أحدث المقالات

المنهج الاجتماعي في التعامل مع النصوص الدينية

الشيخ محمد حسن زراقط

كان الدين الإسلامي منذ بداياته بعد أن نزل الوحي على النبي محمد(ص) مشروعاً اجتماعياً بكل ما تحمل هذه الكلمة من معنى وهذه ميزة يمتاز بها الإسلام عن غيره من الأديان التي اهتمت بالجانب الفردي في الإنسان أكثر من اهتمامها بالبعد الاجتماعي، الذي تركته للعقل الإنساني ليبتكر له التشريع الذي يراه مناسباً، ولكن هذا العقل رغم قدراته الهائلة أعجزه تقديم الحل الملائم. وربما كان أحد أسباب تضخم العجز المذكور منع العقل من إعمال أقصى طاقاته للوصول إلى أكثر الحلول مناسبة لمعالجة المشاكل الاجتماعية التي تبحث عن حل.
ولوضوح العجز أو التعجيز للعقل أراد الإسلام دعم العقل الإنساني بأسس التشريع وأصوله، على الأقل، في مجالات اجتماعيّة عدة ومارس النبي(ص)  منذ البدايات دوره على الصعيد الاجتماعي لإعطاء تشريعات الإسلام بعدها الواقعي فكان(ص) يرسل القضاة إلى البلاد التي تدخل في الإسلام كما يرسل المبلغين ومعلمي القرآن. والقضاء كما لا يخفى أحد أهم مظاهر البعد الاجتماعي في أيّ نظام متكامل. وقد أشار القرآن إلى حيثية الولاية على القضاء وتنفيذ الأحكام في شخصيّة رسول الله(ص)  عندما قال: (فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا).
وقد مارس النبي(ص)  سلطة الحاكم وقائد الدولة في المجتمع الإسلامي الوليد طيلة سنوات من عمره الشريف من حين هجرته إلى المدينة إلى وفاته. ورغم اختلاف المسلمين في شأن الدولة بعد وفاته وأنه نص على خليفة من بعده كما يعتقد الإماميّة، أم ترك الأمر شورى لأهل الحلِّ والعقد كما يعتقد أهل السنّة، إلا أنّ ذلك لم يصل بفقهاء المسلمين والكثير من نخبهم إلى التشكيك في اهتمام الإسلام بالشأن السياسي بما هو مظهر من مظاهر الهم الاجتماعي في الإسلام، وأدل دليل على ذلك ما دوَّنه علماء المسلمين وفقهاؤهم في مجال الفكر السياسي تحت عنوان الأحكام السلطانيّة، وآداب الملوك. ويعتقد بعض العلماء، أنّه لولا سنوات عجاف من الاستبداد لاستطاع المسلمون أن يأسِّسوا لأرقى نظام فكري في مجال الاجتماع السياسيّ وتداول السلطة.

وإذا تجاوزنا الجانب السياسي والقضاء، فإنّنا نجد في الشريعة الإسلامية اهتماماً بكثير من الجوانب الاجتماعيّة ومن ذلك اهتمام الإسلام بأحكام العقود وقوانينها، ونظام العقوبات والتعزيرات، وغير ذلك مما يعرفه المتتبعون لمراحل تاريخ الفقه الإسلامي. بل إننا نجد أن اهتمام الفقهاء، في بعض مراحل تاريخ الفقه، بالجانب الاجتماعي طغى على اهتمامهم بالعبادات وأحكامها، فالشيخ الطوسي، مثلاً، خصص مجلداً واحداً من كتابه المبسوط للعبادات، وسائر أجزائه السبعة للمعاملات وأحكامها.

وبينما انعكس الأمر في عصورٍ أخرى وغلب الاهتمام أو تساوى عند بعض الفقهاء بشؤون العبادات وتفصيلات أحكامها. وكانت لذلك عوامل عدّة منها انسحاب الفقه من ساحة التطبيق لتحلّ محلّه أنظمة وقوانين مستوحاة من التشريع الغربي، وصار الأغلب الأعم في كثير من الدول الإسلاميّة أن يتحول الفقه والشريعة الإسلامية إلى أحد مصادر التشريع بعد أن كان التوجّه السائد «ما من واقعة إلا ولله فيها حكم».

وانعكس هذا الواقع الموضوعي الذي لم يكن نتيجة تنظير فقهيّ مسبق، بل حصل تحت ضغط الواقع، وتسارع الأحداث التي لا ترحم على الذهنية الفقهية للفقهاء، فتحول اهتمام كثير من الفقهاء إلى معالجة تكليف المسلم الفرد بدل معالجة تكليف المجتمع الإسلامي.

وفكروا، مثلاً، في مجال مشكلة الربا والتعامل مع البنوك بالبحث عن ما يعرف بالحيل الشرعية للتخلص من الربا بدل البحث عن حل للمشكلة من جذورها وأساسها. والعذر الذي يذكر عادة للفقهاء هو أن الفقيه يبحث عن حلول يمكن تطبيقها وما يمكن تطبيقه في هذا العصر هو الجانب الفردي من الفقه، والبعد الاجتماعي لا يُسمَح له بسلوك طريق التطبيق؛ وذلك لأنّ الحكومات هي المسيطرة على الواقع الاجتماعي وهي تستوحي قوانينها من الأنظمة والتشريعات الغربية.

ولكن هذا التبرير يشتمل على نصف الحقيقة وربّما أقل؛ وذلك لأنّ الفقه حتى في جانبه الفردي يمكن أن يُربط بالجانب الاجتماعي ويُستنبط على أساسه، وثانياً: إن كثيراً من الأحكام والتشريعات المدنية يمكن أن تقبلها الحكومات لو أن الفقهاء قدّموها جاهزة قابلة للتطبيق بوصفها نصوصاً قانونية متقنة، وثالثاً: يرى بعض المهتمين في تجربة الجمهورية الإسلامية تحدّياً حضارياً للفقه الإسلامي وفقهاء المسلمين فهل استطاع الفقهاء أن يقدّموا طرحاً متكاملاً يغني هذه التجربة عن استيحاء مدارس القانون الغربي ومذاهبه: ينقل الشيخ محمد هادي معرفت حواراً دار بينه وبين أحد الحقوقيين حول قانون المواصلات البحرية يقول فيه هذا الحقوقي: «إذا لم تبادر الجمهورية الإسلامية لعمل شيء في هذا المضمار فلن يبقى أمامها إلا أن تتبع النظم القانونية الفرنسية أو الإنكليزية…»  ثم يسأل الشيخ معرفت: «هل ثمة مصلحة أن تقتفي الجمهورية الإسلامية… النظم الحقوقية المقررة في البلدان الأجنبية؟ أليس من مهمة الفقهاء المعاصرين أن يبادروا لتقويم ما هو موجود في دنيانا المعاصرة لدراسته على ضوء قواعد الإسلام الأولية»؟.

وعلى أيّ حال أقصد من المنهج الاجتماعيّ في فهم النص الفقهيّ أحد معنيين:

1-   الالتفات إلى الآثار الاجتماعية للفتاوى.

2-   التعامل مع النص الفقهي على ضوء السياقات التي ورد فيها وسوف أحاول الإشارة إلى بعض النماذج لكل من الموردين في ألسنة الفقهاء ثم أذكر ما يمكن أن يمثل دليلاً مؤيداً لهذا المنهج، وأناقش الحجج المقابلة.

3-  الالتفات إلى الآثار الاجتماعية:

إنّ للفقه حتّى في جوانبه الفردية انعكاسات على الواقع الاجتماعي، فلا تمثل الفتوى التي يطلقها الفقيه نظرية في الفراغ، وإنّما يطلقها للمكلف ليلتزم بها ويطبّقها في حياته الشخصية أو العامة. والسؤال الذي يُطرح هنا، هو: هل يمكن للفقيه أن يجلس بين كتبه والنخب من طلابه ليفتي للناس دون أي التفات إلى آثار فتاواه على حياة الناس؟
ما أدعيه هو ضرورة الالتفات إلى آثار الفتوى وعدم الاكتفاء بالنظر إلى الدليل الفقهي بعقلية حرفية، بل أدعي أن هذا هو ما فعله الفقهاء في كثير من فتاواهم، ومن ذلك ما اشتهر عن السيد محسن الحكيم أنه خفف كثيراً من احتياطاته في باب الطهارة والنجاسة بعدما حج إلى مكة ورأى صعوبة الاحتياط وتعقيده لحياة الحجيج. وأشير في هذه المقالة إلى بعض التطبيقات التي مارسها الفقهاء في مقام الإفتاء:
أ – عقوبة الارتداد: يعتقد أكثر فقهاء الإمامية  وعدد من فقهاء أهل السنة بأن عقوبة المرتد الفطري هي القتل اعتماداً على أدلة تذكر في محلها ومنها: «من بدل دينه فاضربوا عنقه». وعن الإمام الباقر(ع): «من رغب عن الإسلام وكفر بما نزل على محمد(ص)  بعد إسلامه فلا توبة له وقد وجب قتله وبانت منه امرأته…».وفي هذا المجال ينقل أحد المؤرخين لتجربة حزب الدعوة في العراق نقاشاً دار بين السيد محمد باقر الصدر والسيد الخوئي حول الأسس التي يبتني عليها فكر الحزب «حيث جاء في الأسس إن توبة المرتد الفطري تقبل في زمن الشبهة وهذا خلاف رأي باقي العلماء الذين كانوا يرون أن توبة المرتد لا تقبل… يقول السيد الصدر: فبدأت أناقش السيد الخوئي في إشكاله وكان النقاش ينصب حول إلحاد الشيوعيين وهؤلاء حسب العرف السائد مرتدون فطريون؛ لذا لو أقمنا الدولة الإسلامية هل نعتقلهم؟

وإذا شهد عليهم الشهود بالردة هل نقيم عليهم الحد ونقتلهم؟ الحل غير عملي. وبعد ذلك، أخذ النقاش بين السيدين منحى فقهياً، خلص فيه السيد الصدر إلى اعتبار هذا الزمن زمن شبهة (بالاصطلاح الفقهي)… وبذلك يمكن أن تقبل توبة المرتد الفطري فوافق السيد الخوئي السيد الصدر في ما ذهب إليه من حكم شرعي». ولا يخفى ما في هذا الموقف الفقهي من التفات عميق إلى الأثر الاجتماعي للفتوى ولعل السيد الصدر ينطلق في موقفه هذا من أمرين على الأقل:

أحدهما: ربطه للإسلام عقيدة وشريعة بالمجتمع ومشكلاته التي كانت همه الأكبر فعندما نجد أنه قد ربط المعتقد الذي هو بالأصل أمر نظري إلى حد كبير لا يُستَغْرب منه ربط الفقه الذي هو علم عملي بامتياز  بالمجتمع. فالتوحيد عنده: «يحدث تغييراً نوعياً في بنية العلاقات الاجتماعية». وحول ضرورة ربط الفقه بالمجتمع يقول: «…فالمجتهد خلال عملية الاستنباط يتمثل في ذهنه صورة الفرد المسلم الذي يريد أن يطبق النظرية الإسلامية للحياة على سلوكه، ولا يتمثل صورة المجتمع المسلم الذي يحاول أن ينشئ حياته وعلاقاته على أساس الإسلام.

ثانيهما: توسعة نكتة موجودة في حكم آخر من أحكام الحدود وهو حد السرقة، فمن المعلوم أن حد السرقة قطع اليد. ولكن يستثنى من هذا الحكم من سرق في زمن المجاعة، فلا تقطع يده، ويستند هذا الحكم إلى أدلة شرعية منها رواية عن الإمام الصادق(ع): «لا يقطع السارق في عام سنة؛ يعني عام مجاعة».

وقد يُعترض على هذا الأسلوب من التوسعة بأنه نوع من القياس الذي لا يجوز العمل به وفق أسس مذهب الإمامية في موازين الاجتهاد. ولكن يبدو لي أنه بعيد عن القياس، وواقع خارج دائرته، بل يندرج تحت ما يعرف بتنقيح المناط؛ حيث يُدَّعى أن الوجدان العرفي لا يرى فرقاً بين سقوط حد السرقة عند التورط في المخالفة لأجل جو ضاغط هو الجوع وبين سقوط حد الارتداد عند تراكم الشبهات، أو فقل هو من باب «الحدود تدرأ بالشبهات» إذا وسَّعنا مفهوم الشبهة إلى هذه الدوائر.

بحرمة اليانصيب وحليته: يُفتي الفقهاء بشكل إجمالي بحرمة شراء اليانصيب، لإدخالهم إياه تحت عنوان القمار أو غيره من العناوين المحرمة ويستثني بعضهم  مورد ما إذا كان المراد من اليانصيب عملاً خيرياً، وأريد تشجيع الناس على التبرع لهذا المشروع بإدخال أسماء المتبرعين في قرعة وإعطاء جائزة لمن تخرج القرعة باسمه. ومن الفقهاء من أفتى بالحرمة ولم يفرق بين كون المقصود هو العمل الخيري أو غيره. وممن التفت إلى الجانب الاجتماعي في تحريم اليانصيب الشيخ يوسف القرضاوي حيث يقول: «وما يسمى باليانصيب هو لون من ألوان القمار ولا ينبغي التساهل فيه والترخيص به باسم الجمعيات الخيرية… والذين يلجأون إلى هذه الأساليب يفترضون في المجتمع أن قد ماتت فيه نوازع الخير وبواعث الرحمة.. والإسلام لا يفترض هذا في مجتمعه…»  ولا يخفى ما في هذا الكلام من التفات إلى البعد الاجتماعي للفتوى بالحلية أو الحرمة.

وفي هذا المجال فتاوى عدة يمكن إعادة النظر فيها وقراءة آثارها على المجتمع وحياة الفرد وبخاصة ما يكون منها موافقا للاحتياط ومبنياً عليه. لكي يكون الحكم فيها مبنياً بوضوح على الدليل لا على احتياط محض. ومن ذلك ما يذكره بعض الظرفاء معلقاً على فتوى تحريم النظر إلى وجه الأجنبية عند بعض الفقهاء فيقول: «إن هذه الفتوى أو هذا الاحتياط لا تكلفه شيئاً؛ لأنه لا يرى من النساء إلا زوجته ومحارمه». ولا أريد من هذا الكلام الدعوة إلى التساهل في التعامل مع الأدلة فالفقهاء أجل من هذا وأرفع شأناً؛ وإنما أشير إلى ضرورة  التأمل في الدليل ليكون هو المستند من دون أن يدعم بالاحتياط؛ فقد قيل: «الاحتياط في الفتوى قد يكون خلاف الاحتياط في بعض الموارد».

4-  قراءة النص الفقهي على ضوء سياقه الاجتماعي يمكن في أي نص اختيار مستويين لقراءته: أن يُقرأ لغوياً؛ بحيث يحدد القارئ مدلول مفردات هذا النص بحسب وضعها إن كانت موضوعة لمعنى محدد لا تجاوزه إلى غيره. وقد تتعقد عملية الفهم أحياناً عندما تتعدد المعاني التي تم ربط اللفظ بها عند أهل تلك اللغة، فيُحتاج إلى وسيلة مساعدة لتحديد المراد من محتملاتها وثالثة يزداد التعقيد عندما يتجاوز المستخدم قوانين الوضع الأصلية فيربط اللفظ بما لم يوضع له من معانٍ إما لعدم وفاء اللغة بحسب أوضاعها الأصلية بمراده وإما لغاية جمالية يهدف إليها. وهذا المستوى من القراءة للنص يمكن تسميتها بالقراءة اللغوية والحالة الأولى منها اصطلح على تسميتها بالحقيقة والمختص، والثانية حقيقة مع اشتراك والثالثة مجاز. ويحتاج الوصول إلى فهم مراد المتكلم في الحالتين الثانية والثالثة إلى مساعد كما أشرت هو ما يُعرَف بالقرينة في عرف علماء البلاغة والنقد الأدبي. وإذا فقد الكلام القرينة سقطت دلالته وتاه السامع في تحديد المراد من اللفظ. ما يدخل الكلام في دائرة المجمل في عرف الأصوليين، وهو ما «لا يستقل بنفسه في معرفة المراد به»، كما عرفه السيد المرتضى، أو هو: «ما ليس له ظهور وإن علم بقرينة خارجية ما أريد منه».
هذا مستوى من القراءة، وهناك مستوى آخر أعمق منه وهو إدخال السياق الاجتماعي الذي ورد فيه النص في عملية الفهم وعدم التعامل مع الألفاظ بما لها من مداليل معجمية فحسب، وإن كان لهذه الأخيرة دور في تشكيل  الدلالة أيضاً؛ حيث لا يمكن الاستغناء عن مداليل الألفاظ في عملية الفهم، ولكن هذا المستوى من القراءة يفترض تجاوز هذه المداليل والغوص في أعماقها لاكتشاف المعنى المستعمل فيه اللفظ بعد معرفة المعنى الموضوع له بحسب الدلالة المعجمية. ولا يخفى أن هذه القراءة هي التي تتكفل ببيان مراد المتكلم إن أُتقِن استخدامها وأُحسِنت الاستفادة من آلياتها. وهذه الطريقة أو هذا المستوى من القراءة هو ما جعل السيد الشهيد الصدر يبدي إعجابه بعمل قام به الشيخ محمد جواد مغنية في كتابه «فقه الإمام جعفر الصادق» حيث يقول الصدر: «أكبر الظن أنها أول مرة أقرأ فيها لفقيه إسلامي من مدرسة الإمام الصادق(ع) أوسع نظرية لعنصر الفهم الاجتماعي للنص… حين قرأت بعض أجزاء الكتاب المجدد الخالد «فقه الإمام الصادق(ع)» ثم يتابع قائلاً: «ويأتي دور الفهم الاجتماعي للنص حين ينتهي دور الفهم اللفظي واللغوي له، فإن الفقيه في الدرجة الأولى يحدد المعطى اللغوي واللفظي للنص ثم بعد أن يعرف معنى اللفظ يسلِّط عليه الارتكاز الاجتماعي ويدرس المعنى بالذهنية الاجتماعية المشتركة… فيظهر له من النص أشياء جديدة، لم تكن تبدو على مستوى الدرجة الأولى في حدود الفهم اللغوي…» وسوف أحاول السير على هدي هذه النظرية لتطبيقها على موارد ربما يساعد درس السياق الاجتماعي للنصوص المبيِّنة لأحكامها على ظهور أشياء جديدة لم تكن تبدو في المستوى الأول من القراءة.

 

استعراض بعض النماذج:

أ – عدالة إمام الجماعة: يشترط الإمامية في صلاة الجماعة عدالة الإمام مضافاً إلى شروط أخرى ذكروها في محلها من الفقه ويضيفون إلى ذلك شرط الإيمان وهو أن يكون الإمام شيعياً اثنا عشرياً، كما شرحوا ذلك في كتبهم الفقهية ؛ واستدلوا لذلك بروايات منها صحيح البرقي قال: كتبت إلى أبي جعفر الثاني(ع) أتجوز الصلاة خلف من وقف على أبيك وجدك؟ فأجاب: «لا تصل وراءه».

والسؤال حول هذه الرواية هو: ألا يفيد الالتفات إلى السياق الذي وردت فيه هذه الرواية وهو كونه في أجواء الصراع مع من أنكر إمامته (ع) ووقف على أبيه وجده أنه ينهى من التواصل معه والائتمام به في الصلاة. وبعبارة أخرى، ألا يمكن أن يفهم من هذه الرواية الدعوة إلى المقاطعة بما هي نوع من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر قد يخضع دوامه أو عدمه لتغير الآثار المترتبة عليه؟ فإذا كان ترك الصلاة خلفهم يؤدي إلى التفاتهم وعودتهم إلى جادة الحق وجب ذلك، وإذا كانت الصلاة خلفهم تؤدي هذا الغرض وجبت وجازت؟
ب- التحاكم إلى قضاة الجور: ورد عن أبي بصير عن الصادق(ع): «أيما رجل كان بينه وبين أخ له مماراة في حق، فدعاه إلى رجل من إخوانكم ليحكم بينه وبينه، فأبى إلا أن يرافعه إلى هؤلاء كان بمنزلة الذين قال الله عز وجل: «ألم تر إلى الذين يزعمون… يكفروا به». وقد استدل الفقهاء بهذه الرواية على اشتراط التشيع في القاضي  وعدم جواز الترافع أمام المحاكم المدنية في المجتمعات المعاصرة، وقد كان لهذه الفتوى أثر كبير على حياة الشيعة الذين يعيشون في ظل حكومات تستوحي قوانينها من غير مذهب الإمامية في الفقه؛ وبدافع الالتزام بهذه الفتوى يضطر كثير من المتدينين إلى التنازل عن بعض حقوقهم المالية، رغم إمكان الحصول عليها بحكم القاضي المدني، وبخاصة عندما نلحظ تحفظاً حول قبول حكم الحاكم «الجائر»، بحسب الاصطلاح الفقهي، حتى لو كان حقاً في بعض الفتاوى كما في هذا النص: «… كما أن من ليس أهلاً للقضاء يحرم عليه القضاء. ولا يجوز الترافع إليه ولا الشهادة عنده. والمال المأخوذ بحكمه حرام، وإن كان الآخذ محقاً إلا إذا انحصر استنقاذ الحق المعلوم بالترافع إليه.»  أو هذا النص: «يحرم الترافع إلى قضاة الجور؛ أي من لم يجتمع فيهم شرائط القضاء… وما أُخِذ بحكمهم حرام إذا كان ديناً، وفي العين إشكال إلا إذا…».
وهذه الرواية التي هي المستند لهذه الفتاوى ألا يمكن تغير دلالالتها إذا لاحظنا صدورها في عصر كان الإمام(ع) في حالة المواجهة مع الدولة الجائرة وبالتالي فإنه يأمر أتباعه بنوع من العصيان المدني، بحسب التعبير المعاصر، فلو فرض تغير الظرف وانتقل الإمام(ع) من حالة المواجهة إلى حالة الهدنة فهل يبقى الحكم كما هو؛ بحيث لا يجوز الترافع إلى «هؤلاء» بحسب تعبير الإمام(ع)؟ وربما لا يتغير الحكم بأن يُدَّعى: أن الإمام(ع) أراد أن يبقي أتباعه في حالة المواجهة والعصيان المدني إلى أن تسود دولة الحق وتكون لهم دولتهم. ولكن رغم ذلك يبقى الالتفات إلى السياق الاجتماعي للنص مظهراً لدلالات لا تحملها الألفاظ وحدها، فيكون هذا النص إذا أخذ سياقه بعين الاعتبار أحد الأدلة على ضرورة السعي لإقامة دولة الحق ويحمل النهي عن الترافع إلى «هؤلاء» مدلولاً سياسياً أوسع من مجرد النهي عن الترافع إلى من ليس أهلاً للقضاء. وربما يمكن اكتشاف هذا الفهم للنص من كلام الإمام الخميني في كتاب البيع.

جالرسم والنحت بين الحرمة والإباحة: يفتي بعض الفقهاء بحرمة رسم الموجودات ذات الأرواح سواء كانت الصورة مجسمة؛ أي منقوشة لها أبعاد، أم كانت مرسومة على ورق من دون أبعاد مجسَّمة. وفرَّق بعض الفقهاء بين الصور المجسمة فأفتوا بحرمتها، وغير المجسمة فأفتوا بحليتها  ومستند الحكم بالتحريم روايات صادرة عن الأئمة(ع) منها عدد من الروايات الصحيحة، فمن الروايات الصحيحة رواية عن محمد بن مسلم قال: سألته عن تماثيل الشجر والشمس والقمر؟ فقال: «لا بأس ما لم يكن شيئاً من الحيوان». وهذه الرواية هي مستند التفرقة بين ذوات الأرواح وغيرها. وقد استدل بهذه الرواية على الحرمة، في الجملة، عدد من الفقهاء منهم السيد الطباطبائي والمحقق النراقي، وصاحب الجواهر.

هذا ولكن المشكلة في الاستدلال بهذه الرواية أن مورد السؤال غير مبيَّن في كلام السائل. فإذا جمعنا بين هذه الرواية المطلقة من جهةِ عدم تحديد المسؤول عنه وبين روايات أخرى وردت في باب الصلاة يقوى احتمال أن يكون المسؤول عنه هو وضعها أمام المصلي حال صلاته. ومن ذلك ما ورد عن الإمام الكاظم(ع):… وسألته عن الرجل هل يصلح له أن يصلي في بيت فيه أنماط فيها تماثيل قد غطاها؟ قال لا بأس.

وعلى أي حال تقوى استفادة الجواز إذا أخذنا بنظر الاعتبار أمرين:

       إن محل الابتلاء في ذلك العصر عند السائل لم يكن صناعة التماثيل ونحتها أو تصويرها بالتطريز على الوسائد والأنماط؛ حيث لم يكن ذلك الفن رائجاً بين المسلمين ليكثر السؤال عن حكمه وإنما كان السؤال عن الاقتناء وكيفية التصرف فيه ليس إلا.

       يحتمل قوياً رغبة الإمام (ع) بإبعاد المؤمنين عن شبهة احترام هذه التماثيل والتعلق بها وإعطائها شيئاً من القداسة في مجتمع لم يكن قد خلا حتى ذلك العصر من ألوان الوثنية أو رواسبها، على أقل تقدير، ويؤيد هذا تمييز الإمام(ع) بين ما يفرش على الأرض ويوطأ وبين ما يعلق على الجدار.

       زكاة الغلات الأربع والأنعام: تجب الزكاة عند فقهاء الإمامية في أعيان محددة هي الغلات الأربع: القمح والشعير والتمر والزبيب. والأنعام: الإبل والبقر والضأن، والنقدين: الذهب والفضة.

وقد بدأ الفقهاء المعاصرون بطرح سؤال كبير حول وجوب الزكاة في غير هذه الأعيان المشار إليها على ضوء فهم اجتماعي مفاده أن ورود هذه الأعيان في ألسنة الروايات تابع لكون هذه الأعيان هي المتداولة في ذلك العصر، ولا موجب لحصر وجوب الزكاة فيها دون غيرها إذا تغيَّر هذا الواقع أو اختلف، من عصر لآخر، أو من بلد لآخر في عصر واحد. أفلا تجب الزكاة على أهل الصين في مزروعاتهم إذا لاحظنا أن الزراعة الأهم عندهم هي الأرز وليس القمح أو غيره مما ورد في الروايات؟ ومن الملفت أن نجد بين الروايات الواردة عن الأئمة مؤشراً على إمكانية فرض الزكاة على غير هذه الأعيان في بعض الحالات. ومن ذلك رواية عن الإمام الصادق(ع): «… صدقوا الزكاة في كل شيء كيل». وفي رواية أخرى: «… وأما الأرز فما سقت السماء العشر، وما سقي بالدلو منصف العشر». وفي ثالثة أوضح عن الإمام الصادق(ع) يُسأل: هل في الأرز شيء؟ فيقول: «نعم، ثم قال إن المدينة لم تكن يومئذ أرض أرز فيقال فيه… وكيف لا يكون فيه وعامة خراج العراق منه؟». ولكن مشكلة هذه الروايات أنها معارضة بأخرى تدل على الحصر، فيحتاج اختيار أحد الرأيين إلى معالجة التعارض، ولا أريد الدخول في تفاصيل البحث عن هذه النقطة أو غيرها وإنما أريد ذكر نماذج لتطبيق هذا المنهج والإشارة إلى نتائجه فحسب. وقد بدأ بعض الفقهاء بالميل نحو توسعة وجوب الزكاة إلى غير الأعيان المشار إليها، ولكن لم أجد في الرسائل العملية فتوى بذلك حتى الآن.

       موارد حرمة الاحتكار: حرم الإسلام الاحتكار منذ البدايات الأولى للتشريع الإسلامي حيث نجد الإمام علياً(ع) في نص دستوري قانوني إلى حدٍ كبير، يوصي واليه على مصر مالك الأشتر بضبط آليات التوزيع في السوق المصري ويقول له: «فامنع من الاحتكار فإن رسول الله منع منه… فمن قارف حكرة بعد نهيك إياه فنكل به وعاقب في غير إسراف». ولم يحدد (ع) في هذا النص موارد الاحتكار والمواد التي يسري عليها هذا القانون.

ولكننا نجد في نصوص أخرى إشارة إلى مواد بعينها، كما في رواية عن الإمام الصادق(ع) قال: «ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن». وفي رواية أخرى أضاف «الزيت»، وفي رواية ثالثة عن الإمام الباقر(ع): «إن علياً(ع) كان ينهى عن الحكرة في الأمصار فقال: ليس الحكرة إلا في الحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن».

وقد استند الفقهاء إلى هذه الروايات وحرموا الاحتكار في هذه الأعيان. وكنموذج من هذه الفتاوى أورد هذا النص للسيد الخوئي في رسالته العملية حيث يقول: «يحرم الاحتكار وهو حبس السلعة والامتناع عن بيعها لانتظار زيادة قيمتها مع حاجة المسلمين إليها وعدم وجود الباذل لها والظاهر اختصاص الحكم بالحنطة والشعير والتمر والزبيب والسمن والزيت لا غير وإن كان الأحوط استحباباً إلحاق الملح بل كل ما يحتاج إليه عامة المسلمين…»  وتجد النص عينه تقريباً عند السيد محمد الروحاني، والإمام الخميني. وفي مقابل الإفتاء بتحريم الاحتكار في الغلات الأربعة نجد من الفقهاء من عمَّم التحريم ووسع دائرته إلى كل ما يحتاج إليه عامة الناس في حياتهم كالسيد محمد سعيد الحكيم حيث يقول: «يحرم الاحتكار إذا كان موجباً لتلف النفوس المحترمة… أو كان موجباً للهرج والمرج واختلال النظام من دون فرق بين الطعام وغيره كالدواء واللباس بل حتى الأعمال كعلاج الأمراض والنقل…».
ونجد الخلاف عينه في الفقه السني أيضاً: «قال الأصحاب من الشافعية إن المحرم إنما هو احتكار الأقوات خاصة لا غيرها… وذهب الشوكاني إلى أن الأحاديث ظاهرها يحرم الاحتكار من غير فرق بين قوت الآدمي والدواب… والتصريح بالطعام  في بعض الروايات لا يصح لتقييد بقية الروايات المطلقة…».

وهذا مورد من الموارد التي يمكن معالجتها على ضوء سياقها الاجتماعي الذي وردت فيه؟ فلماذا لا يقال: إن هذه النصوص الشرعية لم تكن إلا في مقام الإشارة إلى ما تمس الحاجة إليه لتبيِّن الحد الأدنى مما ينبغي على الحكومة توفيره للناس، ولو بواسطة إجبار التجار على بيعه؟ وهذه الأمور هي التي كانت تتوقف عليها حياة الناس في ذلك الزمان، فكثير مما استجدت الحاجة إليه لم يكن مورد حاجة حتى الثياب والدواء، فلم يكن أحدهم يبدل ثيابه إلا بعد أن تخلق، وأما الدواء فكان سلعة متوفرة في أعشاب الطبيعة ولم يكن قد تحول إلى سلعة تجارية بحيث يمكن احتكارها. وعليه، إذا تبدل الزمان وتغيرت الحاجات تبعاً لتطور الحياة أو تغير أذواق الناس، فينبغي أن تتغيَّر الأعيان التي يحرم احتكارها.

وإذا أردنا أن ندقق في الأمثلة، فما فائدة تحريم الاحتكار في هذا العصر لمادة كالتمر والسمن مثلاً في مجتمع لم يعد أفراده يأكلون التمر إلا في بعض المناسبات، ويجتنبون السمن لأسباب صحية؟ وهل تتغير حياتهم باحتكار هاتين المادتين؟ ومن الطبيعي أن كثيراً من الناس لا يشعرون بندرة هاتين المادتين في السوق ولو غابتا لفترة طويلة. ولكن ما بالك لو جوَّزنا احتكار الدولار مثلاً وهو عملة لا تؤكل ولا تدخل تحت عنوان الطعام، ولكن ربط بها اقتصاد الملايين من الناس وحياتهم؟

ومن الملفت أن السيد الخوئي يعمد إلى رواية تحدد مدة الاحتكار بأربعين يوماً، فيناقش دلالتها بقوله: «أما المناقشة في الدلالة، فلأنه لو كان احتياج إلى الطعام كان احتكاره حراماً حتى في ثلاثة أيام، وإن لم يكن احتياج إليه لم يكن حراماً حتى في ستين يوماً، فلا موضوعية للأربعين». ولا أدري كيف ربط الزمن بالحاجة ولم يربط الأعيان بالحاجة لا في فتواه ولا في بحثه العلمي.

هذه بعض النماذج التي يمكن إعادة النظر في أحكامها وقراءة نصوصها مع ضم سياقاتها الاجتماعية إليها. وبالتتبع والاستقراء يجد الباحث غيرها الكثير وإنما ذُكِرت كنماذج ليس إلا. وفي ما يأتي سوف أحاول البحث عن مبررات هذا المنهج والأدلة عليه.

 

مؤيدات هذا المنهج ومبرراته:

توجد مؤيدات عدة تدعم هذه المنهج منها:

       من التراث الفقهي للمعصومين(ع):

ورد في ما نقل عن الأئمة(ع) ما يدل على ممارستهم لهذا الأسلوب مع النصوص الواردة عن النبي(ص) من حيث ربطها بسياقها الاجتماعي الذي وردت فيه. وسوف أكتفي بذكر بعض النماذج، وهي:

أ‌-     روى الشيخ الصدوق في المقنع قال: قال رسول الله(ص): «وكل ذي ناب من السباع ومخلب من الطير والحمر الإنسية حرام».

وهذه الرواية رغم ضعفها السندي بالإرسال إلا أن في الروايات ما يدل على صحتها ومفادها صدور نهي عن النبي(ص) عن أكل لحم الحمير، وهي بالتالي دالة على التحريم.

ولكن في مقابل هذه الرواية ورد عن الأئمة(ع) ما يصرف دلالة هذه الرواية ويربطها بواقع اجتماعي محدد. ومن هذه الروايات ما ورد عن الإمام الباقر(ع)، قال: «نهى رسول الله(ص) عن أكل لحوم الحمير. وإنما نهى عنها من أجل ظهورها مخافة أن يفنوها، وليست الحمير بحرام».

ب – ورد عن النبي(ص) قوله: «غيروا الشيب ولا تشبهوا باليهود والنصارى»، وفي رواية تكشف وجه المراد من هذا الأمر النبوي يُسأل أمير المؤمنين(ع) عن قول رسول الله(ص) غيروا الشيبفيقول(ع): «إنما قال النبي(ص) ذلك والدين قل، وأما الآن وقد اتسع نطاقه وضرب بجرانه فامرؤ وما اختار».

يكشف هذان الموردان عن كبرى، مفادها وجود بعض الروايات المحكومة بظروف معينة؛ بحيث تتبع الأحكام المثبتة بواسطتها لهذه الظروف فتتعطل بتبدلها والسؤال الذي تريد هذه المقالة طرحه، هو: ما المانع من وجود بعض الروايات التي تندرج تحت هذه الكبر في ما صدر عن الأئمة(ع)؟ وبالتالي ينبغي قراءة الظروف التي صدرت فيها هذه الروايات، ليستخرج الحكم الشرعي على ضوء هذه الظروف. ويقرب من هذا ما يفعله الفقهاء في مورد تعارض الروايات حيث يحملون أحد المتعارضين على التقية. ألا ينبغي قبل أن نحمل رواية على التقية أن نحيط بالجو المذهبي السائد وقت صدورها؟ وباستقراء الموارد التي حملت فيها الروايات على التقية سوف يجد المتتبع أن الفقهاء في نقاشاتهم لاحظوا الجو السائد وعلى أساس منه حكموا بأن رواية ما صدرت تقية أم لا، ولكننا نجد بعض الروايات لا يسمح الجو السائد وقتها بحملها على ذلك.

       أسئلة المكلفين وأجوبة الأئمة: اتبع الأئمة طريقة خاصة في بيان الأحكام الشرعية وهي أنهم في كثير من الأحيان لم يكونوا البادئين بالكلام مع أصحابهم، بل أكثر ما دُوِّن من الروايات الصادرة عنهم كانوا يسألون فيها فيجيبون. وهذه الحقيقة واضحة لمن له اطلاع على الكتب الروائية والمجموعات الحديثية. وما أدعيه هو أن الأسئلة التي كانت تُوجَّه إليهم (ع)ٍكانت تطوي في ثناياها بعض الأجواء، وتعتمد عليها حين طرح السؤال. وعندما تُنقل هذه الروايات ليس من الضروري أن يُنقل الجو العام معها، فقد يتركه الراوي اعتمادا على وضوحه وعدم التفاته إلى احتمال اختفائه بعد أن تحول النص المروي إلى نص مكتوب. ووظيفة الفقيه هي البحث عن هذه الارتكازات الخفية وإثبات وجودها وتأثيرها في فهم النص، أو عدم ذلك إن لم يتبين له وجود أمر خفي ولم ينقل في الرواية.

       حجية الظهور: طرح الفقهاء مجموعة من القوانين والضوابط التي بها تكتمل دلالة الدليل، فقرروا أنه إذا كان الكلام محفوفاً بقرينةٍ لا ينعقد ظهوره إلا بذكرها. ومثَّلوا لذلك بمثال عرفي بسيط وهو: إذا قال أحدهم: رأيت أسداً. يفهم من كلامه أنه رأى حيواناً مفترساً. وإذا قال: أقصد أنني رأيت رجلاً شجاعاً، يُحتج عليه بعدم ذكر قرينة توضح مراده الواقعي. وقد تكون هذه القرينة لفظية كما في المثال المذكور أعلاه، وقد تكون قرينة حالية هي الظروف المحيطة كما في مثال نهي النبي (ص) عن أكل لحم الحمير، فإن الجو السائد وقت صدور النهي هو الذي جعل الإمام يفهم من النهي كونه حكماً تدبيرياً ولائياً، وهذا الجو هو الخوف على وسائل النقل من الفناء في مجتمع المسلمين.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً