مضى العاشر من محرم، ومضت معه كل المشاحنات التي واكبته حول موضوع الشعائر. لكن لم تمض الآثار النفسية التي ترتبت على تلك المشاحنات، حيث زادت الهوة بين كثير من الأطراف، وزاد تمسك كل طرف بما يراه، وزاد تطرف أغلب الأطراف برأيها، بل زاد انكفاء بعض الأطراف على ذاتها، وبدى لها أن العدو الحقيقي الذي يجب أن نعد له العدة هو الطرف المقابل لي في الرأي.
والمشكلة أن كل الأطراف تعتبر نفسها تدافع عن حمى الدين والمذهب، بل تدافع عن حمى الله.
وسؤال يطرح ذاته بقوة:
- ما هي الثمرة الحقيقية المفيدة من تلك التجاذبات والمشاحنات؟
- هل قرّبت وجهات النظر وألّفت بين القلوب؟
- هل أحدثت انزياحات في القناعات؟
- هل قلّلت من التطرف والتشبث بظواهر خاطئة بعنوان الشعيرة؟
*أين تكمن المشكلة ؟
المشكلة الحقيقية ليست في النقد، فهو حق مكفول، شريطة أن يتصف بالموضوعية والأدب ونقد الفكرة لا صاحبها، وأن يتمسك بمنهجية اقرع الدليل بالدليل، واضرب الرأي بالرأي يخرج منه الصواب.
ولكن نحن أمام معضلتين حقيقيتين تتطلبا وقفة ومحاولة تفكيك وعلاج:
١- النقد حق لكن هل حق مطلق لا يراعي ظروف الزمان والمكان، ومسار الأحداث؟ فحينما أعلم يقينا أن هناك استهداف حقيقي لبنية الحوزة العلمية من جهة، ولعلاقة الناس بالحوزة العلمية من جهة أخرى، التي هي علاقة راسخة عجزت أمامها قوى كبرى، فهنا هل سأنتقد؟ أم سأتوقف ؟ وإذا انتقدت كيف أنتقد بطريقة تزيد من تحصين الحوزة لا أن يكون النقد معول هدم؟
٢- عدم النقد بحجة استهداف بنية الحوزة،
وإذا توقفت كيف يمكن إصلاح الخلل في مسيرة الحوزة وتحصين ثغراتها لتقويتها؟
والتوقف أيضا يعني إضفاء هالة قداسة تعصم الحوزة من الخطأ، وهو ما يعمق تكميم العقل وتبعيته المطلقة، بالتالي نبقى ندور في ذات الإشكالية وهي طرح الغث والثمين دون تمحيص وقبول الناس به، مما يعزز من حالة التردي، ويقوي حالة الشعبوية أكثر.
*إشكاليات منهج النقد:
من وجهة نظري يمكن حل الإشكاليتين من خلال تعديل المنهج.
فمنهج الطرح في مواجهة الخلل هو منهج يغلب عليه التالي:
١- الصدامية من خلال الألفاظ التي تستخدم، والتخوين الذي يمارس بحق الآخر المؤمن.
٢- نقد من قال وليس ما قاله، أي التصدي بالنقد للشخص وشخصنة عملية النقد.
٣- عملية النقد للكلام أو الرأي غالبا تكون شعبوية، لا تحمل مقومات النقد العلمي، إذ أن أهم مقوماته هو مقارعة الحجة بالحجة، والدليل بالدليل حيث الله تعالى : ” قل هاتوا برهانكم” ، فأي نقد لفكرة أو وجهة نظر، عليه أن يكون نقدا منهجيا مفندا للفكرة بالدليل والبرهان.
٤- تصدي من ليس مختصا للنقد. فحينما تكون هناك فتوى فيفترض أن الناقد لها يكون فقيها أو لا أقلا عالما يحمل أدوات النقد الفقهي. وعندما تكون فكرة فلا أقلا شخص يملك إحاطة بكل الآراء المؤيدة والمعارضة لهذه الفكرة، حتى يستطيع طرح وجهة نظره حولها بطريقة منهجية.
وهذا لا يعني إغلاق الباب أمام عقول الناس، ولكن يعني منهجة عملية النقد لتكون منظمة ومدروسة حتى تأتي أكلها وتعطينا الثمرة، التي هي التغيير والاصلاح.
٥- الإسقاط الإجتماعي إما للناقد، أو لصاحب الفكرة، وهذا أسوأ ما يمارس أخلاقيا اتجاه هؤلاء. بل هو كمن يقتل نفسا قتلا اجتماعيا يتضرر صاحبه بسمعته، مما يسقطه كليا فيعطل طاقة حية في خدمة المجتمع بحجة الدفاع عن حمى الدين ، وبينما هو معول هدم لأسس الدين ، ويهدم فكرة ومنهج إصلاحي كاد يكون سببا في رقينا الفكري والحضاري، ولنا في التاريخ أمثلة كثيرة، كالشيخ النائيني وملا صدرا الذي عطلت فلسفته قرن من الزمان ، أي قرن كامل تخلفنا في هذا الصدد والسبب الرفض والإسقاط الاجتماعي وغياب المنهجية العلمية في مناقشة الأفكار، والشهيد محمد باقر الصدر وغيرهم كثر. حيث قال نبي الرحمة : ” إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق”.
و قال تعالى : “مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا وَلَقَدْ جَاء تْهُمْ رُسُلُنَا بِالبَيِّنَاتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم بَعْدَ ذَلِكَ فِي الأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ” المائدة ٣٢
فالإسراف في رفض الحق جاء بعد البينة التي جاء بها الرسل، وهو شبه كبير لواقعنا المعاصر.
- حل المعضلتين: خطوة إلى الأمام
من وجهة نظري القاصرة أجد أننا يمكن أن نحل الإشكاليتين، بأن نحافظ على كيان الحوزة شامخا، وأن نمارس عملية النقد، فلا تعارض أبدا في المبدأ، وإنما التعارض يقع في المسلك.
فسلوك المتصدين هو من يخلق الإشكاليات ويحدث الثغرات، فمجتمعاتنا غالبا غير مهيأة لعملية النقد لأسباب كثيرة أهمها:
- حدود علاقة المكلف بالمرجع وبالحوزة العلمية.
- وحدود صلاحيات المرجع والحوزة العلمية في حياة الفرد والمجتمع.
- ثقافة المقدس واليقينيات، التي تعتبر النقد للفكرة هو نقد للشخص، وكلما ارتقت مكانة هذا الشخص العلمية، كلما ارتبط في ذهن الناس أنه نقد للدين ولله.
إذا كيف يمكننا الجمع بين المبدأ والمسلك بشكل منهجي صحيح؟
- حل العقدة:
عقد مناظرات بين أصحاب الرأي المختلِف حول موضوع من المواضيع، تتبع منهجية علمية في نقد الآراء، كما كان يفعل التلفزيون الإيراني في بدايات الثورة مع الشهيد مرتضى مطهري والشهيد بهشتي.
حيث توضوع منهجية واضحة للآراء وتعطى الفرصة للمعنيين لنقدها وتقويمها بالدليل والبرهان، دون أي تعرض للأشخاص أصحاب الآراء والناقدين.
ثم يترك للرأي العام حريته في اختيار ما اقتنع به، كون الرأي المدعم بأدلة عقلية ونقلية قوية ويكون أقرب لحجية القطع، هو الرأي الذي سيصيب عقول وقلوب الجماهير.
وبذلك نكون مارسنا حق النقد الذي يهدف للتطوير والإصلاح بطريقة عصرية وعلمية، ونكون قدمنا نموذجا متماسكا مجسرا بين الحوزة والقاعدة سواء النخبة أو الجمهور، توضح قابلية الحوزة للتطوير، ولقبول رأي جمهورها، ومن جهة أخرى تحل عقدة القداسة، وتطور أدوات الجمهور في التفكير والنقد والتقييم، وتؤسس في ارتكاز فهم الجمهور قبول الآراء وتعددها، دون الانجرار لخصامات وتخوينات.
تحتاج هذه الخطوة لتدرج، يبدأ من العلماء بعضهم مع بعض، والنخب بعضهم مع بعض، والعلماء والنخب فيما بينهم، وتدريجيا بينهم وبين الجمهور والقواعد.
وتوضع لها خطة مدروسة يكون مرتكزها بناء الجسور لا هدمها، وتعميق الثقة لا تسطيحها والتخوين، وتطوير أدوات التفكير لا تحجيمها.
وأعتقد بات الأمر اليوم مستحق في ظل الفوضى المتنقلة في كافة البقاع، بسبب وسائل التواصل الاجتماعي، وتحولنا لنظام القرية العالمي، الذي ينتقل عبره الحدث في أقل من الثانية، ليصبح صداه بحجم الكون.
هذه الخطوات يتقدمها ميثاق شرف تتعهد فيه الأطراف ببناء لبنة للاصلاح على أساس منهجي يحاول دراسة الأفكار والرؤى من قبل أهل التخصص دون المساس بأصحابها، ويأخذ على عاتقه مهمة بناء أدوات التفكير الناقد لدى الجمهور، للارتقاء بوعيه لتحديد معالم العلاقة بينه وبين المؤسسة الدينية، وإعادة رسمها على قاعدة متينة، تحفظ للمؤسسة الدينية مكانتها العلمية، وتماسكها لتكون سدا منيعا من أي محاولات اختراق، وهو ما يتم من خلال سد الثغرات في جسدها، والنهوض بها منهجيا وعلميا، وتحفظ للمكلف وعيه الحارس له من الانحراف، وتعيد لعقله الرشد الذي يمكنه من تفعيل قاعدة الحسن والقبح العقليين، ليعرف متى يحتاج إلى فتوى ومتى يمكنه تشخيص الواقع هو بنفسه دون العودة للفقيه.
هذه الرؤية تحتاج لتنضيج وتنقيح، وتحتاج لمنهج تدريجي استراتيجي بعيد المدى، ومنهج آني قريب المدى، يسيرا بالتوازي من قبل المتخصصين والنخب المخلصين، وما أكثرهم في واقعنا المعاصر.
وهذه دعوة أولية لكل مهتم وساعي للتغيير والاصلاح، بقلب مفتوح على كل القلوب، وعقل منفتح على كل العقول، ولكل من يعمل على جمع العقول لعقله، وضرب الرأي بالرأي ليخرج منه الصواب.