أ. ميلود مخلوفي.
تعتبر قضية المهدي من أعقد القضايا في النسق المعرفي الإسلامي باعتبارها قضية مذهبية يدور حولها ما يدور حول التجاذب المذهبي، وباعتبار ما تحتله في الوعي الجماعي للأمة بكل طوائفها. فلا توجد قضية ربطت الراهن بالمستقبل مثلها. فهو تارة خشبة إنقاذ وتارة سلاح يضرب به العدو، وفي مطلق الأحوال فهو معضلة معرفية مزجت الخرافة بالعقل والحاضر بالماضي إلى المستقبل.
وكسائر القضايا التي لها ماهية ووجود، فإن قضية المهدي لم تفهم في النسق المعرفي الإسلامي على حقيقتها لأن القيمين على هذا النسق لا يفرقون ـ بصفة عامة ـ بين الماهية والوجود. فالوجود لديهم هو عين الماهية مما يخلق حالة من المطلق يجعل حل أي معضلة يمتاز بالمواقف المتشنجة وعدم المرونة المعرفية التي هي شرط ضروري للحوار وحل الإشكاليات النظرية للأمة.
من البديهي أن اتحاد الشيء بماهيته لا يجسده إلا الله، فماهية الله هي عين وجوده ووجوده عين ماهيته، وفيما عداه فإن الوجود قد يقترب من الماهية ولكنه لا يتطابق معها. ومن البديهي أيضا أن ماهية الشيء أهم من وجوده ، فإذا ضمنت الماهية فإن الوجود نسبي يخضع للتجاذب ، ومهما تكن هاته فإنها لا تغير في النسق المعرفي شيئا . هذه المقدمة ضرورية كمدخل لفهم ومن ثم حل معضلة المهدي في النسق المعرفي عموما و الإسلامي منه بالخصوص .
حسب رأيي فإن الدراسة حول المهدي كموضوع حيوي في الموروث الديني والوجودي والمعرفي لا تكون إلا من خلال ثلاثة أبعاد: البعد التجريدي، البعد العلمي، البعد الوجداني.
يتناول البعد التجريدي الماهية المهدوية وهو ذو خلفية فلسفية فكرية تحاول تحليل القضية في بعدها ما فوق واقعي باعتبار أن فكرة الخلاص نابعة من قلق وجودي لدى الإنسان ، فالخلاص والمخلص ـ كماهية ـ كانا وما يزالا يحتلان مكانة هامة في النسق التجريدي من عقل الإنسان لا يرتاح إلا بحلها . ومن أسف فإن النسق المعرفي الإسلامي بقي في مستوى البداية في هذه القضية ولم يعطها جميع أبعادها الشاملة . بل كان دائما ـ كعادته في جميع القضايا ـ يبدأ من الوجود المهدي كحقيقة دينية فإن ارتفع بعض الشيء أخضع العقل لتلك الحقيقة مما أدى إلى تجاذبان وإشكالات معرفية ، مع أنه من المفترض أن نبدأ بالبحث في الماهية وننتهي بالوجود ، لأنه بدون حفر معمق في ماهية المهدي فإن البحث حول الوجود يكون غير ذي معنى ، فهو إما حقيقة دينية أو مذهبية أو خرافة شعبية . ما أسهل أن نتحدث عن الوجود المهدوي إذا اتفقنا على ماهيته ، فحتى إذا اختلفت معك في حقيقة هذا الوجود ) إمام معصوم ، شخص متميز ، حاكم عادل … (فإن الماهية المرتبطة بالعدل ورخاء البشرية ستكون الخيط الذي يقودنا لإشباع القلق الوجودي للإنسان المسلم وتبقي الأمل لتجديد النهضة وتجنب اليأس. أما إذا انعدمت الماهية فإن الوجود يصبح في مهب الريح فاتحا المجال للخرافة والاحتيال ومن ثم يصبح الوجود المهدوي عاملا إضافيا من عوامل اليأس. لاشك أن دراسات فكرية فلسفية حول الماهية المهدوية أصبحت أكثر من ضرورية ، وإن هذا المجال لم يحقق الإشباع الضروري.
أما البعد العلمي فيتجسد في المقابلة العامة بين الروايات وتمحيصها ومدى صحتها والدراسات التاريخية. وهذا البعد وإن أشبع بحثا من الأولين إلا أنه لا بأس من إضافات خصوصا في مجال التقريب بين المذاهب.
والبعد الثالث هو البعد الوجداني ويتمثل في الإنتاج النابع من العاطفة الصادقة التي توحي بها الماهية المهدوية أو الوجود المهدوي المنتظر في المسرح والموسيقى والشعر والرسم والسينما وكل الفنون الأخرى . من أسف ، فإن تبلد الوجدان بصفة عامة وحول المهدي بصفة خاصة ، جعل هذا الجانب من أفقر الجوانب في قضية المهدي مع أنه من أهمها ، فإذا كان للخيال أن يسرح ففي مثل هذا لأنه خيال بناء وجداني يساهم في الفهم العام للمهدي وتهيئة الوجدان لاستقباله ، أما الخرافات أو تكديس النصوص وتفسيرها وفق الآنية الظرفية فهو دغدغة للعواطف يحول المهدي وقضيته إلى مخدة للكسالى وإزاء ذلك فنحن أمام حالات ثلاث :
حالة يغتني منها البعض في منتج حول المهدي يراد به الربح السريع مستغلين الفراغ المذهل الذي يعيشه المسلمون وحاجتهم إلى استئناس نفسي ، وتصبح الحالة مشابهة لكتب الحظ والطالع التي تلقى إقبالا ورواجا . وإذا كان ضر هاته محدودا نسبيا ، فإن تحويل المهدي إلى بعد تخريفي تخديري له مخاطر عظيمة .
وفي الثانية فإنه أمام تكرار التفسير الآني ) أي ربط المهدي بالآن الذي نعيشه وتكييف خروجه على أساس ذلك ( فإن الجماهير ستلجأ إلى التكذيب وتهز مصداقيتها في الوجود المهدوي ومن ثم اللجوء إلى نسق معرفي خارج الدائرة الإسلامية لإيجاد حل للقلق الوجودي إزاء المخلص .
والحالة الثالثة تتمثل في نشوء تراكمات من التخريف تصبح غير كافية لأن العاطفة تعودت عليها فتطالب بالمزيد فيلجأ الكتاب إلى مضاعفة التخريف والتفسير المرتبط بالآن تخدر الجماهير لمدة وسرعان ما تطالب بالمزيد وهكذا إلى أن تصير القضية المهدوية أسطورة مقدسة . ومن طبيعة الشعوب أنها لا تريد للأساطير أن تتجسد لأن ذلك يفسد قداستها فتتمنى في لاوعيها الجماعي عدم التحقق الوجودي للمهدي حتى لا يفسد عليها لذة الأسطورة التي تضخمت بشكل يجعله فوق الدائرة البشرية شبيها بآلهة اليونان لا يمكنه النـزول إلى مستوى البشر العاديين .
ومهما تكن نظرتنا الماهية للمهدي فهو يملك وجودا حقيقيا إما واقعا )مهدي الشيعة الغائب ( أو مؤكد الوقوع )مهدي السنة (. فكما أن الوجود المبتور عن ماهيته هو كلا وجود فإن الماهية بدون وجود هي لا ماهية بل أسطورة خيالية .
لا شك أن تعرفنا على الماهية شرط لازم وأساسي لفهم الوجود المهدوي ، فهو الذاكرة المسبقة التي على ضوئها يتحدد ذلك الوجود صدقا أو كذبا . وكمثال على ذلك فأنت حين تبني بيتا )واقع وجودي (ترتكز على ماهيته التي هي مخطط البناء ، وكلما اقترب البناء إلى المخطط كان عنوانا على الصدق . إن الماهية هي خارطة الطريق الموضوعية التي تمنع أي ادعاء أو تزييف أن يحرف الأمة . وبداهة فإن هذه الخارطة لا تأخذ من النصوص وأقل من ذلك من الخرافات ، بل من التجريد العقلي البحت والمعطيات المجمع عليها في النسق المعرفي الإسلامي . فالمهدوية كواقع وجودي يمكن التحايل عليه : ما أسهل الحصول على إنسان أجلى الجبهة أقنى الأنف في خده شامة يظهر عدلا لا يدري أحد ماهيته نظرا للقداسة التي ستضفى عليه وتمنع أي محاولة عقلية لمعرفة حقيقته . إن مهديا كهذا هو أقرب إلى مشايخ الصوفية الذين يملكون مقدرات مريديهم ملكية تامة ، فكل ما يفعله الشيخ هو الحقيقة ، فإذا شرب خمرا تحول عسلا .
إن عدم وجود خارطة طريق مسبقة سيسقطنا لا محالة في هذا الفخ ، أما بامتلاكها فإن الوجود المهدوي يتحدد بنسبة ما يقترب من تلك الماهية : إن أقصى اقتراب يعني المهدي الحقيقي ، وكلما اقترب أكثر كان وجودا مهدويا بالمعنى اللغوي لا بالمعنى الاصطلاحي الحقيقي . في هذه المقاربة سأحاول تحديد عناصر أولية قابلة للإثراء .
العنصر البارز الذي يحظى بالإجماع هو العدل ، إذ لولاه لما كان الخلاص ولا المهدي ، وهو كماهية يحتاج الأدوات الوجودية لتحقيقه . إن النسق المعرفي الإسلامي يجمع على أن الشريعة هي هي الأداة الوحيدة لتحقيق ذلك الهدف . ولكن ما الفرق بين التطبيقات الحالية والتطبيق المهدوي ؟ إن التطبيقات التي نشهدها لم تقترب إلا جزئيا من تحقيق العدل وهي في أحسن حالاتها تجاري ـ إن لم تتدنى ـ عن مستوى تطبيقات القانون الوضعي . وعليه فإن الشريعة اليوم يجب أن تتحول إلى نسبية تخضع للتحكيم الشعبي لأن الادعاء بمطلقتها في تحقيق السعادة سيعرض النسق المعرفي الإسلامي إلى الانهيار لأنه إذا لم ينجح هذا المطلق في تحقيق العدل فلا شك أن النسق الذي أنتجه خاطئ ولكن جعله موضع نسبية سيحمل النتائج للبشر وفق رؤاهم . ومن ثم فإن المهدي باعتباره الأقرب إلى ماهية العدالة هو الوحيد الذي من شأنه الادعاء بمطلقة الشريعة لأن تطبيقها حينئذ لن يسب أي اعتراضات وسيؤدي إلى نتائج أفضل بكثير مما تحققه القوانين الوضعية بشكل موضوعي ودون ديماغوجية ، ذلك لأن الوجود المهدوي يملك حقيقة الخلاص إما بالعصمة كما ورد عند الشيعة بما يخرجه من علم مكنوز "… يخرج الشريعة والجفر …" أو بالخصائص الاستثنائية كما عند غير الشيعة .
وفي مسألة العدل يجمع النسق المعرفي الإسلامي أن المهدي يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملئت ظلما وجورا . فالعدل هنا يدخل في علاقة طردية مع الظلم ، وعليه فالوجود المهدوي مرتبط بوصول الظلم حده الأقصى ، ومنه فإن جدلية الظلم والعدل تفرض تناظرية متماثلة ، فالظلم النسبي يفرض عدلا نسبيا والظلم المطلق يتطلب عدلا بشريا مطلقا) وإن كان هو كذلك نسبي في المفهوم الوجودي العام ( لا يقدر على تحقيقه إلا الوجود المهدوي الحقيقي . ولكن الإشكالية تطرح في معرفة درجة الظلم ، فما هو المقياس الذي نزنه به ؟ إن المقياس المعتمد الآن هو المقياس الكمي أي ازدياد عدد المظالم . لاشك أن هذا المقياس ، فوق أنه غير دقيق إذ لا حدود للعدد فيستطيع أي أحد أن يدعي أن الظلم لم يبلغ مداه وبقدرته ادعاء العكس ، فهو لا يستجيب للنسق المعرفي الإسلامي الذي يركز في قضية الظلم على الكيف لا على الكم ﴿ من قتل نفسا بغير نفس أو فساد في الأرض فكأنما قتل الناس جميعا ﴾ وفي النسق الشيعي تصبح المسألة أكثر خطورة ، إذ هل ننتظر ظلما أعظم من قتل الحسين . إن فاجعة كربلاء تشكل في ميزان المظلومية التاريخية ثقلا لا أعتقد أن كل المظلومية الحادثة بعده مهما كان بعدها الكمي والعددي تستطيع تحريكه ناهيك عن مساواته فهل تنتظر البشرية ظلما أشد ليظهر المهدي ؟ !
إن المقصود بملء الأرض ظلما هو السرعة الإعلامية التي ينتشر بها الظلم في العالم أجمع ، ففي زمن الحسين استدعى الأمر أياما لتسمع النواحي القريبة وهناك من لم يسمع بها أصلا فكانت كأنها لم تقع . أما في ظل الانتشار الواسع للاتصالات والإعلام والمعلوماتية فإن الظلم حال وقوعه يسمع به العالم من أقصاه إلى أقصاه فكأن ذلك الظلم ملأ الأرض أو ملئت به الأرض ، ومهما يكن رد الفعل فإن أخذ علم به يحمل مسؤولية تجاهه إما بالإدانة أو الموافقة .
ومن باب تصحيح المفاهيم فإن العدل المهدوي ليس جديدا بل هو نفس العدل الذي أراده الإمام علي ، ولكن عائقين منعاه هما : الوقت الذي كان كعب أخيل لشخصية ملكت جميع عناصر العظمة بيد أنها لم تملك الوقت الضروري الذي منعه الأعداء لعلمهم أنها فرصتهم الوحيدة لإفشال المشروع العلوي الذي لو نجح لما كانت البشرية تتحدث عن المهدي أصلا . والعائق الثاني كان الاتصال ، فدائرة عمل الإمام كانت دائرة ضيقة ، فحتى مع وجود الوقت فإنه لم يكن كافيا ليعم العالم . أما في عصر الاتصالات المذهل فإن المهدي سيسهل عليه ملئ الأرض قسطا وعدلا .
وخلاصة القول أن الوجود المهدوي يبسط العدل من حيث التأويل الحقيقي للشريعة وهو هنا يشترك مع آبائه من الأئمة المعصومين بالمفهوم الشيعي أو مع الخلفاء الراشدين بالمفهوم غير الشيعي ، وما على المهدي إلا إحياء المفاهيم العامة للنسق المعرفي الإسلامي الذي أفسده المشروع المضاد . أما الذي يملكه المهدي ابتداء وانتهاء فهو نشر مفاهيم العدل في العالم بفضل الاتصالات وتضايق العالم كأنه قرية .
إن الحديث عن الرؤية الشيعية والرؤية غير الشيعية يقودنا إلى القول أن المهدي انبعاث المشروع الراشد الذي كان الإمام علي آخر حلقاته . وعندما نتحدث عن المشروع الراشد فإننا نفعل ذلك كحقيقة معرفية نظرية انتهت بالقبول العام من المسلمين بما فيهم مدرسة النص )شيعة علي ( ولم يكن الاختلاف إلا حول الأشخاص هل هم مؤهلون لهذا المشروع أم لا . لقد نشأ بعد وفاة الرسول )ص (تكيفان للنص المؤسس الذي هو الكتاب والسنة تكيف يرى أن الخلافة محدودة بالتعيين على مجموعة من الأئمة يمتازون بالعصمة التي هي ـ في نظرهم ـ شرط ضروري وكاف لحفظ النسق المعرفي الإسلامي وتطبيقه . وتكيف آخر اتخذ من الشورى مبدأ لتعيين الخليفة . انتصر التكيف الثاني كونه كان أكثر واقعية فألحق القول بالفعل بينما راوح التكييف الأول في مجال الإقناع خائفا أن يحدث شرخا في مجتمع كانت لا تزال تحكمه المعايير البدوية التي تخاف من التوريث مع أن تكييف النص كان بعيدا عن هذا المبدأ وأخذ ظاهرا عفويا منه ، كما أن تلك المعايير تسعى إلى التوافقية والحرية .
انتهى الأمر بقبول تكييف الشورى قبولا إن لم يكن معرفيا فقد كان عمليا ، أما الممانعات فكانت حول الأشخاص وطرق تسييرهم ، بل وصل الأمر مع تعيين الإمام علي إلى أول اتحاد عملي بين تكيف النص وتكيف الشورى . فعلي هو أول الأئمة المعصومين وفق مدرسة النص وعين بطريقة شورية مثالية لم يعين بها أي خليفة قبله .
كان من الممكن أن تكون هذه البداية لتوافقية عملية تؤشر لبداية صحيحة ، غير أن المتأبطين شرا ارتعبوا منها ، وبدأ المشروع المضاد يخطط في خبث لمنع انطلاقته ولم تكن لهم إلا وسيلة وحيدة وهي إزعاج القيادة حتى لا تمتلك الوقت لأنه كان العامل الوحيد الناقص لشخصية بلغت الكمال البشري إن بالمفهوم النصي أو بالمفهوم العادي . ساعد المشروع المضاد في نجاحه أن التحالف حول الإمام لم يكن تحالفا واعيا بل كان محبا وحسب أزعج القيادة أكثر مما ساعدها . وإزاء هذا المأزق أي عدم امتلاك الوقت واللاوعي الجماعي كان الإمام علي أمام خيارين : قمع الحريات والتحول إلى مستبد أي إلى سياسي عادي وهذا كان يربحه السلطة وكلام معسول حول دهائه وحسن كياسته وسياسته لكن يخسره الإمامة ، فلا أحد سيسمع عن علي الإمام بل عن علي الحاكم . وإما أن يقوم ببداية تأصيل سياسي يعتمد الوعي ويكون ضامنا للحريات العامة مع تطعيمها بالمسؤولية وبالتالي حل إشكالية بشرية دائمة هي معضلة المزاوجة بين الحرية والنظام .
وفي إطار تلك التوافقية تنازل الحسن بن علي عن الخلافة لمعاوية وسمي ذلك العام عام الجماعة . لقد كان تنازل الحسن ، فوق أنه فرض عليه من واقع ضاغط بلغ درجة متقدمة من التفسخ واللاوعي بالقضية ، فقد كان حجة على المشروع المضاد للبرهنة بأن تكيف النص لم تكن له اعتراضات عملية على تكيف الشورى . لقد جذب تنازل الحسن المشروع المضاد إلى فخ أظهر حقيقته من كونه يضاد المشروع الراشد أصلا وليس تكيف النص الذي يقوده أهل البيت ، لقد عرى الموقف الحسني أولئك الذين زعموا أنهم يدافعون عن الخلفاء الراشدين وأنهم ما عارضوا آل البيت إلا من أجل ذلك . ولكن سرعان ما انكشف المستور حين خولف تكيف الشورى إلى تكيف جديد هو الملكية الوراثية .
قام تكيف النص بقيادة الحسين للدفاع عن مشروع التوافقية مما يؤكد أصالته المعرفية والسياسية ولا نشك لحظة في أن الحسين لم يقم بثورته إلا من أجل المشروع الراشد كائنا من كان الحاكم ، وما طالب ساعة بتنصيبه خليفة باسم النص . إن هذا الجانب ضروري للفهم ، وهو ما أكده الأمناء على مدرسة النص من أبناء الحسين حين كانوا يعتبرون أن المهدي المنتظر هو الإمام الذي يتولى الحكم من آل البيت ولذا سمي من جملة ما سمي بالقائم لأنه يقوم بالإمامة الظاهرة . قد يقول قائل إن ذلك كان إخبارا بالغيب ، ولكن لاشيء يمنع من تفسير ذلك بتنازلات عملية ـ لا معرفية ـ لتسهيل التوحد حول المشروع الراشد وليس كما يعتقد البعض قبولا بالأمر الواقع .
ومن العجب فعلا أن مدرسة النص صارت عمليا تدافع عن خيار المشروع الراشد أكثر مما يدافع عنه متزعموه الذين من أسف لم يفهموا قصد أئمة أهل البيت ، ربما لاعتقادهم أن ذلك صادر عن تكتيك أو أنهم أرادوا أن يكون التنازل معرفيا لا عمليا وهو ما لم تكن تستطعه مدرسة النص فأي تنازل معرفي يعني انهيار تلك المدرسة لأن نسقها المعرفي بعكس النسق السني يعتمد كلية على عصمة الإمام ـ حكم أم لم يحكم ـ فإن غير البناء المعرفي تحول من تكيف النص إلى تكيف آخر .
لعبت المهدوية دورين أساسين : الأول إزالة العائق النفسي أمام الوحدة خلف المشروع الراشد باعتبار أن المهدي كان الوحيد المؤهل بعنوان النص لحكم الأمة ، وبالتالي ترك المجال واسعا أمام الأمة لتختار بالشورى من تراه مناسبا لحكمها وأن تعزله بنفس العنوان . والثاني أن المهدي سيكون ـ بعد الإمام علي ـ الشخصية التي سيتوحد من خلالها تكيف النص مع تكيف الشورى فهو الإمام الثاني عشر لأئمة آل البيت وفي نفس الوقت يبايع بيعة عامة . وإذا كان الإمام علي لظروف موضوعية وليست شخصية فشل في تثمين تلك البداية للوصول بها إلى بر الأمان من الوحدة التامة فإن المهدي ليس فحسب يستطيعه بل إن وجوده وتعينه مرتبط بتلك الاستطاعة ، إنه حجة على الغير حجة موضوعية لا تنطلق من فرض نسق خاص بها قد يعارضه فيه الخصوم ويفقد صفة العدل بل إنه التجسيد العملي والحجة الدامغة للمطالبين بالحكم الراشد أما إمامته بالنص فهو يملكها أصلا ولهذا كان من أسمائه الحجة ، وهل هناك حجة أعظم من قبول نسقك المعرفي ؟!فإن اعترض هذا النسق على الشخص فما عليه إلا إيجاد بديل تكون له نفس المواصفات . إن المهدي هو علي بن أبي طالب الثاني مع فارق أنه يملك عامل الوقت للتجسيد النهائي للمشروع الراشد ، فليس عجيبا أن من أسمائه صاحب الزمان ولعل للزمان هنا دلالة عمودية أي ليس فقط الرجل المناسب للزمن المناسب بل الرجل الذي يسيطر على الزمان باعتباره الوقت الضروري لتجسيد النسق المعرفي الإسلامي في حكم راشد يحقق أقصى درجات العدل .
لا يحمل المشروع الراشد دلالات شكلية وحسب تتمثل في تعيين الحاكم بحرية الشورى كعامل توافقي بل يحمل مضمونا يتمثل في الوحدة العضوية للنسق المعرفي الإسلامي الذي تمتزج عناصره ) الروحي ، الفقهي ، العقائدي ، السلوكي … ( امتزاج الماء بالماء . حملت نهاية المشروع الراشد في الشكل ) وصول تكييف التوريث( ضربة للوحدة العضوية ، بل كادت تقضي على التوحيد المحمدي لولا ثورة الحسين التي في لحظة لاوعي إيجابي فجرت التاريخ لتغير مساره ، ولقد سمحت اللحظة الحسينية بالحفاظ على المكسب المحمدي وإن لم تستطع الحفاظ على الوحدة العضوية التي أصبحت وحدة فسيفسيائية كل جزء على حدة ، وصير ذلك الماء جليدا أخذ كل بجزئه وصار أحسن ما يمكن ضم الأجزاء إلى بعضها لتشكل وحدة غير عضوية ، وفي أسوأ الأحوال يدعي مالك جزء أنه يملك لوحده الحقيقة الدينية .
لاشك أن من المهام التي تنتظر الوجود المهدوي هو إعادة الوحدة العضوية لتصير الحقيقة الدينية كلا لا يتجزأ ليس على الصعيد النظري فحسب بل عمليا أيضا .
وإذا كان الحسين قد هيأ الأرضية فإن زين العابدين بدأ التأصيل الروحي الذي سعى من خلاله إلى إعادة فتل الحبال التي تصل السماء بالأرض لقناعة منه أن من مشاكل الأمة الخطيرة التي قادتها إلى مأساة كربلاء هو ضعف الاعتقاد بالله . لقد جسد زين العابدين عودة الروح التي هي شرط ضروري لكنه غير كاف لعودة الوعي . ولم يكن هذا التأصيل الروحي زهدا شكليا بل ثقافة جسدتها الصحيفة السجادية التي تحمل داخلها توترا عاليا يكفي لاستنهاض الروح الهائمة في ضلال المادة التي صارت سعي كل أحد واستغلها المشروع المضاد في شراء الضمائر والذمم . أفهم زين العابدين الأمة أن للمادة مفهومين : فهي من حيث الماهية حق يجب أن تسعى إليه وتطالب ، أما كوجود فينبغي الزهد فيها وعدم اللهاث وراءها . أراد زين العابدين إفهام الناس أن ما ينالونه من الحكام ليس هبة كما صرح به معاوية " أنا المفتاح إن شاء الله فتحني وإن شاء أغلق " بل حق شرعي إذا حصلت عليه فلا يجب أن يشغلك عن الوصول إلى الله وتتصرف فيه بمقاييس شرعية وعرفانية تستجيب للنسق المعرفي الإسلامي . ومن هنا إصرار آل البيت على حقوقهم المادية في فدك وغير فدك مع أنهم كانوا يوصون الناس بالزهد وترك الدنيا ، إن هذا الترك في مفاهيم النسق الإسلامي الذي تعتبر مدرسة آل البيت جزء منه هو ترك وجودي أما ماهية الحق فهي ثابتة لا تتبدل تبع التأصيل الروحي تأصيل علمي بدأه الباقر وبلغ به جعفر الصادق القمة بجامعته الشهيرة . شكل هذا التأصيل لبنة أساسية في بناء الوعي الجماعي للأمة كشرط جوهري لانبعاث المشروع الراشد وتحديد معالم الوعي وبناءه على أسس راسخة تنأى به عن تموج العاطفة .
كان لابد بعد التأصيل العلمي من تأصيل سياسي بدأه موسى الكاظم بسلبية واعية تمثلت في الحفاظ على المكاسب وتجنب المواجهة مع المشروع المضاد . دفعت هذه السلبية الواعية النظام إلى مأزق تاريخي : إما زيادة حدة العنف إلى درجة لا تطاق تحطم النظام من الداخل وتفقده التوازنات العامة في الخارج )المجتمع ( ، وإما ركوب الموجة وتحريف المشروع الراشد من الداخل . انتصر المفهوم الثاني نظرا للذكاء الذي تمتع به المأمون ، ففرض في عنف هادئ ولاية العهد على علي الرضا . كان ذلك فخا أشد من فخ صفين ، واستطاعت مدرسة آل البيت بفضل الحضور الحسيني الذي وحد الجبهة ، التعامل الذكي مع كل محاولات التحريف .
نجح التأصيل السياسي في حشر الأعداء إلى زاوية فكرية ضيقة وفتح المجال واسعا لتوافقية تكون الحد الأدنى ، وهيئ الأمر للمهدي ليكون مسك الختام لمختلف التأصيلات التي بتجمعها من قبله تعود الوحدة العضوية للنسق المعرفي الإسلامي .
وكما أن المهدي هو الحل النهائي للوحدة العضوية ووحدة تكيف النص والشورى ، فإنه يعتبر كذلك الحل النهائي لمعضلة التوازن بين الحرية والنظام والتي بذل في سبيل حلها الكثير من الجهد المعرفي) النظرية السياسية (والعملي ) الحكم السياسي ( . ورغم التقدم الذي أحرزته البشرية في شق الحرية إلا أنها لم تصل إلى نقطة التوازن الدقيقة بين الحرية والنظام والتي بالوصول إليها تتحقق السعادة البشرية .
وإذا كانت الديكتاتوريات والأنظمة الاستبدادية ترجح كفة النظام على حساب الحرية التي تختفي تماما ، فإن الديمقراطية الحديثة تعتبر الحرية شرطا محوريا غير قابل للنقاش لقيام الأنظمة . ولكن في ظل احترام هذا المبدأ فإن التطبيقات العملية للقوانين ترجح جانبا على جانب آخر ، فأنت ترى أن اليسار يغلب جانب النظام وتحكم الدولة في المسائل الاقتصادية وينح بصفة عامة إلى الحرية أكثر في المسائل الاجتماعية والثقافية ، بعكس اليمين الذي يحبذ الحرية الاقتصادية بينما يفرض قيودا على القضايا الاجتماعية والثقافية . أما الشعوب فهي تتأرجح بين الاثنين ، فإذا ملت من عيوب الحرية وخروجها عن المسؤولية أوصلت محبذي النظام وحين لا تستسيغه بفعل الضغوط تعود إلى مروجي الحرية وهكذا في تأرجح متتال يعكس طبيعة النسبية الديمقراطية . لكن من واجبات الوجود المهدوي ـ باعتباره يمثل المطلق ـ إيجاد التوازن الدقيق بينهما وإلا لما كان لوجوده معنى باعتبار أن الديمقراطية كافية للتحكيم النسبي بينهما . فالوجود المهدوي هو حالة فوق الديمقراطية وليس مضادا لها ، إنه حالة من التطور البشري تتجاوز النسبية الديمقراطية التي لعبت دورا مهما في حرية الشعوب . وعليه فما عدا المهدي لا يستطيع أي كان إلغاءها لأنها على ضعفها تشكل ضمانة للحرية . وبداهة أن حمل المطلق لتجسيده في الواقع يفترض شخصية معصومة أو قريبة من العصمة ، لأن ما بعد الديمقراطية ـ الذي هو قدر البشرية ـ مرتبط بالشخص لا بالمبدأ . والفرق بين الاستبداد والمهدوية هو أن الأولى سلب للحرية بغير ضمانة فهو قفزة في المجهول ، أما المهدوية فهي قبول حر وواع بمشروع يحقق السعادة النهائية الممكنة في الأرض بضمانة العصمة أو ما يشبهها ، وبالتالي فهي ليست استبدادا متنورا كما طالب به البعض والذي يحمل في دلالاته اللفظية نفسها تناقضا معرفيا فالاستبداد أصلا ضد التنور .
لا أشك أن الإمام علي كان يسعى للوصول إلى هذا التوازن حين تسلم مقاليد السلطة وكان أمام خيارين إما البدء بالنظام والانتهاء بالحرية أو العكس . إن الخيار الأول كان سيربحه السلطة والهدوء ولكن بكثير من التضحيات ، إذ أن فرض النظام في نسق بعيد عن الحرية يؤدي إلى تجاوزات تتراكم مع الوقت وحين تحين ساعة خيار الحرية تكون الأمة قد فقدت الثقة فيمن كانت تعقد عليه آمالا عريضة فلا تفيد تلك الحرية في شيء . لم يصغ الإمام علي ـ وذاك جانب من عظمة تفوق الوصف ـ إلى الأصوات الداعية إلى فرض النظام والتضحية بالحريات الأساسية ولو كلفه ذلك ذهاب تلك السلطة التي هي عند الإمام بغير الحق والحرية لا تساوي عفطة عنـز كان خيارا صعبا للغاية زاده صعوبة مشروع مضاد لا يلين في استعمال كل الأساليب ومحيط لم يع شروط الحرية بفوضويته ، و بحسن نية كان يستفز الإمام استفزازا ليتخلى عن شرط الحرية . لكن عليا لم يفعل وهو لذلك بقي إماما خالدا جعل من الحرية البداية الضرورية لنهضة الأمة وحاول بمنهجية تربوية تعليم الأمة روح المسؤولية والنظام للوصول إلى نقطة التوازن الضرورية للسعادة . لكن الوقت كان العدو الأكبر فلم يمهل هذه العبقرية الاستثنائية للوصول إلى مبتغاها ، وضاعت فرصة لاختصار الطريق وبقي صداها مترددا في قمم التاريخ ولا رجع له إلا بالوجود المهدوي .
وبعد أن أبرزنا بعض الإضاءات في الماهية المهدوية ، لا بأس من بعض التنبيهات التي نراها ضرورية لتجنب مطبات في طريق وجودها .
من أخطر العوائق المعرفية تحول المهدي إلى عصا يلوح بها لتهديد الخصوم المذهبيين أو الدينيين أي أن كل أمة أو مذهب تهدد بمخلصها الأمة الأخرى . فمهدي الشيعة تحول عند البعض إلى أداة انتقام وثأر لمقتل الحسين وكأن على الجيل الحالي دفع أخطاء جيل سابق إن سلمنا بهذه الأخطاء . كما أن مهدي سائر طوائف النسق الإسلامي تراه بمنظورها وبالا على الرافضة يحسم أمرهم وينشأ بزعمهم خلافة السنة الخالية من أي وجود غير الوجود السني الحقيقي . وهذا الأمر ليس بدعا : ألم يكن اليهود يستفتحون على العرب خصوصا سكان المدينة بظهور نبي منهم ينتقمون به من القهر الذي حل بهم ﴿ وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به ﴾ إن المهدوية كالنبوة سر من أسرار الله المكنونة ، وحين يظهره الله سيفاجئ الجميع و سيكفر به الكثير ممن كان ينتظره كما كفر المنتظرون نبوة محمد ) ص ( وصاروا من أشد أعداءها لأن الوجود المحمدي خالف نظرتهم . لاأشك أن كثيرين ممن ينتظرون المهدي على أحر من الجمر ليسوي مشكلاتهم مع الآخرين أو يسوي مشاكلهم التي نشأت عن عجزهم وكسلهم في مواجهة التحديات سيكونون من ألد أعداءه ، ولذا ورد أنه سيقتل الكثير من العرب ومن أبناء فاطمة بالتحديد حتى يقول الناس إنه ليس المهدي ، لأنه في ذاكرتهم المعرفية تصوروه بشكل فاجأهم به الواقع .
وللخروج من هذا المأزق وجب ترشيد الأمة ـ خصوصا الطفولة التي هي المستقبل ـ وبكل الأدوات العلمية والفنية أن المهدي ليس عدوا لأحد ، بل هو عدو للظلم والقهر واللاعدل ، وأنه مرحلة من مراحل التطور السياسي والحضاري وليس قطيعة مع الذاكرة البشرية . إنه استمرارية لنهج الأنبياء والفلاسفة والمصلحين ، وارث لهم مكمل لآمالهم . إنه كجده علي بن أبي طالب لا يحقد على البشرية بل يحبها حبا يملأ جوانحه بل أكاد أزعم أنه ما يخرجه إلى الوجود إلا ذلك الحب . فعلى الأمة أن تبادل مخلصها نفس الحب ، وتتمنى خروجه ولو لم تكن لديها أية مشكلة لأن ربط الوجود المهدوي بمشاكلنا التي فقدنا الأمل في حلها يعتبر أنانية . إن الوجود مطلوب لذاته قضاء على الظلم أو تطورا للبشرية . وبغير هذا المنهج تتحول المهدوية من السمو في جميع تجلياته الروحية والعقلية والعملية إلى مجرد تجربة تضاف إلى التجارب .
علينا إنشاد المهدي لحنا خالدا في شعرنا ونرسمه لوحة معبرة في ورشتنا ونعزفه نغما في موسيقانا ، علينا أن نملأ به الوجدان والعقل ونناجيه بقلوب تخفق بالحب للبشرية لا لذواتنا الأنانية قائلين في عمق نفوسنا : لتكن أيها المهدي رحمة للآخرين قبل أن تكون رحمة لي وإن كنت الذي تتصوره كتبي ومذهبي .
أسرع أيها المحبوب إلى العطشى لظمأ الحقيقة وإن عاشوا متلذذين بمباهج الدنيا . عجل فإن روح الوجود تطلبك قلقة على الوجود الذي فقد معناه . أقبل فإن المنكسرة أرواحهم مشتاقون إليك قبل المنكسرة أبدانهم بالفقر والعذاب . ليتجلى نورك يا شمس الله الغائبة فتستمد منك أقمار القلوب طاقة وضياء . ابسط يدك ليبايعك الكون فقد افتقد اليد التي يبايعها . أظهر وجهك لترتفع وجوه وتنكس وجوه .
يا صاحب الزمان أنت سر الله المكنون فاسأل الله أن يكشف سرك بسر عظمتك .