أحدث المقالات
من خلال قراءاتي ـ وهي غير كثيرة ـ لما كُتب في الفقه عن وحول إشغال المرأة لبعض المناصب أو الوظائف في الدولة الإسلامية، رأيتها تركز على أساس واحد، وتنطلق منه في الانتهاء إلى النتيجة وإصدار الفتوى، ذلك الأساس هو أن هذا المنصب المعين الذي يُراد إسناده للمرأة يعطيها الولاية، وليس لها هنا حق الولاية.

وتتحرك الكتابات ـ وفيها البحوث ـ حول الموضوع المشار إليه، وكأن الولاية مصطلع فقهي ذو معنى واحد محدد ومعين، في الوقت أن الأمر ليس كذلك، وذلك أننا عندما نرجع إلى المعجم اللغوي العربي والمعجم الفقهي الإسلامي، بغية الوقوف على ما يسعفنا في هذا المجال، لا نجد ما يمكننا الاستفادة منه كمحور للبحث، ومنطلق لإبداء الرأي.

ويعود هذا إلى أن الولاية ليست مصطلحاً فقهياً، وغير ذات معنى واحد في عالم الاستعمالات الفقهية.

ومن هنا ليس أمام الباحث إلاّ محاولة تتبع واستقراء الاستعمالات الفقهية لكلمة الولاية من تلكم الاستعمالات المشار إليها.

والذي انتهيت إليه ـ في هذه العجالة ـ هو التالي:

1 ـ يمكننا أن نسمي الولاية في الفقه الإسلامي (الولاية الشرعية) في مقابلة (الولاية القانونية) المصطلح المعروف في أدبيات القوانين الوضعية.

2 ـ يمكننا أن نلخص المفاهيم الفقهية لمصطلح الولاية الشرعية بالمعاني التالية:

ـ حق التسلط.
ـ حق التصرف.
ـ حق القيام بتدبير شؤون الآخر.
ـ واجب المسؤولية.

3 ـ يمكننا أن نقسم الولاية الشرعية ـ ومن واقع استخداماتها الفقهية ـ إلى القسمين التاليين:

أ ـ الولاية المنصوصة:

وأعني بها الولاية التي تستفاد نص شرعي ـ آية أو رواية ـ مثل:

ـ مسؤولية الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر المستفادة من الآية الكريمة:

>وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ <([1]).

ـ مسؤولية الرعاية المستفادة من الحديث الشريف: (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته).

ـ حق تسلط الإنسان على ماله المستفاد من الرواية: (الناس مسلطون على أموالهم).

ب ـ الولاية غير المنصوصة:

ويراد بها تلكم الولايات التي لم تستفد من نص شرعي، وإنما استفيدت من الاجماعات أو من المبادئ العقلية، كسيرة الناس أو ما يعبر عنه بـ (سيرة العقلاء) أو (بناء العقلاء)، مثل: ولاية الأب والجد على عقد نكاح الصغير والصغيرة، فإنها مما درجت عليه سيرة الناس، وليس للشريعة الإسلامية فيها إلاّ دور إقرارها.

ومنه نفهم أن الولاية الشرعية إذا حاول الباحث دراستها داخل إطار التشريع الإسلامي، بعيداً عن معطيات العرفان والتصوف وحتى الفلسفة، وإنما يدرسها في هدي معطيات المبادئ الإسلامية الأساسية، وتحت ظلال مقاصد الشريعة.

وأعني بذلك أن المشرع الإسلامي يراعي في وضعه للأحكام جلب المصلحة للإنسان المسلم ودرء المفسدة عنه.

ومن خلال الاستقراء للأحكام الشرعية في شتى مجالاتها، وعلى مختلف أنماطها، وجدنا أن المشرع الإسلامي لكي يحقق هدفه المشار إليه، يراعي في تشريعه لأحكامه أن تُوجِد التوازن بين كل القوى لدى الإنسان في الجانب البايولوجي والفسيولوجي والعقلي والروحي والنفسي والبدني.

والفروق في التشريع بين الرجل والمرأة والكبير والصغير تنشأ عن مراعاة هذا التوازن، وهو أمر طبيعي، كما أن أحكام التشريع الإسلامي في تنظيم العلاقات بين الفرد والفرد، والفرد والأُسرة، والفرد والمجتمع، وبين المجتمعات بعضها مع البعض، يُراعى أن تأتي متوازنة بما يحقق المصلحة ويدرأ المفسدة، ويوصل إلى تحقيق مقاصد الشريعة.

وفي إسناد الوظيفة وإناطة المسؤولية يشترط التشريع الإسلامي التوفر على عنصرين، هما:

ـ الكفاءة.
ـ الأمانة.

وفي ضوء ما تقدم لا توجد ولاية بمعنى التسلط؛ لأن الموظف أو المسؤول في أعلى مسؤولية وأقل وظيفة دوره هو أن يقوم بتنفيذ وتطبيق التشريع، ولا يسمح له بتجاوز حدود المسؤولية المناطة به.

وقياس المنصب في الدولة الإسلامية على مجتمعات الأسياد والعبيد قياس مع الفارق؛ لأن السيادة في الإسلام للتشريع والطاعة من المسلم لله تعالى بامتثاله للتشريع.

وبعد هذا، أعود فأقول: متى درس الباحث الولاية الشرعية داخل هذا الإطار، فإنه سوف يرى أنها تتنوّع للتالي:

ـ إعطاء حق.
ـ فرض واجب.
ـ إناطة مسؤولية.

ومتى نظرنا إلى الولاية ـ كما ينظرها الآخرون ـ نوعاً من التسلط، فإنه من الطبيعي أن يكون لصاحب الحق المجال في ممارسة حقه، وهو شيء من السلطة، وأن يكون لمن يقوم بواجبٍ ما المجال لأداء الواجب، وهو ـ أيضاً ـ شيء من السلطة، وأن يكون لصاحب المسؤولية المجال للقيام بمسؤوليته، وهو شيء من التسلط أيضاً.

وبهذا ندرك أن الولاية بمعنى السلطة أو السلطنة أو التسلط، ملازمة لكل من هذه المذكورات. ومتى فُهمت الولاية بالشكل المذكور ـ في أعلاه ـ تكون للمرأة كما تكون للرجل عند ممارسة حق أو أداء واجب أو قيام بمسؤولية، من غير فرق بينهما.

والتشريع ـ دينياً كان أو مدنياً ـ هو الذي يمنح الحق، ويفرض الواجب، وينيط المسؤولية. فالدين عندنا، والقانون عند غيرنا، هو الذي له حق هذا التشريع. وهنا لا بد من وقفة مع (الأصل) الذي وضعه الفقهاء، واعتمدوه أساساً يرجعون إليه في مقام الشك، ويفتون حسب ما ينهي إليه.

وأُريد به ما يسمونه بـ (أصالة العدم)، وهو ـ كما ذكر السيد هاشم معروف الحسني في كتابه (الولاية والشفعة) ([2]) ـ نظرياً وتطبيقياً: bالأصل عدم الولاية بجميع معانيها لأحد عن أحد؛ لأنها سلطة حادثة، والأصل عدمها، ولأنها تقتضي أحكاماً توقيفية، والأصل عدمها أيضاً.

والقدر المتيقن منها هو ولاية النبي 2 والأئمة E لما دلّ من العقل والنقل على أن لهما الولاية في التصرف في نفوس الناس وأموالهم من غير توقف على إذن أحد من الناس، على حد تعبير السيد بحر العلوم في بلغتهv.

إن مثل هذا التأصيل هو مما أملاه المنهج الفلسفي الذي اتبعه أكثر الفقهاء المسلمين في أكثر من مرحلة من مراحل تاريخ الدرس الفقهي.

وهذا الأصل ـ كما أشرت ـ وُضع ليرجع إليه في مقام الشك في الأُمور الحادثة، والولاية وصف حادث، والأُمور الحادثة ـ كما تقول الفلسفة ـ إذا شك في وجودها ينفى بأصالة العدم، أي أننا أخذاً بهذا الأصل عندما نشك في ثبوت الولاية لأحد نحكم بعدم ثبوتها.

قد كان هذا الأصل أقوى مساعد للفقهاء في نفي ولاية المرأة عن كثير من الأُمور، ومن ثَمَّ منعها من ممارسة كثير من الأعمال والوظائف.

وأول ما يلاحظ على هذا الأصل، هو أن هذا الأصل معدود من مبادئ المنهج الفلسفي العقلي الذي يقوم على أساس من الاستنتاج العقلي.

والفقه لأنه تشريع تُستقى مادته من المصادر النقلية (الكتاب والسنة)، تكون الطريقة السليمة لدراسة قضاياه، هي الاستقراء لا الاستنتاج، نتتبع فيه بغية الوصول إلى الحكم الخطوات التالية:

1 ـ مراجعة النصوص الخاصة:

وأعني بها تلكم النصوص التي ترتبط بموضوع البحث مباشرة.

2 ـ وفي حالة عدم العثور على نص خاص يستفاد منه حكم المسألة، يرجع إلى النصوص العامة، وهي ما يصطلح عليه فقهياً العمومات والإطلاقات التي تشمل بعمومها أو إطلاقها موضوع البحث.

والنصوص الشرعية بفئتيها الخاصة والعامة هي من الكثرة بحيث تغطي كل ما يحتاجه الفقيه في مجال استنباط الأحكام الشرعية. وعلى هذا لا نكون بحاجة لمثل هذا الأصل، ولا تصل النوبة إليه.

ويلاحظ عليه ثانياً: أن الفلسفة تُجري مثل هذا الأصل في مجالات بحثها، وهي الأُمور التكوينية، ويعنى بالأُمور التكوينية هنا الأشياء الممكنة التي لها قابلية الاتصاف بالوجود والاتصاف بالعدم، وقد عبروا عنها في هذا السياق بالحوادث.

والولاية ـ بجميع جزئياتها والتي ذكرتُ شيئاً منها ـ هي من التشريعات التي لا مجال لإجراء المبادئ الفلسفية عليها.

3 ـ والإجماعات إذا كان بمستوى الحجية فإنها تثبت الولاية وتنفيها، وعلى هذا: يؤخذ بها في حالة الإثبات وفي حالة النفي. وإذا لم تكن بمستوى الحجية لا يؤخذ بها.

4 ـ لا فرق بين الرجل والمرأة في توليهما الأعمال التي فيها ولاية، إلاّ ما استُثني بنص معتبر الإسناد، واضح الدلالة.

هذه هي أهم الخطوات التي على الباحث الفقهي اتّباعها.

والآن لنتناول ـ وباختصار غير مخل ـ أهم الولايات التي أُثير البحث فيها وحولها لنرى مكان المرأة فيها، نتناولها كأمثلة ونماذج فقط.

ولبندأ بـ(ولاية النبي 2) من باب التبرك والتيمن، ولأُركّز على تبيين المراد من الولاية ـ هنا ـ وذكر دليلها، ونوعيتها تشريعية أم عقائدية (كلامية).

إن ولاية النبي 2 ـ المشار إليها ـ مستفادة من قوله تعالى: >النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ<([3])، والآية تنص على ولاية النبي 2 على النفوس، وبقياس الأولوية (مفهوم الأولوية) أفاد الفقهاء الولاية على الأموال، فقالوا:
للنبي
2 الولاية على النفوس والأموال.

والولاية ـ هنا ـ تعني التسلط على نفوس المؤمنين وأموالهم، والتصرف بها، من باب تقديم ولاية النبي 2 على ولاية المؤمنين.

وبيان ذلك: أن للإنسان السلطة على نفسه وماله سلطة تشريعية، أي إن له التصرف بنفسه وماله في حدود المسموح به شرعاً. ولكن لو اقتضى الأمر أن تُقَدّمَ المصلحة العامة على المصلحة الخاصة، تُقدم بأولوية ولاية النبي 2.

وفي تبيان شمولية ولاية النبي 2 على النفوس والأموال يقول أُستاذنا السيد الحكيم في كتابه (نهج الفقاهة): bمقتضى قوله تعالى: >النَّبِيُّ أَوْلَى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنفُسِهِمْ<، ونحوه مثل قوله 2 في رواية أيوب بن عطية: (أنا أولى بكل مؤمن من نفسه)، وقوله 2 في حديث الغدير: (ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه)، ثبوت الولاية
للنبي
2 والإمام B على النفوس. ومقتضى عدم الفصل، والأولوية، ثبوت الولاية على الأموال أيضاًv([4]).

والمراد بالنبي في الآية الكريمة نبينا محمد 2 بقرينة السياق، وحيث جاء بعد الفقرة المذكورة في الآية نفسها قوله تعالى: >وَأَزْوَاجُهُ أُمَّهَاتُهُمْ<؛ ولاتفاق علمائنا من مفسرين وفقهاء على ذلك.

ولكي نتفهم نوع الولاية ـ هنا ـ علينا أن نمهد لذلك ببيان الفرق بين وظائف أو مسؤوليات النبي، والتي تتمثل بالتالي: النبوة. الرسالة، الإمامة.

أ ـ (النبوة):

أصل كلمة (نبوّة): (نبوءة) بالهمزة، وخففت لتسهيل الاستعمال، فهي من (أنبأ) بمعنى (أخبر)؛ لأنها ـ في هذا السياق ـ إخبار عن الله تعالى، فالنبي سمّي نبياً؛ لأنه يخبر عن الله تعالى.

ب ـ (الرسالة):

هي الشريعة الإلهية التي يُرسل بها النبي متحملاً مسؤولية تبليغها للناس، ولذا سمّي رسولاً، من الفعل الممات (رَسَلَ) بمعنى أرسل.

ج ـ (الإمامة)

هي رئاسة الدولة وزعامة الأُمة وحماية الدين.

وللإمامة مفهوم آخر، وهو خلافة النبي في كل ما للنبي من صفات ومسؤوليات عدا النبوة. وهو المفهوم الذي لا ينطبق عندنا ـ معاشر الإمامية ـ إلاّ على الأئمة الاثني عشر.

وبعد هذا التقسيم لا بد من الإشارة إلى أن علماء الكلام يقسمون الولاية إلى قسمين: الولاية التكوينية والولاية التشريعية.. ويقولون: إن الولاية التكوينية هي التي تكون للنبي بصفته نبياً، وللإمام بصفته إماماً بالمعنى الثاني للإمامة.. وبعكسها الولاية التشريعية فإنها هي التي تكون للنبي بصفته إماماً بالمعنى الأول للإمامة، الذي هو رئاسة الدولة وزعامة الأُمة وحماية الدين.

فالولاية قد تكون مسألة كلامية وهي الولاية التكوينية، وقد تكون مسألة فقهية وهي الولاية التشريعية.

ثم الولاية التشريعية لأنها ترتبط بتطبيق النظام الإسلامي في مادة مهمة من مواده التشريعية، وهي التي تنص على وجوب تقديم المصلحة العامة (المصلحة العلياء للدين كمبدأ، والمصلحة العليا للمسلمين كأُمة) على المصلحة الخاصة، من باب تقديم الأهم على المهم إذا كان موضوع التـزاحم النفوس أو الأموال، وأن يتم التقديم بأمر الحاكم الإسلامي العام؛ لأن ذلك من صلاحياته الخاصة.

أقول: لأنها كذلك لا تكون إلاّ بجعل شرعي لمن يشغل منصب الإمامة (بمعنى رئاسة الدولة وزعامة الأُمة وحماية الملة) نبياً كان أو إماماً معصوماً أو فقيهاً عادلاً.

وما جاء في حديث الغدير من قول النبي 2: (ألستُ أولى بكم من أنفسكم؟ قالوا: بلى، قال: مَن كنتُ مولاه فهذا عليّ مولاه) يدل دلالة واضحة على نصب الإمام عليّ C إماماً (رئيساً للدولة وزعيماً للأُمة وحامياً للدين)، وجعل الولاية له على النفوس والأموال تلك الولاية التي جعلت للنبي 2.

والتوقيع الصادر عن الإمام المهدي B: (وأمّا الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله تعالى)، واضح في دلالته على نصب الفقيه العادل إماماً للشيعة؛ بمعنى زعامة الطائفة وحفظ المذهب.

ومثله ما جاء في مقبولة ابن حنظلة: (قد جعلته عليكم حاكماً)، يقول الشيخ صاحب الجواهر في تبيان ذلك: bولظهور قوله B: (فإني قد جعلته عليكم حاكماً) في إرادة الولاية العامة نحو المنصوب الخاص، كذلك إلى أهل الأطراف، والذي لا إشكال في ظهور إرادة الولاية العامة في جميع أُمور المنصوب عليهم فيه، في قوله B: (فإنهم حجتي عليكم وأنا حجة الله)، أشد ظهوراً في إرادة كونه حجة فيما أنا فيه حجة الله عليكمv([5]).

ومما تقدم تبيّنا الرأي الفقهي الإمامي في الحاكمية الإسلامية والحاكم الإسلامي العام، وهو ـ أعني الرأي ـ يقوم على المبدأ الإسلامي العام المتفق عليه بين الفقهاء المسلمين، وهو أن الحاكمية لله تعالى.

وعلى أساس من ذلك: لا يخلفه فيها أحد في قيادة وإدارة المجتمع البشري إلاّ بجعل منه، وقد تم هذا بالنسبة لنبينا محمد 2، وكذلك لا يخلف النبي محمداً 2 من يقوم بالمهمة المذكورة، إلاّ بجعل أو نصب منه 2، عن أمر من الله تعالى.

وقد تم هذا لعليّ وبقية الأئمة المعصومين E عندنا ـ معاشر الإمامية ـ وذلك بنصوص عامة وخاصة صدرت منه 2، توفرت على ذكرها الكتب المعنية بذلك، ذكرتُ منها حديث الغدير فقط لأجل الاختصار، ولشهرته وتواتره.

وأيضاً لا يخلف الأئمة أحد للقيام بهذه المسؤولية إلاّ بجعل منهم E، وقد تم هذا في حق الفقيه العادل من قبل الإمام المهدي C بنص التوقيع الشريف الصادر منه.

وهنا حيث انتهينا إلى هذا، أُحاول أن أُشير إلى الرأي الفقهي في تولي المرأة المسلمة لمنصب رئاسة الدولة، ذلك أن تولي الرجل للمنصب المذكور متفق عليه، فهو شيء مفروغ منه، لا يثار البحث فيه.

إن مسألة تولي المرأة رئاسة الدولة الإسلامية لم يثر البحث فيها من قِبل فقهائنا المتقدمين والمتأخرين عدا المعاصرين. وقد يرجع هذا لعدم ابتلاء الشيعة في الدولة الإسلامية السنية، وكذلك في الدولة الإسلامية الشيعية لعدم الحاجة لطرح المسألة للدراسة؛ لقيام الرجل بذلك.

ولكن الأمر اختلف عنه في عصرنا هذا المسمى بالعصر الحديث.. عصر حقوق الإنسان، والمناداة بمساواة المرأة بالرجل في الحقوق والواجبات.

ومن الرادة الأوائل في إثارة البحث في هذه المسألة الشيخ حسين علي المنتظري، فقد تناولها بالدراسة في كتابه (دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية)([6]). والنتيجة التي انتهى إليها مَن بحثوا المسألة، هي ترجيح كفة اعتبار الذكورة في رئيس الدولة.

وسأحاول ـ هنا ـ أن أُلخّص أدلتهم، ثم أُسلط الضوء عليها توضيحاً ونقداً، ما تأتّى لي ذلك في هدي ما يسلمني إليه مسار البحث.

وأهم ما استدلوا به:

أولاً ـ القرآن الكريم:

واستدلوا منه بأكثر من آية، وأهمها الآية 34 من سورة النساء >الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ<. ويأتي الاستدلال بهذه الآية لإثبات ولاية الحكم للرجل ونفيها عن المرأة، وفق الخطوات التالية:

1 ـ إن المرد من القوّامية في قوله تعالى (قوّامون) السلطة، والسلطة معنى من معاني الولاية، ففي (مجمع البيان): bأي قيّمون على النساء، مسلطون عليهنّ في التدبير والتأديب والرياضة والتعليمv ([7]).

2 ـ إن سبب قوّامية الرجال على النساء، هو تفضيله تعالى للرجال على النساء، ففي (مجمع البيان) ـ أيضاً ـ : b>بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ< هذا بيان سبب تولية الرجال عليهن، أي إنما ولاّهم الله أمرهنّ لما لهم من زيادة الفضل عليهنّ بالعلم والعقل وحسن الرأي والعزم، >وَبِمَا أَنفَقُواْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ<، عليهنّ من المهر والنفقة، كل ذلك بيان علة تقويمهم عليهنّ وتوليتهم أمرهنّv ([8]).

3 ـ ويقرّب العلامة السيد الطباطبائي في (الميزان) الاستدلال بالآية على إثبات ولاية الحكم للرجال ونفيها عن النساء بقوله: bوعموم هذه العلة (أي الفضل والإنفاق) يعطي أن الحكم المبني عليها أعني قوله: >الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء< غير مقصور على الأزواج بأن تختص القوّامية بالرجل على زوجته، بل الحكم مجعول لقبيل الرجال على قبيل النساء في الجهات العامة التي ترتبط بها حياة القبيلين جميعاً، فالجهات العامة الاجتماعية التي ترتبط بفضل الرجال كتجربتي الحكومة والقضاء ـ مثلاً ـ اللذين تتوقف عليها حياة المجتمع، وإنما يقومان بالتعقل الذي هو في الرجال بالطبع أزيد منه في النساء، وكذا الدفاع الحربي الذي يرتبط بالشدة وقوة التعقل، كل ذلك مما يقوّم به الرجال على النساء.

وعلى هذا، فقوله: >الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء< ذو إطلاق تامv ([9]).

وناقش الشيخ المنتظري الاستدلال المذكور بقوله: bولكن عندي في التمسك بالآية للمقام إشكال، إذ شأن النـزول وكذا السياق شاهدان على كون المراد قيمومة الرجال بالنسبة إلى أزواجهم، إذ لا يمكن الالتـزام بأن كل رجل بمقتضى عقله الذاتي وبمقتضى إنفاقه على خصوص زوجه له قيمومة على جميع النساء حتى الاجنبيات، ولو سلم الشك، فَصِرْفُ الاحتمال يكفي في عدم صحة الاستدلال.

فإن قلتَ: عموم العلة ـ كما مرَّ عن تفسير الميزان ـ يقتضي ذلك، فيؤخذ به إلاّ فيما ثبت خلافه.

قلتُ: أولاً: إن العلّة الثانية لا عموم لها، إذ إنفاق الرجل يختص بزوجة ولا يرتبط بسائر النساء.

وثانياً: إن الأخذ بالعموم وتخصيص ما ثبت خلافه يوجب تخصيص الأكثر، إذ لا قيمومة لرجل على سائر النساء إلاّ في مورد الولاية أو القضاءv.

ويمكن المناقشة ـ أيضاً ـ بالتالي:

1 ـ كلمة (قوّامون) ليست حقيقة شرعية ولا مصطلحاً فقهياً. ومن هنا، لا بد من تحديد المراد منها من خلال الاستعمالات اللغوية ـ الاجتماعية.

جاء في (معجم ألفاظ القرآن الكريم) ـ مادة قَوَمَ ـ : bوتدور المعاني التي تفيدها هذه المادة حول النهوض أو انتصاب القامة، أو الاعتدال، بمعانيها المادية أو المعنوية.

=قام على أهله أو نحوهم: رعاهم وتولى الإنفاق عليهم.

=قوّام: صيغة مبالغة في (قائم)، يقال: هو قوّام على أهله: دائم القيام بشؤونهم والسهر على مصالحهم. الجمع قوّامون.

=قوّامون >الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء<: أي يرعونهن ويقومون بمصالحهنv.

ونستفيد من هذا أن القوّامية لا تعني القيمومة التي فهم منها المستدلون التسلط والتصرف، وإنما تعني إناطة مسؤولية رعاية مصالح النساء وتدبير شؤونهنّ بالرجال، ومن أظهر مصاديق تلك الرعاية وذلك التدبير، هو وجوب إنفاق الرجل (الزوج) على زوجته، وهذا يعني أن الإنفاق من القوّامية، وليس من القيمومة، وقد يرجع هذا إلى أن أكثر المجتمعات ـ ومنها المجتمعات العربية التي نحاول معرفة معنى القوّامية لديهم ـ مجتمعات ذكورية، تحمّل الرجل مسؤولية رعاية مصالح المرأة وتدبير شؤونها.

وهم لا يرمون من هذا إلى أن تلك الرعاية وذلك التدبير هما من نوع الولاية السلطوية، وإنما هما شأن من شؤون تركيبة المجتمع.

والإطلاق أو العموم في الآية الكريمة المتمثل في كلمتي (الرجال) و(النساء) لا يمكن الأخذ به والركون إليه مع وجود قرينة السياق التي اعتبرت الإنفاق على الزوجة من أظهر مصاديق القوّامية.

فالمراد من الرجال ـ هنا ـ الأزواج، ومن النساء الزوجات، فلا نظر للآية ولا شمولية فيها لكل الرجال مطلقاً وكل النساء مطلقاً حتى ندخل رئيس الدولة في عمومها ونحكم له بالقيمومة أو الولاية على المرأة.

2 ـ إن التفضيل المشار إليه في الآية الكريمة لا يعني تفضيل الرجال خاصة، كما أنه لا يعني تفضيل النساء خاصة، وإنما يراد به أن إناطة المسؤوليات وفرض الواجبات يعتمد قاعدة التفضيل الذي يقوم على أساس من القدرة على النهوض بالمهمة والقيام بها.

ونخلص من كل ذلك إلى أن القوّامية غير القيمومة، وأن الآية الكريمة لا إطلاق فيها ولا عموم، وعلى هذا لا يتم الاستدلال بها ولا يصح.

ثانياً ـ الحديث الشريف:

ومن أهم ما استدلوا به لنفي ولاية الحكم عن المرأة الحديث المروي في (الوسائل)، عن محمد بن علي بن الحسين الصدوق في (الخصال)، عن أحمد بن الحسن القطان، عن الحسن بن علي العسكري، عن محمد بن زكريا البصري، عن جعفر بن محمد بن عمارة، عن أبيه، (عن عمرو بن شمر)، عن جابر بن يزيد الجعفي، قال: سمعت أبا جعفر محمد بن علي الباقر B يقول: bليس على النساء أذان ولا إقامة ولا جمعة ولا جماعة… ولا تولّى المرأة القضاء ولا تلي الإمارة…v ([10]).

ويناقش بأن سند الرواية المذكور ضعيف بعمرو بن شمر الذي سقط من إسناد الوسائل، ذلك أن محمد بن عمارة يروي عن جابر الجعفي، بواسطة عمرو بن شمر، وورد تضعيف عمرو بن شمر في رجال النجاشي ورجال ابن الغضائري، وقال أُستاذنا الخوئي في (معجم رجال الحديث): bأقول: الرجل لم تثبت وثاقته، فإن توثيق ابن قولويه إياه معارض بتضعيف النجاشي، فالرجل مجهول الحالv([11]).

ومثله أحمد بن الحسن القطان، ومحمد بن زكريا الغلابي البصري لم ينص عليهما بتوثيق ولا بعدمه.

وعليه، لا يتم الاستدلال بهذا الحديث لضعفه سنداً.

ثالثاً ـ أصالة العدم:

ومما استدلوا به لنفي ولاية الحكم عن المرأة أصالة العدم، وقد أوضحت ـ فيما سبق ـ فحوى هذا الأصل، وكيفية استدلالهم به، ثم ناقشت في جريان الأصل هنا، وأوضحت المنهج السليم الذي ينبغي أن يتّبع هنا.

والنتيجة التي يسلمنا إليها البحث هي:

1 ـ عدم وجود نص معتبر يعتمد عليه في نفي تولّي المرأة الحكم.

2 ـ إن نفي تولي المراة للإفتاء أو القضاء يقتضي ـ كما يقولون ـ نفي تولّيها للحكم بطريق أولى.

إن هذا يتطلب ـ إذا صح القياس المشار إليه ـ تحقق نفي تولّي المرأة للإفتاء والقضاء، ثم القياس، وهو ما لم يتحقق ـ كما سيأتي.

3 ـ لا إجماع معتبر يركن إليه في نفي تولّي المرأة للحكم؛ لأن الكاشف منه غير متحقق، والمدركي ليس بحجة.

4 ـ والميل إلى اشتراط الذكورة في الحاكم آتٍ من أنه الأمر الغالب؛ لأن المجتمعات في أغلبها مجتمعات ذكورية، درجت على إسناد منصب رئاسة الدولة للرجل من المنطلق المشار إليه.

ولنعقب مسألة تولّي المراة منصب الحكم بمسالة الإفتاء:

تبحث هذه المسألة ـ عادة ـ ضمن شروط المفتي، وتحت عنوان (اشتراط الذكورية) أو (اشتراط الرجولية) من موضوع الاجتهاد والتقليد، الذي كان يبوّب قديماً في موضوعات علم أُصول الفقه، ثم نقل إلى موضوعات علم الفقه، وأخال أن هذه النقلة تمت من قِبل السيد اليزدي في كتابه (العروة الوثقى).

ويقول الشيخ الجيلاني في بحثه القيّم (شرطية الذكورة في المفتي) المنشور في مجلة (فقه أهل البيت): bلم نجد من عظمائنا الماضين حديث التضييق إلاّ من الشهيد الثاني Q، فإنه قال في كتاب القضاء من (الروضة) ـ في شرح عبارة الماتن: (وفي الغيبة ينفذ قضاء الفقيه الجامع لشرائط الإفتاء) ـ : (وهي البلوغ والعقل والذكورة) … نعم، اشتهر هذا الشرط بعدما انتهت نوبة المرجعية والزعامة الدينية إلى الفقيه الأكبر آية الله العظمى السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي ـ رضوان الله تعالى عليه ـ فألّف رسالته العملية المباركة المسماة بـ (العروة الوثقى)، وصرّح فيها باشتراط الذكورة في المفتي، وسهّل الطريق لمن بعده من أعلام الشيعة في انتشار آرائهم في الفتوى بالتعليق والتحشية والشرح عليها، فتلقى أكثرهم هذا الاشتراط بالقبول من دون أي غمز فيه، فمنهم السيد السند آية الله العظمى أبو الحسن الإصفهاني، والآيات العظام: الحائري اليزدي، وضياء الدين العراقي، والسيد أحمد الخوانساري، والإمام الخميني، والشيخ الأراكي، والسيد الخوئي، والسيد الكلبايكاني، أعلى الله درجاتهم في بحبوحات الجنات) ..v ([12]).

إن كل من بحث موضوع الاجتهاد والتقليد من الأُصوليين أو الفقهاء ممن تناول مسألة اشتراط الذكورة أو الرجولية في المفتي، كانت نتيجة بحوثهم اختلافهم في جواز تولّي المرأة لوظيفة الإفتاء.

وفي جواز تقليدها: ذهب بعضهم إلى القول بالجواز، وقال آخرون بعدم الجواز.

الأول ـ وممن قال بعدم الجواز السيد الخوئي والسيد السبزواري، فقد جاء في (التنقيح) ـ تعليقاً على قول السيد اليزدي في (العروة الوثقى): مسألة 22: bيشترط في المجتهد أُمور: البلوغ والعقل والإيمان والعدالة والرجوليةv ـ تحت عنوان (الرجولية) ما نصه: bاستدلوا على عدم جواز الرجوع إلى المرأة في التقليد، بحسنة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمال: قال: قال أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق B: bإياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم…v لدلالتها على اعتبار الرجولية في باب القضاء، ومن المعلوم أن منصب الإفتاء لو لم يكن بأرقى من القضاء فلا أقل من أنهما متساويان، إذ القضاء أيضاً حكم وإن كان شخصياً وبين اثنين أو جماعة رفعاً للتخاصم، والفتوى حكم كلي يبتلي به عامة المسلمين، فإذا كانت الرجولية معتبرة في باب القضاء كانت معتبرة في باب الإفتاء بالأولوية.

ويرد على هذا الوجه، أن أخذ عنوان الرجل في موضوع الحكم بالرجوع إنما هو من جهة التقابل بأهل الجور وحكامهم، حيث منع B عن التحاكم إليهم، والغالب المتعارف في القضاء هو الرجولية، ولا نستعهد قضاوة النساء ولو في مورد واحد، فأخذ عنوان الرجولية من باب الغلبة لا من جهة التعبد وحصر القضاوة بالرجال، فلا دلالة للحسنة على أن الرجولية معتبرة في باب القضاء فضلاً عن الدلالة عليها في الإفتاء لو سلّمنا أن القضاء والفتوى من باب واحد، على أنه لم يقم أي دليل على التلازم بينهما ليعتبر في كل منهما ما اعتبر في الآخر بوجه.

وأيضاً استدلوا عليه بمقبولة عمر بن حنظلة، حيث ورد فيها: (ينظران من كان منكم ممن قد روى حديثنا ونظر في حلالنا وحرامنا وعرف أحكامنا).

وقد ظهر الجواب عنها بما بيّناه في الحسنة المتقدمة، مضافاً إلى أنها ضعيفة السند، على أن قوله B: (من كان) مطلق، ولا اختصاص له بالرجال، إذاً لم يقم دليل على أن الرجولية معتبرة في المقلَّد، بل مقتضى الإطلاقات والسيرة العقلائية عدم الفرق بين الإناث والرجال.

هذا، والصحيح أن المقلَّد يعتبر فيه الرجولية، ولا يسوغ تقليد المرأة بوجه، وذلك لإنّا قد استفدنا من مذاق الشارع أن الوظيفة المرغوبة من النساء إنما هي التحجّب والتستّر، وتصدى الأُمور البيتية، دون التدخل فيما ينافي تلك الأُمور، ومن الظاهر أن التصدي للإفتاء ـ بحسب العادة ـ جعلٌ للنفس في معرض الرجوع والسؤال؛ لأنهما مقتضى الرئاسة للمسلمين، ولا يرضى الشارع بجعل المرأة نفسها معرضاً لذلك أبداً، كيف ولم يرض بإمامتها للرجال في صلاة الجماعة، فما ظنك بكونها قائمة بأُمورهم ومديرة لشؤون المجتمع، ومتصدية للزعامة الكبرى للمسلمين.

وبهذا الأمر المرتكز القطعي في أذهان التشرعة، يقيد الإطلاق، ويردع عن السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً رجلاً كان أو امرأةv([13]).

وقال السيد السبزواري في (مهذب الأحكام) تعليقاً على قول صاحب العروة المتقدم: bلسيرة المتشرعة، وانصراف الأدلة عن المرأة، مع ذكر الرجل في بعضها.

ودعوى أن قيام السيرة على الرجوع إلى الرجال، إنما هو لعدم وجود امرأة مجتهدة جامعة للشرائط من كل جهة، لا أنه مع وجودها لا يرجع إليها، وأن الانصراف بدوي لا اعتبار به كما ثبت في محله، وأن ذكر الرجل إنما هو من باب المثال لا التخصيص كما هو الأغلب.

مردوده بأن المستفاد من السيرة قيامها على اعتبار الرجولية حتى مع وجود امرأة مجتهدة، كما هو المشاهد بين المتشرعة في عدم رجوعهم، إلى النساء مع وجود الرجال في أحكام الدين، والانصراف محاوري معتبر، ونعلم أن ذكر الرجل من باب التخصيص لا المثال، مع أنه وردت إطلاقات من الروايات على عدم الاعتماد عليهنّ، ويشهد له ما ورد من أنه: (ليس على النساء جمعة ولا جماعة ـ إلى أن قال B ـ ولا تولّى القضاء ولا تستشار) v ([14]).

وممن لم يذهب إلى القول باشتراط الرجولة في المفتي: السيد الحكيم والسيد رضا الصدر والسيد تقي الطباطبائي القمي.

ففي (المستمسك): bوأما اعتبار الرجولة: فهو أيضاً كسابقه عند العقلاء [يعني أن اشتراطها غير ظاهر عند العقلاء كالعدالة والإيمان]، وليس عليه دليل ظاهر غير دعوى انصراف إطلاقات الأدلة إلى الرجل، واختصاص بعضها به، لكن لو سلم فليس بحيث يصلح رادعاً عن بناء العقلاء، وكأنه لذلك أفتى بعض المحققين بجواز تقليد الأُنثى والخنثىv ([15]).

ويقول السيد رضا الصدر في كتابه (الاجتهاد والتقليد)، وهو في معرض تعداد شروط المفتي تحت عنوان (الرجولة): bقيل: باشتراط الرجولة في المفتي، لكن الإطلاقات وسيرة العقلاء حاكمتان بعدم اشتراطها فيه، وليس هناك ما يصلح لتقييد الإطلاقات، وللردع عن السيرة، (و) أما قوله B: (فانظروا إلى رجل منكم) فلا يصلح للتقييد، ولا الردع، لما عرفت في البحث عن اشتراط البلوغ (ويعني به قوله: لاحتمال كون التعبير بالرجل من باب المثال أو لكونه وارداً مورد الغالب)، ولعله لذلك قال بعض المحققين بجواز تقليد الأُنثى والخنثى.

ويشهد لعدم اشتراط الرجولة في المفتي صحيحة عبدالرحمن بن الحجاج عن أبي عبدالله B في حديث، قال: قلتُ له: إن معنا صبياً مولوداً فكيف نصنع به؟ فقال: مر أُمّه تلقى حميدة فتسألها كيف تصنع بصبيانها، فأتتها فسألتها كيف تصنع؟ فقالت: إذا كان يوم التروية فأحرموا عنه، وجرّدوه وغسّلوه كما يجرد المحرم، وقفوا به المواقف، فإذا كان يوم النحر فارموا عنه وأحلقوا رأسه، ثم زوروا به البيت، ومري الجارية أن تطوف به بالبيت، وبين الصفا والمروة.

فإن الظاهر منها الإرجاع إلى حميدة لأخذ الحكم لا لأخذ الحديث، كما أنها لم ترو حديثاً لزوجة ابن الحجاج، بل أخبرتها بالحكم، وبما يجب أن تصنعه في حج ولدها، والإخبار بالحكم عن مثلها ليس إلاّ الإفتاء.

ويشهد لعدم اعتبار الرجولة في المفتي اتفاق أهل السنة على جواز تقليد المرأة، فإنهم يعدّون عائشة أُم المؤمنين من المفتين.

وهذا الاتفاق كان بمرأى من الأئمة الطاهرين جميعاً، ولم يصدر عنهم تخطئة له، ولو صدر لوصل، وذلك يكشف عن إمضائهم لهv ([16]).

وقال السيد تقي الطباطبائي القمي في كتابه (مباني منهاج الصالحين) تعليقاً على قول أُستاذه السيد الخوئي في تعداده لشروط المفتي: (… والذكورة): bما يمكن أن يذكر في هذا المقام أُمور:

الأول: الإجماع، وإشكاله ظاهر.

الثاني: ما رواه أبو خديجة، بتقريب أن عنوان (الرجل) لا يصدق على غير المذكّر.

وفيه: أن الرواية واردة في القضاء، ومقامنا البحث عن الفتوى.

الثالث: ما رواه ابن حنظلة، وفيه: أن الرواية ضعيفة سنداً بـ(عمر)، مضافاً إلى أنها واردة في حكم القضاء فلا يرتبط بالمقام.

وفي المقام: روي مرسلاً، (عن عامر بن عبدالله بن جذاعة، قال: قلت لأبي عبدالله B: إمرأتي تقول بقول زرارة ومحمد بن مسلم في الاستطاعة، وترى رأيهما، فقال: ما للنساء وللرأي)، وهذه الرواية ساقطة سنداً، فإن عامراً لم يوثّق.

الوجه الثالث: ما أفاده سيدنا الأُستاذ، وملخصه: أنه فُهم من مذاق الشرع أن اللازم على المرأة الاستتار، ولم يرض الشارع بتصدي المرأة للأُمور العامة وإدراتها، وهذا رادع عن السيرة الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم.

وهذا الوجه لا يرجع إلى محصل، وأنه أخص من المدَّعى، فإن جواز تقليد المرأة لا يستلزم تصديها للأُمور العامة، وبين المقام وبينه بون بعيد، إذ يمكن أن تكون امرأة مجتهدة متسترة في كمال التستر، والجاهل يعمل بآرائها لا سيما إذا كان المراجع امرأة مثلها، كما يجوز إمامتها للنساءv ([17]).

والآن ـ وبعد نَقْلِنا لهذه النصوص الفقهية بكاملها ـ لنحاول أن نستخلص ونلخص، ثم نحاول إلقاء الضوء عليها نقداً واختياراً.

إن خلاصة ما استدلَّ به المانعون من تولّي المرأة منصب المرجعية وتصدّيها للإفتاء، هو:

ـ الإجماع.

ورُدَّ بأن الكاشف منه غير موجود، والمدركي ليس بحجة.

ـ مشهورة أبي خديجة.

وموضع الاستدلال فيها، هو قول الإمام B: (ولكن انظروا إلى رجل منكم..) بدعوى أن كلمة (رجل) في المشهورة لم ترد بعنوان المثال، وإنما بعنوان التخصيص، فتقيد الإطلاقات الواردة في المقام.

ورُدَّ هذا الاستدلال بأن كلمة (رجل) ـ هنا ـ استعملت مثالاً؛ لأن الغالب في المفتين أن يكونوا من الرجال، وبأن المشهورة جاءت في موضوع القضاء، فلا نظر فيها إلى مقام الإفتاء، ولا تشمله إلاّ بقياس الأولوية، وهو غير تام هنا.

ـ مقبولة عمر بن حنظلة.

وموضع الاستدلال فيها هو قول الإمام B: (ينظران إلى من كان منكم ممن قد روى حديثنا…)، بتقريب أن الظاهر منها إرادة الرجل.

ورُدَّ الاستدلال بهذه المقبولة، بضعف سندها بـ(عمر بن حنظلة)، وأُشكل على الاستدلال بها بما أُشكل به على مشهورة أبي خديجة.

ـ مرسلة عامر بن عبدالله بن جذاعة.

ورُدَّ الاستدلال بها بضعف سندها بـ (عامر)، فإنه لم يوثّق.

ـ الاستدلال بارتكاز المتشرعة.

وخلاصته: أن المستفاد من مذاق الشارع المقدس: أن الوظيفة المرغوب فيها من النساء إنما هي التحجب والتستر والتصدي للأُمور البيتية، دون التدخل فيما ينافي تلك الأُمور.

وأن هذا المستفاد هو المرتكز في أذهان المشترعة، فيقيد به الإطلاق، ويردع عن السيرة العقلائية الجارية على رجوع الجاهل إلى العالم مطلقاً رجلاً كان أو امرأة.

ويناقش بأن الارتكاز يختلف باختلاف الأزمنة والأمكنة، فمثلاً تغطية المرأة وجهها يعد في بعض المجتمعات المسلمة من الحجاب، بينما لا يعد من الحجاب في مجتمعات مسلمة أُخرى، وكذلك عمل المرأة قد يعد في مجتمع مسلم جائزاً، وفي مجتمع مسلم آخر غير جائز.

على أن bحجية مثل هذا الارتكاز لا تتم إلاّ إذا علمنا بوجوده في زمن المعصومين وإقرارهم لأصحابه عليه، ومثل هذا العلم يندر حصوله جداً.

وتكوين الارتكاز في نفوس الرأي العام لا يحتاج من وجهة نفسية إلى أكثر من إمرار فتوىً ما في جيلين أو ثلاثة على الحرمة مثلاً ليصبح ارتكازاً في نفوس العاملين عليهاv ([18]).

وما ذكر من عدم إنكار المعصومين على إفتاء بعض الصحابيات أمثال عائشة، وكذلك إرجاع الإمام الصادق B إلى حميدة، وإفتاؤها في مسائل الحج، ينافي الارتكاز المذكور، ويبطله.

الثاني ـ واستدلَّ القائلون بالجواز:

1 ـ بسيرة المسلمين بوجود مفتيات في عهود المعصومين، وكنّ يُستفتين ويفتين، ولم ينكر الأئمة المعصومون ذلك.

2 ـ ويفاد من صحيحة ابن الحجاج إقرار هذه السيرة من قبل الأئمة E، حيث أمر الإمام الصادق B، بالرجوع إلى حميدة.

3 ـ واستدلوا أيضاً بسيرة العقلاء وبالإطلاقات التي لم يفرق فيها ـ في مقامنا هذا ـ بين الرجل والمرأة.

وهي ـ في واقعها ـ أدلة ناهضة بالإثبات.

وعليه، نقول: متى توافرت الشروط المطلوب توافرها في المرأة لتكون مفتية، جاز لها الإفتاء وجاز لغيرها تقليدها.

وفي تولّي المرأة منصب القضاء في الدولة الإسلامية:

= قال السيد الخوئي في (مباني تكملة المنهاج) تعليقاً على شرط الذكورة في القاضي: bبلا خلاف ولا إشكال، وتشهد على ذلك صحيحة الجمّال المتقدمة (يعني مشهورة أبي خديجة)، ويؤيدها ما رواه الصدوق P بإسناده، عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه E في وصية النبي 2 لعليّ B، قال: (يا علي ليس على المرأة جمعه ولا جماعة ـ إلى أن قال ـ : ولا تولّى القضاء…) الحديثv([19]).

= وقال السيد الأردبيلي في (فقه القضاء): bقال المحقق الحلي P: (ولا ينعقد القضاء للمرأة، وإن استكملت الشرائط)، وعلّل الشيخ محمد حسن P هذا الرأي بوجود النص، ويمكن أن نذكر أدلة البحث بالترتيب التالي:

أ ـ الكتاب:

قال تعالى: >الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ<([20]).

بيان الاستدلال: إن للرجال قيمومة على النساء، ولازم القيمومة السلطة والحكومة. ولما كان القضاء نوعاً من الولاية والحكومة، فلو تقرر أن تتولّى المرأة القضاء؛ لكان لها بمقتضى ذلك الولاية والحكومة على الرجال، وهذا خلاف المطلوب من الآية الكريمة المذكورة.

ولكن قليلاً من التدبّر في الآية وذيلها يظهران بوضوح أن هذه الآية إنما نـزلت بمناسبة تقنين نظام العائلة، ومسؤولية كل من الرجل والمرأة فيها، وعلى أساس أن القيمومة هي بيد الرجل لا غير.

بمعنى: أن مهمة الحماية والتدبير والإنفاق، إنما أُوكلت مسؤوليتها إلى الرجل لا للمرأة ولا لكليهما.

وعليه، فإن استفادة معنى كلي عام من الآية ليشمل في تطبيقاته حتى الروابط الاجتماعية الأُخرى لا يخلو من إشكال.

حيث إن القيام بشؤون المرأة في العلاقات الزوجية والحياة العائلية المشتركة، لا يستلزم بالضرورة أن تكون بقية علاقاتها ومسؤولياتها الاجتماعية كذلك.

وإلاّ فعلى هذا الفهم يلزم أن نمنع النساء من كل الأعمال الإدارية والنشاطات الحكومية في جميع مرافق الدولة.

فلا يجوز للمرأة أن تتولى مسؤولية واحدة صناعية أو غير صناعية، وزارية أو نيابية، أو أية مسؤولية في أية تنظيمات حرفية أو غيرها؛ لوجود الولاية والسلطة على الرجال في كلها.

فاستفادة مثل هذا الحكم من هذه الآية الكريمة لا يخلو من إشكال.

ب ـ السنة: ]عن[ (محمد بن علي بن الحسين ]الصدوق[ بإسناده، عن حماد بن عمرو وأنس بن محمد، عن أبيه، عن جعفر بن محمد، عن آبائه في وصية النبي 2 لعليّ B قال: يا عليّ ليس على المرأة جمعة.. ـ إلى أن قال ـ ولا تُولّى القضاء).

وأقول: هذا الحديث مخدوش سنداً ودلالة، ولا يمكن تصحيحه بأي نحو.

ج ـ الإجماع: فقد نقله جمع. ولم ير مخالف في المسألة، حتى ذلك الذي نُقِلَ عن (المبسوط) من أن بعضهم جوّز لها القضاء في الموارد التي تقبل فيها شهادتها. ولكن ـ على الظاهر ـ أن المراد من البعض هو البعض من علماء العامة لا الخاصة.

وعليه، فعدم الخلاف محرز، ولو أن الإجماع لم يُظفر به.

د ـ العقل:

فقد قيل: بأن عدم جواز إمامة المرأة حتى للنساء، لهو دليل على عدم جواز قضائها عليهم بالأولوية.

وقيل أيضاً: بأن عدم تصديها للقضاء منذ صدر الإسلام حتى عهد
الأئمة
E وإلى يومنا هذا، مع وجود الكثيرات العالمات الفاضلات منهن، لهو أقوى دليل على عدم جواز القضاء لها. بل، الذي يهوّن الخطب أن هذا هو مقتضى الأصل.

وهو: عدم وجود دليل عام أو مطلق في المقام يركن إليه في جواز القضاء لعموم الرجال والنساء، حتى نحتاج لإخراج النساء من بينهم إلى دليل معتبر في التخصيص.

وإزاء هذا المقتضى فلا بد من أن نرجع إلى الأُصول العملية في تحقيق مثل ذلك.

فقد روى جابر، عن الباقر B أنه قال: bولا تُولّى المرأة القضاء ولا تُولّى الإمارةv حكاها في (الكشف) و (المفتاح) وغيرهما.

ورُوي: (لن يفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة).

هذا، ومن الواضح للمتأمل أن في جميع ما ذكرناه ـ إلاّ الذي قلنا في مقتضى الأصل ـ مواضع للنظر، ولا حاجة إلى مزيد بحث وتوضيحv([21]).

وقال السيد هاشم معروف في (الولاية والشفعة والإجارة من الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد): bوأما الذكورة فقد أجمع الفقهاء على اعتبارها في القاضي بشهادة كل من صاحب الدروس والشهيد الثاني في مسالكه والشيخ النجفي في جواهره وغيرهم.

هذا بالاضافة إلى ما جاء عن الإمام الباقر B أنه قال: (لا تولّى المرأة القضاء ولا الإمارة)، وإلى ما جاء عن الإمام الصادق B: (أن النبي 2 قال
لعليّ
B: ليس على المرأة جمعه ولا تولّى القضاء)، وأنه قال: (لا يفلح قوم وليتهم امرأة).

والظاهر عدم الخلاف في ذلك، ولو افترضنا أن المجمعين قد اعتمدوا على هذه المرويات مع ضعف أسانيدها ـ كما يبدو ذلك من استشهادهم بها ـ لو افترضنا ذلك، يفقد الإجماع قيمته كدليل في المقام.

ويلتقي فقهاء السنة مع الشيعة في اعتبار هذا الشرط عملاً بقول
الرسول
2: bما أفلح قوم ولّوا أمرهم امرأة)؛ ولأنها ناقصة العقل، ضعيفة الرأي ـ على حد تعبيرهم ـ ، ولأنها لا تصلح للولاية العظمى، ولا لتولية البلدان، ومن كانت هذه حالها بنظر الدين، فأولى بها أن لا تتولى القضاء، ولم يخالف بذلك سوى ابن جرير، حيث أباح لها أن تتولّى ما يتولاه الرجل، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود؛ لأنه لا يجوز لها أن تكون شاهدة (إلاّ) في غيرها ـ على حد تعبيره ـ ، كما جاء في (المغني) لابن قدامة الحنبليv([22]).. أي أنه يجوز لها القضاء فيما تقبل فيه شهادتها.

والخلاصة مما تقدم:
1 ـ استدلوا بالإجماع، ولعله عمدة ما استدلوا به.
ويناقش بأن الكاشف منه غير موجود، والمدركي غير حجة.

2 ـ استدلوا بمشهورة أبي خديجة سالم بن مكرم الجمّال، قال: قال أبو عبدالله جعفر بن محمد الصادق B: bإياكم أن يحاكم بعضكم بعضاً إلى أهل الجور، ولكن انظروا إلى رجل منكم يعلم شيئاً من قضايانا فاجعلوه بينكم، فإني قد جعلته قاضياً فتحاكموا إليه).

وهي معتبرة من حيث السند؛ لأنها إما صحيحة أو حسنة.

وموضع الاستدلال هو قوله B: (انظروا إلى رجل منكم).

ويناقش الاستدلال بها: بأن ذكر الرجل جاء لأنه المألوف اجتماعياً، حيث لم يعهد آنذاك أن أُسند منصب القضاء لامرأة، وأن غاية ما يدل عليه هذا، هو جواز أن يكون القاضي رجلاً، أما عدم جواز أن يسند منصب القضاء للمرأة فغير منظور إليه في الرواية.

ومعنى هذا، أن يحمل ذكر الرجل في الرواية على أنه من باب المثال لا التنصيص.

3 ـ رواية الصدوق المذكورة في نص السيد الخوئي، ونص السيد الأردبيلي الذي علّق عليها ـ بعد نقله لها في الهامش ـ بقوله: bوأقول: هذا الحديث مخدوش سنداً ودلالة، ولا يمكن تصحيحه بأي نحوv.

4 ـ واستدلوا بقوله تعالى: >الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء بِمَا فَضَّلَ الله بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ<.

وناقش دلالتها السيد الأردبيلي بعد بيان الاستدلال بها في نصه المنقول في أعلاه، ومرت مناقشتنا لها فيما سبق، فلتراجع.

5 ـ واستدلوا بالعقل ضمن النقاط التالية:

أ ـ إن عدم جواز إمامة المرأة حتى للنساء يستلزم عدم جواز إسناد منصب القضاء إليها من طريق أولى.

ويناقش:

أولاً: بأنه لا دليل عندنا يثبت عدم جواز إمامة المرأة حتى للنساء.

ثانياً: لا ملازمة في البين لاختلاف الصلاة عن القضاء بأنها عبادة وأهم عبادة، بينما القضاء ليس كذلك.

ب ـ إن عدم إسناد منصب القضاء للمرأة منذ صدر الإسلام وإلى عصرنا هذا دليل حرمة توليها القضاء.

ويناقش:

بأن الإسناد إلى الرجل ـ كما تقدم ـ لأنه الشيء المألوف اجتماعياً، فلا دلالة فيه على حرمة الإسناد للمرأة؛ لأن الإسناد فعل، والفعل إذا لم يقترن بما يدل على وجوبه لا يحمل على أكثر من الجواز، والجواز لا يدل على حرمة الطرف المقابل له، إن لم يستفد منه جوازه.

ج ـ واستدلوا بالأصل (أصالة العدم):
وقد تقدمت مناقشته.
والنتيجة:

هي جواز إسناد منصب القضاء للمرأة إذا توفرت فيها الشروط المطلوبة.

وقد يُستظهر جواز إسناد منصب القضاء للمرأة من العلامة الطباطبائي صاحب الميزان، قال في كتابه (الإسلام الميسر) تحت عنوان (القضاء في الإسلام): bالصفات التي يجب تحققها في القاضي شرعاً هي:

1 ـ البلوغ.
2 ـ كمال العقل.
3 ـ الإسلام.

4 ـ العدالة، بحيث يكون القاضي على نمط سلوكي لا يرتكب فيه الذنوب الكبيرة ولا يصر على الصغيرة.

5 ـ طهارة المولد، أي أن يكون مولده مشروعاً.

6 ـ العلم، بحيث يحيط بالمسائل الحقوقية وأحكامها عن طريق اجتهاده الشخصي، ولا يكفي القضاء بفتاوى الآخرين.

7 ـ الضبط، فلا يستطيع المبتلى بالنسيان أن يمارس القضاء.

8 ـ البصر، إذ يذهب أكثر الفقهاء بعدم إمكان قضاء الأعمى. فإذا ما افتقد القاضي إحدى هذه الصفات يعزل من منصب القضاء تلقائياًv([23]).

وكما ترى، لم يذكر P شروط الذكورة أو الرجولة.

وقول ابن جرير الطبري يرفع عن القائل بالجواز وحشة المسير في طريق عزّ سالكوه أو قلّوا.

على أن اختلاف الزمان يتدخل في اختلاف المستوى لتحمل المسؤولية. فيوم كانت المرأة ربة بيت فقط، غير مفسوح لها المجال في تعلم العلم، والتـزود بالثقافة العامة والخاصة التي تسهم في بناء المجتمع ورفع مستواه إلى ما هو أفضل، كانت غير مؤهلة للقيام بأعباء المسؤوليات الكبار.

أما اليوم حيث فسح لها المجال للتعلم، والتـزود بالثقافة، وممارسة مختلف المهارات العلمية، والفعاليات الاجتماعية، وأثبتت قدرتها من خلال التجارب على تحمل أعباء المسؤوليات الكبار، أصبحت لا تختلف عن الرجل في ذلك، وهي وإيّاه على صعيد واحد من حيث المستوى والقدرة.

*    *     *

الهوامش :


(*) من أبرز الشخصيات الشيعية في العربية السعودية، أستاذ في الحوزة والجامعة.

([1]) سورة التوبة: 71.

([2]) الولاية والشفعة والإجارة من الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ص22.

([3]) سورة الأحزاب: 6.

([4]) نهج الفقاهة ج1 ص297، وطبعة أُخرى، ص489 بتحقيق جواد القيومي 1421هـ.

([5]) انظر: الدين والولاية، بحوث في الفكر السياسي الإسلامي، للشيخ مهدي هادوي طهراني، ص98، عن جواهر الكلام 21 / 395.

([6]) دراسات في ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلامية ج1 ص335 ـ 361، الفصل العاشر من الباب الرابع ـ في اعتبار الذكورة.

([7]) مجمع البيان في تفسير القرآن ج5 ص94.

([8]) المصدر السابق نفسه.
([9]) الميزان في تفسير القرآن ج5 ص343.
([10]) وسائل الشيعة ج20 ص220 / ح25473.

([11]) معجم رجال الحديث ج13 ص107 رقم 8922.

([12]) مجلة فقه أهل البيت، العدد 5 و 6 السنة الثانية 1418هـ / 1997م.

([13]) التنقيح في شرح العروة الوثقى ـ الاجتهاد والتقليد، ص224 ـ 226.

([14]) مهذب الأحكام في بيان الحلال والحرام ج1 ص39 ط. الرابعة 1413هـ ـ قم.

([15]) مستمسك العروة الوثقى ج1 ص43 ط. الرابعة، مطبعة الآداب ـ النجف الأشرف 1391هـ.

([16]) الاجتهاد والتقليد، ص107.

([17]) مباني منهاج الصالحين ج10 ص30 ط. الأُولى 1405هـ ـ قم.

([18]) أُنظر: الأُصول العامة للفقه المقارن للسيد محمد تقي الحكيم، ص201 ط. الثانية 1979م.

([19]) مباني تكملة المنهاج ج1 ص10.
([20]) سورة النساء: 34.

([21]) فقه القضاء للسيد الأردبيلي، ص80 ـ 83.

([22]) الولاية والشفعة والإجارة من الفقه الإسلامي في ثوبه الجديد، ص11.

([23]) الإسلام الميسّر، ص360 ط. الأُولى المترجمة 1419هـ.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً