه العملي القيمية الإسلامية الأصيلة.. أي أن يفر الإنسان من قوميته، وعروبته، وإسلامه وربما من إنسانيته.. ليتحول إلى مجرد مطية يركبها الآخرون، ويتلاعب بها ذوي المصالح والنفوذ والأهواء النفعية.. أجل هذه الهزيمة الداخلية، وهي أشد الهزائم تأثيراً وخطورةً على حياة الأمم والشعوب والحضارات من الهزائم العسكرية والأمنية التي قد تلحق بها.

 من هنا نحن نعتقد أن القضية الملحة الآن هي قضية تحرير الذات والبنية العربية الإسلامية (انطلاقاً من الفرد ووصولاً إلى الدولة) من علاقات النفي والنفي المتبادل إلى علاقات التكامل، من عدم الاعتراف بحق الأفراد في الاختلاف إلى قيام أوسع دائرة من الاعتراف بحق الاختلاف في الاجتماع العربي والإسلامي.

لكن هذا التحرير المطلوب للذات الإسلامية لن يحصل أبداً من فوق، بل لابد من إعادة تربية أجيال هذا الأمة على الهدوء النفسي والأمن من الخوف، باعتبار أن هذه القيم هي الشرط الأول لسعادة الإنسان، ولنجاحه الدنيوي..

 لأن المجتمع الذي لا يأمن أفراده على آرائهم واعتقاداتهم وتعابيرهم المختلفة والمتعددة، وتكون حياتهم مقترنة بالاضطراب والقلق والإحباط واليأس، فإنه لا مجال أبداً عند ذلك لتحقيق ونيل السعادة الحقيقية والكمال الواقعي الفردي والمجتمعي لهم.. فالعدالة الاجتماعية هي القوة الوحيدة التي تستطيع أن تبعث الاطمئنان والهدوء إلى النفوس، وتهب الأشخاص الأمن والسكينة والاستقرار.. وهذا الأمر لا يتوفر إلا في ظل الدولة التي يسوسها القانون والعدالة، الدولة التي رسمت حدود اختصاصات المسؤولين والشعب فيها بموجب القوانين العادلة، والتي يكون المسؤولون فيها مطيعين للقانون، ومنفذين له قبل غيرهم، ويسلكون سبيل العدالة في أحكامهم، ولا يسمحون لأنفسهم بأقل انحراف أو تجاوز على حقوق الآخرين.. وهذا ما يؤكده أحد كبار المشتغلين بهمهم وشؤون التربية، العلامة محمد تقي فلسفي في كتابه حول "الطفل بين التربية والوراثة" من خلال أن هناك ما قد يشعر به جميع الأفراد في داخل أنفسهم من هدوء وأمان، فلا وحشة ولا قلق، ولا ظلم يصيب المواطنين من المسؤولين والمسيطرين على زمام الحكم.. حيث أنه في دولة كهذه يكون طريق التكامل والتعالي مفتوحاً أمام جميع الناس، وباستطاعة كل فرد أن يعمل لسعادته بارتياح واطمئنان، ويستفيد من نتائجها المهمة.. أما الدولة التي يسيطر عليها الاستبداد والتعنت والقهر، ولا يحترم فيها القانون والعدالة أصلاً، ويفقد الحق والإنصاف معناهما فيها..فلا حرية هناك، بل يسود سماء الأمة قلق واضطراب ويفقد الأفراد هدوءهم، يقضون ليلهم ونهارهم في الخوف أو يكونون عبيداً لا إرادة لهم قبال أسيادهم، وفي كل لحظة يمكن أن يسيئ الحاكم إلى شخص أو أشخاص من أفراده ويحمل كالحيوان المفترس عليهم، ويهجم على كرامتهم ووجودهم بلا قيد أو شرط.. فينهي بذلك حياتهم.. وهكذا فإن الحياة في دولة كهذه لا تعني إلا الشقاء والحرمان، وهناك يستحيل على الأفراد الوصول إلى الكمال اللائق بهم كبشر، وينغلق الطريق أمامهم نحو السعادة.. في مثل هذه الدولة يحترم الأفراد حاكميهم بدافع من الخوف والأمن من الضرر، ويطيعون أوامرهم صوناً لدمائهم.. ولكنهم في الواقع يصبون سيل اللعنات عليهم.

 والجدير ذكره هنا هو أن التزام وإطاعة الناس للقوانين والأنظمة في ظل الحرية والعدالة، تكون ناشئة من الشعور بالواجب وتحمل المسؤولية الكاملة، والميل للحصول على السعادة، أما في ظل الحكومة الاستبدادية التي يساس فيه الناس بالقوة والعنف والقسوة والقهر، فإن منشأ التزام الناس الظاهري بالأنظمة هو غريزة البقاء و حفظ الذات، لأنهم يعلمون أنهم عند ارتكابهم أبسط مخالفة فسيكون عقابهم عليها شديداً جداً.. يقول مونتسكيو في كتابه (روح القوانين ص32): " تتطلب طبيعة الحكومة في النظام الاستبدادي نوعاً من الإطاعة اللامحدودة. ولا يوجد في هذه الحكومات ما يتعرض للأوامر الصادرة من تغيير، أو إمهال، أو موعد، أو مفاوضات، أو انتقادات، أو وساطة".

 هذا وقد رفض الدين الإسلامي الاستبداد بالمطلق، باعتبار أنه جاء أساساً لإخراج الناس جميعاً من ظلمات الجور والاستبداد إلى نور الحرية والعدل في ظل الحكم الصالح، والمجتمع الصالح العادل.. كما ونظر الإسلام نظرة سلبية للظلم والظالمين.. وعرفهم للناس جميعاً على أساس أنهم أحقر الناس وشرهم في مقام الحكم الإلهي.. جاء عن رسول الله3 أنه قال: "ويل لمن تزكيه الناس مخافة شره، ويل لمن أطيع مخافة جوره، ويل لمن أكرم مخافة شره"([8]).. وفي حديث آخر يقول3: "ألا أن شرار أمتي: الذين يكرمون مخافة شرهم، ألا ومن أكرمه الناس اتقاء شره فليس مني"([9]).

 أمام كل ذلك نتساءل كيف يواجه المثقف العربي حالة العجز المطبق التي تعاني منها هذه الأمة المشتتة والمتفرقة الأهواء؟! ما هو موقفه من كل هذه الانتكاسات والهزائم المتلاحقة التي مرت (وتمر) الأمة بها.. وكيف يقرأ الأحداث التي تتسارع في محيط أوسع من العجز الأشمل والأقدم.. وأعني به العجز السياسي، والعجز الاقتصادي، والعجز في القدرة على إدارة الثروات، وإدارة المشروعات، وصنع وإدارة الحضارات([10])؟!..

 في الواقع تتجلى أهمية المثقف ودوره في كونه ضمير الأمة وعقلها الواعي وصاحب البصيرة النافذة والفعالة التي يفكر بها مع الأمة، ويشير من خلالها إلى مواطن الخلل والضعف القائمة في جسم الأمة.

 ولذلك فإن الدور المنوط بالمثقف حالياً هو الاستمرار في التركيز على "الجانب النقدي العملي"([11])، ومن ثم المساهمة الفاعلة في تكوين وصياغة أسس ومقومات بناء الكتلة النوعية العربية المؤثرة التي أشرنا إليها سابقاً، إذ أن إصلاح الأمة بالوسائل والأدوات الموجودة معنا، والرهان على الأفراد القائمين عليها حالياً لم يعد يجدي نفعاً على الإطلاق..

 فهذه النظم وتلك الحكومات أصبحت شبه معدومة التأثير، وقد كان من الممكن لنا أن نعذرها، أو أن يكون المرء متسامحاً معها ـ بالرغم من عجزها السياسي والعسكري عن مجابهة القوى الكبرى التي تمتلك آلة عسكرية نوعية قوية ومدمرة ـ لو كانت تلك الحكومات قد نجحت في تحديث الأمة وتطويرها، وإنهاضها من غفوتها، تماماً كما فعلت حكومات مجتمعات كثيرة أخرى كانت أكثر تخلفاً من مجتمعاتنا العربية والإسلامية، ولا تمتلك ما نملكه نحن من الطاقات والموارد والثروات الطبيعية الهائلة.. ولكنها استطاعت ـ بالرغم من كل ذلك ـ قطع أشواط طويلة وبعيدة على طريق الاقتدار والتمكن الاقتصادي والاستقلال السياسي، أو على الأقل المنافسة أو الشراكة السياسية على قدم من المساواة في الكرامة والاحترام المتبادل، والندية السياسية والاقتصادية، وان لم يكن في الحجم أو الثقل أو الغنى أو القوة.

 وأما في حالتنا العربية الإسلامية فإننا نرى العجب العجاب إذ أننا من أغنى دول وحضارات العالم في الثروات الطبيعية والإمكانات البشرية التي سببت لنا كثرتها في سبعينيات القرن الماضي أزمة حقيقية حيث أننا كنا نبحث عن أفضل الطرق وأحسن وأيسر السبل لتوظيف واستثمار تلك الطاقات بشكل يلاحق سرعة تكدسها وتراكمها، وإذا هي تتلاشى وتتبخر في أقل من عشرين عاماً كما تتبخر ماء البحيرات، وتترك مكانها عجزاً كبيراً في ميزانيات دول النفط نفسها التي أصبحت عاجزة مالياً، وموازينها التجارية خاسرة إجمالاً!!.ولعل هذا ـ كما قال أحد الكتّاب ـ هو أكبر عملية إهدار للثروة القومية الشاملة لمجتمع على وجه الأرض وعبر التاريخ كله.. ولا حياة لمن ينادي، ولا أحد يراقب، أو يحاسب.

 ولذلك لو كان عندنا "حياة سياسية صحيحة" ، ما كنا وصلنا إلى هذا الوضع الكارثي الذي نعاني فيه ـ كما أسلفنا ـ غياباً للقدرة على منع الاستبداد، ودوراناً مفرغاً للتاريخ السياسي العربي حول أزماته وتعقيداته.. والحياة السياسية الصحيحة والحقيقية التي أعنيها هي ـ بالعنوان الأولي ـ إعادة السياسة إلى حضن المجتمع (أي أن تصل الحكومات إلى السلطة والحكم بقوة الانتخاب الحر والنزيه والقانون العادل ومعايير الكفاءة وخدمة الناس والمجتمع، وليس بقوة القهر والقمع والمعتقلات) وإدخال الشعوب العربية والإسلامية في صلب العملية التنموية الشاملة، ونزع القيود عن مشاركتها الفاعلة في الحركة الوطنية العامة، والتعامل معها كأفراد يحتاجون إلى الاحترام والتقدير والكرامة والعزة، والشعور بالحرية والثقة بالنفس.. وفي تصوري طالما أن الآخر الغربي ـ وغير الغربي ـ يرى (ويتأكد عملياً في كل يوم) أن الحكومات العربية لا تحترم شعوبها ـ وتعاملهم بقسوة وشدة وكأنهم أعداء لها من خلال تدعيم العقلية الأحادية الاختزالية، وتوثيق النظرة الأمنية دائماً ـ فإنها لن تتردد لحظة واحدة في زيادة الضغط على هذه الدول والحكومات، ورفع سقف التنازلات أمامها بهدف حصد المزيد من المكاسب والمصالح السياسية والاقتصادية والاستراتيجية.

 من هنا ـ وطالما أن المحن والمصائب لا تزال تتدافع وتتوارد علينا من هنا وهناك (توارد وتدافع الأكلة على القصعة)، وقد عجز الجميع عن مواجهتها بأضعف الإيمان ـ فإن الواجب يقتضي منا أن نجعل منها وسيلة فعالة لتعرية الإستراتيجيات الحقيقية والمصالح المتبادلة لكل من الاستبداد الداخلي([12])والاستعمار الخارجي.. حيث أن كل دعوة وطنية مفصولة عن الحرية خداع, وكل دعوة للتعددية السياسية الحقيقية مفصولة عن التضامن الإنساني بين الجماعات والبشر كذب قراح.. فلا وطنية ـ كما يؤكد برهان غليون ـ من دون مواطنين أحرار، ولا ديمقراطية (وتعددية حقيقية مضمونة) من دون علاقات دولية متكافئة.

 وبالنظر إلى ذلك يمكننا أن نقرر هنا بأن المستقبل الثقافي والسياسي للعرب والمسلمين في هذا العصر (بما فيه مستقبل الصراع الوجودي مع العدو) سيتحدد من خلال طبيعة الشروط النفسية والعملية التي ستتمتع بها الكتلة الشعبية الحيوية المغيّرة في داخل عالمنا العربي والإسلامي لاحقاً، وبخاصة ما يتعلق منها بالإرادة المستقبلية الحركية لشعوب هذه المنطقة القادرة على مواجهة عوامل تخلفها الداخلية أولاً التي أنتجت مناخات الاستبداد المقيت حيث أنه من المعروف للجميع أن الاستبداد لا يسود في أي مجتمع إلا في حالة تخلف البنى السياسية والاجتماعية والثقافية والحقوقية لهذا المجتمع (التي تعتبر أساس استعداد الناس لتقبل واقع الاستبداد، واتخاذ موقف سلبي من مقاومته) والتي تتمظهر من خلال سيادة العلاقات والأنماط السلوكية البدائية بين الناس ـ كالعلاقات القبلية والعشائرية والطائفية التي حاربتها بقوة الأديان السماوية ومنها ديننا الإسلامي الحنيف ـ وقابلية الناس للخضوع لإرادة النخب والقادة والزعماء، وغياب مفهوم الحق المرتبط بالواجب، والحرية المرتبطة بالاختيار والمسؤولية الواعية، وسيادة مفاهيم خطأ عن مفاهيم التوكل والانتظار والقناعة والرضى، وو.. الخ، يلجأ إليها الناس لرفع المظالم عنهم عندما تشتد مظالم المستبدين والطغاة، بدلاً من الفهم الصحيح للقول المأثور "اعقلها وتوكل" أو الفهم الصحيح لمدلول الآية الكريمة ]إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم[ أي الاعتماد العملي الفاعل على الله تعالى، المتجسد من خلال قيام الإنسان بالحركة والعمل الأساسي الأولي، وهو فعل وحركة مقاومة الاستبداد نفسه.

 من هنا نقول بأنه إذا ما استطاعت تلك الكتلة أن تخوض معركة التحرير في الداخل على مستوى إنتاج سلطة شرعية قادرة على امتلاك زمام ذاتها، والتصرف بحرية واختيار دون وجود موانع قمع واستبداد، بالاستناد على آلية العمل التعددي السياسي، والاعتراف بالآخر، ومن ثم العمل على بناء علاقات عربية وإسلامية تكاملية في كل المجالات، فإن الأمة عند ذلك ستكون قد وضعت نفسها على بداية الطريق الصحيح المؤدي إلى أن تتحرك بإرادتها هي على طريق النهوض والشهود الحضاري من خلال ما تمتلكه من قوى وإمكانات منظورة وغير منظورة..

 ونعود هنا مجدداً للتأكيد على أن امتلاك الأمة لقوى وقدرات كامنة في داخلها تؤهلها للعب أدوار حضارية وإنسانية قوية متعددة في عالم اليوم والغد (دور الأمة الوسط الشاهدة على نفسها وعلى غيرها من الأمم والحضارات) هو أمر غير كاف على الإطلاق، حيث أن كل الأمم تمتلك قوى كامنة غير منظورة في داخلها جسمها الحضاري، بل إنه يحتاج إلى إعادة بناء الكتلة البشرية النوعية والحيوية الجديدة التي ذكرناها آنفاً.. كتلة تستطيع تحويل القوى الكامنة الهائلة التي تمتلكها الأمة ـ والتي بدأت تخبو قليلاً قليلاً نتيجة لسوء استخدامها وإدارتها من قبل النخب السياسية الحاكمة ـ إلى قوة حقيقية على أرض الواقع.. وهذا هو برأيي سر وجود وقوة وامتداد أية حضارة على وجه الأرض منذ فجر الخليقة وحتى نهاية الوجود.. وأنا أريد أن أضرب لكم مثلاً بسيطاً هنا على المستوى السياسي النظري([13])، وهو أن الأمة التي تريد أن تكون فاعلة ومؤثرة في العالم المعاصر لا بد أن تكون بحوزتها أوراق رابحة تلعب بها عند الأزمات والتحولات الخطيرة التي قد تمر بها (وهي كثيرة ولاشك على صعيدنا العربي والإسلامي).. هذه الأوراق هي التمثلات الواقعية والأدوات العملية لتلك القوى الكامنة التي يجب تحريكها هنا وهناك لدرء المخاطر، ومواجهة التحديات بعقل هادئ، ورؤية واضحة، وشفافية كاملة (بين قوى الكتلة ذاتها).

 وإن الإقامة على أي صورةٍ من صور الانحراف عن هذا السبيل لاستنهاض الأمة (بحيث تخرج بهذا الانحراف عن العرضية العابرة إلى الوصف اللازم المستقر) فإن احتمال تعرضنا جميعاً إلى خطر الاستبدال سيصبح كبيراً، كما هو واضح في نصوص القرآن الكريم: ]يا أيها الذين آمنوا من يرتد منكم عن دينه فسوف يأتِ الله بقومٍ يحبهم ويحبونه[ وقوله تعالى"..] وإن تتولوا يستبدل قوماً غيركم ثم لا يكونوا أمثالكم[.. وهي نصوص صريحة، تتحدث بلغة التهديد والوعيد (وإنزال غضب الله) عن سنة "الاستبدال التاريخي" التي يمكن أن تطال كل متكاسل أو متقاعس عن نصرة الحق والخير.

 والوقت ـ كما نعلم جميعاً ـ يمضي مسرعاًَ، وهو ليس في مصلحة المتخاذلين والقاعدين والمتقاعسين.. وحتى الآن ليس معلوماً متى سينطلق العرب والمسلمون بجدية شاملة نحو الإصلاح الكلي الشامل المرتكز على مشروع نهضوي حقيقي ـ ينطوي بدوره على مكونات أربعة هي الهوية الذاتية الحضارية للأمة وهو الإسلام، والوعي التاريخي، والعمق التاريخي، والذاكرة التاريخية ـ وذلك قبل فوات الأوان، وقبل أن يواجهوا أوضاعاً أكثر سوءاً من الأوضاع السيئة والمزرية التي يعيشونها حالياً قد يتعرضوا من خلالها لخطر تصفية ما تبقي مما يمكن أن نسميه تجاوزاً "أمة عربية" أو "نظاماً عربياًً".

 ونختم قائلين ومؤكدين على أن الإنسان هو القاعدة الأساس في عملية الإصلاح والتغيير والتحوّل نحو مواقع أرقى في الفكر والعمل، ومنطلق ذلك هو بناء النفس الإنسانية التي ستتغير ـ في ضوء طبيعة هذا التغيير الداخلي ـ كل الأدوار والأوضاع والعلائق والروابط الاجتماعية التي هي بمثابة البناء والتأسيس الخارجي للذات الداخلية الكامنة.. "فالإنسان ـالخليفة" هو أساس الوجود، وهو صانع التاريخ، ولذلك فإن تمتعه بقوى العقل والإرادة والاختيار يترتب عليه بناء الخارج.. وهذا ما يمكن أن نراه من تجارب إنسانية متعددة في مختلف المواقع والتي تمثل الروح الجماعية (حيث أن الأفراد يتفاعلون فيما بينهم ـ عند انخراطهم واندماجهم في الهيئة الاجتماعية العامة التي يمثلها المجتمع في مؤسساته وهيئاته ومختلف مواقعه ـ كوجودات حقيقية من جهة الأفكار والمشاعر والأحاسيس والحاجات والمصالح المتبادلة) التي تُنتج إرادة عامة مشتركة تقع عليها ـ تبعاً لذلك ـ مسؤولية النهوض المجتمعي الحضاري.

 

*     *     *

 
الهوامش

_________________________________

  (*)باحث من سوريا

 ([1]) لا بد لنا من التأكيد هنا على أن حالة الانحطاط الشامل التي يعيشها العالم العربي والإسلامي لا تعني ـ بأي حال من الأحوال ـ أنها حالة انحطاط مطلق وقطعي، أو غير قابلة للاختراق أو المواجهة وبالتالي الإسقاط.. باعتبار أن الأزمات التي وصفناها ـ في المتن العام بالداهمة والمقيمة ـ هي التي ساهمت في وصول عالمنا العربي إلى هذه حالة الانحطاط المعقدة والتي هي نوع من أنواع الانحطاط بطبائع الأمور.

([2]) جاء في المعجم الوسيط أن الاستبداد لغة، هو اسم لفعل (استبدّ) يقوم به فاعل (مستبد)، ليتحكم في موضوعه (المستبد)، فلا بد أن يتجسد الاستبداد في شخص أو فئة، يقال: استبد به: انفرد به، واستبدّ: ذهب. واستبد الأمر بفلان:غلبه فلم يقدر على ضبطه، واستبد بأميره: غلب على رأيه، فهو لا يسمع إلا منه. (راجع المعجم الوسيط ج1، ص42).

 أما في لسان العرب: استبد فلان بكذا، أي انفرد به، فيقال استبد بالأمر، يستبد به استبداداً إذا انفرد به دون غيره. (لسان العرب، ج3، ص81).

وفي شرح نهج البلاغة: الاستبداد بالشيء، التفرّد به.(راجع: شرح النهج لابن أبي الحديد، ج9، ص243).

الصحاح: وإلى ذلك ذهب الجوهري في الصحاح، حيث قال: استأثر فلان بالشيء استبد به.(راجع الصحاح، ج2،ص444، مادة بدد).

القاموس المحيط: كما أشار الفيروز آبادي إلى المعنى ذاته عندما قال: استأثر بالشيء استبد به، وخص به نفسه.(ص341، مادة بدد).

  إذاً الاستبداد هو الاستئثار المطلق بالسلطة والتشبث العنيف بالحكم.. أي سلب الحكم الصالح من أهله وأصحابه الحقيقيين.. وهو يكون عادة مترافقاً مع تجاوز شبه كلي للقانون والنظام الذي يرعى الصالح العام في الدولة، وحرمان الناس من ممارسة حقوقهم الطبيعية في القول والتعبير والانتخاب والمشاركة السياسية الفعالة، بعد أن تتم عملية السيطرة الكاملة على مقدرات الآخرين المادية، وتدمير قيمهم المعنوية والإنسانية، وإلغاء شخصياتهم المستقلة والمتميزة، وتقزيمهم ومسخهم، ليتم تحويلهم إلى عبيد لدى الفرد (أو المجتمع أو الأمة)المستبد، وذلك بفعل القوة المادية القاهرة، والمعنوية المضللة، التي تلغي القوانين وتجعل من إرادة المتسلطين قانوناً يُعمل به، إذ ليس هناك من حد قانوني للطاغية فهو يسخّر كل شئ لإرادته ورغباته ونزعاته.

  ومن المعروف أن الاستبداد يستند أساساً على الموروثات التقليدية المتعددة والمختلفة.. وقد أثبتت التجربة السياسية العربية والإسلامية عموماً منذ عهود الاستقلال أن الدول العربية والإسلامية (التي حققت استقلالها من ربقة ونير الاستعمار الأجنبي، وأنهت التبعية الخارجية المباشرة، ولكنها لم تحقق استقلالها الداخلي بعد) لا تزال مرتهنة قسرياً لتنظيمات أخرى داخل المجتمع كالجيش، أو العائلة/ العشيرة، أو الحزب، أو الطائفة، أو مركب من بعض هذه التنظيمات أو كلها. ويمكننا أن نلاحظ في المثال والحالة السياسية العراقية الراهنة اجتماع كل تلك العناصر تحت قيادة ديكتاتورية ومستبدة واحدة، تقوم على عبادة الفرد القائد الملهم.

([3]) ولعل من أهم أنواع الفساد هو هذا العبث اللامحدود المستشري في بلداننا ومجتمعاتنا بالمال العام وبقوت المواطن ورزقه ومعيشته اليومية.. ويبدو أن الاستمرار في ذلك سيقود الأمة ـ كل الأمة ـ إلى ما ذكره الله تعالى من عواقب وخيمة.. يقول تعالى: وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميراً.

([4]) بما يسمح لها أن تبتعد عن مسألة تحميل الآخرين مسؤولية الإخفاق في إنجاز شعاراتها وأهدافها، وأن تتخلى عن طريقتها التقليدية السائدة حالياً في التفكير وعن استراتيجيتها في إدارة الوقائع ومواجهة التحولات المتسارعة، وأن تعيد النظر أيضاً في طبيعة المرجعيات والخيارات والأدوات والوسائل التي تستخدمها في التقييم والتشخيص كما في العمل والتدبير، وبما يتيح لها بناء القدرة العملية، وممارسة الفاعلية المنتجة لذاتها لكي تكون مؤهلة وقادرة على المشاركة الندية في صناعة العالم، وادارته من خلال إنتاج المعرفة والقوة، وحسن الاستفادة من القيمة وتوجيه الثروة.

([5]) لقد أضحى إنساننا العربي المعاصر ـ نتيجة مرور عهود طويلة صعبة ومريرة من سيطرة وهيمنة أجواء القهر والضغط والظلم والقسر ـ إنساناً مشلول التفكير والإرادة، وعاجزاً عن الحركة الذاتية بأي اتجاه.. إذ أنه يعاني من الأمراض والتشوهات الاجتماعية والنفسية بشكل يجعله غير قادر على التفكير المنطقي السليم، والحركة العقلانية النوعية الهادفة والخالية من الشطط.. وبالنتيجة نصبح أمام إنسان مجرد مهمش، وغير متفاهم مع ذاته ومحيطه، الأمر الذي ينعكس سلباً في وعيه لمصالحه.. وقد رأينا كيف أن المواطن العربي كثيراً ما يتصرف بشكل مضاد لمصالحه ومصالح وطنه وأمته، وهو يفعل هذا بدافع شحنة التشوهات والمتناقضات والعاهات النفسية والاجتماعية التي يعاني منها، والقصور الذاتي الذي هو واقع فيه.. من هنا يأتي تأكيدنا على ضرورة تغير الطبائع والنفوس، كأساس لتغيير الواقع الخارجي.. لأن فاقد الشيء لا يعطيه، وفاقد الإرادة والحيوية والتضحية ـ وكل قيم الفاعلية والحركية والنشاط والاندفاع العقلاني للعمل المنتج والمبدع ـ لا يمكن أن ينتج في أي مجال من المجالات، بل يبقى في موقع المتلقي والمتأثر والاستهلاك لمنجزات وإبداعات الآخرين.. ومجتمعاتنا العربية كاملة هي خير دليل على ذلك، حيث أنها لا تنتج شيئاً علي الإطلاق، وتستهلك كل شيء مما ينتجه ويصنعه الآخرون.. حتى سياساتها الداخلية المحلية، لا يرسمها أو يخططها قادة وزعماء تلك الدول إلا بما يتناسب مع مصالح الدول الكبرى.. إنها مجرد مجتمعات خاملة مستهلكة تعبة لا تقدم شيئا للحضارة ولا لنفسها، يتحكم فيها مجموعة حكام يفكرون بعقليات بدائية، ويحكمون بلدانهم من زمن بعيد على أسس عشائرية عائلية عاطفية هوجاء، بعيدة كل البعد عن أي منطق أو مبرر عقلي صحيح.

([6]) لاشك بأن للتربية العائلية والاجتماعية دوراً أساسياً في بناء الإنسان الحر السليم في بنيته التفكيرية والسلوكية.. ولكن مرور الإنسان بمراحل حياتية لاحقة يمكن أن يتعرض فيها لصور (وأنماط) شتى من التربية الاستبدادية سيجعل منه إنساناً عديم القدرة على تطوير وجوده الفردي والاجتماعي..لأن الاستبداد هوـ في الأصل ـ سلوك يتعلمه الإنسان من خلال ما يكتسبه من قيم وتقاليد خلال فترات حياته المختلفة، فعندما يكون الجو العائلي الخاص والاجتماعي العام مشحوناً بالتسلط والقهر والأحادية والاختزالية، فإنه لابد أن تظهر منعكسات نفسية وعملية سلبية على الأبناء بشكل سلوك عام تظهر كوامنه وآثاره على مستوى القابلية من حيث وجود استعدادات وقابليات نفسية عند الفرد لتقبل الاستبداد، والتمفصل معه، والدفاع عنه حتى لو تأذى منه مادياً ومعنوياً.. وعلى مستوى الفاعلية من حيث أن الاستبداد هو السلوك الأولي الذي ينتهجه الفرد في تعامله مع الآخرين أفقياً وعمودياً.. ولعل في القول التالي لأحد فلاسفة الإغريق (ونحن نتحفظ على بعض أفكاره التي طرحها في هذا القول) ما يلقي بعض الضوء على تلك الفكرة: "إن الرجل الحر لا يستطيع أن يتحمل حكم الطاغية، ولهذا فإن الرجل اليوناني لا يطيق الطغيان بل ينفر منه، أما الرجل الشرقي فإنه يجده أمراً طبيعياً فهو نفسه طاغية في بيته يعامل زوجته معاملة العبيد، ولهذا لا يدهشه أن يعامله الحاكم هو نفسه معاملة العبيد".

( [7]) وهذا يقتضي منا أن نعمل ما يلي:

1ـ تحريك العقل في طريق الخير والعطاء والبناء النفسي السليم، وتعويده على التفكير بحرية واستقلال.

2ـ تغير منهجية التربية في الأسرة والمجتمع وعلى مستوى الأمة ككل.

3ـ مواجهة رموز ومواقع الجهل باعتباره أحد أهم المعضلات الصعبة التي يفقد الإنسان بها حريته.

4ـ الإيمان بحق الاختلاف في الرأي مع الآخرين.. فالحرية لا يتحقق كمالها الاجتماعي إلا بتحققها العام والشامل في دائرتها الأشمل والأوسع.

( [8]) الكافي للكليني 2: 327.

([9]) سفينة البحار للمجلسي: 695.

([10]) وإذا أردنا أن نكون أكثر دقة وتحديداً في توصيف المأزق الفعلي الراهن الذي نعانيه، فإنه يمكننا محورته في الأمور التالية:

1.غياب أو تغييب الثقافة النقدية الحقيقية (المضادة للاستبداد بكل أشكاله وصوره) التي يمكن بمقدورها خلق مجال سياسي وفضاء اجتماعي عام مضاد للاستبداد.

2.ضمور الوعي الاجتماعي العام في مجتمعاتنا العربية والإسلامية بصور ومفاهيم وحقائق الاستبداد.

3.انعدام (أو تلاشي) القدرة على تمييز الاستبداد، والتنبه لمختلف أشكال حضوره المخفية على الساحة الاجتماعية.

4.فقدان الإرادة السياسية والكتلة الجماعية (البشرية النوعية) المؤثرة التي لا تهدف بالدرجة الأولى إلى قلب نظام الحكم أو استلام السلطة، بل إلى تغيير أرضية وقواعد العمل السياسي نفسه، وإلى تكوين تاريخ سياسي جديد تتفتح فيه كل ألوان الحياة، وتجف فيه كل منابع الاستبداد.

كل ذلك أدى ـ كتشخيص نهائي لأزمتنا المقيمة ـ إلى مسخ هوية الإنسان، ووجوده، وتدمير الأخلاق والفضيلة، وقتل العلم، وخنق الإبداع.

([11]) لقد مارس القرآن الكريم عملية النقد بأجلى معانيها وصورها عندما دعى المسلمين إلى ضرورة أن يكونوا منصفين وموضوعيين في حوارهم مع الآخرين، وفي نقل أحاديث الآخرين عن القرآن والمسلمين.. يقول تعالى: "وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلاً".. والقرآن هنا ينقل الكلمة نفسها التي يستخدمها أعداء الدين في وصفهم لكلام الله بأنه من الأساطير، ولا يخاف على أتباعه من الانحراف، حيث أن خطورة أن تقدم فكر الآخر لجمهورك ـ الذي تتنوع أفكاره ومشاربه وطاقاته الفكرية- هي خطورة تصل إلى حد أنك قد تصنع الشك لدى جمهورك في ما هم عليه من مفاهيم وقيم وأفكار.. لأنك فقط تريد أن تنقل إليهم ـ بكل أمانة ـ فكر الآخر بالعنصر الحاد فيه لكي تثقف جمهورك (الذي تريد له أن يؤمن بطروحاتك) بالفكر الآخر حتى الفكر الذي يتحدى مفاهيم وطروحات القرآن، وذلك من أجل أن يشارك هذا الجمهور في نقد هذا الفكر، ومن خلال ذلك تكون مسألة النقد واقعية ومؤثرة لأنها لم تطلق من الأعلى، بل من القواعد والجماهير التي تتابع مع النخب النقد وترعاه وتوفر له أجواء النجاح لأنها تشارك في تحقيقه وصنعه.

([12]) لا يمكن فضح وتعرية أسس الاستبداد من دون معرفة عوامل ومظاهر استمراريته التي يلجأ المستبدون إلى الحفاظ عليها وإعادة إنتاجها في مجتمعاتنا.. وهي:

1- العمل على تفتيت وإذابة ما تبقى من علاقات اجتماعية إيجابية قائمة بين الناس، كالعلاقات الأسريّة، وعلاقات التآلف والتعاضد والتعاون والتكافل الاجتماعي التي قدمتها الأديان للإنسان، وحضته على تعزيزها وترسيخها في مختلف أنظمة سلوكه الفردي والاجتماعي.

2- التضييق على مؤسسات وبنى المجتمع الأهلي والمدني (وأحياناً إلغاؤها بالكامل) التي يفترض أن تكون مستقلة عن منظمات السلطات القائمة. والعمل على استبدالها بعلاقات مصلحية انتهازية لا يمكن أن تقود إلا إلى تعميق النوازع الفردية الأنانية على حساب مصلحة الجماعة.

تمييع وتغييب (أو إلغاء) القوانين والمؤسسات السياسية والاقتصادية كلها، وتبديلها عملياً بقانون واحد هو قانون الطوارئ الذي يفسد من لم يفسد بعد، وبخاصة إفساد الجهاز القضائي العادي.

([13]) يقابل هذا المثل النظري الإيجابي مثل آخر سلبي لا نزال نعايشه حتى الآن وهو أزمات العراق المتلاحقة.. حيث لم يستطع العرب والمسلمون ـ على مدى أكثر من اثنتي عشرة سنة انقضت منذ انتهاء حرب الخليج الثانية في العام 1991م ـ فعل شيء يذكر لحل أزمتهم واستيعاب العراق، أو تغيير مساره في الداخل والخارج معاً.. لقد منعهم من ذلك انشقاقاتهم وخصوماتهم التي لا تنتهي، وضبابية أهدافهم، وانعدام قدرتهم على تكوين إرادة جماعية مستقلة ومؤثرة.. وهم يريدون اليوم أن يفعلوا ـ لحل أزمة العراق الحالية التي هي أزمة لعوم النظام العربي ـ كل شيء في زمن لم يعد ممكناً فيه فعل أي شيء.. بل هاهي الكارثة تحل عليهم، وتنذر بعواقب وخيمة ستشارك الأجيال القادمة في دفع أثمانها من دون أن يكون لها أي دور في صناعة أحداثها سلباً أو إيجاباً.


Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً