مطالعة نقدية في نظريات سروش حول القرآن
أ. عبد العلي بازرگان(*)
تمهيد ــــــ
قال تعالى: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أولُواْ الألبَابِ} (آل عمران: 7).
سماحة الأستاذ الكريم الدكتور سروش، قرأت الحوار الذي كان لكم مع الإذاعة العالمية في هولندا بعنوان «كلام محمد»، وأكبرت استقلالكم وشجاعتكم العلمية في بيان ما ترونه صائباً، ولا شك في أن نظرياتكم، حتى في الموارد المخالفة للعقائد العامة، وبما أنها تحرك الركود العلمي، وتثير الإيمان الكامن، يجب أن تحظى بالترحيب، وأن تدعو المفكرين إلى النزول في حلبة التضارب بالآراء، وتبادل الأفكار، والدعوة إلى الحكمة والجدال بالتي هي أحسن؛ للوصول إلى الحقيقة، وفتح المناخ الثقافي المغلق، وإدخال النور إلى مجتمعنا.
وإن قلمي الذي استفاد من أفكاركم، وكتب أحياناً بعض أنواع النقد، وقدم بعض النظريات، يحاول هذه المرة من خلال طرح أسئلة ناشئة عن تعارض استنباطاتي من كتاب الله مع نظرياتكم الأخيرة، عسى أن تثمر هذه البضاعة المزجاة، وأن تغدو بعون الله خطوة متقدمة في الاقتراب من معرفة كلام الوحي.
من هو قائل القرآن؟ ومن المخاطَـب به؟ ــــــ
يمكن العثور على جواب هذا السؤال خارج البحوث الكلامية والجدل اللفظي، وذلك من خلال تلاوة القرآن في ختمة واحدة، فالقرآن صريح في أن النبي لم يكن متكلماً بالآيات حتى ولو لمرة واحدة، بل إنه ‘ لم يقُل حتى آية واحدة من القرآن الكريم، وطبعاً هناك موارد من قبيل: {قَالَ الرَّسُول}، و{إذْ يَقُول}، وما إلى ذلك من نقل كلامه ‘، إلا أن من يباشر الكلام هو الله.
قبل سنوات أعطيت نسخة مترجمة من القرآن إلى معلم أمريكي رغب التعرف على محتويات القرآن بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001م، وكان أول سؤال بادرني به بعد لقائنا هو: من هو قائل القرآن؟ ومن هو المخاطب به؟
فقد تعود في قراءته للكتاب المقدس أن يجد الحواريين هم المتكلمون مباشرة، أو حكايةً عن النبي موسى وعيسى ’، وإذا به عند قراءة القرآن يجد نفسه أمام تنوّع وتغيير مستمر من موضع المتكلم إلى موضع المخاطب، وكذلك التغيير المستمر في الضمائر والأزمنة من الماضي والحاضر والمستقبل!!
وقد أجبته آنذاك بجواب مختصر، ولكن سؤاله بقي يتردد في ذهني حتى هذا اليوم، حيث توصلت إلى الإجابة عنه ببركة الحوار الذي أُجري معكم.
قائل القرآن ــــــ
إن قائل القرآن طبعاً هو الله، والذي يبين كلامه بضمائر المتكلم المفرد (أنا)، أو المتكلم الجمع (نحن)، أو الغائب، وبأزمنته المختلفة، وفي الوقت نفسه يكون المتكلم أحياناً الملائكة، وتارة الأنبياء، وأخرى نجد أنفسنا نحن من يتولى الكلام، كما في سورة الحمد، أو في طيات الآيات التي تُستَهَلّ بقول: {رَبَّنَا}، وأحياناً إبليس، والأعجب من ذلك أن نجد المتكلم أحياناً هو الأرض والسماء والجلود، كما في سورة فصلت: 11 ــ 21، وما شابه ذلك.
وأما المخاطب فإننا نجد التنوع فيه أكثر من التنوع في جانب المتكلم بكثير، وهذا الاستيعاب والشمول لا نشاهده في أي كتاب آخر. وإن هذا التغيير المستمر في الزمان، من الماضي والمستقبل والحاضر، وفي الضمائر (بجميع حالاته الستة)، واختلاف المخاطبين، دليل على أنه إلهي، وأنه خارج دائرة الزمان والمكان، مما يُعجِز الآخرين عن الإتيان بمثله.
أنواع المخاطَـبين ــــــ
إن المخاطب في القرآن، وخصوصاً في السنوات الأولى، هو شخص النبي ‘ وأهل بيته.
وأحياناً يكون المخاطب هم المؤمنون، حيث يتكلم الله معهم من خلال النبي، وفي هذه الحالة يعتبر الجائي بالقرآن غائباً.
وأحياناً يخاطب الله المعاصر للنبي (أعم من المؤمن والكافر والمنافق) مباشرة، كما في آيات كثيرة.
وفي الكثير من الموارد نجد أن أهل الكتاب وبني إسرائيل هم المخاطبون بالقرآن، وكأن هذا الكتاب إنما نزل لهدايتهم، وأنه نزل مصدقاً ومؤيداً ومقوياً للتوراة والإنجيل.
وأحياناً يخاطب الله جمهور الناس، بغضّ النظر عن عرقهم أو دينهم، من قبيل قوله تعالى: {يَا أيُّهَا النَّاس}، و{يَا أيُّهَا الإنْسَان}، و{يَا بَنِي آدَم}، وهي آيات كثيرة، كما وصف القرآن نفسه بأنه {هدىً للعَالمَين}، و{كافَّة للنَاس}، و{نَذِيراً للبَشر}، و{رَحْمَةً للعَالَمِين}.
وأحياناً يكون المخاطب هم الملائكة، وأحياناً إبليس، والأرض، والسماء، وجميع الكائنات.
وفي هذه الموارد المتقدمة، أعم من المتكلم أو المخاطب، نجد الله طرفاً في الحوار.
والمدهش أننا لا نجد الله في بعض الآيات متكلماً ولا مخاطباً، وإنما يكون الحوار بين أهل الجنة، أو بينهم وبين أهل النار، وبين أهل النار أنفسهم، أو بينهم وبين أهل الجنة، أو بين الملائكة وأهل الجنة، أو بين الملائكة وأهل النار، وحوار إبليس مع أهل النار، وبالعكس، مع أن القيامة لم تقع بعد، ولا يمكن لغير الله خالق الزمان والمكان أن يكون ناقلاً لهذه الأحوال والأقوال، فكيف يمكن للنبي المحدود بالزمان والمكان أن يكون هو قائل هذا الكلام.
وكما ذكرنا فإنه لم نعثر ولو على آية واحدة في القرآن يظهر فيها النبي بوصفه متكلماً مع الناس وليس ناقلاً عن الله، في حين أن أشعار المولوي وحافظ هي كلامهم المباشر، إلا في ما ندر.
محاور آيات القرآن الكريم ــــــ
تمحورت آيات القرآن الكريم في خمسة مواضيع، وهي:
1ـ الماضي (تاريخ الأنبياء والأمم السابقة).
2ـ الحاضر (عصر النبي).
3ـ المستقبل (أحوال القيامة).
4ـ الطبيعة (آيات الله في الآفاق والأنفس).
5ـ الشريعة (الأصول والقوانين التي تحكم الحياة الطيبة).
وكل سورة هي تركيب من هذا الانسجام.
ولم يكن لنبي الإسلام الأمي، إلا في ما يتعلق بالموضوع الثاني إلى حدٍّ ما، أيّة معرفة بهذه المواضيع؛ ليكون هو المتكلم والقائل فيها.
ويؤكد القرآن هذه الحقيقة بقوله: {مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلا الإِيمَانُ} (الشورى: 52)؛ و{وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ} (العنكبوت: 48). وإنه إنما كان تابعاً للوحي فقط، وقد ورد بيان هذه الحقيقة في ثلاث عشرة آية، منها قوله تعالى: {قُلْ إِنَّمَا أَتَّبِعُ مَا يِوحَى إِلَيَّ مِن رَّبِّي} (الأعراف: 203).
إملاء القرآن ــــــ
كيف يكون القرآن كلام النبي، والحال أنه أصدر الأمر له بلفظ {قُلْ} أكثر من 330 مرة؟!
وينقل عن القذافي ــ والعهدة على الناقل ـ أنه قال: «الآن، وبعد أن أبلغ النبي جميع هذه الأوامر، فمن الأفضل أن نحذف جميع كلمات {قُلْ} الواردة في القرآن»!!
والعجيب أيضاً أن القرآن ينقل أقوال الآخرين، وجلُّهم من المخالفين، أكثر من 330 مرة أيضاً، بألفاظ من قبيل: {قَال}، و{قَالوا}، و{يَقُولُون} و…؛ ليعلمنا الأمانة في نقل كلمات الآخرين، وإثبات حرية التعبير؛ فينقل كلمات أعداء الله ورسوله بعينها؛ كي لا يكون الحكم من طرف واحد!!
وبعد ذلك هل يمكن القول: إن النبي شخصياً بادر إلى ذلك خلافاً لتعاليمه؟
أسلوب القرآن ــــــ
هناك آيات في القرآن تدعو القارئ إلى التعجب، وتضطر المفسرين إلى تأويلها على خلاف ظاهرها، فإن أسلوب هذه الآيات في ما يتعلق بالأنبياء عموماً والنبي الأكرم خصوصاً أسلوب تذكير وتربية وتنبيه، بل وحتى تهديد، أكثر منها في التمجيد والمدح!
فقد أمر النبي الأكرم بالاستغفار في ما لا يقل عن أربع مرات في ما يتعلق بالقضاء بين الناس، والصبر على الأعداء، والتوحيد، والقيامة. ومهما حاولنا تأويل وتغيير المعنى المعهود من (الاستغفار) فلا يمكن إنكار أصله.
وأُنذر النبي بأن يكون صبوراً تسع عشرة مرة، منها: {فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أولُوا العَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِل لَّهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ مَا يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاّ سَاعَةً مِّن نَّهَارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاّ القَوْمُ الفَاسِقُونَ} (الأحقاف: 35)؛ وقوله تعالى: {اصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُودَ ذَا الأَيْدِ إِنَّهُ أوابٌ} (ص: 17)؛ وقوله تعالى: {فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَلا تَكُن كَصَاحِبِ الحُوتِ إِذْ نَادَى وَهُوَ مَكْظُومٌ} (القلم: 48).
كما أنذر الله نبيّه بقوله: {لا تُطِعْ} تسع مرات، محذِّراً إياه من مغبّة إطاعة الكافرين والمنافقين والغافلين والضالين ومن كان على شاكلتهم.
وتبدأ سورة الأحزاب، التي يتعلق جزءٌ منها بالنبي وأهل بيته، بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللهَ}.
وهناك سورة سميّت بسورة التحريم؛ لما فيها من التأنيب لرسول الله، بقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللهُ لَكَ}، في إشارة إلى أن النبي لم يكن مختاراً في جميع تصرفاته الخاصة، فما الظن بأصل الكتاب والوحي.
ولا يقتصر الأمر على التأنيب المتقدم بين الحبيب ومحبوبه، فهناك سورة أخرى، وهي (عبس)، تنتقد النبي على تصرفٍ بدر منه تجاه شخص أعمى أزعج مجلسه بصيحاته «يا محمد»، وقد كان النبي في مجلس هداية مهمّ؛ فقطَّب حاجبيه واستاء منه، وخلد هذا النقد عبر التاريخ.
عدم بطلان الإشارات التاريخية في القرآن ــــــ
سماحة الدكتور، بما أنكم أشرتم إلى رؤية السيد الطالقاني في تأييد نظريتكم فها نحن نعرض أمامكم نص كلامه في تفسير سورة (عبس) بشأن رسول الله، حيث يقول: «إن شخص النبي كان في دعوته ورسالته خاضعاً للوحي، الذي كان يراقب أدق تفاصيل أفكاره وتصرفاته، وهذا دليل قاطع على أنّ وحي الأنبياء لم يكن من نوع الكشوف والإلهامات العادية، وكذلك فإنه ليس من مبدأ اللاشعور، الذي يعوّل عليه علماء النفس المحدثون في تفسير كلّ ظاهرة نفسية، والذي يعدونه مفتاحاً لحلّ أسرار الوحي، إن مبدأ الوحي في عملية إبلاغ الرسالة الإلهية وتقدّمها كان يراقب النبي المسؤول المباشر عن الرسالة، بحيث يرصد أفكاره وأطواره وحركاته، وحتى نظراته وتعبيرات وجهه». في حين إنكم تقولون: «إن ما يقوله القرآن حول الوقائع التاريخية وسائر الأديان والموضوعات العملية في الأرض ليس من الضروري أن يكون صحيحاً»، كما قلتم في موضع آخر: «إذا تلوتم القرآن تشعرون أن النبي جذلٌ أحياناً، فيقطر لسانه فصاحة، وفي أحيانٍ أخرى ضَجِرٌ، ويتكلم بلغة عادية جدّاً».
أما ما يقوله الله بشأن الوقائع التاريخية وسائر الأديان في القرآن فهو صريحٌ: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ}، وليس أساطير يتناقلها الناس من محفوظاتهم عبر التاريخ([1]). وقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُواْ أَمْرَهُمْ وَهُمْ يَمْكُرُونَ} (يوسف: 102)؛ وقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ} (آل عمران: 44)؛ وقوله تعالى: {ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء القُرَى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْهَا قَآئِمٌ وَحَصِيدٌ} (هود: 100).
وبشكل عام فإن القرآن يعتبر جميع قصص الأنبياء من كلام الله، وأنه هو الذي ذكرها للنبي مباشرة، ودعاها بـ «القصص الحق»، وليست أموراً رمزية وأُسطورية.
وقد شمل الله نبيه بعفوه؛ بسبب إذنه للمنافقين في التخلف عن الحرب، حيث كانوا يستأذنونه بمختلف الأعذار والحجج؛ فيأذن لهم بحسن نية وطوية، وذلك في قوله تعالى: {عَفَا اللهُ عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} (التوبة: 43).
سماحة الدكتور، إذا كان النبي هو الموجد للوحي فكيف يمكننا تفسير هذه الأدلة الواضحة، والتهديدات الشديدة والكثيرة، كما في قوله تعالى: {فَلا أُقْسِمُ بِمَا تُبْصِرُونَ * وَمَا لا تُبْصِرُونَ * إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ * وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلاً مَا تُؤْمِنُونَ * وَلا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ * تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ العَالَمِينَ * وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ * لأَخَذْنَا مِنْهُ بِاليَمِينِ * ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الوَتِينَ * فَمَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ} (الحاقة: 38 ــ 47)؛ وكذلك قوله تعالى: {وَإِن كَادُواْ لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أوحَيْنَا إِلَيْكَ لِتفْتَرِيَ عَلَيْنَا غَيْرَهُ وَإِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً * وَلَوْلا أَن ثَبَّتْنَاكَ لَقَدْ كِدتَّ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً * إِذاً لأذَقْنَاكَ ضِعْفَ الحَيَاةِ وَضِعْفَ المَمَاتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنَا نَصِيراً} (الإسراء: 73 ـ 75).
النبوّة والشعر ــــــ
ذكرتم من خلال الاستفادة من الاستعارة الشعرية لبيان مسألة الوحي أن الوحي (إلهام)، وهو نفس التجربة التي يخوضها الشعراء والعرفاء وأن الوحي أعلى درجات الشعر، وأن الشعر أداة معرفية، فالشاعر يستشعر مصدراً خارجياً يلهمه الشعر، ويمكن للشاعر أن يفتح آفاقاً جديدةً للناس.
وأنا لا أنكر دور الشعر الإيجابي، وكذلك الأدب وأنواع الفنون، في تلطيف الروح الإنسانية وتعزيز أهدافها وغاياتها. وكذلك أعلم أن وظيفة الشعر الراهنة تختلف في بعض أنحائها عما كان عليه في العصر الجاهلي. ولكنْ بما أنني أجد التعرف على الوحي من خلال الاستعارات الشعرية متعارضاً مع ما يؤكد عليه القرآن في التفكيك بين هذين المسألتين أخشى أن يؤدي مثل هذا التمثيل والتشبيه والاستعارات إلى التدني بالوحي إلى مستوى التصويرات الذهنية عند البشر.
وأنتم تعلمون أن نسبة الشعر إلى النبي كانت هي التهمة التي وجهها المشركون إلى النبي الأكرم ‘، وقد صرح القرآن قائلاً: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاّ ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُّبِينٌ * لِيُنذِرَ مَن كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ القَوْلُ عَلَى الكَافِرِينَ} (يس: 69 ــ 70).
لقد اعتبرتم الشعر إلى جانب العلم والفلسفة أداة معرفية، وأنه يلهم إلى الشاعر من مصدر خارجي، إلا أن القرآن يرى أن هذا المصدر ليس سوى أوهام وتصوّرات وتخيلات بعيدة عن الواقع، قال تعالى: {وَالشُّعَرَاء يَتَّبِعُهُمُ الغَاوُونَ * أَلَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وَادٍ يَهِيمُونَ * وَأَنَّهُمْ يَقُولُونَ مَا لا يَفْعَلُونَ * إِلاّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ} (الشعراء: 224).
وإذا ظهر شعراء، مثل: سعدي، وحافظ، والمولوي، وأمثالهم في بقاع أخرى، وصدرت عنهم كلمات تربوية معبّرة، أو استلهموا من مصادر إلهية، وتمسكوا (بحبل الله)، أو (بحبل من الناس)، ودافعوا عنهم بوجه الظلم، فإن تاريخنا حافل بالشعراء الذين وظَّفوا شعرهم في مدح السلاطين، ولعق موائدهم، والتستر على مظالمهم.
آلية الوحي العام ــــــ
ذكرتم في بيانكم لمسألة الوحي رؤيتين عن الوحي، هما:
1ـ الرؤية التقليدية، التي ترى القرآن بأجمعه كلام الله، الذي لا يتطرق إليه الخطأ، وتعتبر النبي بمنزلة مسجل الصوت، الذي يكرر ما يهبط عليه من الإلهامات.
2ــ رؤية المجدِّدين، الذين يرون القرآن كلام النبي، وأنه في ما يتعلق بمسائل العالم والمجتمع الإنساني قابل للنقد والتخطئة.
ومن الواضح أن الله تعالى في القرآن يُصدِّر أفعاله بضمائر من قبيل: «إني»، و«أنا»، وما إلى ذلك؛ وأحياناً بضمائر من قبيل: «إنّا»، و«نحن»، وغير ذلك. والعجيب أنه تعالى يذكر الوحي بضمير (نحن) ثلاث وثلاثين مرة، إلا في مورد واحد، من قبيل: «أوحينا»، و«نوحي»، و«نوحيه»، و«نوحيها»، و«وحينا».
فما هو الفرق بين ضميري المتكلم المفرد والجمع في ميكانيكية الوحي؟ ولماذا قرن الوحي بـ «نحن»؟ فمن هم المرادون بلفظ «نحن»؟
ربما أمكننا التقرّب من المسألة من خلال ذكر مثال بسيط: حينما يقول مدير مدرسة: «لقد قبلنا هذا العام مئة طالب» لا يفهم السامع من ذلك أن هذا المدير قام شخصياً بقبولهم، بل إن الذي قام بذلك كادر الإدارة في المدرسة، من المدراء والمدرسين والعاملين فيها، تحت إشراف وتخطيط المدير من جهة، وجهود ومساعي المقبولين من جهة أخرى.
وكذلك الحال في مدرسة الوجود يعتبر الأنبياء والأولياء الصالحون طلاباً متفوقين، نجحوا في دخول مدرسة السعادة ورضا الرب، مع فارق أن دور المدير في مدارس الدنيا محدود ومعيّن، وهو سبب إلى جانب سائر الأسباب، في حين أن دور (ربّ العالمين) دور مطلق وشامل ومبدع وموجد لبقية الأسباب.
وإنكم بإدخال الأحاسيس والحالات النفسية للنبي، وحتى تأثير سروره أو حزنه، في نصّ القرآن، قد قسمتم هذا الكتاب في الحقيقة إلى قسمين: إلهي، متعلِّق بمعرفة الله، والآخرة، والأخلاق؛ وتاريخي واجتماعي، يمكن إبطاله ووقوع الخطأ فيه، واعتبرتم النبي تلميذاً متفوّقاً، يعمل على نقل بعض نظريات مدير مدرسة الوجود.
وبما أن الضمير «نحن» في آلية الوحي يظهر دور الخالق (مشيئة هدايته الحكيمة ورحمته) في تحريك القوى، وأسباب الوحي (جبرائيل الأمين)، وشخص الرسول، جزءاً من الضمير «نحن»، وثمرة ونتيجة لهذا المحصول، وهو بوصفه أميناً على الرسالة، ومأموراً بإبلاغها إلى الناس، لا يمكنه أن يكون حاملاً لجزء من تلك الرسالة، وأما الجزء الآخر فيسمح لنفسه بالتصرف فيها، بأن يصوغها بلغته وأسلوبه والعلوم التي تعلمها من بيئته.
لو أن الطالب المتفوّق في مدرسة الوجود كان له دور مشابه لسائر الطلاب في مدارس الدنيا في نهاية الدراسة لأمكنه أن يشق لنفسه الطريق الذي يحلو له، إلا أن النبي بوصفه حامل أمانة النبوّة وهداية الآخرين فإن المنطق يحكم باستحالة أن تكون تعاليمه مزيجاً من الجهات البشرية وحالات السرور والحزن من جهة والجهات الإلهية من جهة أخرى.
(أنا) محمد في خدمة (الوحي) الإلهي ــــــ
هل الدين والكتاب السماوي نتاج ما تفتقت عنه الذهنية المبدعة للنبي، وقد تكوّنت بعد البحث والتجارب الطويلة والأفكار والجهود في حلّ المعضلات الاجتماعية؛ بتأثير من الإلهامات الإلهية على نحو تدريجي؟
و هل المنشأ والمحور والهدف هو شخص النبي، وأنه هو المبدع للوحي والموجِد للقرآن؟
إن هذه الرؤية تتناقض بصراحة مع بعض آيات القرآن، التي ترى أن آلية نزول الوحي مستقلة بالكامل عن التجربة والجهود، وحتى إرادة النبي، ومنها قوله تعالى: {لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ} (القيامة: 16 ــ 19).
وقد اعتبر العلامة الطباطبائي & في تفسير الميزان هذه الآيات جملة معترضة تهدف إلى عملية تربوية تدعو النبي إلى عدم التقدّم على الوحي قبل بلوغ نهايته، كما يفعل المعلم حيث ينصح التلميذ بعدم المبادرة إلى السؤال أثناء إلقاء الدرس، وهذا التمثيل من العلامة، وإن كان يثبت استقلالية الوحي عن ذهن النبي وحافظته وحواسه، وحتى لغته، ولكنه مع ذلك يبقى قياساً لما هو إلهي على ما هو بشري.
ويمكننا العثور على الفهم الأدق والأكثر فنية وعلمية لهذه الآيات في تحليل مالك بن نبي، الكاتب والمجدد والمفكر والمناضل الجزائري الكبير في كتابه «الظاهرة القرآنية»، حيث بيّن التناقضات بين وحي القرآن و(أنا) محمد أو كفاءاته الطبيعية وبين الحالة التي تعدّه لتقبل الوحي، وإليك نصّ ما قاله مالك بن نبي: «لقد كان النبي في مستهل دعوته يُجهد ذاكرته وهو يعاني حالة التلقي، لكي يثبت الآيات كما نزلت، وتلك حالة غريزية تلقائية تحدث لأيّ إنسان ينصت لآخر، وهو يريد أن يحفظ كلامه، فهو يكرره في نفسه، فالتكرار في الحقيقة عمل تدريبي للذاكرة غريزي أساسي، فهو لهذا يصدر طبيعياً عن الذات نفسها، أياً كانت درجة وعيها، فالآية المذكورة تأتي بما يضاد هذا السلوك الطبيعي، إذ يطلق النبي لإرادته العنان إلى مدى معين، حتى يحفظ بالتكرار ما تفجّر في مجال عقله، فأثاره جرسه وأيقظه، والآية تهدف إذن إلى مصادرة حريته في استخدام ذاكرته، وبذلك لا تتجاهل الآية حرية اختيار النبي وإرادته أن يدرّب ذاكرته فحسب، بل تتجاهل أيضاً القانون النفسي لوظيفة التذكر نفسها، وهكذا نلاحظ مناقضة مزدوجة بين الظاهرة القرآنية وبين الذات المحمدية، وهذه المناقضة المزدوجة لإرادة النبي، ولقانون وظيفة التذكر، تثبت بوجه خاص تفرّد ظاهرة ذات مجال مطلق مستقل عن العوامل النفسية والزمنية، وبهذا تؤكد خاصيّتيّ السمو والإطلاق للظاهرة القرآنية»([2]). إن هذه الظاهرة شبيهة بكتابة نصّ علمي من قبل شخص أمي بعد إخضاعه للتنويم المغناطيسي، أو الذي يسير أثناء النوم ويسلك طريقه عبر الممرات المتعرجة دون أن يصطدم بالجدران، وكأن أعضاءه تسير بتوجيه جهاز سيطرة وتحكم من بعد. فهل يمكن القول: إن النبي في أخذ الوحي ونقله كان شبيهاً بجهاز التسجيل والإرسال؟
مهما اعتبرنا صفاء ذهن النبي وخلوصه وقوة حافظته لا يمكننا أن ننكر نسبية ظرفية إدراكه وفهمه الإنساني وتأثير الخلفيات التجريبية والتربوية في ما يفهمه. وفي هذه الصورة يكون الوحي بمنزلة الماء الرقراق الذي يتخذ صبغة وشكل الوعاء الذي يحتويه، وكأن كلام النبي يعتبر فهماً لكلام الله وإدراكاً نسبياً مع الالتفات إلى أميّته، وليس عين الكلام الإلهي وما أنزل لهداية البشر حتى آخر مراحل الرسالة.
مطالبة القرآن النبيّ بالتأني وعدم التسرّع ــــــ
قال تعالى: {فَتَعَالَى اللهُ المَلِكُ الحَقُّ وَلا تَعْجَلْ بِالقُرْآنِ مِن قَبْلِ أَن يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْماً} (طه: 14).
وهذه الآية حالها حال الآية 116 من سورة القيامة، حيث تدعو الرسول إلى عدم التسرع في قراءة ما يُلهم إليه قبل انقضاء وحيه، وتحثه على طلب الزيادة في العلم.
فإذا اعتبرنا محتوى الوحي نتاج أفكار النبي وتجاربه، وجهوده السياسية والاجتماعية، فهل يكون هناك من معنى لمثل هذه الآيات؟
وأيُّ منطق يقبل فرض القيود على الذهن الخلاق والمتوقد والمتحفز ويأمره بعدم التسرع؟! وفي هذه الصورة كيف يمكننا تفسير الحقائق العلمية الكثيرة التي لم يكن لدى المعاصرين للنبي أي علم بها؟
يقول الطبيب الفرنسي «موريس بوكاي»: «إذا أخذنا مستوى ما بلغته العلوم في عصر محمد بنظر الاعتبار لم يعد بإمكاننا أن نصدق بأن القرآن نتاج بشري؛ وذلك لما يحتويه هذا الكتاب من الحقائق العلمية في الكثير من مضامينه، وعليه من المعقول جداً عدم الاكتفاء باعتبار القرآن وحياً فحسب، بل ويجب علينا أن نضع (الوحي القرآني) في مرتبة ممتازة جداً؛ لما يتمتع به من أصالة مضمونة في إثبات الحقائق العلمية التي لم يؤمن بها العلم الحديث إلا من خلال البحث والتحقيق بعد أن كان يعدها تحدّياً للفرضيات البشرية».
آليات المحافظة على الوحي ــــــ
قال تعالى: {عَالِمُ الغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاّ مَنِ ارْتَضَى مِن رَّسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَداً * لِيَعْلَمَ أَن قَدْ أَبْلَغُوا رِسَالاتِ رَبِّهِمْ وَأَحَاطَ بِمَا لَدَيْهِمْ وَأَحْصَى كُلَّ شَيْءٍ عَدَداً} (الجن: 26 ـ 28).
ونستنتج من هذه الآيات ما يلي:
1ـ إن الله يجعل رصداً، من قوّة أو ملك، على من يتلقى الوحي من الرسل؛ ليتم إبلاغ ما ينزل عليهم وحياً إلى الناس دون نقص أو زيادة أو تدخل من قبل ذهن الرسول وفكره.
2ــ إن هذا الرصد لا يقتصر على حفظ مسار الوحي إلى حين بلوغه إلى الناس، بل يتعداه إلى مبدأ صدوره، وإلى من يتلقى الوحي، يعني جبرائيل.
3ـ إن الظرفية الذهنية لمن يتقبل الوحي، ومقدار معلوماته وتجربته في الحياة، معلومة لمن ينزل الوحي، وهو محيط بأفكاره، ولذلك يمكنه أن يحول دون نفوذ هذه النظريات الشخصية والفهم الخاص لهم، ويمنع من تدخلهم في محتوى الوحي.
4ــ إنّ عدد الأشياء، أي النظام المقداري لكل شيء، ومنه الوحي ومباحث الهداية، معلوم عند الله، وهي مقدّرة عنده؛ وعليه لا يمكن أن يكون الوحي تابعاً لاستنباطات وأذواق مستقلة وغير متوقعة، وخارج النظم التقديري للفرد المتلقي. قال العلامة الطباطبائي في ذيل هذه الآيات في تفسير الميزان: «يدلّ على أن الوحي الإلهي محفوظ من لدن صدوره من مصدر الوحي إلى بلوغه الناس، مصون في طريق نزوله إلى أن يصل إلى من قصد نزوله عليه…؛ وذلك ليعلم أن قد أبلغوا رسالات ربهم دون تغيير أو تبديل…، وأما مصونيته في مسيره من الرسول حتى ينتهي إلى الناس فيكفي فيه قوله: {مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ}، على ما تقدم من معناه».
ضمان الحفظ الأبدي تجاه العوامل المضادّة ــــــ
مضافاً إلى الآيات 26 ــ 28 من سورة الجن، التي تبيّن آلية الحفاظ على الوحي من طريق الرصد، هناك آيات أخرى في ضمان سلامة الوحي من تدخل الأسباب الخارجية، ونشير في ما يلي إلى أهمها:
1ــ قوله تعالى: {إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ} (الحجر: 9).
في هذه الآية القصيرة يتم بيان الحفاظ على الوحي من عدة طرق أدبية، فإن جميع أدوات التأكيد المستعملة في هذه الآية تثبت مدى أهمية موضوع الحفاظ على الوحي.
فالمراد من الضميرين «إنا» و«نحن» في هذه الآية هو الله والملائكة، أي جميع العوامل والأسباب والقوى المؤثرة في تدبير عالم الوجود، المشاركة في الحفاظ على (الذكر)، وهو القرآن، تجاه محاولات إبطاله وتحريفه.
والمراد بالحفظ هو الحفظ المطلق والدائم منذ نزول الوحي إلى قيام الساعة، سواء على مستوى الوعاء الذي تقبل الوحي واحتواه، وهو قلب النبي، أو القالب الزماني بعد إبلاغ الآيات وتلاوتها على الناس إلى آخر الزمان، وهذا ما توضحه الآية التالية بشكل أفضل.
2ــ قوله تعالى: {وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ * لا يَأْتِيهِ البَاطِلُ مِن بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِّنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ} (فصلت: 41 ــ 42). وقد ورد في عبارة «الميزان»: «من بين يديه ولا من خلفه، أي زمان النزول وما بعده إلى يوم القيامة، أي إنه في جميع الأحوال لا تناقض في بياناته، ولا كذب في أخباره، ولا بطلان يتطرق إلى معارفه وحكمه وشرائعه، ولا يعارض ولا يغيّر بإدخال ما ليس منه فيه، أو بتحريف آية من وجه إلى وجه»، وأما ماهية آلية هذه المحافظة فهي مجهولة لنا، ويكفينا أن نعلم هذا المقدار، وهو أن لهذا القرآن معنى وحقيقة سامية محفوظة في (اللوح المحفوظ)، قال تعالى: {بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَّجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَّحْفُوظٍ} (البروج: 21 ــ 22).
إن حوادث غير متوقعة، من قبيل: إفك عائشة، وحرب الأحزاب، وقضية أبي لهب، وأساليب المنافقين، وأمثال ذلك مما ينظر إليه كحوادث غير متوقعة، والتي كان لها تأثير ودور في تكوين القرآن، كلها محامل ومصاديق لإبلاغ الرسالة، ولو لم تقع هذه الحوادث لتم نقلها في قالب أحداث أُخرى.
إننا لو ذهبنا إلى اعتبار الشرائع الإلهية تابعة للمتغيرات التدريجية والشخصية وتجارب الرسل التاريخية مئة بالمئة فسوف نقع في تناقض في تفسير ما يستعرضه القرآن من بيان حياتهم.
العلوم الدقيقة تثبت النظم الفعلي في القرآن ـــــــ
هل ترتيب السور الذي نراه في القرآن الذي بين أيدينا كان بأمر الله وبإشراف خاص من النبي، وأن لهذا الترتيب قداسة خاصة وغيبية، أو أن وراءه تدخل واجتهاد من الصحابة؟
إذا كنا في السابق نواجه مشكلة في إثبات حقيقة وحي القرآن بجميع أجزائه من خلال الفلسفة والكلام والعرفان والأدب فقد تذللت هذه العقبة في العصر الحاضر عن طريق العلوم الدقيقة، وخاصة من خلال الرياضيات والإحصاء، والاستعانة بالحاسب الآلي والأدوات الإلكترونية، حيث يمكن الوصول إلى نتائج تختلف اختلافاً ملحوظاً عن نتائج أبحاث العقل النظري؛ إذ لا يوجد في هذه الطريقة تدخل للأذواق، وإن الأعداد والأرقام القطعية تضطر المنصفين إلى الإذعان والتسليم.
لقد أدت رؤية المحقق المصري (رشاد خليفة) في كشف المفتاح الرياضي للقرآن إلى اكتشاف حقائق غير قابلة للإنكار، وإن كان قد أخذ في ما بعد يغرق في الادعاءات الباطلة، وإن بعض النتائج التي توصل إليها مشكوك فيها، فقد أثبت، من خلال حاصل الضرب المشترك بين العدد 19 و29، وهو عدد السور المبدوءة بالأحرف المقطَّعة؛ ومئات الشواهد الإحصائية لإثبات هذه المسألة؛ والمسائل الرياضية الكثيرة التي قام بها هو وتلاميذه، ومنها: العلامة المدهشة بين الأعداد: 7 و9 و4؛ وما إلى ذلك في القرآن، أثبت عدم إمكان تغيير مكان أية كلمة في القرآن.
وقد واصل الدكتور السيد محمد فاطمي، أستاذ الفيزياء في جامعة طهران، هذه التحقيقات في إيران حتى بلغ بها النهاية، وتم طبعها في عام 1372 تحت عنوان «الآية الكبرى»، وضمّنه عشرات الجداول ومئات الروابط الرياضية المذهلة.
وأشار الكاتب المصري (عبد الرزاق نوفل) في كتابه «الإعجاز العددي للقرآن» إلى قرابة 150 رابطة، أو المساواة العددية في القرآن، كالمساواة بين الأضداد: الدنيا والآخرة، الصبر والشكر، المرأة والرجل، الشيطان والملك، وما إلى ذلك. وكذلك تكرار كلمة (يوم) حيث ورد ذكرها 365 مرة، وهو مجموع أيام السنة، وتكرار كلمة (شهر) إثنا عشرة مرة، وهو مجموع أشهر السنة، وما إلى ذلك مما يثبت هذه الحقيقة اللاحبة.
كما توصل كتاب «سير تحول قرآن»، الذي هو محاولة للكشف عن ترتيب نزول آيات سور القرآن بأسلوب آخر، دون افتراضات سابقة أو تحميل للنظريات أو الميول الاعتقادية، إلى نتائج تثبت أنه كان لعدد الكلمات والآيات النازلة على وعاء ذهن النبي طوال ثلاثة وعشرين سنة مدّة الرسالة ـ سواء في المدّة التي لم يكن فيها مع النبي سوى الإمام علي وخديجة في المرحلة السرية، أو عند الجهر بالدعوة، حيث عمّ الإسلام شبه الجزيرة العربية وكان في كل شهر منها حرب أو حادثة اجتماعية أو مناسبة ـ في جميع الأحوال وتيرة تصاعدية واحدة، و(كيل) ثابت، مما يثبت استقلال الوحي عن التجربة الداخلية والخارجية للنبي!
عزيزي سماحة الدكتور سروش، أستميحك عذراً على إطالة الكلام، وأدعو لكم بالصحة والسعادة، والسبق إلى نيل المغفرة والرحمة الإلهية، وأختم كلامي بالآية التي بدأت بها: {وَالرَّاسِخُونَ فِي العِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِّنْ عِندِ رَبِّنَا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاّ أولُواْ الألبَابِ * رَبَّنَا لا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الوَهَّابُ} (آل عمران: 7).
الهوامش
(*) كاتب ومثقَّف إيراني بارز.
([1]) انظر: سورة هود، الآية 49: {تِلْكَ مِنْ أَنبَاء الغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنتَ تَعْلَمُهَا أَنتَ وَلا قَوْمُكَ مِن قَبْلِ هَذَا}.