مقدمة
إن بعض الشخصيات التاريخية تشكل لنا نقطة انطلاق من الماضي نحو الحاضر، خاصة تلك الشخصيات التي أجمع عليها التاريخ بشخوصه الماضين كنموذج ومثل أعلى ، بل أجمعت الأحداث التاريخية على أهميتها في صناعة الحدث التاريخي الآني الزمكاني والمستقبلي وقدرتها على تأسيس منهجيات مستديمة في ثوابتها لكنها تحمل في طياتها ديناميكية حركية متطورة كما وكيفا مع تقادم الزمن.
نحتاج في قراءة الشخصيات التاريخية النموذجية إلى دراستها على أساس قراءة كلية بالنظر الى الزمان والمكان، وكيف يمكن الاستفادة منها كمنهج نقدمه نحن كسفراء لها نستطيع من خلاله التمثيل الصحيح .
والنظرة الكلية تتيح لهذه النماذج أن تتسيد كمنهج عملي وليس فقط كشخصيات أسطورية تبقى في عالم الخيال وترتكز في ذاكرة الأجيال على أنها صعبة التحقق والوصول لها بعيد المنال.
بل علينا أن نقدمها كنموذج يمكنه أن يتسيد مجتمعاتتا بطريقة عصرية للجيل تجمع بين الأصالة والخلود ، وتقدم بديلا حضاريا يجيب على كل تساؤلات الجيل ويمنحها أمنا فكريا وعاطفيا ونفسيا وسلوكيا بما يغنيها عن النماذج الفاسدة .
ويكون ذلك من خلال استقراء كامل لها في عدة اتجاهات:
١– استقراء البيئة الحاضنة –أي الأسرة –فننظر لما قدمته هذه الأسرة من منظومة قيم ومبادئ متكاملة ومتناغمة مع المنهج الاسلامي بثلاثيته العقدية والفقهية والاخلاقية وبما لا يتناقض مع مقاصده .
٢– استقراء لها كذات وشخص في ضمن هذه العائلة كمنهج فكري وسلوكي أسري ومن جهة أخرى في علاقتها مع الخالق الذي يؤسس لكل ارتباطاتها العلائقية.
٣– استقراءالشخصية في بعدها الرسالي وكفرد في المجتمع.
٤– أن ننظر للشخصية ضمن منظومة الاسلام المتكاملة كي نستوعب محوريتها ودورها في المنظومة الاسلامية .
فلكي نعرف ونطلع على جانب من شخصية علي ع علينا أن نعرفه كنموذج كامل حتى نرى أن الجانب الجزئي لا ينفصل عن الكل وأن صدق دوره الجزئي يعكس صدق الأصل.
لا نستطيع إبقاء علي ع في دائرة حزبية أو مذهبية ضيقة لأن ذلك يمنع من سيادته كنموذج في المجتمعات ، بل علينا أن نخرجه لرحاب الإنسانية الجامعة القادرة على استيعاب إما “أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلق “، هذا الخروج يفتح آفاقنا نحو معرفة علي ع كما أرادها الله لا كما رسمته مخيلات البشر ، وهذا الخروج يخلق لنا آفاق خلاقة في فهم الأبعاد الوظيفية لشخصية الإنسان من خلال علي ع ، وبما يتناسب مع قاعدة “وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين ” حيث يمثل علي ع امتداد رسالي عميق يجعله مصداق للرحمة للعالمين.
فالاطلاع على النموذج كمرجعية معصومة وكنموذج كلي يعطينا قدرة على تطبيق هذا النموذج على كل المصاديق ، آخذين في الحسبان الاختلاف في الزمان والمكان، ومتطلعين إلى الكليات والثوابت في هذا النموذج الصالح لكل زمان ومكان.
فعلي ع إذا أردنا أن نتعرف على جزء من شخصيته فيجب أن يتناغم هذا الجزء مع كافة الجزئيات المكونة للنموذج، بطريقة لا يتناقض فيها جزء مع أخر مما يشوه المنظومة الكاملة ، فعلي ع منظومة متكاملة من القيم والمبادئ المتناغمة مع مقاصد الاسلام ومساراته المتعددة.
فحينما نسلط الضوء على خصال علي ع فهذا يعتبر ثمرة لتراكم كمي ونوعي في منظومته المعرفية ، حيث الخصال السلوكية كمال ظاهري وكمال باطني ومعنوي يتألق بالروح أمام الخالق سيرا وسلوكا وفكرا، فيعصم العقل والفكر والقلب عن كل لهو وفراغ وترف وفرعيات وجزئيات ، إنها خصال سلوكية مادية ومعنوية ، جسدي وروحي وعقلي ، تراكم وتكامل في كل اتجاهات الشخصية العلوية ، فلا نستطيع التركيز على جزء واهمال الاجزاء الأخرى لانها ستضر بمنظومة القيم السلوكية .
وإذا ما أردنا النظر إلى جانب وظيفي من شخصية علي ع السلام ، فإن القيم الإنسانية تتجسد كاملة فيه ، فعلاجها للإشكاليات المعاصرة لا يقتصر على ظاهري لها ، بل يتعداه للعلاج الروحي والنفسي والمعنوي والعقلي بحيث يصبح العلاج هنا منهج متكامل يتعاطى مع كل مقومات الإنسان وجوانبه الروحية والعقلية والجسدية .
فالقوة المطلقة غير المقيدة لا يمكن تحقيقها بهذا الاطلاق واللاقيد إلا لله تعالى . ولكي تتنزل هذه السيادة السماوية للأرض فلا بد من وجود أوعية قابلة لهكذا نمط سيادي مطلق وغير مقيد، يكون مستخلفا واعيا ومدركا لكل حيثيات الاستخلاف الصحيح وفق إرادة الخالق لتكون هذه السيادة الأرضية في طول سيادته وليس في عرضها وتأتي بعد ذلك سيادة الخلق في الأرض من السماء وفق مراتب تتصل بمراتب الوجود.
النموذج الذي يسود هو القدوة التي تشكل مرجعية فكرية ودينية وسلوكية عبر الزمن ، والقرآن يجعل موقع القدوة بموقع الربوبية بمعنى التربية ، وهنا بالسيادة تتحقق الربوبية المتصلة بالتربية والربط بالنموذج الأكمل ، وكان صراع الانبياء مع المستكبرين عبر التاريخ في جزء منه هو صراع حول الربوبية المتصلة بإدارة الشأن والتنظيم والتربية .وكان المعصوم يرى الله ربا بمعنى انه المرجعية المعصومة في التربية .
عن النبي الأكرم : ” أدبني ربي فأحسن تأديبي” [1]
وأعاد الراغب الأصفهاني الربوبية والتربية لنفس الجذر اللغوي ، فقال في تعريفه ل ( الرب ) : ” الرب في الأصل التربية ، وهو إنشاء الشيء حالا فحالا إلى حد التمام “.
ووظيفة النموذج الأكمل من أكبر الوظائف وهي الربط بين الأمة والله ، ووظيفة المثل المتبع لهذا النموذج هو الربط بين الأمة والنموذج ، أي أدوار تقع في طول بعضها البعض ويوكل لها وظيفة التربية التي هي لب الدعوة إلى الله كونها تربية في طول تربية الله وإرادته.
ومن أهم هذه الشخصيات هي شخصية الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ، والتي بالرغم من كونها شخصية جامعة لاتفاق أغلبي حولها إلا أنها تكتنز في داخل هذا الاتفاق اختلاف مذهبي حَجَّم من حَجْم هذه الشخصية العالمية الحراك والنهج والفكر ، وبقيت كشخصية محل قلق فكري وعلمي لغزارة ما تحمله من علم من جهة ، وللخلاف الذي دار حولها من جهة أخرى كان إطاره غالبا مذهبيا وليس فكريا وسياسيا وليس عقديا ومعرفيا للأسف.
التعصب والحق ومفارقات الاتباع:
كان من ضمن خطة العمل النبوية في بناء مجتمع عالمي قائم على أساس الحق والعُصْبَة هو التأسيس الرافض لكل أنواع التعصب والعصبيات التي تقوم على أساس ولاءات انفعالية ترتبط بمن تواليه ارتباط حراري وليس ارتباطا واعيا، وعل نظرة واستقراء لروايات نبذ العصبية تعطي انطباعا واضحا في الاهداف التي كان يريد النبي ص تحقيقها من خلال نبذ العصبية ، والتي أهمها بناء شخصية واعية ترتبط بالحق لا بالرجال.
فقد ورد في الكافي[2]:
– عن علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن ابن أبي عمير ، عن هشام بن سالم ، ودرست ابن أبي منصور ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله ) : من تعصب أو تعصب له فقد خلع ربق الايمان من عنقه) .
– علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، عن النوفلي ، عن السكوني ، عن أبي عبد الله عليه السلام قال : قال رسول الله صلى الله عليه وآله ) : من كان في قلبه حبة من خردل من عصبية بعثه الله يوم القيامة مع أعراب الجاهلية) .
– علي بن إبراهيم ، عن أبيه ، وعلي بن محمد القاساني ، عن القاسم بن محمد ، عن المنقري ، عن عبد الرزاق ، عن معمر ، عن الزهري قال : سئل علي بن الحسين عليهما السلام عن العصبية ، فقال : (العصبية التي يأثم عليها صاحبها أن يرى الرجل شرار قومه خيرا من خيار قوم آخرين وليس من العصبية أن يحب الرجل قومه ولكن من العصبية أن يعين قومه على الظلم) .
فالتعصب يجعل الوعي منحسرا عن إدراكات النفس وقدرة العقل على استيعاب الحق والحقيقة ، فالمحرك يكون العصبيات بكافة اشكالها ، وبالتالي تكون النفوس محملة بقبليات تعمل على توجيهها بما هي محملة به من عصبيات .
فالمذهبية والقبلية والعائلية كلها عصبيات تلعب دورا في مليء عقول الجماهير بقبليات توجههم باتجاه العصبية المثارة ، فيصبح الحدث سواء كان سياسي أو اجتماعي– مسبقا بحكم في وعي الجماهير ومصبوغا به، فحتى لو كان الحدث حدثا حقيقيا وحقا فإنه سيتحول إلى باطل وسيتم القضاء عليه ومحاربته من قبل الجماهير بسبب المحمولات المسبقة والقبليات التي تم من خلالها توجيه عقول الجماهير نحوها .
العصبية تعمل عمل الحاجب بين العقل واستخدامه ، بمعنى أنها تعطل حركة العقل المعرفية والبحثية المصبوغة بهوس السؤال ، وتنمطه في إطار عصبوي مغلق في إطار خاص جدا موجه باتجاه واحد فقط ، يعيش في بئر لا يرى إلا مصدرا واحدا للماء والنور ، بعكس من يعيش تحت السماء بل فوق الأرض يرى من كافة الاتجاهات وفي كافة الاتجاهات ويضرب الرأي بالرأي ليصل بتجرد للحقيقة .
هذا فضلا عن كون العصبيات تكتنز في داخلها بذور الفتنة التي ما إن بذرت في مجتمع حتى انحدرت به بعيدا عن مصاف الدول المتقدمة ، وحالت بينه وبين حضارته بل وأسقطتها.
فعادة اللجوء للعصبيات يكون من قبل الرموز أو الدول الاستعمارية أو الأنظمة المستبدة غير المنتخبة من شعوبها والرعوية ، لتحقيق أهداف خاصة على حساب الاهداف العالمية، وإن حملت نداءاتهم شعارات الحق والحقيقة.
علي ع بين العسكرة والوعي:
موقف الإمام علي ع لا يخرج عن المنهج الذي أسسه نبي الرحمة محمد ص ، ولا عن الثقل الأكبر المتمثل بالقرآن الكريم .
كان عليا ع واضحا في صناعة وعي الجمهور ، فحينما أتاه رجلا من المسلمين في حرب الجمل في حيرة من أمره يسأله أي جبهة هي على حق : جبهة علي أم عائشة ؟
فبالرغم من أن الأمير عليه السلام هو الحق بإقرار النبي ص الذي قال الحق مع علي يدور أينما دار ، إلا أن عليا ع لعلمه بابتعاد المسلمين عن عصر التشريع ، وتراكم الانحراف في الوعي العام تراكما كميا وكيفيا ، أجابه إجابة تأسيسية – بالرغم من ان الظرف كان ظرف حرب وعسكر ويحتاج فيها كل عنصر وفرد وعادة في الحروب يكون التوجيه عسكري يغلب عليه التحيز والتعصب، لكسب عديي للجنود، ولصناعة وعي خاص يصب في صالح صاحب المعركة وحزبه وتوجهاته، ويتم صناعة تحيزات وتعصبات ترجح كفة جبهته بل في لحظات الحرب يتم توجيه الوعي توجيها عصبويا تحيزيا، لكن كانت إجابة علي ع تدلل واقعا على المنهج الاصلاحي وآليات صناعة الوعي في عقول الجمهوربعيدا عن العسكرة والتحيزات والعصبيات، للأخذ بهم إلى جادة الحق وتحقيق الهدف الرسالي، فقال له : اعرف الحق تعرف أهله ، حيث نستشف منهجا في كيفية تعاطي القيادة مع المحيط :
– استنهاض العقول في البحث عن الحق لا عن الاشخاص، وتظهير وعي المحيط بتطوير قدراته العقلية والبحثية.
– محاولة التخلص من القبليات العصبية كافة كي يتجه العقل بشكل موضوعي باحثا عن الحق لا عن القبيلة والمذهب.
– الحاجة للاتباع الواعي لا الارتباط الحراري، فقوله اعرف ولم يقل اعلم يدلل على أن المطلوب هو معرفة للحق واعية ، أي ليس فقط العلم به بل سلوك طريقه ومنهجه والالتزام بجادته على طول الخط الرسالي.
فكثر في محيط النبي ص ومنهم الخليفة الثاني كانوا يعلمون أن عليا أحق بالخلافة لكنها مجرد معلومات لم تدفعهم للتطبيق والاقرار السلوكي والعملي.
– رغم أن الظرف الذي طرح به السؤال هو ظرف حرب، إلا أن الأمير ع قدم نموذجا للقيادة المنضبطة بجادة الحق والقيادة الموضوعية غير الشخصانية القادرة على تأسيس استراتيجيات للفعل ومناهج للتفكير وليس انفعالات آنية غير مدروسة تحت ضغط الظروف المحيطة.
علي كحاكم وميزان القداسة:
العلاقة التبادلية بين الحاكم والمحكوم تشكل مسار العدالة وترسم معالمها. ويقع الثقل الأكبر في ذلك على وعي الشعب ومدى قدرته على رسم سلوك متزن في التعاطي مع الحاكم، بحيث يمنع هذا السلوك الاستبداد والفرعونية، لكنه في ذات الوقت لا يكون سببا للفوضى والفتنة.
وإحراز هكذا سلوك متزن يتطلب إرشاد مولوي، وتوجيه عملي من قبل شخصية لها ثقلها السماوي ودورها القيادي في الأرض.
ولأن الإمام علي عليه السلام كان له دور بارز في ترشيد الحكم، والتأسيس لعلاقة تبادلية ووظيفية قوامها العدل بين الحاكم والمحكوم القائمة على نظام الاستخلاف الإلهي الرُّتبي فكل من موقعه ووفق رتبته خليفة، فيأتي تسليط الضوء على بعض توجيهاته ومواقفه العملانية في هذا الصدد، لنستقريء من خلالها معالم الحكم الرشيد ومعايير تلك العلاقة وحدودها.
خاصة أننا نعيش في حقبة زمنية انتقالية بطيئة، يسير فيها الحاضر نحو تبدلات محورية في أنظمة الحكم أو في منهجها، وجل هذه التبدلات يتم رسمها وتخطيطها بإرادات وقوى تدفع باتجاه التفافات على رغبات الشعوب في التحرر وتحديد مصيرها داخليا وذاتيا دون تدخلات خارجية.
- الإمام علي ع و ملابسات العلاقة:
إن قراءة التاريخ لها أهمية كبيرة في استكشاف المنهج ورسم خارطة طريق للسنن وللاعتبار من تجارب الآخرين، والاستفادة منها كخبرة يتم مراكمتها على خبرات كثيرة، ترتقي بوعي الإنسان وتختصر عليه كثير من الظلامات والعذابات، من خلال عدم تكراره لأخطاء الماضين ومحاولته النهوض بحاضره بعقل متخلص من الوهنات والسقطات ومعبئ بكل ما هو جديد غير مكرور.
وتذكر لنا كتب الحديث موقفا للإمام علي ع تبين من خلاله شخصية الصلبة والفذة.
فعند وصول الإمام (عليه السلام) إلى أرض الأنبار- إحدى مدن العراق الحدودية- خرّ جمع من الدهّاقين ساجدين أمامه، بحسب التقاليد التي اعتادوا عليها، فغضب الإمام من فعلتهم هذه وصرخ فيهم: “ما هذا الذي صنعتموه؟ فقالوا: خُلُقٌ منّا نعظّم به أمراءنا.
فقال: والله ما ينتفع بهذا أُمراؤكم، وأنّكم لتشقّون على أنفسكم في دنياكم وتشقّون به في آخرتكم، وما أخسر المشقّة وراءها العقاب، وأربح الدعة معها الأمان من النار”.
وهذا النص :
. وقال(عليه السلام) وقد لقيه عند مسيره إلى الشام دهاقين الانبار، فترجّلوا له واشتدّوا بين يديه ( نزلوا عن خيولهم مشاة واسرعوا إليه )
مَا هذَا الَّذِي صَنَعْتُمُوه
فقالوا: خُلُقٌ مِنَّا نُعَظِّمُ بِهِ أُمَرَاءَنَا.
فقال(عليه السلام): وَاللهِ مَا يَنْتَفِعُ بِهذَا أُمَرَاؤُكُمْ! وَإِنَّكُمْ لَتَشُقُّونَ بِهِ عَلَى أَنْفُسِكْمْ [فِي دُنْيَاكُمْ،] وَتَشْقَوْنَ ، بِهِ فِي آخِرَتِكُمْ، وَمَا أخْسرَ الْمَشَقَّةَ وَرَاءَهَا الْعِقَابُ، وَأَرْبَحَ الدَّعَةَ مَعَهَا الاَْمَانُ مِنَ النَّارِ![3]
هنا تأسيس مهم من قبل شخصية كانت بموقع متقدم من الأمة والجمهور، بل هي في قمة الهرم، إلا أنه كأمير وكخليفة رفض أن يتم التعاطي معه بنفس طريقة التعاطي مع الجبابرة ولا كإله.
والمشقة التي ذكرها الامام علي ع كأحد ثمرات هذا السلوك في الدنيا، هي من وجهة نظري تكريس تمكين الحاكم من رقابهم واستحكامه في قيدهم كعبيد، بالتالي تحويله لفرعون عليهم لا يستطيعون نتيجة تعظيمهم له وتضخيمهم لذاته أن يقوّموا اعوجاجه أو يصوبوه إذا سلك باطلا أو هضم حقا أو سلب مالا.
هذا فضلا عن تربية النفس الإنسانية وتهيأة قابلية الإستبداد بها، بحيث تستقر في أعماق ولاوعي العقل القابلية للاستعباد والاستبداد، فتنكفيء فطرة التوحيد والعبودية لله وحده.
هذا السلوك الاجتماعي سيتحول لعادة ثم فرض واجب، ثم يصبح تدريجيا دينا يدين به الناس . وتتحول قابلية الاستبداد والاستعباد بهكذا أنماط سلوكية إلى تراث يرثه الأجيال ويرث به الحكام استبدادهم واستعلائهم على الناس.
بالتالي الناس من سيكون الخاسر الأكبر ، كونهم يؤسسون بذلك للظلم لا للعدل وسيشملهم هذا الظلم، بل سيقودهم سلوكهم ليكونوا أول ضحايا هذا الحاكم . هذا فضلا عن هدر كرامتهم والتضييق عليهم في عيشهم وانقيادهم كعبيد للحاكم لا لله.
ومن موجبات هدر الكرامة وامتهان الإنسان لإنسانيته أن تتحول وظيفته التي خلقها الله لأجله وهي الخلافة التي تكتنز الشراكة والرقابة والتقويم، إلى عبودية تكتنز الاتباع الأعمى وتكريس ثقافة القطيع والنعاج.
بل اعتبر هذا التعظيم أمرا لا ينتفع به الحاكم في شؤون الحكم، فوجود بطانة وظيفتها التطبيل للحاكم والتعظيم والتفخيم، أو ما يقوم به بعض المحيطين بالحكام من تدليس وتزيين للباطل والظلم هو مظهر من مظاهر السجود، كون حركة السجود في ذلك الزمان لها دلالات التعظيم والتفخيم والتسليم بعبودية للحاكم، وأي سلوك يحقق نفس الغايات هو سلوك مشمول في توصيف الإمام علي عليه السلام، وهنا الأمراء قد لا تخص فقط الحاكم، بل كل من له موقعية قيادية ونفوذ وسلطة يمكنه من خلالها التسلط والتحكم فإن التعاطي معه بنفس الطريقة سيكون مشمولا بتوصيف الإمام.
فتغير لغة الجسد لمجرد حضور أصحاب النفوذ والسلطة من أي جهة كانت سواء سياسية أو دينية أو اجتماعية، هذا التبدل الذي يوحي بدلالات القداسة والرهبة والخضوع وقابلية الاستعباد، هو ما يرفضه الإمام ويعتبره مشقة في الدنيا وشقاء في الآخرة وينهى عنه رغم أنه الإمام والخليفة .
وأما في الآخرة فسيكون حسابهم مضاعف رغم مشقتهم ومعاناتهم من الحاكم في الدنيا، كونهم من مكنوه على رقابهم وعبدوه دون الله، وأسسوا بسلوكهم أساس الظلم وصنعوا بذلك فراعنة وآله تعبد دون الله. وفي يوم القيامة يتبرأ هؤلاء المستبدين من كل من اتبعهم وأقرهم على سلوكهم.
والدّعة التي عناها هي عكس المشقة التي صنعوها بسلوكهم هذا، بالتالي تكون سلوك معاكس للسجود للامراء وتذليل النفس لهم، فيكون السجود لله والعبودية له وحده، والتعاطي مع الحاكم من موقع المسؤولية المشتركة التي يراقب فيها الناس الحاكم ومدى انتظامه في طريق الحق، وتأديته لحقوق الشعب وعدم ظلمه.
ورغم أن الرواية الثانية لا تذكر السجود لكنها تذكر سلوكا شبيها يحقق نفس ما يحققه السجود، وهو إظهار التذلل والانكسار أمام الحاكم . إلا أنها كلها سلوكيات تغير الهدف الوظيفي من الخلقة.
هذا فضلا عن مناصحته و اعتباره في موقع تكليف لا تشريف.
وهذا السلوك يحفظ قيمة الإنسان وكرامته، وحقه في العيش الكريم وضمن حدود العدالة الاجتماعية.
إن تصدي الحاكم لهذا السلوك بحقه وإرشاد الرعية لما فيه صالح دنياهم وآخرتهم، وحفظ قيمتهم الإنسانية وكرامتهم هو سلوك حكام العدل لا حكام الجور. وهو تأسيس لمنهج عام لعلاقة الحاكم والمحكوم، وعلاقة القاعدة والقيادة، وعلاقة العشيرة وزعيمها، وعلاقة كل مسؤول في موقع مسؤولية مع محيطه الذي يديره .
ولكن كيف أسس الإمام علي عليه السلام لعلاقة صحية متزنة بين الحاكم والرعية ؟
- خريطة طريق علائقية بين موقع القيادة والأتباع:
يقول في أحد خطبه للناس حيث يرسم فيها علاقة الحاكم والمحكوم :
لاَ تُثْنُوا عَلَيَّ بِجَمِيلِ ثَنَاء، لاِِخْرَاجِي نَفْسِي إِلَى اللهِ وَ إِلَيْكُمْ مِنَ التَّقِيَّةِ فِي حُقُوق لَمْ أَفْرُغْ مِنْ أَدَائِهَا، وَفَرَائِضَ لاَ بُدَّ مِنْ إِمْضائِهَا، فَلاَ تُكَلِّمُونِي بَمَا تُكَلَّمُ بِهِ الْجَبَابِرَةُ، وَلاَ تَتَحَفَّظُوا مِنِّي بِمَا يُتَحَفَّظُ بِهِ عِنْدَ أَهْلِ الْبَادِرَةِ، وَلاَ تُخَالِطُونِي بالْمُصَانَعَةِ، وَلاَ تَظُنّوا بِيَ اسْتِثْقَالاً فِي حَقّ قِيلَ لِي، وَلاَ الِْتمَاسَ إِعْظَام لِنَفْسِي، فَإِنَّهُ مَنِ اسْتَثْقَلَ الْحَقَّ أَنْ يُقَالَ لَهُ أَوْ الْعَدْلَ أَنْ يُعْرَضَ عَلَيْهِ، كَانَ الْعَمَلُ بِهِمَا أَثْقَلَ عَلَيْهِ.
فَلاَ تَكُفُّوا عَنْ مَقَال بِحَقّ، أَوْ مَشُورَة بِعَدْل، فَإِنِّي لَسْتُ فِي نَفْسِي بِفَوْقِ أَنْ أُخْطِىءَ، وَلاَ آمَنُ ذلِكَ مِنْ فِعْلِي، إِلاَّ أَنْ يَكْفِيَ اللهُ مِنْ نَفْسِي مَا هُوَ أَمْلَكُ بِهِ مِنِّي، فَإنَّمَا أَنَا أَنْتُمْ عَبِيدٌ مَمْلُوكُونَ لِرَبٍّ لاَ رَبَّ غَيْرُهُ، يَمْلِكُ مِنَّا مَا لاَ نَمْلِكُ مِنْ أَنْفُسِنَا، وَأَخْرَجَنَا مِمَّا كُنَّا فِيهِ إِلَى مَا صَلَحْنَا عَلَيْهِ، فَأَبْدَلَنَا بَعْدَ الضَّلاَلَةِ بِالْهُدَى، وَأَعْطَانَا الْبصِيرَةَ بَعْدَ الْعَمَى.
وهذه الدعة التي أرادها الأمير عليه السلام، وهذه العلاقة التي رسمها بين كل قائد وكل من هو في موقع مسؤولية وبين القواعد والرعية او من هم في موقع انقياد، هي شراكة ورقابة ترتقي بوعي الناس حتى تصبح العدالة سلوك بديهي عام، فتترشح العدالة من القيادة للقاعدة وتنتظم القاعدة بوعي يقوّم اعوجاج القائد إذا خرج عن منهج العدل والعدالة، وبتحقق العدالة تتحقق كرامة الإنسان التي ترتقي بمعاييره وقيمه في بعديها المادي والمعنوي والجسدي والروحي وتصبح واقية له من الدناءة وكل ما يرتبط بها من سلوك وقيم.
فرفض الإمام من موقع الحاكم والقائد التالي :
١. الثناء على الحاكم لمجرد أدائه واجبه وحق الناس عليه.
٢. الخوف من قول الحق للحاكم في حال انحرافه أو خطئه أو مواجهته ومناصحته.
٣. مخاطبة الحاكم بطريقة مخاطبة الجبارين التي يطغى عليها التدليس والكذب والمجاملات وتضخيم الذات والمدح المذموم.
٤. المصانعة في مخالطة الحاكم والتحفظ منه كما يتحفظ عند أهل البادرة.
وطلب منهم كمنهج تأسيسي بين فيه أي حال يجب أن تكون عليه الرعية :
١. قول بحق.
٢. مشورة بعدل.
٣، عبوديتهم لله وحده فقط وملكه هو لهم.
وبذلك يكون منع تشكيل أي حالة نفسية وقابلية للاستعباد والاستبداد، ورشد العلاقة بين الحاكم والمحكوم، وأظهر حقيقة موقع القيادة بكل مصاديقها وموقع المُقاد.
علي واقتفاء الأثر وتمظهرات الولاية:
إن الحب قرينه الاتباع والخضوع واقتفاء الأثر والإحياء هو بث الروح مجددا في الشخصية التي نعيش مناسبتها وإعادة قراءتها وفق مقتضيات زماننا ومكاننا، ومع تراكم العقل المعرفي الذي يستطيع استلهام المزيد من هذه الشخصيات التاريخية بما يعود بالفائدة على حياتنا فيحييها بهم واقعا وعملا .
إذا نحن بحاجة لإعادة تقييم وسائل الإحياء وأدواته ومحتواه ليحقق غاية الهدف من الإحياء بما يليق بهذه الشخصية العظيمة.
فالله تعالى يقول ” تلك الأيام نداولها بين الناس ” وحيث أن هناك سنن قرآنية وتاريخية تسير وفقها المجتمعات ، فإن قراءة تاريخ تلك الحقبة يجعلنا نقف على آليات استعمال تلك السنن وأثرها في كتابة التاريخ وصناعة تاريخ الأمم ، والانحرافات التي أدت إلى تشويه وانحراف مسيرة الأمة عن المنهج القرآني.
وقد قال الله تعالى :
” ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق ولا يكونوا كالذين أوتوا الكتاب من قبل فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم وكثير منهم فاسقون” [4]
ويقول الشهيد محمد باقر الصدر في رسالتنا بخصوص هذه الآية:
” بهذا يعلن الاسلام عن ضرورة ازدواج الفكر والعاطفة واجتماع العقيدة وما تتطلبه من ألوان الانفعال والاحساس حتى تدب الحياة في العقيدة وتصبح مصدر حركة وقوة دفع وليست مجرد فكرة عقلية لا يخفق ولا يستجيب لها الحس ولا تتدفقً بالحياة.
…
ثم يضيف قائلا : إن العواطف التي يرتضيها الاسلام للمسلم هي العواطف الفكرية أي العواطف التي ترتكز على مفاهيم فكرية معينة… أما العواطف السطحية المائعة التي لا تستند إلى مفهوم والتي يثيرها الاحساس أكثر مما يثيرها الفكر فليس من الصحيح للدعوة أن ترتكز على هذه العواطف لأن انتشار هذه العواطف المنخفضة الذي يؤدي إلى سيطرتها في المجتمع يشكل خطرا على الدعوات الفكرية التي تحاول الارتفاع بذهنية الأمة إلى المستوى الفكري والتسامي بها عن المشاعر المرتجلة والأحاسيس الساذجة“”
فتمظهر الولاية والاتباع للشخصيات الإلهية يتحقق بالاتباع الواعي المدرك للحق والمتعلق بالحق لا بالأشخاص، فعلي مع الحق والحق مع علي تتطلب منا معرفة الحق حتى ندرك عليا عليه السلام وندرك رسالة النبي محمد صلى الله عليه وآله، وليس فقط اتباع عاطفي مذهبي عصبوي انفعالي قد يوقع صاحبه في الظلم، بل يوقعه في الخروج من ولاية علي ع .
العدالة في عهد علي ع:
العدالة هدف استراتيجي للأنبياء والأوصياء والمصلحين، كونها مخ مسألة التوحيد، وعماد الاستقرار السياسي والاجتماعي والنفسي على مستوى الفرد.
وهي نواة إعمار الأرض واستخراج كل مواهب وقدرات وإبداع البشر في سبيل تحقيق التكامل والسير الوجودي في تطوير القابليات والقدرات البشرية.
وهي قيمة لها بعد إلهي من جهة وبعد إنساني من جهة أخرى، إلا أنها في بعدها الإلهي معصومة على مستوى النظرية والتطبيق، وتبقى في بعدها الإنساني عرضة للخلل التطبيقي وإن عصمت على مستوى التنظير.
وعصمتها على مستوى التنظير تكمن في وجود مرجعيات معرفية نصية لها معصومة ، سواء من القرآن أو ما هو موثوق و صحيح على مستوى السند والمتن.
ومن النصوص الحديثية التي تألقت في التنظير لقيمة العدالة على المستوى السياسي الدولتي هو عهد الإمام علي ع إلى مالك الأشتر حينما عينه واليه على مصر.
السند:
العديد من العلماء يصححونه سندا، لكنه ليس صحيحا على جميع النظريات الرجالية والحديثية، وبعضهم يرى أن السند يعاني من أكثر من مشكلة أهمها عدم إمكان توثيق الحسين بن علوان الكلبي، ووفقا لهذا الرأي أن السند الذي يذكر للعهد لا يوجد ما يؤكد أنه ينقل لنا نص العهد الذي في نهج البلاغة، لأن السند لم يذكر نص العهد بينما جاء نص العهد في النهج بدون سند، وبهذا يصعب التأكد من أن تمام فقرات العهد في النهج قد نقلت بالسند الموجود خارج النهج.”انتهى إلى هنا هذا الرأي“.[5]
إن تركيزنا على العدالة وفقا لتعدد الآراء حول السند سيكون عاما حول نهج الإمام علي عليه السلام ، ومجملا بما فيه نص العهد بناء على تصحيح البعض له، وبناء على عدم تنافي أكثر نصوصه مع منهج الإمام ع في العدالة وفق ما نقل من توثيقات تاريخية حول عهد خلافته.
و يأتي الحديث عن العدالة في سياق حقبة زمنية انتقالية بطيئة، يسير فيها الحاضر نحو تبدلات محورية في أنظمة الحكم أو في منهجها، وجل هذه التبدلات يتم رسمها وتخطيطها بإرادات وقوى تدفع باتجاه التفافات على رغبات الشعوب في التحرر وتحديد مصيرها داخليا وذاتيا دون تدخلات خارجية.
هذا فضلا عن التمييز الذي تتصاعد وتيرته تدريجيا وببطئ في الداخل وعلى أساس مذهبي، والذي ستكون مآلاته ومخرجاته كارثية إذا لم يتم معالجتها بشكل جذري وسليم.
لماذا العدالة؟
تعتبر العدالة من المقومات الأساسية بل هي عمود ومحور تحقيق التوحيد الذي بعث الأنبياء والرسل لأجل تحقيقه على الأرض، وكانت أهم وسيلة لتحقيقه هو قيام العدل، والتوحيد ليس مجرد إيمان نظري بوحدانية الخالق، بل هو التزام نفسي وعقلي وسلوكي ومنهجي بالتوحيد سواء على المستوى الآني أو الاستراتيجي، كون نفي الشريك و الإقرار بالواحدية الأحدية الوحدانية لله تعالى، نظريا وعمليا له آثاره الدنيوية بل هو محور النظم في الدنيا وبوابته، فهو يحرر الإنسان نفسيا وعقليا من كل أنواع الهيمنة والسلطة والقيد التي تخرج عن دائرة الله وعدالته، وتجعل المثل الأعلى الذي هو الله المرجعية المعيارية في التقييم والنقد والتقويم، بما يصد كل أنواع النزعات السلطوية والاستبدادية وكل محاولات استعباد الإنسان لأخيه الإنسان.
فالتوحيد نظرية حكوماتية إلهية تؤسس لنظام غير استبدادي، يقوم محوره على العدالة، و قلبه ينبض بالرحمة، وأداوته القانونية تطبق بالتساوي على الجميع، وتؤمن بقيمة الإنسان وكرامته.
لذلك حوربت فكرة التوحيد سواء برفضها أو بتشويهها أو بحرفها عن مسارها الدنيوية وتطبيقاتها العملية.
يقول البروفسور كاتاسونوف في أحد لقاءاته : “العبودية هي فعلا، مفهوم متعدد الأبعاد. تعريف العبودية الأول، الحرفي، هو “امتلاك الإنسان“. إنسانٌ يمتلك إنسانا آخر، كملكية بموجب القانون. أما البعد الآخر لمفهوم العبودية، فهو العبودية الاجتماعية – الاقتصادية. وهي أن يستخدم شخصٌ شخصا آخر ويستحوذ على حصيلة نشاطه العملي أو الذهني, أي – الاستيلاء على ناتج عمل الغير. والبعد الثالث، هو مفهوم العبودية الأكثر عمقا، أي العبودية الروحية والفكرية. وهي عادات بشرية ما، أو قيم مادية معينة، يتم فرضها على الناس من خلال الهيمنة الإعلامية والتأثير الدعائي النفسي“.[6]
لذلك محركات نافذية التوحيد في المجتمع ومنع كل أنواع الاستبداد والعبودية هي العدالة. ووضع منهج للعدالة معياري وسلوكي يعتبر ضابطة مرجعية تضبط أداء الطبقة الحاكمة من جهة، وتضبط مرجعية الجمهور المعيارية في نقدها وتقويمها للسلطة ورجالاتها ليحكمها المنهج لا الشخوص.
العدالة في العهد : تأسيس المنهج:
عادة دراسة أي حدث تاريخي أو وثيقة تاريخية تفرض على الباحث دراسة لوازمها، كقائلها ولمن قالها ولماذا قالها وما هدفه، هذا فضلا عن الظروف السياسية والاجتماعية المحيطة في تلك الوثيقة، حتى يمكن للباحث الخروج بدلالات إجمالية حول تلك الوثيقة أو الحدث.
ووثيقة كالعهد إن صح صدورها عن الإمام، تعتبر من الوثائق التاريخية السياسية والاجتماعية الهامة التي تؤسس لمقومات وسمات إجمالية للعدالة.
وتؤسس لمنهج للحكم والحكام ومن في حاشيتهم، يعتبر منهجا مدخليا ومقدميا هاما لتحقيق العدالة، وهو وسيلة صالحة في تحقيق الهدف، وتضع قيمة للحق وليس للشخوص، بحيث يكون الحق معيارا لتقييم الشخوص، وليس العكس.
وقد ركز العهد في توجيهات الإمام على عدة نواحي فرعية وأساسية كلية، الفروع فيها تصنف تحت كل عنوان كلي وفق تبعيتها له من عدمه:
ـ طبقة السلطة ومنظومة الواجبات الوظيفية، ومنظومة الحقوق الخاصة بهذه الطبقة بكل مراتبها، وأسس معيارية مرجعية ضابطة للسلوك وكيفية الاختيار ومجموعة العقوبات الخاصة بالمخالفة.
ـ السياسات الاجتماعية، والتنظيم الطبقي للمجتمع، ومناهج السلوك بين الحاكم والرعية و ضوابطها ومعاييرها، والعقوبات الخاصة بمخالفة الضوابط والمعايير سواء عقوبات خاصة بالرعية، أو عقوبات خاصة بالطبقة الحاكمة في حال إخلالها بواجباتها و بمنهج تحقيق العدالة في المجتمع.
ـ السياسات القضائية، ومعايير الاختيار والضوابط الناظمة، وطرق الحماية والاكتفاء الذاتي، وآليات تحقيق الأمن والعدالة، وعقوبات المخالفة للحاكم والقضاة.
ـ السياسات المالية، والنظم الاقتصادية التي تحقق العدالة، وآليات صرف المال من بيت مال المسلمين بما يحقق الاكتفاء والكفاية والرفاه الاجتماعي لكل طبقاته وأفراده، وكيفية حماية المال من الهدر والفساد.
المنهج السياسي في بناء الدولة العادلة:
الوثيقة صادرة من حاكم للدولة الإسلامية هو الإمام علي ع، لمن اختاره كوالي على أحد الأمصار التابعة للدولة، وهنا عدة أبعاد أهمها:
.١ الشخصية التي تم اختيارها للحكم هي شخصية مالك الأشتر وهي من الشخصيات التي نقل لنا التاريخ عنها ثباتها وصلابتها في الحق و تطبيق شرع الله، ونزاهتها و مستوى أخلاقياتها العالي الذي عكسته أحداث تاريخية موثقة حول هذه الشخصية، إذا هو شخصية كفوءة لا تنتمى لعائلة الحاكم ولا إلى وجهاء الدولة، بل انتماؤها للحق ومدى القرب منه، (مبدأ الكفاءة لا العصبيات).
.٢وأي شخصية تكون قريبة من حاكم ك علي ع، ويتم تكليفها بمهمة من قبل الإمام كمهمة الحكم يلاحظ تشديد الإمام ع على تلك الشخصيات في التوصيات والتوجيهات خاصة التي تتولى مناصب عالية في الدولة (مبدأ التكليف لا التشريف)، حيث تركز توصيات وتوجيهات الإمام على عدة جوانب :
– الجانب النفسي والتركيز على عدالة النفس واعتدالها، وعلى الضبط وفق قواعد الحق والإنصاف.
– الجانب الاجتماعي المتمثل بالشعب والمحيط الخارجي للحاكم، حيث يتم التركيز على المساواة في أدق تفاصيلها، لدرجة طلب الإمام من مالك المساواة في النظر بين الجميع، حتى لا يظن أحدهم بتفاضله على الآخر فيحدث في نفسه أثرا يوهمه بتميزه عن غيره ، وعلى تحقيق العدالة الشاملة في كافة مستوياتها، وبناء مجتمع متضامن يشكل نواة الجماعة الصالحة التي تعاضد الأنوية الأخرى المنتمية للدولة الإسلامية، لتشكل بمجموعها الأمة الهادية والمهدية.
– الجانب القضائي الذي يمارس دوره في حل مشاكل الناس، ويفصل في منازعاتهم، و أيضا يستقبل شكاوى الناس عن الحاكم وجهازه وينظر فيها بإنصاف وعدالة، وكيف يجب تحصين جبهة القضاء سواء تحصين ذاتي لأفرادها بتوفير الاكتفاء المادي، واختيار القضاة وفق معايير دقيقة تنظر لتقوى القاضي وانضباطه الشرعي وفق حكم الله لا فقط لشهادته وحصيلته العلمية والخبروية، أو على المستوى الخارجي بتوفير الأمن والحماية والتحصين الذي يقلل من مخاطر الاختراق وشراء الذمم وتحريف الأحكام عن مسار الحق والعدالة.
– الجانب الاقتصادي المتمثل ببيت مال المسلمين، وكيفية الحفاظ على هذه الأمانة، و أهمية نزاهة كف الحاكم في ردع الآخرين عن التسلق على أموال المسلمين.
.٣عدم محاباة الإمام لمالك رغم قربه منه، واعتماد معيار. الحق والباطل وتحقيق العدالة وفوقهما رضا الله مرجعية في تقريب هذا الوالي وتثبيته أو عزله وتنحيته بشكل صريح( مبدأ الثواب والعقاب).
.٤التركيز على النهوض بوعي الجمهور ليمارس دوره الرقابي على الحاكم وجهازه، و يمارس دوره في المحاسبة أو بشكل أدق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر( الرقابة والتشريع).
العدالة والتمييز : قراءة في الآثار:
العدالة:
التشديد على هدف العدالة وإقامتها من قبل جميع من أرسله الله تعالى، بل تركيز الله في القرآن على هذا المبدأ يكشف عن محوريته وأهميته في انتظام الحياة البشرية على الأرض، بل انتظام الكون، كون العدالة لا تقتصر على تعامل الإنسان مع الإنسان، بل العدالة لها مراتب عديدة تحقيقها مجتمعة يحقق ميزان العدالة المطلوب:
.١العدالة الداخل نفسية، وهي وصول الإنسان في صفاته النفسية إلى الاعتدال بحيث يصبح نفسيا لا مفرطا ولا مفرطا، ويمتلك ميزان قويم يقيس وفقه الأمور، وإحراز العدالة النفسية يتطلب مرحلة قبلية منطقية وهي بوابة العدالة النفسية اي اتزان ميزان الأفكار العقلية، والتي تحتاج نظم لمصادر هذه الأفكار ومنبعها، أي نظم لمصادر المعرفة، هذا النظم له بعدين:
– بعد إلهي معصوم ولا محدود يتمثل في القرآن والسنة الموثوقة الصدور.
– بعد بشري غير معصوم ومحدود، يتمثل في العقل والحس والتجربة.
وهذه المرتبة هي مفتاح ومقدمة قاعدية لإحراز مراتب العدالة الفوقية.
.٢العدالة السلوكية: وهي المعنية بسلوك الفرد مع محيطه:
– مع نفسه وفق موازين دقيقة أسسنا لها في المرتبة الأولى.
– مع جسده وضبطه وفق ضوابط العقل المنتظمة في معارفها وفق مصادر معتمدة.
– مع الإنسان الآخر سواء كان فردا ارتبط به برابطة حقيقية كالأرحام، أو رابطة حقوقية كالزوجية و باقي صلاته الاجتماعية والدولتية.
– مع الطبيعة والمقصود بها العدالة في التعاطي مع الطبيعة واكتشافاته لها، وكيفية توظيف هذه الطبيعة بما يحقق مبدأ العدالة وعمارة الأرض بالعدل في صالح كمال الإنسان وتكامله.
.٣العدالة الوظيفية: وهي المتعلقة بكل موقع يمكن للإنسان أن يتم تنصيبه به، سواء في الأسرة أو في المجتمع أو في الدولة. وهو ما يتطلب إحاطة أشمل في القوانين، والحقوق، والنظم التي من شأنها تحقيق العدالة ومنع الظلم، و لكل وظيفة مرتبة في تحقيق العدالة، فليست العدالة المتحققة في الخارج بمرتبة واحدة، بل لكل مرتبة وظيفية عدالة متعلقة بها وخاصة بمرحلتها.
وتحقيق العدالة في كافة المستويات كفيل بتهيأة قابليات المجتمع جميعا وتوجيهها نحو الأهداف الإلهية، في تحقيق العمارة على الأرض، وتشييد بناء متكامل يفجر طاقات الإنسان العقلية والعملية، ويحقق له القدرة على التكامل وفق مراتب الكمال المختلفة، ويشيع أجواء التعاون على البر، والتنافس في تحقيق الرضا الإلهي، وحتى الرفاه الإنساني، وتوفير فرص واحدة لجميع البشر بما يكفل لهم تفجير طاقاتهم التي أودعها الله تعالى بالتساوي فينا جميعا، ويبقى أمام تساوي الفرص لجميع البشر تحت مظلة العدل، سعي كل إنسان واجتهاده، وحينما يكون هناك تنافس إيجابي سيخلق ذلك عند الجميع الهمة والعزيمة للسعي وسيعلي من مستويات الإرادة في تحقيق ما من شأنه حفظ القيم العليا كالكرامة والحرية والعزة، في مضمار العبودية لله فقط وهو ما يثبت أركان التوحيد في الأرض، كون العدالة تنفي كل أنواع الظلم، بما فيها ظلم الإنسان لنفسه بعبوديته لمثيل له أو لما هو أقل شأن منه.
ستقنن العدالة إدارة الموارد والثروات، وتحد من سلطة الحاكم وحاشيته عليها، بل ستفرض منهجا اقتصاديا مانعا للهدر والفساد والطبقية ومؤسسا للرفاهية و الاكتفاء الذاتي وتحقق مبدأ الكفاية. وهذا يعالج كثير من مشاكل الفقر والعوز وعدم تكافؤ الفرص.
التمييز:
التمييز تارة يصب في صالح العدالة، وهو تمييز إيجابي يخلق جو تنافسي تكاملي، ويدفع باتجاه التطور والنهضة، خاصة التمييز على أساس الكفاءة و المرتبة العلمية، كون الله ميز في المراتب بين الأنبياء، ولم يساوي بين الذين يعلمون والذين لا يعلمون، وهذا النوع من التمييز هو من فروع تحقيق العدالة.
وتارة يكون التمييز عقبة في طريق تحقيق العدالة، بل سهم يصيب العدالة في مقتل، وهو التمييز السلبي، الذي يضع معايير قبلية ومذهبية أو عائلية في التمييز بين فرد وآخر، ولا وجود لمعايير مثل الكفاءة والحق والأهلية، بحيث يتم التعاطي مع الفرد وفق معايير ذاتية قائمة على أسس عصبوية بعيدة عن الحق وعن منهج الله تعالى، ويحقق هذا النوع من التمييز فوضى في القيم والمعايير ويكون قاعدة لكل فساد.
فحينما يتم التمييز بين الأفراد، سواء كانوا أفراد في الأسرة، أو المجتمع، أو مؤسسات الدولة، أو في المدرسة، ويكون التمييز سلبيا، فإن ذلك مع التقادم سيخلق عند الذين وقع ضدهم التمييز حالة من الشعور بالغبن، وهو ما يولد شعورا بالظلم يتعاظم إذا ما تم إنصاف هذا الشخص، وبالتالي ستغيب صفة الإنصاف، وتحضر صفة الانتقام وفق مراتبها الخاصة، حيث لكل مرتبة غبن هناك مرتبة انتقام تناسبها، وهو ما يدفع المظلوم لممارسة الظلم ذاته على من ظلمه، لتحقيق الراحة النفسية ورفع شعور الظلم، وحتى لو مارس تمييزا مماثلا بحق مع ظلمه، بحيث تترسخ مع التقادم معايير وقيم جديدة بعيدة كل البعد عن الحق والإنصاف والعدالة، وتدريجيا تنتقل هذه كعدوى في المجتمع، وتصبح مفاهيم العدل مشوهة، بحيث يجد المظلوم ان العدل هو أن تمارس نفس ما مارسه الظالم عليك، تمارسه بحق الظالم لك، و يغيب معيار الإنصاف الذي يعتبر معيارا يعيد ميزان العدالة لنصابه حتى مع وجود بعض الظالمين، فالإنصاف يزيل الحجب عن النفس، ويعدل الشعور النفسي بالظلم، ويمنع تحوله لشعور بالانتقام، بل يضبطه ليكون شعورا يسعى لتحقيق العدل حتى في حق الظالم.
فمثلا: إذا كان الحاكم قام بممارسة تمييزا بين أفراد الشعب، بأن قرب فئة وأعطاها ميزات على حساب فئة أخرى لأسباب مذهبية أو قبلية أو عائلية، وقامت هذه الفئة باستخدام نفوذها في مخالفة القوانين ضد الفئة الأخرى كنوع من الهيمنة والتهميش، فإن الإنصاف يقتضي من الفئة المظلومة، من عدم السعي للانتقام، وعدم ممارسة نفس ما قامت به تلك الفئة في حال أتيحت الفرصة للفئة المظلومة مساحة للقرب من الحاكم. فإذا اخترقت الفئة المقربة من الحاكم قوانين وظلمت بهذه القوانين الفئة المهمشة، فإن ذلك يستدعي من الفئة المهمشة وفق قاعدة الإنصاف، أن تعيد ميزان العدالة لوضعه الطبيعي، وأن لا تستخدم الأدوات المنحرفة التي استخدمتها تلك الفئة لإعادة حقها، والدفاع عن الحق واسترداده لا يبرر استخدام نفس أدوات الظالم أو لا يبرر ظلم الآخرين بحجة استرجاع الحق، كون الحق لا يسترد بالظلم، أو للانتقام من تلك الفئة، بل عليها أن تعيد ميزان الحق والعدالة لينعم الجميع بها، و لمواجهة الفساد والتقليل من انتشاره.
لذلك يعتبر التمييز السلبي على مستوى من الخطورة بحق تحقيق العدالة، لآثاره النفسية والاجتماعية، وتغييبه معيار وقيمة الإنصاف، وبغيابها تحجب النفس عن الحق والعدالة، وتوجه إلى حالة الانتقام المتبادل الذي يغرق المجتمع بالظلم والتفرقة ويشتت جهوده ويشيع الفساد، ويكرس وجود الظالم، ويعيب مبدأ التوحيد على المستوى العملي، وإن بقي مرتكزا نظريا في النفس، لكنه معطل عمليا فلا يحرز الأثر المرجو منه.
بينما الإنصاف معيار يعيد نصاب الأمور إلى ميزان العدل والحق، ويمنع تفاقم الفساد، وتوسيع الهوة بين الأفراد والمجتمعات، ويعيد نصاب النظم وفق أسس سليمة في المجتمعات وفي المؤسسات والأسر.
إن إحراز العدالة النفسية وحضور قيمة الإنصاف التي هي قلب العدالة، يمنع انتشار الأمراض في النفس وفي المجتمع، فهو يمثل ضابطة للحاكم من جهة، وضابطة للمحكومين، ويعلي من منسوب الرقابة لكل جهة على الجهة الأخرى، وفق معيار الحق والباطل، بحيث يخرج من دائرة المعيارية كل أنواع الشخصنات مثل القداسات النابعة من المواقع والانتماءات، والعصبيات وكل نفوذ وظيفي أو موقعي يعمد إلى تجيير نفوذه لصالحه او من ينتمي إليه. بالتالي هو يذيب الحواجز و الهواجس، ويبني جسورا للتواصل والتواصي بالحق، لأجل تحقيق العدالة الشاملة.
خلاصة ورؤية:
– إن إشكالية مجتمعنا اليوم هو غياب العدالة، وحضور التمييز السلبي بكل أشكاله، ووهذا دفع بالكثيرين إلى غياب قيمة الإنصاف على مستواهم العقلي و النفسي وبالتالي السلوكي، ومن ثم إشغال المجتمع بخلافات بينية بعيدة كل البعد عن الإشكاليات الحقيقية وملفات الفساد.
– غياب المرجعية المعيارية وفق مبدأ الدليل والحق والباطل، وحضور القداسات الشخصية والانتماءات القبلية والمذهبية كمرجعية معيارية، وبالتالي الانشغال بصراعات لا تنجز شيئا غير الفرقة والكراهية وتقسيم المجتمع، وأخطر آثارها تقويض بنى الدولة، وتكريس الاستبداد، وتغييب العدالة واستحضار كل أنواع الغرائز وحضور مبدأ التوحيد على مستواه النظري أو كفرة عابرة، وغيابها على المستوى العملي بما يعيد مبدأ العبودية بأشكال مختلفة،
– عدم قيام المعنيين من النخب من كافة الطبقات بوظيفة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفق معيار الحق لا المصلحة، وهو ما يكرس من الفساد باسم المصلحة ويشرعنه بحجج نفعية ذاتية آنية يسبب فسادا متراكما على المدى البعيد يضر ببنية المجتمع ككل.
– انقياد أغلب النخب لرغبات ومطالب الجمهور حتى لو كانت خلاف الحق والعدل، مع عدم وجود وعي واقعي وموضوعي عند أغلب طبقات الجمهور، بل تحول الجمهور لنظرية مزرعة البصل، كلهم رؤوس.
– عدم امتلاك منهجية معرفية في تقصي الحقائق وامتلاك المعرفة، و الاعتماد غالبا على الشائعات في اتخاذ المواقف، مما يدخل المجتمع دوما في رياح الفتنة، ويشغل المجتمع بشائعات تستنفذ طاقته فيما لا يجب، ويسهل تمرير مشاريع سلطوية بعيدا عن الرقابة والمحاسبة، فغياب معايير قيمية على رأسها العدالة، من خلال مصادرة الحريات وممارسة شتي أنواع التمييز السلبي يؤدي إلى الفوضى المعرفية والحكمية.
الاتباع: معالم وأثار:
قدم الإمام علي نموذجا للرجل الرسالي، بل ربى محيطه القريب في الدائرة الصغيرة من أصحابه على السلوك الرسالي في علاقتهم به وعلاقتهم فيما بينهم ، وهو تأسيس لبناء أمة رسالية تبتعد عن كل العصبيات في تعاطيها مع أهداف الاسلام العليا ، وتبتعد عن الجزئيات التي تعيق مسيرتها في تحقيق أهدافها وأسماها على الاطلاق إزاحة كل أنواع الاستبداد والعبودية لغير الله ، وربط الإنسان بمحور هو الله ، وهو الهدف الذي يحقق الحقيقة الإنسانية وجوهرها في العدالة والكرامة.
فالارتباط بالأمير إذا كان ارتباطا عنوانه الطاقة الحرارية فإنه سيرتبط بالشخص لا بالنهج ، وهو ما سيتضح عند هبوب الفتن العاتية حيث سيسقط هذا الارتباط وستتحول الأهداف الرسالية الى إهداف مذهبية ذاتية ضيقة.
أما الارتباط الواعي بعلي عليه السلام فهو ارتباط بشخصه كمثل أعلى وبنهجه كمنهج يحمل أهدافا رسالية عالمية لا يمكنها في الملمات والفتن أن تنحرف أو تسقط حتى لو ضحينا بأنفسنا ولو قتلنا وصلبنا.
لأن علي ع أسس لمبدا اعرف الحق تعرف أهله ،أي الأصل هو الحق وفي سبيل هذا الأصل تذوب كل الهويات ، وترتفع كل العصبيات.
فعلي ع رغم أنه سلب حقه الذي فرضه الله تعالى إلا أنه ما تنحى عن مواجهة الانحراف بل اندمج في الدولة لحفظ التجربة الاسلامية من السقوط الكلي ، كما أنه حينما خُير بين أن يحارب لجلب حقه بالسيف وبين أن يحفظ بيضة المسلمين حتى لو وقع عليه الجور خاصة ، فقد اختار الهدف الاسمى رساليا والأقل خسارة في مفهوم الربح والخسارة الالهي وليس المذهبي أو الشخصي والقبلي، كونه نموذج هُدى لكل المسلمين بل لكل العالم .
فأسس لمنهج السلم والوحدة ، فلم يرض بإشهار سيفه وشق وحدة المسلمين رغم الانحراف الشديد عن الوصية الالهية، لأن دقته في التشخيص وعمقه وارتباطه الواعي بالنبي ص أعطاه القدرة على اتخاذ الموقف المناسب وليس الانفعالي.
فمارس الامام علي ع في كثير من المفاصل الخطيرة في بناء الدولة الاسلامية ممارسات تعكس عالمية شخصيته كنموذج وليس فقط إسلاميتها.
إذا هناك فرق بين الارتباط الواعي بالامام ع وبين ارتباط الطاقة الحرارية.
“فالوعي : عبارة عن الفهم الفعال الإيجابي المحقق للاسلام في نفس الأمة الذي يتأصل ويستأصل جذور المفاهيم الجاهلية السابقة استئصالا كاملا . ويحول تمام مواقف الانسان من مرافق الفكر الجاهلي إلى مرافق الفكر الاسلامي والذوق الاسلامي.
أما الطاقة الحرارية : فهي عبارة عن توهج عاطفي حار، بسعور قد يبلغ في مظاهره نفس ما يبلغه الوعي في ظواهره بحيث يختلف الأمر ، فلا يميز بين الأمة التي تحمل مثل هذه الطاقة الحرارية وبين أمة تتمتع بذلك الوعي إلا بعد التبصر[7]
ومن أبرز مظاهر الارتباط الحراري بشخصية الإمام هو كم المتناقضات الذي يمكن أن يظهر على هؤلاء في منهجهم العام وسلوكهم في مستواهم الذاتي الفردي أو الأسري او الاجتماعي ، وإن كانوا جماعات سيظهر على مستواهم السلوكي سياسيا واجتماعيا في المجتمع والدولة ومع الأمة وقضاياها المصيرية.
فالوعي مساراته تصاعدية تراكم رؤاه بثوابت لا تنفعل بالحدث ولا تتهاوى أمام الانفعالات، خارج من العصبيات كافة وداخل في معيار الحق والحقيقة، وهي تتفاعل مع الاحداث وتقرأ الراهن بدقة وعقل منفتح موضوعي وتملك قدرة في صناعة الحدث.
إن خط الوعي يحمل عمقا منهجيا ضاربا في جذور التاريخ وأفقا رحبا يستجلب من التاريخ ما يُمَكِّنه الاستفادة من التجارب والمراكمة عليها، بقراءة واقعية تصنع الحدث وتؤثر وليس تنفعل بالحدث وتتأثر .
فالامام علي ع الذي يؤسس لمنهج اتباع الحق لا اتباع الشخص، فهو يؤسس لمنهج شامل يطور وعي الأمة كون الحق له تمظهرات ثابتة وأخرى متحركة وفق الزمان والمكان ، فعلي ع قدم نموذجا للسلم الواعي الإيجابي وقدم نموذجا للردع لإرهاب العدو والباطل أمام جبهة الحق دون محاباة ولا تنازل .
واستيعاب هذه النماذج يتطلب ارتباطا بعلي ع بالوعي لا بالطاقة الحرارية .
فعبر التاريخ كثر ارتبطوا بعلي ع لكن قلة ثبتوا على حقه بعد الانقلاب الأول عليه في تحييده عن الحكم ،
والانقلاب الثاني عليه من قبل معاوية بن أبي سفيان في تحييده عن عقول الناس وصناعتها من خلال شيطنة شخصيته وإسقاطها اعتباريا في المجتمع بسبه على المنابر لمدة ٨٠ عاما ، حتى وصل الأمر أن يتساءل أهل الشام ” أوعلي يصلي؟“
وكلا الانقلابين على الحق كان منطلقهما التعصب ، فهو الذي حيد عليا عن الحكم في بداية الأمر وهو ذاته الذي قتل عليا في محرابه ومن ثم أقصاه إسلاميا ومذهبه وحجم حدود نفوذه العالمي.
هذا الثبات هو ثبات الارتباط الواعي،الذي يمكن الشخص من خلال ارتباطه بعلي ع الذي يجسد الحق، يمكنه من قول الحق في كل الظروف .
الارتباط الواعي يحمل في أعماقه النموذج بكليته ويتمظهر في الأزمات تفاعلا واعيا ثابتا لا متناقضا ، أما الارتباط الحراري فهو ارتباط انفعالي يفجر كل ما هو مستتر في الداخل بطريقة تحمل في طياتها متناقضات الحق ومتشابهاته بل تكتنز التعصب لا العصبةً.
فحينما نعود للتاريخ لنقرأ عليا ع ، فنحن لا نريد من تلك العودة أن تكون عودة جاهلية عصبية محملة بالطاقة الحرارية ، وإنما عودة وعي للحق ومنهجه التأسيسي وآليات تأسيسه لهذا المنهج ، كي نستفيد من تلك التجربة المعصومة. فالتاريخ فيه سنن تحكم المسيرة البشرية وهي سنن ثابته تجعل في التجربة البشرية منهجا ثابتا لكل البشر ، وفيه متغيرات زمكانية لا حاجة لنا بها خاصة بتلك الفترة.
ما نريده هو المنهج وتأسيساته وآليات التأسيس والأهداف العليا، وهو ما يتطلب العودة إلى الماضي بارتباط واعي بالحق وليس بارتباط حراري بالأشخاص رغم أن علي شخصية تجسد الحق ويجسدها الحق.
عودة اعتبار وإعادة قراءة بوعي منفتح وأفق أرحب وعقل متأمل نستفيد فيها من أدوات الحاضر في قراءة التراث بما يخدم حاضرنا ومستقبلا ويدفع بأمتنا نحو مزيد من التطور والازدهار ، قراءة غير منكفأة على الأشخاص بل مريدة للحق والحقيقة كما هي وكما رسمتها تجربة الماضين كأحداث ووقائع، خالية من إسقاطاتنا وقادرة على مقاربة أحداث التاريخ مقاربة برهانية موضوعية علمية تخضع كل التراث لمبضع جراحة الحقيقة .
فالارتباط الواعي يستطيع أن يستفيد من علي ع في واقعه في إصابة الحق دون شبهات ، بينما الارتباط الحراري يصيب ما يشبه الحق وليس بحق، لذلك يقع في تناقضات في الفكرة والموقف.
إن عالمية الرسالة دفعت النبي ص بتحويل مجتمع القبيلة إلى مجتمع عالمي يكون فيه الناس سواسية كأسنان المشط ، بالتالي من يخلف النبي ص سيؤسس منهجه على أساس عالمية الرسالة وليس مذهبيتها، وهو ما يتطلب التخلص من كل ذرات التعصب ومحمولات الجاهلية ، ووضع أهداف رسالية تتناسب وعالمية الحق .
عالمية الحق والحقوق :
الحقوق هي جمع حق والظلم هو سلب الحقوق ، فحينما يجسد عليا الحق ويتجسد الحق في علي ، وعندما نقول أن الحق عالمي فإن الحقوق أيضا عالمية لا تخص مصداق بعينه إلا ماخصصته الشريعة وفق معطيات خاصة تفرض لجهة حقوقا على أسس معيارية وتسلبها من أخرين وفق مبدأ العدالة .
يقول الامام علي ع في خطبته المعروفة بالشقشقية :
أَمَا وَالَّذِي فَلَقَ الْحَبَّةَ، وَبَرَأَ النَّسَمَةَ، لَوْلاَ حُضُورُ الْحَاضِرِ، وَقِيَامُ الْحُجَّةِ بِوُجُودِ النَّاصِرِ، وَمَا أَخَذَ اللهُ عَلَى العُلَمَاءِ أَلاَّ يُقَارُّوا عَلَى كِظَّةِ ظَالِم، وَلا سَغَبِ مَظْلُوم، لاََلقَيْتُ حَبْلَهَا عَلَى غَارِبِهَا، وَلَسَقَيْتُ آخِرَهَا بِكَأْسِ أَوَّلِها، وَلاََلفَيْتُمْ دُنْيَاكُمْ هذِهِ أَزْهَدَ عِنْدِي مِنْ عَفْطَةِ عَنْز
فالعهد والمنهج العالمي في شخصية علي هو أن لا يقار على كظة ظالم أي استئثاره بالحقوق ولا سغب مظلوم أي هضمه حقوقه فالسغب شدة الجوع.
فلو سلب مسلما حق يهودي أو نصراني فإن منهج علي عليه السلام هو استرداد الحق من المسلم وارجاعه لأهله.
وهذا يخرج الحق من كل العصبيات ويؤسس لأسس معيارية وقيمية في التعاطي مع المجتمع وفي منهج التعاطي مع قضايا الأمة المصيرية ، التي يفترض أن تقوم على معيارية الحق وعدم الظلم لا معيارية المذهب والقبيلة.
فيمكن بقراءة التراث الموضوعية أن نستلخص جانبا من منهج علي في السلم حينما يكون الخيار وحدة الأمة وإن وقع الجور علينا خاصة مع وجود عدو خارجي متربص بها، ومنهج علي في الحق والحقوق التي تؤسس لعالميتها وعلى أساس تحقيق العدالة.
ونستخلص منهجية تأسيساته لهذه المناهج ، لنستطيع الارتباط بعلي ع ارتباطا واعيا متفاعلا مع الحدث وصانعا له وفق هذا المنهج الرباني .
فعلي عليه السلام أسس منهجه بمعرفة الحق والارتباط به لا بمعرفة أهله والارتباط بهم ، فلا عصبيات في البين ، وأسس للمعرفة التي تنقل الإنسان للوعي والحركة على أساس هذا الوعي بل بالاندكاك الكل بهذا الوعي الحركي ، وتأسيس هذا المنهج جاء وفق مبدأ الحق والحقيقة والوعي والعقل ونبذ التعصب بكافة أشكاله والعالمية ، وجعل الارتباط بهذا المنهج ارتباطا واعيا وليس ارتباطا حراريا .
ولكن السؤال الذي يطرح نفسه دوما: لماذا رغم وجود شخصيات نموذجية كعلي عليه السلام مازال كشخصية نموذجية مؤطر بإطار مذهبي، ومازال كشخصية لم تطرق أبواب العالمية كنموذج قيمي ومعياري، لا أقلا علي مستوى ثوابت شخصيته ومستوى آليات ومنهج تعاطيه مع إشكاليات عصره التي تتشابه في بعضها مع إشكاليات عصرنا كمصاديق، وتتشابه معها طباقا كمفاهيم؟
الخطاب الديني والنزعة الطائفية/ التحيزي والتعصبي
العقل مسار معرفة الشريعة ، والقلب مسار معرفة الطريقة ، والطريقة تقودنا إلى الحقيقة ، ولا تتم الطريقة إلا بالشريعة ،ولا تتم الحقيقة إلا بالطريقة، فرسم مسارات التعرف على الشريعة يضيق من دوائر الوهم وانحراف العقل ، ولكنه لا يكبل العقل ضمن هذه المسارات بل يرسم له الطريق للسير والانطلاق نحو القلق والشك الإيجابي ، اللذان يبعثان على البحث الدائم عن أقرب صياغات للشريعة وأقرب مسارات للطريقة التي توصلنا لأقرب نقاط من الحقيقة.
ولعل أهم ثابت لدينا ومسلمة يقينية هي حاجة الإنسان للدين وتدين الإنسان الفطري، إلا أن تجليات هذا التدين وهذا الدين هي محل قراءات كثيرة في عصرنا تمايزت بين الافراط والتفريط وبين التعصب والتساهل ، ولم يجد الخطاب الديني المعتدل له محلا في صياغات العقل الجماهيري ، الذي استطاع الاعلام أن يرسم له خيارات مسبقة ويصنع له قناعات متطرفة تصب في الهدف الاستراتيجي للسياسات العالمية المهيمنة على العقل البشري وساحة الفعل لديه.
بل كان أيضا لكثير من الخطابات الدينية دورا فاعلا في إعادة إحياء نزعات كثيرة هي مصاديق للتعصب الذي حذرت منه كثير من الروايات الواردة بعدة طرق معتبرة لدى الفريقين ، بل التعصب منبوذ عقلا لدى كل الأديان.
لا ننكر أن الممارسات التاريخية للسلطات المتعاقبة عبر التاريخ سواء لدى المسلمين أو الديانات الأخرى مارست دورا فاعلا في إذكاء حالة التطرف من خلال التمييز والإقصاء الذي مارسته ضد المختلف معها عقديا أو سياسيا.
حيث تحالفت كثير من هذا الأنظمة عبر التاريخ مع السلطة الدينية كي تشرعن ممارستها فتحظى بالتفاف شعبي إذ كرست مقولة ” الناس على دين ملوكهم ” ، هذا الاقصاء والتمييز يخلق ردات فعل لدى المستهدفين تتمايز بين الشدة والضعف ، ولكن يغلب على معظمها طابع التعصب والانفعال وينمي حالة الانتقام بل يعمق حالة الانكفاء على الذات لدى المستهدفين ويعمق الهوة بين أبناء الأرض الواحدة ، لتصبح الطائفة والمذهب والقبيلة هي المأوى وليس الدولة والقانون والشرعية الالهية كما هي ، وليس كما يراد لها من صياغات تخدم السلطان وتدعم نفوذه وتشرعن وجوده وآليات حكمه.
ولكن هل سنبقى أسرى التاريخ ونستحضر الماضي لتشويه الحاضر وهدم المستقبل ؟ أم علينا الاعتبار من التاريخ وتحويل الثغرات والسلبيات إلى محطات إيجابية نعتبر منها ونعالجها لتصنع حاضرا مختلفا يناسب لحظة الراهن ويحاول قراءة ذلك التاريخ بأدوات العصر العقلية والمعرفية ، ليتجاوز الماضي بتفاعلات الحاضر الراهن ويتجاوز من الانفعال إلى الفعل والانجاز والتقدم؟
إن أحد أهم إشكاليات الخطاب الديني الراهن هي إشكالية الفرقة الناجية التي تستبطن مفردة امتلاك الحقيقة، حيث تعد من الإشكاليات العوائقية الواقعية الموغلة في بناء الحواجز النفسية قبل الدينية، إذ مجرد ادعاء امتلاك الحقيقة يفضي في الذهنية العامة ادعاء كون ممتلكها مصداق للفرقة الناجية، وهو ما يبني تراكميا حواجزا نفسية مع المختلف ويغلق آفاق الانفتاح عليه والتعايش معه بل والاستفادة من تجربته المعرفية والفكرية والتي دعت لها الآية الكريمة ” وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم ” .
ومن هنا يكون المنطلق من تفكيك الخطاب والبنية الفكرية ومعالجة أوجه الخلل وفق معطيات الراهن وإشكاليات الحاضر، وحاجة الإنسان كفرد وحاجة الأمة كمجتمعات في إعادة فهم النصوص الدينية وإعادة بناء خطاب ناضج وقادر على تلبية حاجة الإنسان والدول في الاستقرار الاجتماعي والأمن في بنية العقل العربي والإسلامي.
فمعالجة جذور المشكلة تكون في ٣ اتجاهات رئيسية :
الاتجاه الأول:
– الخطاب الديني وإعادة رسم معالم الشريعة وفق أدوات العقل العصري الراهن.
السؤال الذي يتبادر للذهن هو : هل واقعا بتنا بحاجة لتفكيك الخطاب الديني وبنيته الداخل دينية والخارج دينية،
وإعادة بناء خطاب لا يتنازل عن ثوابته وكلياته ولكنه يدخل للمناطق المرنة في الشريعة ويعيد قراءة النص بعقلية الحاضر، والعمل على المواءمة بين الثابت والمتغير والحفاظ على أصالة الاسلام وخلوده ؟
ومن المعني واقعا بعمل ضخم كهذا في مراجعة التراث وإعادة قراءته وتصفيته من كل ما من شأنه مخالفة صريح القرآن وكلياته ؟ هل المؤسسات الدينية فقط أو هي والنخب من المثقفين والمفكرين والأكادميين المتخصصين في العلوم الإنسانية المختلفة ؟ وهل لهذه العلوم مدخلية في هذا العمل التفكيكي ؟
باتت الحاجة في حاضرنا لهذا التفكيك ملحة حيث أصبحنا موغلين في التطرف والتخندق ضد بعضنا البعض، وباتت الخطابات الدينية تعمق الهوة بين أفراد البشر متكأة على العصبيات المذهبية والطائفية ، بل حولتها لسلاح في دعم مساراتها السياسية ورغباتها في السلطة ، بعد أن تحولت المعرفة لمعتقل في سجن عالم السياسة وباتت السياسة هي التي ترسم آفاقنا المعرفية إن صح التعبير ، بدل أن تكون المعرفة هي المنتج لكل الفوقيات وبدل أن تشكل هي القاعدة لذلك .
وأهمية هذا التفكيك تكمن في سلطة الخطاب الديني على الانسان، كونه مفطور على التدين وسلطة الفقيه أو رجل الدين في لاوعيه ، فالتفكيك هو المرحلة الأولى في إعادة صياغة خطاب ديني تعايشي وتسامحي ولكن ليس تساهلي ، يحدد الخطوط العامة والخاصة ويضع نقاط كالجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر على حروف مقتضيات الزمان والمكان كي تتضح الصورة بشكل أكثر تجليا مع معطيات راهننا .
بالتأكيد أنا كل سؤال من الأسئلة المطروحة هو بذاته يحتاج بحث تفكيكي مفصل ومنهجي وعلمي وموضوعي لنخلص إلى تصور يكون الأقرب للواقع والحقيقة .
إن التركيز على معياري خير قوم وشر القوم هو تركيز على معياري الخيرية والشرية وليس معيار القوم وإعادة بناء المفاهيم وفق هذين المعيارين اللذان ذكرا في الحديث الذي عرّف خلاله رسول الله صلى الله عليه وآله التعصب ،وألمح بل أشار إلى أن التعصب هو أن ترى شرار قومك خير من خيار قوم آخرين ،قد يفسح المجال أمام العقل ويفتح آفاق كبيرة تؤسس لمنظومة إسلامية معيارية اجتماعية قادرة على تذويب الحواجز بين أطياف المجتمع ، وإعادة التآلف الداعم للاستقرار وتحقيق الأمان للمجتمع.
الاتجاه الثاني في معالجة جذور المشكلة:
– إعادة إنقاذ النزعة الإنسانية للدين: وهو ما يدعو لإعادة النظر في رؤية الدين كمجموعة قوانين حازمة ومتجردة يكون الإنسان في خدمتها، لتتحول إلى قوانين فيها روح هدفها تحقيق مقاصد كبرى تكون في خدمة الإنسان وتكون العلاقة بينها وبين الانسان علاقة تبادلية ، فالدين جاء للحياة الدنيا فهي المزرعة وفيها يزرع الثمر والآخرة حصاد ، لذلك إعادة قراءة الدين وفق هذا المعطى الذي يضع الانسان نصب عينيه ويضع إنسانيته حاضرة وتحقيق العدالة كمقصد وكقيمة جوهرية تتحقق من خلالها كرامة هذا الانسان ، قد يقدم حلا تصالحيا مع الدين وليس تنازعيا وتصادميا معه.
وأيضا نطرح تساؤلا : من هو المعني بذلك واقعا ؟ وما هي الآليات التي تحقق هذا الهدف ؟
الاتجاه الثالث:
– الاعلام وأعادة إنتاج خطاباته ومنهجياته على ضوء ما سبق ليتخلص من كل رواسب التعصب باسم الدين والدفاع عن الله .
ويأتي الاعلام كخطوة لاحقة لما سبق لما له من دور محوري في الترويج لهذا المشروع التصالحي مع الدين ، إذ بات هو وسيلة قوية في صناعة وعي الناس وإعادة صياغة أولوياتهم ومفاهيمهم ورغباتهم ، بل في تحريكهم وتثويرهم وفق الوجهة القائمة على هذه الوسائل الاعلامية ، بالطبع هذه الخطوة تحتاج أيضا مقدمات متعلقة بأصحاب المشروع الاعلامي الذين يحتاجون الى عدة مقومات للقيام بهكذا مشروع
أهمها :
– الاكتفاء الذاتي اقتصاديا ومعرفيا وحضور الهدف الرباني
– الاكتفاء يتولد عنه الاستقلال وعدم الانتماء ، وهما مطلبان لخلق ذهنية مستقلة موضوعية ومنهجية قادرة على صياغة خطاب معتدل غير متطرف .
– الاستمرار والثبات وكسب ثقة الجمهور ، وهو ما يتطلب القدرة الفنية والتخصص والاطلاع على كل تطورات عالم الاعلام التقني والنظري والمفاهيمي ، واستخراج النظريات الاعلامية من خلال قراءة النص الديني قراءة موضوعية يستقرئ الواقع الإعلامي ويعرضه على النص الديني ليستخرج من بطون النصوص النظرية الاسلامية في الاعلام .
– القدرة على الانتشار وهو ما يتطلب عالمية منهجية وخطابية قادرة على مخاطبة كل الجماهير وليس جمهور طائفي أو مذهبي يتناسب هذا الخطاب مع عالمية الاسلام وينطلق من مبدأ ” وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين “
فالحضور الفاعل لتيار الوعي في عمق التجربة الدينية ، ومحاولته مراكمة الجهود والأفكار والمعارف ، وإكمال مسيرتها وليس الذوبان فيها أو التحليق حولها ، قد يهز جدار الصمت في الخطابات المذهبية والطائفية ، ويعيد الرشد للنزعة الإنسانية في الدين ، ليرسم مسارات إعلامية عالمية قادرة على الجذب ومانعة للصد وقادرة على إزالة الموانع أمام وظيفتها في هداية الناس ليس بالسيف ومنطق القوة ، وإنما بسلاح الكلمة والعقل وقوة المنطق.
الهوامش
[1] محمد باقر المجلسي ، بحار الأنوار ، ج١٦ ، ص ٢١٠)
[2] الكافي ج ٢ ص ٣٠٨
[3] باب المختار من حكم أمير المؤمنين ص ٧٧٨،٧٧٩
[4] الحديد– ١٦
[5] الشيخ حيدر حب الله في سؤل وجه له حول السند وأجاب وفق منهجه السندي
[6] https://youtu.be/UI0QINo_Ffcمن العبودية إلى العبودية
[7] ” الامام علي سيرة وجهاد – دار المرتضى ص ٩٤ – ٩٥
الطبعة الاولى – السيد الشهيد محمد باقر الصدر