د. حاتم الجيّاشي(*)
خلاصةٌ
إنّ نظرية الوَحْي من النظريات الجوهرية والأساسية التي استرعَتْ انتباه جميع الأديان السماوية، لماذا؟
لأن هذه المسألة أو النظرية تشكِّل حجر الزاوية والركن الوثيق التي تبتني عليه الأديان التوحيدية. لهذا، الابتعاد عن فكرة الوحي من جهة الله عزَّ وجلَّ إلى الأنبياء^ أو إنكار ذلك لا يثبت أيّ دينٍ إلهيّ، وبالتالي لا يمكن لأحدٍ أن يقول: هذه التعاليم أو المعارف دينية سماوية تابعةٌ للباري تعالى. وهذه المسألة الحيوية أثارت اهتمام فلاسفة الإسلام بشكلٍ عامّ، وفيلسوفنا العظيم الفارابي بشكلٍ خاصّ، في كيفية تصوير وتأطير هذه الظاهرة، التي تمثِّل حلقة الوصل بين السماء والأرض.
وفي هذا الإطار جاءت هذه الدراسة لتسليط الضوء على هذا المشروع. وقد اعتمدَتْ هذه الدراسة على استقراءٍ وتحليلٍ، وكان عملنا تحديد مفردات البحث، وعرض مجمل نظريّته في فكرة الوحي، كما قُمْنا بطرح ما تقوم عليه هذه المسألة، وما يتعلَّق بها من أبحاثٍ، من قبيل: معرفة الإنسان، ومعرفة العوالم، ومعرفة الوحي، وغيرها من المطالب.
ثم بيَّنا نظرية الفيلسوف، وقد ذكَرْنا اعتماد الحكيم على البحث الأنطولوجي في فهم مسألة الوحي، وبيَّنّا كيفية اتصال النفس النبوية بالعقل الفعّال في إنتاج المعرف الوَحْيانة.
وقد انتهت الدراسة إلى نتائج هامة، منها:
ـ إن الفارابي لم يتطرَّق أصلاً لقوّة الحَدْس، ولم نجِدْ لها أثراً في كتب الفارابي.
ـ الفارابي على الرغم من اعتقاده بالأفلاك والنفوس الفلكية، مثل بقيّة المشّائين، إلاّ أنه يؤمن باتصال نفس النبي بالعقل الفعّال فقط.
ـ إنّ الخيال في نظر المشّائين ليس مجرّداً، بل إنّ جميع قوى الإنسان ـ ما عدا قوة العقل ـ مادّيةٌ.
ـ يعتقد الفارابي أنّ النفس تستفيد من الصور الكلِّية والجزئية في العقل الفعّال.
ـ الفارابي لم يبنِ نظام الوحي على أساس نظام التكوين.
المقدّمة
من المناسب ـ وكمقدّمة لبيان المساعي والجهود التي بذلها الفارابي لأجل بيان وتوضيح عملية الفلسفة الوحيائية، وعملة الكبير في إيجاد التوائم والتوافق بين المعرفة الوحيائية والمعرفة الفلسفة ـ التعريج إلى شخصية الكندي (185 ـ 252هـ)، وذكره باعتباره أوّل الفلاسفة المسلمين ومقدَّماً على الفارابي.
كان الكندي من أوائل المعتقدين بنظرية التوافق بين الدين والفلسفة، وقد بدأ البحث فيها بعد الجهود التي قام بها، ولهذا فقد كانت علاقة الفلسفة والدين من القضايا الجدّية المطروحة لديه. ويعتقد الكندي بأنه يمكن إثبات حقيقة الوحي المحمدي عن طريق القياس المنطقي، ولا يمكن إنكارها إلاّ من قِبَل الجاهل فقط([1]).
ولكنْ في الوقت نفسه لا يمكن بحالٍ من الأحوال إنكار دَوْر القياس المنطقي في إثبات الحقائق الدينيّة.
ومع أن الكندي هو الذي بدأ المشوار والسعي في هذا المضمار، أوصله من بعده الفلاسفة إلى القمّة، ولكنْ ما قدَّمه لا يمكن قياسه بما قدَّمه وعمله الفارابي.
وبالطبع، فإن السبب في ذلك يكمن إيجاده والبحث عنه في فلسفته، ولا سيَّما في نظرية العقول. إن نظرية الكندي في باب معاني العقول وكيفية الإدراك في الإنسان، وحَسْب قول بعض المحقِّقين، أفضل أيضاً من نظرّية شرّاح الإسكندراني أرسطو([2]).
كان الحكيم أبو نصر الفارابي هو أوّل فيلسوفٍ تحدَّث بنحوٍ واضح وشفّاف عن الوحي والنبوة، بشكلٍ يعتمد على الأصول الفلسفية. وقد نال أسلوبه ونظريته في هذه المسألة اهتمامَ واستقبالَ الحكماء الذين جاؤوا من بعده.
يجب علينا، قبل التطرُّق إلى نظرية الفارابي في تأييد المواضيع السابقة، الإلمامُ بشكلٍ مختصر بمعطيات هذه البحوث وطبيعتها وظروفها في زمانه؛ لكي يتّضح لنا المناخ الفكري في ذلك الوقت، وبالتالي تتبدّى ضرورة عمله وقيمته، وينتفي تصوُّر أن هذا الفيلسوف الكبير قد تأمّل في هذا الباب والبحث فيه للاستقصاء والتقصّي فحَسْب، وإنما الضرورة الاجتماعية لعصره والأخطار التي تهدِّده هي التي جرَّتْ ذلك الحكيم إلى ميدان تلك البحوث.
ولا شَكَّ أنَّ النبوة التي ذهب إليها الفارابي في فلسفتهِ هي إجابةٌ في محلّها باعتبار معالجتها لكثير من الإشكالات التي أُثيرَتْ حولها، وأيضاً مناسبة بالنسبة إلى الحاجة الفكرية آنذاك، وإنّما هي أنموذج زاهر لعلاقة الفلسفة الإسلامية مع حياة وعقائد المسلمين.
ويمكن القول بأن الدخول إلى تلك البحوث بشكلٍ دقيق هي نفسها عملية لتأسيس الفلسفة الإسلامية.
وبطبيعة الحال فقد كان المجتمع الإسلامي في فترة الحياة الفكرية للفارابي، أي في نهايات القرن الثالث وبدايات القرن الرابع الهجريّين، يشهد إقبالاً جماعياً، وذلك من باب التسليم والشعور الداخلي للإسلام، فظهرَتْ؛ نتيجة اختلاط المسلمين بالأجانب، وعناد وعداوة المسيئين والمغرضين، الشكوك والشبهات الكثيرة على ألسن الناس، وبين الفِرَق الكلامية، بخصوص العقائد الدينية، وكانت إحدى تلك الشبهات التي حدثَتْ هي العقيدة بالوحي. ولم تكن تلك المسألة تنحصر في تلك الفترة، وإنّما كانت مطروحةً من قِبَل أولئك المعاندين منذ بداية الوحي، على نحوٍ انعكسَتْ في القرآن الكريم والمصادر الروائية كذلك([3]). ولكنْ بعد مدّة تمّ رفع تلك الشبهات بشكلٍ منطقيّ، وخاصّة حينما جرى إيجاد الفِرَق الكلامية للدفاع عن الدين.
كان أغلب المنكرين من النصارى واليهود والزنادقة والمجوس والصابئين والبراهمة وعدد قليل من المسلمين([4]). ونجد أن هناك أشخاصاً من المسلمين قد أقحموا أنفسهم في هذا الميدان، منهم: عالمان؛ أحدهما: أحمد بن الرواندي؛ والآخر: محمد بن زكريا الرازي.
أما الرواندي فقد ترعرع في إحدى العوائل اليهودية في مدينة راوند بالقرب من مدينة إصفهان، ومن ثم انتقل وسكن مدينة بغداد، والتحق بالفرقة المعتزلة، وقام بعدها بالتهجُّم وإنكار أصول الإسلام، وليس عقائد المعتزلة فقط. وارتبط بالملحدين ارتباطاً قوياً، وعمل على تأليف كتبٍ، منها: «كتاب فضيحة المعتزلة»، ردّاً على كتاب «الدافع» في معارضة القرآن؛ وكتاب «الفرند» في الطعن بالنبيّ الأكرم| والإسلام؛ وكتاب «الزمرّدة» في إنكار الرسل وبطلان رسالاتهم.
وقد قام أحد الدعاة الإسماعيليين، وهو عبد الله بن أبي عمران الشيرازي، في كتابه الموسوم «المجالس المؤيّدة»، بنقل الإيرادات والإشكالات التي جاء بها الشيرازي، والإجابة عنها. وحَسْب ما نقله فإن الرواندي يعتقد أنه مع وجود العقل لا حاجة إلى النبوة. وإن المعاجز ـ سواء كانت قليلةً أو كثيرةً ـ لا يمكن القبول بها. وإن ناقلي المعجزة ـ وعددهم قليلٌ ـ قد جُبلوا على الكذب، وتعاهدوا عليه، فكيف يمكن للشخص أن يؤمن ويصدِّق بأن الصخرة الصغير قادرةٌ على التسبيح، أو أن الذئب يتحدَّث بلسان الآدمي؟!([5]).
ومن ثمّ يقوم بنقل الشبهة المعروفة لدى الجميع، والتي نقلها العلاّمة في كتابه كشف المراد([6]).
وأما الشخصية الثانية التي انتقدَتْ مسألة النبوة بصراحةٍ وشدّةٍ فهي محمد بن زكريا الرازي. ومع أن هذا الرجل قد عُرف واشتهر في ميدان الطبّ، ولكنّه لا يرى نفسه أقلّ من باقي الفلاسفة والمتكلِّمين، بل قام بنقد كبار الفلاسفة والطعن فيهم.
وللرازي كتابان، وهما: «مخاريق الأنبياء»؛ و«نقض الأديان».
وكان كتابه الأول مورداً لاهتمام الزنادقة. وهو مفقودٌ في الوقت الحاضر. وقد قام أبو الحاتم الرازي(322هـ) ـ وهو من الدعاة الإسماعيليين ـ بنقل قسمٍ من ذلك الكتاب والردّ عليه في كتابه «أعلام النبوة». ويعتقد الرازي بأنه ليس للأنبياء امتيازاتٌ خاصة بالنسبة إلى بقية الناس، باعتبار أن الحكمة الإلهية تقتضي العدل والمساواة ورفع الامتيازات بين بني الإنسان([7]).
وأما المعاجز التي تمّ نقلها عنهم فهي نوعٌ من القصص الدينية، أو أنها سحرٌ من أجل خداع الناس([8]).
إن الأديان هي أحد أسباب وعلل نشوب جميع الحروب؛ حيث كان الإنسان ومنذ القِدَم يتعامل معها([9]).
وبطبيعة الحال فإن هذه الإشكالات والإيرادات فتحَتْ آفاقاً رحبة للبحوث الجَدَلية، وليست مسألة النبوة في الإسلام وحدها التي وقعَتْ في دائرة النقض والتعرّض، بل واجهت مسألة نبوة جميع الأنبياء السابقين نفس هذا الإنكار والرفض من جانب المنكرين، الذين لا يؤمنون بنزول الوحي، بل يرَوْنه أمراً بعيداً، ومن المستحيل حدوثه؛ لهذا نرى أن القرآن الكريم يحصر عملية منشأ تكذيب الأنبياء في هذه المسألة فيقول: ﴿وَمَا مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جَاءَهُمُ الهُدَى إِلاَّ أَنْ قَالُوا أَبَعَثَ اللهُ بَشَراً رَسُولاً﴾ (الإسراء: 94).
وفي مثل هذه المناخات والأجواء نشأ وترعرع الفارابي، وعاصر كلاًّ من: الرازي؛ والرواندي، فدخل في غمرة هذه البحوث. ولكنّه في مقابل هذه الإشكالات لم يتطرَّق إلى البحوث السلبيّة والجَدَلية، ولم يكتَفِ في الردّ على الشبهات والمنكرين فقط، وإنّما قام بالبحث عن الأسس الفلسفية التي بإمكانها توضيح وبيان فلسفة الوحي، ومن ثمّ تعزيزها بالأسس والقواعد العقلية والأصولية المتَّفق عليها.
والآن، وبعد اتّضاح ضرورة ما قام به الفارابي والمناخ الفكري الذي عاشه، نتناول نظريته؛ حتّى يتمّ التعرُّف عليها.
لكنْ قبل ذلك لا بُدَّ من بيان بعض المفاهيم التصوُّرية للدراسة:
الوَحْي في اللغة
(الوحي) كلمةٌ عربية، فعله وحي يوحي أو أوحى، ومصدره وحياً أو إيحاء. وقد استُعملت في الأدب العربي بمعانٍ كثيرة، إلا أنه يوجد بين هذه المعاني المختلفة مفهومٌ عامّ مشترك، يقف عليه الكاتب أو الباحث من خلال تتبُّع هذه المعاني، وهو الإشارة التشريعية أو الكلام الخفيّ أو الصوت الخالي من التراكيب الكلامية.
ولهذا يقول ابن دريد، أبو بكر، محمد بن الحسن الأزدي(321هـ): «وحي في الحجر إذا كتب فيه وحياً، ووحي الكتاب إذا كتبه»([10]).
وقال الراغب: أصل الوحي الإشارة السريعة. ولتضمّن السرعة قيل: أمرٌ وحيٌ، أي: سريع؛ وذلك يكون بالكلام على سبيل الرمز والتعريض؛ وقد يكون بصوتٍ مجرّدٍ من التركيب وبإشارةٍ ببعض الجوارح والكتابة([11]).
الوَحْي اصطلاحاً
معناه: أن يُعْلِم الله ـ تعالى ـ مَنْ اصطفاه من عباده كلَّ ما أراد إطلاعه عليه من ألوان الهداية والعلم، ولكنْ بطريقةٍ سرّية خفيّة غير معتادةٍ للبشر. ويكون على أنواعٍ شتّى؛ فمنه: ما يكون مكالمةً بين العبد وربّه، كما كلَّم الله موسى تكليماً؛ ومنه: ما يكون مناماً صادقاً يجيء في تحقُّقه ووقوعه كما يجيء فَلَق الصبح في تبلّجه وسطوعه؛ ومنه: ما يكون بواسطة أمين الوحي جبرئيل ـ × ـ، وهو من أشهر أنواع الوحي وأكثرها. ووحي القرآن كلّه من هذا القبيل، وهو المصطلح عليه بالوحي الجليّ([12]). وبتعبيرٍ أشمل: الوحي كلام الله ـ تعالى ـ المنزل على نبيٍّ من أنبيائه. وهو تعريفٌ له بمعنى اسم المفعول أي: الموحى([13]). كذلك يشير الشهيد الصدر في كتابه المدرسة القرآنية إلى هذا المعنى فيقول: وقد أطلق هذا اللفظ على الطريقة الخاصة التي يتصل بها الله تعالى برسوله، نظراً إلى خفائها ودقّتها، وعدم تمكُّن الآخرين من الإحساس بها([14]).
الإله في اللغة والاصطلاح
في اللغة (الإله) على وزن فِعَال بمعنى مألوه، أي: معبود، كإمام بمعنى مؤتمّ به، وأله إلهة: عبد عبادة، والتأليه: التعبيد، والآلهة: المعبودون من الأصنام وغيرها، والتألُّه: التعبُّد والتنسُّك([15]).
وفي الاصطلاح قال الزمخشري: الإله من أسماء الأجناس، كالرجل والفرس، يقع على كلّ معبودٍ، بحقٍّ أو باطلٍ، ثمّ على المعبود بحقٍّ([16]).
وهذا يعني أن لا معبود بحقٍّ إلاّ الله، ومعنى ذلك أن كلّ المعبودات إنما عُبدَتْ بغير حقٍّ.
معرفة العالم في نظر الفارابي
1ـ العوالم
يقسِّم الفارابي العوالم الموجودة إلى ثلاثة عوالم: روحانية؛ سماوية؛ هيولانية.
وقد بيَّن أساس هذا التقسيم بقوله ([17]):
1ـ ما لا يمكن أن لا يوجد.
2ـ وما لا يمكن أن يوجد أصلاً.
3ـ وما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد.
فالأولان طرفان، والثالث متوسطٌ بينهما. وهو مجموعٌ يقتضي الطرفين. والموجودات كلّها داخلةٌ تحت اثنين من هذه الثلاثة؛ فإن الموجودات منها ما لا يمكن أن لا يوجد، ومنها ما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد.
ما لا يمكن أن لا يوجد هو في جوهره وطبيعته كذلك.
وما يمكن أن يوجد وأن لا يوجد هو أيضاً في جوهره وطبيعته كذلك؛ فإنه لا يمكن أن يكون الذي لا يمكن أن لا يوجد، وإنّما صار كذلك لأجل أن جوهره وطبيعته غير ذلك، وعرض له أن صار كذلك.
وكذلك هو حال ما لا يمكن أن يوجد.
وأجناس الموجودات ثلاثة: البريئة عن المادّة؛ والأجسام السماوية؛ والأجسام الهيولائية.
وما لا يمكن أن لا يوجد ضربان:
أحدهما: في طبيعته وجوهره أن يوجد حيناً، ولا يمكن فيه غير ذلك.
ثانيهما: ما لا يمكن أن لا يوجد في وقت أصلاً. فالروحانية لها النصف الثاني من أصناف ما لا يمكن أن لا يوجد، والسماوية لها النصف الأول، والهيولانية لها القسم الذي يمكن أن يوجد وأن لا يوجد. والعوالم ثلاثة: روحانية؛ وسماوية؛ وهيولانية([18]).
ويقسِّم الفارابي في موضعٍ آخر من كتبه موجودات العوالم الثلاثة على أساس مناط الجسمية أو غير الجسمية، ويصل إلى النتائج التالية، التي تحدِّد أنّ الموجودات لا تخرج عن ثلاث حالات:
«1ـ الأجسام، التي هي على ستة أنواع: الجسم السماوي؛ الحيوان الناطق؛ الحيوان غير الناطق؛ النبات؛ الجسم المعدني؛ العناصر الأربعة».
2ـ الموجودات الجسمية، ولكنْ حالّةً في أجسامٍ، مثل:
أـ النفس.
ب ـ الصورة.
ج ـ المادّة.
3ـ الموجودات التي ليست بجسمٍ، ولا حالّةً في جسمٍ، كالتالي:
1ـ السبب الأوّل (الله).
2ـ السبب الثاني (العقل الأول، إلى التاسع).
3ـ العقل الفعّال»([19]).
ومن الواضح أن الموجودات من القسم الثالث هي المرتبطة بالعالم الروحاني والتي يعبِّر عنها الفارابي بعالم الملكوت([20]).
ويصنِّف الفارابي الموجودات داخل كلٍّ من هذه العوالم، فهو يعتقد بترتيب موجودات عالم الملكوت من الأشرف إلى الأنقص، بمعنى أنّ الأول السبب الأول ومقام العقول. ولما كان كلّ عقلٍ معلولاً للعقل الذي قبله فهو من ناحية الشرافة في رتبةٍ لاحقة، وكذلك كانت نهاية هذه السلسلة في العالم الروحاني هي العقل الفعّال([21]).
ومن ثمّ رتَّب الموجودات السماوية كما يلي:
1ـ الفلك الأول.
2ـ الفلك الثاني.
3…9ـ الفلك الثالث… إلى الفلك التاسع([22]).
ثم أخذ يرتِّب العالم المادّي من أفضل موجودٍ إلى أخسّ موجودٍ. وعلى هذا الأساس رتَّب الفارابي موجودات هذا العالم كما يلي: المادّة الأولى، العناصر الأربعة، المعدنيات، النباتات، الحيوان الناطق، الحيوان غير الناطق. إذن في عالم المادّة سيكون أشرف الموجودات هو الحيوان الناطق([23]).
وفي رأي الفارابي فإن الانضمام بين عالم المادّة وعالم الملكوت يتمّ من خلال الارتباط بين الحيوان الناطق (الذي هو أعلى مرتبة في عالم المادة) وبين العقل الفعّال (الذي هو أدنى مرتبة في عالم الملكوت) ([24]).
2ـ العقول
على أساس النظرية الفلسفية فإنّه من الواضح أنّ مبدع نظرية الفَيْض هو ابن سينا، حيث يقول: «فيكون إذن العقل الأوّل يلزمه عنه بما يعقل الأوّل وجود عقل تحته، وبما يعقل ذاته وجود صورة الفلك الأقصى وكمالها، وهي النفس، وبطبيعة إمكان الوجود الحاصلة له المندرجة في ما يعقله من ذاته وجود جرمية الفلك الأقصى المدرجة في جملة ذات الفلك الأقصى بنوعه، وهو الأمر المشارك للقوة. فيما يعقل الأوّل يلزم عنه عقل، وإنما يختصّ بذاته على جهة الكثرة الذي يجريها، أعني المادّة والصورة»([25]).
يعتقد الفارابي أنّ العقل العاشر هو العقل الفعّال.
3ـ العقل الفعّال
في الواقع إن العقل الفعّال يتعقّل السبب الأوّل والعقول، فهو يأخذ الفيض منها ويوصله إلى الإنسان وعالم الطبيعة. والجدير بالذكر أنّ الفارابي يطبِّق العقول العشرة على الملائكة الإلهيّة، ويرى أنّ العقل الفعّال هو نفسه الروح الأمين أو روح القدس. «والثواني هي التي ينبغي أن يقال فيها: الروحانيون والملائكة وأشباه ذلك… والعقل الفعّال هو الذي ينبغي أن يُقال: إنه الروح الأمين وروح القُدُس بأشباه هذين من الأسماء»([26]).
والمراد من الثواني في هذه العبارة هي الموجودات المفارقة غير السبب الأوّل، والتي هي العقول العشرة نفسها. وعند مواصلة قراءة هذه العبارة يتبين أن الفارابي يعتقد بأن العقل الفعّال هو جبرئيل×. ويبين الفارابي وجه انطباق الملائكة والعقول فيقول: «الملائكة صور علمية جواهرها علوم إبداعية؛ وليست كألواحٍ فيها نقوشٌ، أو صدورٍ فيها علومٌ، بل هي علومٌ إبداعية قائمةٌ بذاتها، تلحظ الأمر الأعلى فينطبع في هوياتها ما تلحظ، وهي مطلقة»([27]). ويؤكِّد الفارابي على أن العقل الفعّال وبقية العقول وإنْ كانت غير معروضة للنقص، ولكنّ جواهرها مستفادةٌ من غيرها، وهي من هذه الناحية ناقصةٌ؛ فجواهرها لم تبلغ في الكمال الذي يتعقّل العقول، وكذلك يعتبر الواسطة في وصول الفيض لعالم المادّة؛ وذلك أنّ جواهرها مستفادةٌ من غيرها، ووجودها تابعٌ لوجود غيرها، وجواهرها لم تبلغ من الكمال إلى حيث تكتفي بأنفسها عن أن تستفيد الوجود عن غيرها. هذا نقصٌ يعمّ كلّ موجودٍ سوى الأوّل. الثواني والعقل الفعّال أقلّ كمالاً من الله؛ لأنهما يوجدان به.
ومع ذلك فإن الثواني والعقل الفعّال ليس واحدٌ منها يكتفي في أن يحصل له بهاء الوجود وزينته، ولا الغبطة والالتذاذ والجمال بأن يقتصر على أن يعقل ذاته وحدها، لكنْ يحتاج في ذلك إلى أن يعقل في ذاته ذات موجودٍ آخر أكمل منه وأبهى. هذا الموجود الذي تعقله الثواني وتلتذّ به هو الله.
فكأن فضيلة ذاته لا تتم إلاّ بتعاون كثرةٍ ما، فلذلك صارت الكثرة في ما يتجوهر به الشيء نقصاً في وجود ذلك الشيء.
يحدِّد الفارابي هنا مصدر التكثُّر أو سببه في الموجودات التي تكوِّن العالم.
إلاّ أن هذه ليس في طباعها أن يكون لها بهاء الوجود وجماله وزينته بأن تعقل ما هو دونها في الوجود، وما يوجد عن كلّ واحدٍ منها، أو ما يتبع وجود كلّ واحدٍ من الموجودات»([28]).
وفي كلّ الأحوال إن ظهور موجودات عالم المحسوس بتوسُّط العقل الفعّال حكايةٌ أخرى، فالعقل الفعّال والأجسام السماوية يكمِّلان وجود الأشياء والأجسام الأرضية.
معرفة الإنسان عند الفارابي
خصَّص الفارابي في أكثر كتبه مباحث حول معرفة الإنسان. وبالنظر إلى أنّ شرح ظاهرة الوحي ترتبط بقوى النبيّ لكونه هو المُدْرِك للوحي فسنكتفي هنا في البحث عن قوى النفس.
أـ قوى النفس الإنسانية
من وجهة نظر الفارابي إن قوى النفس الإنسانية عبارةٌ عن خمس قوى: الحاسّة؛ النزوعية؛ المتخيلة؛ الناطقة النظرية (العقل النظري)؛ والناطقة العملية (العقل العملي)([29]).
ويذكر الفارابي في موضوعٍ آخر القوة الغاذية، فإذ حدث الإنسان فأوّل ما يحدث فيه القوة التي بها يتغذّى، وهي:
1ـ القوّة الغاذية
القوّة التي بها يحسّ الملموس، مثل: الحرارة والبرودة، وسائرها ـ سائر القوى ـ التي بها يحسّ الطعوم، والتي بها يحسّ الروائح، والتي بها يمسّ الأصوات، والتي بها يحسّ الألوان والمعبرات كلّها، مثل: الشعاعات. ويحدث مع الحواسّ بها نزوعٌ إلى ما يحسّه، فيشتاقه أو يكرهه. فالقوة الغاذية منها قوة واحدة رئيسة، ومنها قوى هي رواضع لها وخَدَم. فالقوة الغاذية الرئيسة هي من سائر أعضاء البدن؛ والرواضع والخَدَم متفرّقة في سائر أعضاء البدن؛ والرئيسة منها بالطبع مدبِّرة لسائر القوى، وسائر القوى تتشبّه بها وتحتذي بأفعالها حَذْو ما هو بالطبع غرض رئيسها الذي في القلب، وذلك مثل: المعدة والكبد والطحال، والأعضاء الخادمة هذه، والأعضاء التي تخدم هذه الخدمة، والتي تخدم هذه أيضاً. فإن الكبد عضو يُرأس ويَرأس، فإنّه يُرأس بالقلب، ويرأس المرارة والكلية وأشباههما من الأعضاء، والمثانة تخدم الكلية، والكلية تخدم الكبد، والكبد يخدم القلب، وعلى هذا توجد سائر الأعضاء([30]).
2ـ القوّة الحاسّة
إن المراد من هذه القوى هو أن تدرك المحسوسات بالحواسّ الخمس المعروفة عند الجميع، وتدرك الملذّ والمؤذي، ولا تميز الضارّ والنافع، ولا الجميل والقبيح([31]). الحسّ لا يدرك المعاني الصرفة([32]).
فيها رئيسٌ، وفيها رواضع؛ ورواضعها هي هذه الحواس الخمس المشهورة عند الجميع، المتفرِّقة في العينين وفي الأذنين وفي سائرها.
في الحقيقة الإدراك يتحقَّق بواسطة التصوُّرات الحاصلة في الحسّ المشترك.
ويعتقد الفارابي أنّ الصور الباطنية تتحقَّق أيضاً من الحسّ المشترك([33]).
وعلى هذا الأساس فإن الحسّ المشترك له الإشراف على الحواسّ الظاهرية([34]).
إنّ الحد المشترك بين الباطن والظاهر قوّةٌ هي مجمع تأدية الحواس، وعندها بالحقيقة الإحساس، وعندها ترتسم صورة آلة تتحرّك بالعجلة، فتبقى الصورة محفوظةً فيها، وإنْ زالت حتى تحسّ بخطّ مستقيم أو بخطّ مستدير، من غير أن يكون كذلك، إلاّ أن ذلك لا يطول ثباته فيها. وهذه القوّة أيضاً مكانٌ لتقرير الصورة الباطنية فيها عند النوم، فإن المدرك بالحقيقة ما يتصوّر فيها، سواء ورد عليها من خارجٍ أو صدر لها من داخلٍ، فما تصور فيها ـ عندما يتفق من العقل عجز ومن الخيال تسلط قوى تمثل في الخيال فهنا يتصور فيها الصورة المتخيلة ـ يصير مشاهداً، فإنْ أمكنها الحسّ الظاهر تعطَّلت عن الباطن، وإذا عطَّلها الظاهر تمكّن منها الباطن الذي لا يهدأ، فيتثبت فيها مثل ما يحصل في الباطن، حتّى يصير مشاهداً، كما في النوم.
3ـ القوّة النزوعية
هي التي تشتاق إلى الشيء وتكرهه؛ فهي رئيسةٌ، ولها خَدَمٌ. وهذه القوة هي التي بها تكون الإرادة؛ فإن الإرادة هي نزوعٌ إلى ما أدرك، وعن إدراكٍ؛ إما بالحسّ، وإما بالتخيُّل؛ وإما بالقوّة الناطقة، وحكم فيه ـ أي النزوع ـ أنه ينبغي أن يؤخذ أو يترك. والنزوع قد يكون إلى علم شيءٍ ما، وقد يكون إلى عمل شيءٍ ما، إما بالبدن بأَسْره، وإما بعضوٍ منه. والنزوع إنما يكون بالقوة النزوعية الرئيسة.
4ـ القوّة المتخيّلة
والمتخيلة هي التي تحفظ رسوم المحسوسات بعد غيبتها عن الحسّ، وتركّب بعضها إلى بعضٍ، وتفصل بعضها عن بعضٍ، في اليقظة والنوم، تركيباتٍ وتفصيلاتٍ بعضها صادقٌ وبعضها كاذبٌ. والمتخيّلة مواصلةٌ لضربي القوّة الناطقة. عندما تشتغل المتخيّلة بوظيفتها الخاصة، والمتمثِّلة في التصرُّف وتركيب الصور، فإن دخول وخروج معلوماتها تقف بشكلٍ مؤقَّت، فتقبل القوة المتخيّلة المعقولات بما يحاكيها من المحسوسات التي تركِّبها هي. وتقبل الجزئيات أحياناً بأن تتخيّلها كما هي، وأحياناً بأن تحاكيها بمحسوسات أُخَر؛ فإن القوة المتخيّلة متوسطةٌ بين الحاسّة والناطقة؛ وعندما تكون رواضع الحاسّة كلّها بالفعل، وتفعل أفعالها، تكون القوة المتخيّلة منفعلةً عنها، مشغولةً بما تورده الحواسّ عليها من المحسوسات، وترسمه فيها، وتكون هي أيضاً مشغولةً بخدمة القوة الباطنة، وبإرفاد القوّة النزوعية([35]). فإذا صارت الحاسّة والنزوعية والناطقة على كمالاتها الأولى، بأن لا تفعل أفعالها، مثل: ما يعرض عند حال النوم، انفردَتْ القوّة المتخيّلة بنفسها، فارغةً عما تجدِّده الحواسّ عليها دائماً من رسوم المحسوسات، وتخلَّتْ عن خدمة القوّتين: الناطقة؛ والنزوعية.
ويذكِّرنا الفارابي بأن القوة المتخيّلة، وعلى خلاف القوتين: الحاسّة؛ والغاذية، ليس لها رواضع متفرّقة في أعضاء أُخَر، بل هي واحدةٌ([36]). فلا رواضع ولا خَدَم لها من نوعها في سائر الأعضاء، وإنّما رئاستها على سائر القوى المتخيّلة؛ والرئيسة من كلّ جنسٍ فيه رئيسٌ ومرؤوسٌ. فهي رئيسة القوّة المتخيّلة، ورئيسة القوّة الحاسّة الرئيسة منها، ورئيسة القوّة الغاذية الرئيسة فيها([37]).
ثمّ هناك مسألة أخرى حول القوّة المتخيّلة، وتتعلَّق بنحو ارتباط هذه القوّة بالقوّتين: الحسّية؛ والناطقة؛ فالفارابي يعتقد أن القوة المتخيّلة تقبل المعقولات بما يحاكيها من المحسوسات التي تركّبها هي. وتقبل الجزئيات أحياناً بأن تتخيَّلها كما هي، وأحياناً بأن تحاكيها بمحسوات أُخَر. وأما القوة المتخيّلة بالشبه لمعقولات القوة الناطقة فإنها لا تقبل لها نفس الصور السابقة في مقابل القوة الحاسّة، فهي تحكي عنها بواسطة المحسوسات([38]). وتحاكي المعقولات الناقصة بأخسّ المحسوسات وأنقصها، مثل: الأشياء قبيحة المنظر. وكذلك تحاكي تلك القوّة سائر المحسوسات لذيذة المنظر. طبعاً هذه المحكيات عند وضعها في ميزانها الفلسفي تمثِّل نموذجاً ومجسّمة للحقائق المعقولة. وأما ما تحاكي بها فأشياء كثيرة مختلفة؛ بعضها أقرب إلى المحاكاة؛ وبعضها أبعد… والأمور التي تحاكي بها هذه تتفاضل فيكون([39]).
ويعتقد الفارابي أيضاً أن القوى البدنية تمنع النفس عن إدراك ذاتها وخواصّ إدراكها، فهي تدرك الأشياء متخيّلة لا معقولة؛ لانجذابها إليها واستيلائها عليها. ولأنها لم تألف العقليات ولم تعرفها، بل نشأَتْ على الحسّيات، فهي تطمئنّ إليها وتثق بها؛ وتتوهم أنه لا وجود للعقليات، وإنما هي أوهامٌ مرسلة([40]).
وعلم الشيء قد يكون بالقوّة الناطقة، وقد يكون بالمتخيّلة، وقد يكون بالإحساس.
فإذا كان النزوع إلى علم شيء شأنه أن يدرك بالقوة الناطقة فإن الفعل الذي ينال به ما تشوّق من ذلك، يكون بقوّةٍ ما أخرى في الناطقة، وهي القوة الفكرية، وهي التي تكون بها الفكرة والرؤية والتأمّل والارتباط.
وإذا كان النزوع إلى علم شيءٍ ما يدرك بإحساسٍ كان الذي ينال به فعلاً مركَّباً من فعلٍ بدنيّ ومن فعلٍ نفساني في مثل الشيء الذي تشوق رؤيته؛ فإنْ كان الشيء بعيداً مشَيْنا إليه، وإنْ كان دونه حاجزٌ أَزَلْنا بأيدينا ذلك الحاجز. فهذه كلّها أفعال بدنية، والإحساس نفسه فعلٌ نفساني. وكذلك في سائر الحواس.
وإذا تشوّق تخيّل شيءٍ ما نيل ذلك من وجوه: أحدها: يفعل بالقوة المتخيّلة، مثل: تخيّل الشيء الذي يرجى ويتوقّع، أو تخيّل شيءٍ مضى، أو تمنّي شيءٍ ما تركبه القوّة المتخيلة؛ والثاني: ما يرد على القوة المتخيلة من إحساس شيءٍ ما، فتخيّل إليه من ذلك أمرٌ ما ـ نتيجة تشوّقه ـ أنّه مخوفٌ أو مأمول، أو ما يرد عليها من فعل القوّة الناطقة([41]).
وأما في موضعٍ آخر من كتابه السياسة المدنية فيقول: إن للحيوان الناطق قوّةَ النطق، والقوّةَ النزوعية، والقوّةَ المتخيّلة، والقوّةَ الحسّاسة. فالقوة الناطقة هي التي بها يحوز الإنسان العلوم والصناعات، وبها يميز بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق، وبها معرفة ما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ويدرك بها مع هذه النافع والضارّ والمُلذّ والمؤذي. والناطقة؛ منها: نظرية؛ ومنها: عملية. والعملية؛ منها: مهنية؛ ومنها: مروية. فالنظرية هي التي جوّز بها الإنسان علم ما ليس شأنه أن يعمله إنسان أصلاً. والعلمية هي التي بها يعرف ما شأنه أن يعمله الإنسان بإرادته([42]). والحسّاسة بيِّنٌ أمرها. وهذه هي التي شأن الناطقة العملية أن تعملها بالرويّة. فمنها: حاضرة، ومنها: كائنة في المستقبل.
إلاّ أن ما يحصل للقوة المتخيَّلة من هذه كلّها، بلا توسّط رويّة، فلذلك يحصل في هذه الأشياء بعد أنْ استنبط بالرويّة، فيكون ما يعطيه العقل الفعّال للقوّة المتخيلة من الجزئيات، بالمنامات والروايات الصادقة؛ وبما يعطيها من المعقولات التي تقبلها بأن يأخذ محاكاتها مكانها بالمكانات على الأشياء الإلهية. وهذه كلّها قد تكون في النوم، وقد تكون في اليقظة. إلاّ أن التي تكون في اليقظة قليلة، وفي الأقلّ من الناس، فأما التي في النوم فأكثرها الجزئيات، وأما المعقولات فقليلة([43]).
إن مزاج البدن إذا صار مزاجاً شأنه أن يتبع ذلك المزاج في القوة النزوعية شهوة النكاح مثلاً حاكَتْ (المتخيلة) ذلك المزاج بأفعال النكاح؛ فتنهض أعضاء هذا الفعل للاستعداد نحو فعل النكاح، لا عن شهوةٍ حاصلة في ذلك الوقت، لكنْ لمحاكاة القوة المتخيلة للشهوة بأفعال تلك الشهوة. وكذلك في سائر الانفعالات، وكذلك رُبَما قام الإنسان من نومه فضرب آخر، أو قام ففرَّ من غير أن يكون هناك واردٌ من الخارج([44]).
فيقوم ما تحاكيه القوة المتخيلة من ذلك الشيء مقام ذلك الشيء لو حصل في الحقيقة بأخسّ المحسوسات وأنقصها، مثل: الأشياء قبيحة المنظر. وكذلك تحاكي تلك القوة سائر المحسوسات لذيذة المنظر.
فيتثبت فيها مثل ما يحصل في الباطن، حتّى يصير مشاهداً كما في النوم، ولرُبَما جذب الباطن جاذبٌ جدّاً في شغله، فاشتدَّتْ حركة الباطن اشتداداً يتولّى بسلطانه، فحينئذٍ لا يخلو من وجهين؛ إما أن يعدل العقل حركته ويفشأ غليانه؛ وإما ان يعجز عنه فيعزب من جواره. فإن اتفق عجز العقل وتسلُّط الخيال يطرح سؤال هنا مفاده: هل فرَّق الفارابي بين الخيال والتخيُّل؟
لقد تحدَّث الفارابي عن ذلك في كتابه فصوص الحكم، حيث قال: إن وراء المشاعر الظاهرة شركاً وحبائل لاصطياد ما يقنصه الحسن من الصورة، ومن ذلك:
قوّة تسمى مصوّرة. وقد رتبت في مقدّمة الدماغ، وهي التي تثبت صور المحسوسات بعد زوالها عن مسامتة الحواس وملاقاتها، فتزول عن الحسّ وتبقى فيها.
وقوّة تسمّى وَهْماً، وهي التي تدرك من المحسوس ما لا يحسّ، مثل: القوة في الشاة إذا تشبّح صورة الذئب في حاسّة الشاة، فتشبحت عداوته ورداءته فيها؛ إذ كانت الحاسة لا تدرك ذلك.
وقوّة تسمّى حافظة، وهي خزانة ما يدركه الوَهْم، كما أن المصوّرة خزانة ما يدركه الحسّ.
وقوّة تسمّى مفكّرة، وهي التي تتسلّط على الودائع في خزانتي المصوّرة والحافظة، فيخلط بعضها ببعض، ويفصل بعضها عن البعض. وإنما تسمّى مفكّرة إذا استعملها روح الإنسان والعقل؛ فإنْ استعملها الوَهْم سمّيت متخيّلة»([45]).
ويتبين من كلام الفارابي أن الخيال والمتخيّلة قوتان: الأولى: خزانة لصور المحسوسات؛ والثانية: قوة تتصرّف في هذه الصور، وتوجد صور جديدة. يعني بحث واحد فقط حول القوة المتخيّلة وهي علاقة العقل الفعّال بالقوة المتخيّلة، والتي نرجئها إلى بحث علاقة العقل الفعّال بالنفس الإنسانية.
5ـ القوّة الناطقة
والقوة الناطقة هي التي بها يحوز الإنسان العلوم والصناعات، وبها يميِّز بين الجميل والقبيح من الأفعال والأخلاق، وبها يروي ما ينبغي أن يفعل أو لا يفعل، ويدرك بها مع هذه النافع والضّار والملذّ والمؤذي. والقوة الناطقة تنقسم إلى:
1ـ القوة الناطقة النظرية.
2ـ القوة الناطقة العملية.
فالقوة النظرية هي التي يحوز بها الإنسان علم ما ليس من شأنه أنْ يعملهُ الإنسان أصلاً باعتبار عملها النظر وليس العمل. والعملية؛ منها: مهنية؛ ومنها: مروية. والمهنية هي التي بها تحاز الصناعات والمهن؛ والمروية هي التي يكون بها الفكر والروية في شيءٍ مما ينبغي أن يعمل أو لا يعمل([46]). وبها يعمله الإنسان بإرادته.
وكذلك يقول: إن القوّة الناطقة التي بها يمكن أن يعقل المعقولات، وبها يميِّز بين الجميل والقبيح، وبها يحوز الصناعات والعلوم، ويقترن بها أيضاً نزوع نحو ما بعقله([47])([48]).
والروح الإنسانية هي التي تستطيع إدراك المعاني بشكلٍ حقيقي بدون الارتباط بالواقع المادّي، وهذا يتم بالعقل النظري.
وفي كتاب الفصوص يقول الفارابي: ليس من شأن المحسوس من حيث هو محسوسٌ أن يعقل، ولا من شأن المعقول من حيث هو معقولٌ أن يحسّ، وأن يتمّ الإحساس، إلاّ بآلةٍ جسمانية فيها تشبح صور المحسوسات شبحاً متصحّباً للواحق غريبة، وأن يستتمّ الإدراك العقلي بآلةٍ جسمانية؛ فإن المتصوّر فيها مخصوصٌ، والعام المشترك فيه لا يتقرّر في منقسمٍ، بل الروح الإنسانية التي تتلقّى المعقولات بالقبول جوهر غير جسماني، ليس بمتحيِّز، ولا متمكن في وَهْم، ولا يدرك بالحسّ؛ لأنّه من حيِّز الأمر([49]). والنفوس الإنسانية إنّما تعقل ذاتها لأنها مجرّدة، والنفوس الحيوانية غير مجرّدة فلا تعقل ذواتها؛ لأنّ عقليّة الشيء تجريده عن المادّة، والنفس إنما تدرك بواسطة الآلات الأشياء المحسوسة والمتخيّلة؛ وأمّا الكلِّيات والعقليّات فإنها تدركها بذاتها ونفسها([50]).
نعم، الجسم شرطٌ في وجود النفس لا محالة؛ فأمّا في بقائها فلا حاجة لها إليه. ولعلّها إذا فارقته، ولم تكن كاملةً، كانت لها تكميلاتٌ من دونه؛ إذ لم يكن شرطاً في تكميلها كما هو شرطٌ في وجودها([51]).
ب ـ علاقة العقل الفعّال بالنفس الإنسانية
إذا انتهى العقل بالفعل إلى درجة العقل المستفاد فقد انتهى إلى ما هو شبيهٌ بالتخوم والحدّ الذي إليه تنتهي الأشياء التي تنسب إلى الهيولى والمادّة.
وإذا ارتقى منها فإنما يرتقي إلى أوّل رتبة الموجودات المفارقة «أي رتبة العقل الفعّال»، تلك الرتبة التي لا يكون بين الإنسان وبينها شيءٌ آخر، كما يقول الفارابي([52]).
لهذا عندما تناول الفارابي صفات الله تعالى أثبت أنه تعالى ليس جسماً. وما دام الله ليس جسماً فلا سبيل إلى إدراكه إلاّ بشيءٍ ليس بجسمٍ، ولا هو قوّةٌ في جسمٍ. ومعنى هذا أن الذات التي أدرك بها الله تعدّ شيئاً غير جسماني، ولا ينطبق عليها ما ينطبق على الأجسام.
ولقد أدرك الفارابي أنه إذا لم يثبت أن حقيقة ذاته شيء غير جسماني فإنه لن يكون بإمكانه أن يتكلَّم عن كيفية الإيصال إلى السعادة التي يسعى إليها. من أجل ذلك حاول الفارابي أن يثبت وجود جوهرٍ غير جسماني مفارق، يكون باستطاعته الاتصال بالعقول المفارقة، وتحقيق السعادة الروحية الخالصة([53]).
وبعد ذلك يقول الفارابي: إن الروح التي للإنسان نفثةٌ من العالم الإلهي، لا تتشكّل بصورةٍ، ولا تتخلّق بخلقه، ولا تتعين بإشارةٍ، ولا تتردّد بين سكونٍ وحركة، فلذلك تدرك المعدوم الذي فات، والمنتظر الذي هو آتٍ.
والانسان مركّبٌ من جوهرين: أحدهما: مشكّل مصوّر مكيّف مقدّر متحرّك وساكن متجسّد منقسم؛ والثاني: مباين للأول في هذه الصفات، غير مشارك له في حقيقة الذات، يناله العقل، ويعرض عنه الوَهْم.
وهكذا يجمع الإنسان بين عالم الخلق وعالم الأمر، أو بين العالم الطبيعي والعالم الإلهي؛ لأن روحه من أمر ربِّه، وبدنه من خلق ربِّه([54]).
وبعد أن أثبت الفارابي أنها جوهرٌ مفارق يثبت أن لها سعادةً بعد المفارقة في جنس سعادة المفارقات، وأن أتمَّها إنما يكون للنفوس الفاضلة، وذلك بالاتصال بالعالم العلوي لتحقّق السعادة المطلوبة.
إنه لو كان العقل الهيولائي باقياً مع العقل بالفعل لكانت النفس عالمةً وجاهلةً بشيءٍ واحد معاً، وهذا الكمال هو العقل بالفعل، أعني الاستعداد التامّ للاتصال بالمفارق الباقي الثابت، فهي تتصل بالعقل بالفعل بعد المفارقة([55]).
وهكذا يتبين لنا أن محاولة الفارابي إثبات وجود جوهرٍ غير جسماني مفارق (هو النفس) حيث يكون باستطاعتها الاتصال بالعقول المفارقة، وإنما كان يعبِّر عن بُعْدٍ معرفي ميتافيزيقي؛ لأن النفس أو الجزء الناطق هو الأساس في هذا الاتصال، وهي تكتسب خلودها بقدر ما تدرك من الحقائق الموجودة في العقل الفعّال، وذلك أن العقل البشري، سالكاً سبيل رقيّه وتطوّره، يمرّ بمراحل متدرّجة بعضها فوق بعضٍ، فهو في أول أمره عقلٌ بالقوّة، فإذا ما أدرك قدراً كبيراً من المعلومات العامّة والحقائق الكلية أصبح عقلاً بالفعل.
وقد يتّسع مدى نظره، ويحيط بأغلب الكلِّيات فيرقى الى أسمى درجةٍ يصل إليها الإنسان، وهي درجة العقل المستفاد أو درجة الفَيْض والإلهام. ولعلّ هذا ما بين كيفية اتصال النظام عند الفارابي، في كلّ سماء قوّة روحية أو عقلٌ مفارقٌ يشرف على حركتها ومختلف شؤونها، وآخر هذه القوى، وهو العقل العاشر، موكلٌ بالسماء الدنيا والعالم الأرضي، فهو نقطةُ اتصالٍ بين العالمين العلوي والسفلي. وكلّما اتسعَتْ معلومات المرء اقترب من العالم العلوي ودنَتْ روحه من مستوى العقول المفارقة، فإذا وصل إلى درجة العقل المستفاد أصبح مستعداً لتقبُّل الأنوار الإلهية، وأضحى على اتصالٍ مباشر بالعقل العاشر([56]).
إذن فالعقل الفعّال هو الذي يجعل عقلنا الذي بالقوّة عقلاً بالفعل، والمعقولات بالقوة معقولات بالفعل؛ لأنه بالفعل دائماً كسائر عقول الأفلاك، ومثله في ذلك مثل الشمس، تجعل المرئيات بالقوّة مرئياتٍ بالفعل، فالمعقولات موجودةٌ فيه يهبها للعقل الإنساني إذا وصل الى مرتبة العقل المستفاد، الذي ينفعل به فيشتعل حَدْساً([57])([58]).
إذن نستطيع أن نقول: إن العلاقة بين العقل الفعّال والنفس الإنسانية هو إيصالها إلى كمالها النهائي، كما تبين لنا في طيّات الكلام. وهي ـ أي السعادة القصوى التي يصوِّب النظر إليها والعمل، وسعى إليها الإنسان بدراسته وسلوكه ـ هي الخير المطلق وغاية الغايات ومنتهى الرفعة الإنسانية وجنّة الواصلين([59]). وإنما تبلغ كمالها النهائي بأفعال إرادية؛ بعضها أفعال فكرية؛ وبعضها أفعال بدنية، وليس بأيّ أفعال اتفقَتْ، بل بأفعال محدودة مقدّرة، تحصل عن هيئاتٍ ما ومَلَكاتٍ ما مقدّرة محدودة؛ وذلك أن من الأفعال الإرادية ما يعوق عن السعادة. والسعادة هي الخير المطلوب لذاته، والأفعال التي تنفع في بلوغ السعادة هي الأفعال الجميلة والهيئات والمَلَكات التي تصدر عنها هذه الأفعال هي الفضائل، وهذه ليست خيراً لذاتها، بل لما تجلب من سعادةٍ([60]).
فالفارابي يرى أن العقل الإنساني وحده عاجزٌ، وأنه لا يستطيع العمل إلاّ بقوة نفوذ العقل الفعّال واتصاله به فحَسْب. وهكذا فتأثير العقل العالي الفعّال على العقل الإنساني المنفعل يحوِّل العقل الإنساني من حالة الإمكانية إلى الحالة الفعّالة، ليصبح عقلاً بالفعل([61]).
النفس الإنسانية هي جوهرٌ روحاني بسيط مباين للجسد مفارق له، وليس عَرَضاً من أعراضه، وهي ليست جسماً، كما أنها لا تموت، ولا تفسد، كما أثبَتْنا([62]).
كما أنها مدركةٌ لذواتها، وإدراكها لذواتها هو نفس وجوداتها، وإن لها سعادةً فوق سعادة ملابستها للمادة، أي سعادتها حين تفارق.
وقد استدلّ الفارابي على مفارقتها ببراهين، منها([63]):
1ـ إنها تدرك المعقولات، والمعقولات معانٍ مجرّدة، ولو كانت النفس جسماً لما خلَتْ المعقولات من الشكل والوضع والمقدار، فعندئذٍ لا تكون معقولاتٍ، بل جزئيات. ولذلك فالنفس التي تتلقّى المعقولات هي من جنس هذه المعقولات، وإلاّ لما عقلتها؛ فالشبيه إنما يدرك بالشبيه.
2ـ إنها تشعر بذاتها، ولو كانت موجودةً في آلةٍ لكانت لا تدرك ذاتها من دون أن تدرك معها آلتها، فكانت بينها وبين آلتها آلةٌ فذاته لغيره.
فالنفس إذن جوهرٌ مفارق، يدرك ذاته بذاته.
3ـ إنها تدرك الأضداد معاً. ولا يمكن أن يكون في المادّة ذلك. فالنفس إذن ليست من جوهر البدن.
4ـ إن العقل قد يقوى بعد الشيخوخة مع إصابة البدن بالكَلَل والضعف. والعقل كما مرَّ بنا هو كمال النفس، ولولا أنه من جوهرٍ آخر غير جوهر البدن لضعف بضعفه.
فالعلاقة بين العقل الفعّال والنفس الإنسانية علاقةٌ ارتباطية، دون أن يمتزج أحدهما بالآخر. ويرى الفارابي فوق هذا أن الموجودات في تدرُّجها مكوَّنة من طبقات بعضها فوق بعضٍ؛ والله مثال الكمال المطلق، وبينه وبين الإنسان والعالم الأرضي كلّه فواصل متعدِّدة([64]).
فنظريات الفارابي الميتافيزيقية والفلكية لا تسمح بأن يتَّحد الخلق مع الخالق، أو أن يمتزج العقل الإنساني بالعقل الفعّال.
وفي موضعٍ آخر من كتبه يقول الفارابي: «العقل الفعّال هو نوعٌ من الفعل المستفاد، وصور الموجودات هي فيه لم تَزَل ولا تزال، إلاّ أن وجودها فيه على ترتيبٍ غير الترتيب الذي هي موجودةٌ عليه في العقل الذي هو بالفعل؛ وذلك أن الأخسّ في العقل الذي بالفعل كثيراً ما يترتَّب، فيكون أقدم من الأشرف، من قبل أن ترقينا نحن إلى الأشياء التي هي أكمل وجوداً… هو أجهل عندنا، أعني أن جهلنا به أشدّ، فلذلك نضطر إلى أن يكون ترتيب الموجودات في العقل الذي بالفعل على عكس ما عليه الأمر في العقل الفعّال، والعقل الفعّال يعقل أوّلاً من الموجودات والأكمل فالأكمل»([65]).
فلهذا فإن القوة الناطقة الذي تناله عن العقل الفعّال ـ وهو الشيء الذي منزلته الضياء من البصر ـ قد يفيض ويترشَّح منه على القوة المتخيّلة.
ويتصرّف فيها، فيكون للعقل الفعّال في القوة المتخيّلة فعلٌ ما، تعطيه أحياناً المعقولات التي شأنها أن تحصل في الناطقة النظرية، وأحياناً الجزئيات المحسوسات التي شأنها أن تحصل في الناطقة العملية، فتقبل القوّة المتخيّلة المعقولات بما يحاكيها من المحسوسات التي تركبها هي؛ وتقبل الجزئيات أحياناً بأن تتخيّلها كما هي، وأحياناً بأن تحاكيها بمحسوساتٍ أخرى، وهذه هي التي شأن الناطقة العملية أن تعملها بالرؤية. فمنها: حاضرة، ومنها: كائنة في المستقبل، إلاّ أن ما يحصل للقوة المتخيّلة من هذا كلها بلا توسّط رؤيةٍ([66]).
نظرية الوَحْي في فلسفة الفارابي
إن الوحي في تعريفه العامّ هو فكرةٌ فلسفية معناها كشف الحقيقة كشفاً مباشراً، مجاوراً للحسّ، ومقصوراً على مَنْ اختارَتْه الغاية الإلهية.
والوحي شَرْعاً: كلام الله تعالى المُنْزَل على نبيٍّ من أنبيائه، سواء كان ذلك بواسطة جبرائيل× أو مباشرةً، إلى مَنْ اصطفاهم الله، كتكليمه موسى×، والرسول| ليلة الإسراء والمعراج([67]).
والوحي كفكرةٍ فلسفية تعني اتصال النفس الإنسانية بالنفوس الفلكية اتصالاً روحياً، فترتسم فيها صور الحوادث، وتطَّلع على عالم الغيب.
وللأنبياء والفلاسفة استعدادٌ خاصّ لهذا الاتصال.
فالعقل الفعّال في نظر فلاسفة الإسلام هو مصدر الوحي والإلهام، وهو أحد العقول العشرة المتصرِّفة في الكَوْن، وهو نقطة الاتصال بين العبد وربِّه، ومصدر الشرائع والقوانين الضرورية للحياة الخلقية والاجتماعية([68]).
لهذا يقول المعلِّم الثاني: إن القوّة المتخيّلة إذا كانت في إنسانٍ ما قويةً كاملة جداً، وكان المحسوسات الواردة عليها من خارجٍ لا تستولي عليها استيلاءً يستغرقها بأَسْرها، ولا أخدَمَتْها للقوة الناطقة، بل كان فيها، مع اشتغالها بهذين، فضلٌ كثير تفعل به أيضاً أفعالها التي تخصّها، وكانت حالها عند اشتغالها بهذين وقت اليقظة مثل حالها عند تحلُّلها منهما في وقت النوم، ولما كان كثير من هذه التي يعطيها العقل الفعّال، فتتخيّلها القوة المتخيّلة بما تحاكيها من المحسوسات المرئية، فإن تلك المتخيّلة تعود فترتسم في القوة الحاسّة؛ لأنه إذا قويت المتخيّلة عند امرئٍ تحلَّلت أثناء اليقظة من سلطان الحواس والناطقة، واتصلت بالعقل الفعّال، حاكت ما يعطيه إيّاها برسوم المحسوسات المرئية([69]).
فإذا حصلت رسومها في الحاسّة المشتركة انفعلت عن تلك الرسوم القوة الباصرة، فارتسمت فيها تلك، فيحصل عمّا في القوة الباصرة منها رسوم تلك في الهواء المضيء المواصل للبصر المنجز بشعاع البصر. فإذا حصلت تلك الرسوم في الهواء عاد ما في الهواء فيرتسم من رأس ـ مباشرة ـ في القوة الباصرة التي في العين، وينعكس ذلك إلى الحسّ المشترك وإلى القوة المتخيّلة([70]).
وبعبارةٍ أخرى: إذا كان ما يعطيه العقل الفعّال للمتخيّلة معقولاتٍ شريفةً، وكانت تمثيلاتها في المتخيّلة في نهاية الجمال والكمال، قال الذي يراها: إن له نبوّةً بالأشياء الإلهية؛ لأن النبوة عند الفارابي هي جميع المعارف الفائضة التي تسمو على الأحداث الجزئية، وترتفع نحو المستقبل أو الحاضر بمخيّلةٍ تتجاوز حدود القدرة الإنسانية المتعارفة، وتبقى مرتبطةً بالنفس ارتباطاً فطرياً. وتعتمد النبوة أساساً على الوحي الذي يمكن أن تعتبره تركيباً بين المعرفة الفلسفة والمعرفة النبوية ذاتها، على أساس أن جميع الحقائق تفيض من العقل الفعّال أو الملك؛ إذ يقول الفارابي: والوحي لوحٌ من مراد الملك للروح الإنسانية بلا واسطةٍ، وذلك هو الكلام الحقيقيّ([71]).
ورأي الفارابي في النبوة لا يختلف عمّا جاء به الإسلام؛ فإن العقل الفعّال الذي هو مصدر الشرائع والإلهامات السماوية في رأيه أشبه ما يكون بالمَلَك المُوكَل بالوحي الذي جاء به الإسلام، فهما واسطةٌ بين العبد وربّه وصلةٌ بين الله ونبيّه، والله هو المشرِّع الأول والمُوحي الحقيقي([72]).
فالفارابي يرى أن المخيّلة هي سبيل الاتصال بالعقل الفعّال، وذلك في حال الأنبياء. وما إلهاماتهم وما ينقلون إلينا من وَحْيٍ إلاّ أثرٌ من آثار المتخيّلة، ونتيجة من نتائجها. وليس الوحي شيئاً آخر سوى فيضٍ من الله عن طريق العقل الفعّال([73]).
وهذه النظرية تقوم على علم النفس ودعائم ما وراء الطبيعية، وتتّصل اتصالاً وثيقاً بالسياسة والأخلاق؛ لأن الفارابي يفسِّر النبوة تغييراً سيكولوجياً نفسياً، ويعدّها وسيلةً من وسائل الاتصال بين عالم الأرض وعالم السماء، لذا يقول في موضعٍ آخر من كتبه: إنه لا بُدَّ لرئيس المدينة من أن يسمو إلى درجة العقل الفعّال الذي يستمدّ منه الوحي والإلهام([74]).
فالمخيّلة تسهم بدَوْرٍ مهمّ في فهم النبوة وتغيّرها عند الفارابي؛ فالإلهامات النبويّة تجري عبر المتخيّلة بطريقتين: في حال النوم؛ أو في حالة اليقظة. فالمتخيّلة تعمل في وقت اليقظة مثل حالها عند تحلُّلها منها في وقت النوم([75])، فهي تحصل على الرؤيا الصادقة أو الوحي. والفرق بين هذين الطريقين نسبيٌّ، والاختلاف بينهما في الرتبة والجوهرية والشرف، وليس في الغاية والهدف.
1ـ الحامل والقابل للوَحْي
عندما يتكلَّم الفارابي حول حامل وقابل الوحي يصفه بالرئيس الأوّل، وهو الأجود والأفضل في المدن والأمم الفاضلة أن يكون ملوكها ورؤساؤها الذي يتوالون في الأزمان على شرائط الرئيس الأوّل… إلى أن يبين كيف ينزل الوحي من عنده ـ الإله سبحانه ـ رتبةً رتبةً إلى الرئيس الأوّل، فيدبِّر الرئيس الأوّل المدينة أو الأمّة والأمم بما يأتي به الوحي من الله تعالى، فينفذ التدبير أيضاً من الرئيس الأوّل إلى كلّ قسمٍ من أقسام المدينة، على ترتيبٍ، إلى أن ينتهي إلى الأقسام الأخيرة. ويبيِّن ذلك بأن الله تعالى هو المدبِّر أيضاً للمدينة الفاضلة، كما هو المدبِّر للعالَم([76]). ثم بعد ذلك يبيِّن مع ذلك كيف ينبغي أن يربّى؟ وكيف ينشأ؟ وبماذا يؤدّب؟ حتّى يصير مَلَكاً على التمام، أو بعبارةٍ أخرى: الرئيس الأوّل الذي يتقبَّل الفَيْض من الله تعالى.
ولهذا ذكر الأوصاف والخصال التي يجب أن تتوفر في الرئيس الأوّل:
2ـ الأوصاف والخصال في رئيس المدينة الفاضلة
فهذا الرئيس الذي لا يرأسه إنسان آخر أصلاً هو الإمام والرئيس الأوّل للمدينة الفاضلة، وهو رئيس الأمّة الفاضلة، ورئيس المعمورة من الأرض كلّها. ولا يمكن أن تصير هذه الحال إلاّ لمَنْ اجتمعَتْ فيه بالطبع اثنتا عشرة خصلة قد فطر عليها([77]):
ـ أن يكون تامّ الأعضاء، قواها مؤاتية أعضاءها على الأعمال التي شأنها أن تكون بها؛ ومتى همَّ بعضوٍ ما من أعضائه عملاً يكون به فأتى عليه بسهولةٍ.
ـ ثم أن يكون بالطبع جيّد الفَهْم والتصوُّر لكلّ ما يُقال له، فيلقاه بفهمه على ما يقصده القائل، وعلى حَسَب الأمر في نفسه.
ـ ثم أن يكون جيّد الحفظ لما يفهمه ولما يراه ولما يسمعه ولما يدركه، وفي الجملة لا يكاد ينساه.
ـ ثم أن يكون جيّد الفطنة، ذكياً، إذا رأى الشيء بأدنى دليلٍ فطن له على الجهة التي دلّ عليها الدليل.
ـ ثم أن يكون حَسَن العبارة، يؤاتيه لسانه على إبانة كلّ ما يضمره إبانةً تامّة.
ـ ثم أن يكون محبّاً للتعليم والاستفادة، منقاداً له، سهل القبول، لا يؤلمه تعبُ التعليم، ولا يؤذيه الكدُّ الذي ينال منه.
ـ ثمّ أن يكون غير شَرِهٍ على المأكول والمشروب والمنكوح، متجنِّباً بالطبع للعب، مبغضاً للذات الكائنة عن هذه.
ـ ثم أن يكون محبّاً للصدق وأهله، مبغضاً للكذب وأهله.
ـ ثم أن يكون كبير النفس، محبّاً للكرامة؛ تكبر نفسه بالطبع عن كلّ ما يشين من الأمور، وتسمو نفسه بالطبع إلى الأرفع منها.
ـ ثم أن يكون الدرهم والدينار وسائر أعراض الدنيا هيِّنةً عنده.
ـ ثم أن يكون بالطبع محبّاً للعدل وأهله، ومبغضاً للجَوْر والظلم وأهلهما، يعطي النصف من أهله ومن غيره، ويحثّ عليه، ويؤتي مَنْ حلّ به الجَوْر مؤاتياً لكلّ ما يراه حَسَناً وجميلاً([78]).
ـ ثم أن يكون عَدْلاً غير صلب القياد، ولا جموحاً ولا لجوجاً إذا دُعي إلى العدل، بل صعب القياد إذا دُعي إلى الجَوْر وإلى القبيح.
ـ ثم أن يكون قويّ العزيمة على الشيء الذي يرى أنه ينبغي أن يفعل، جسوراً عليه، مقداماً غير خائفٍ، ولا ضعيف النفس([79]).
هذه هي الخصال التي يجب توفُّرها في الرئيس الأوّل أو الملك في الحقيقة ـ هذا الشرط ورد عند أفلاطون، ولم يَرِدْ عند أرسطو في كتاب النفس المذكور ـ عند القدماء، وهو الذي ينبغي أن يُقال فيه: إنه يوحى إليه؛ فإن الإنسان إنما يوحى إليه إذا بلغ هذه الرتبة، وذلك إذا لم يبْقَ بينه وبين العقل الفعّال واسطةٌ، فحينئذٍ يفيض من العقل الفعّال على العقل المنفعل القوّة التي بها يمكن أن يوقف على تحديد الأشياء والأفعال وتسديدها نحو السعادة([80]). فهذه الإفاضة الكائنة من العقل الفعّال إلى العقل المنفعل بأن يتوسّط بينهما العقل المستفاد، وهو الوحي. لاحِظْ كيف يوفِّق الفارابي بين الفلسفة والشريعة، فيجعل الفيلسوف نبياً؛ لأنه مثل النبيّ، يتّصل بالله بواسطة العقل الفعّال، ويستمدّ منه العلم.
ولأن العقل الفعّال فائضٌ عن وجود السبب الأوّل فقد يمكن لأجل ذلك أن يُقال: إن السبب الأوّل هو الموحى إلى الإنسان بتوسُّط العقل الفعّال([81]). ورئاسة هذا الإنسان هي الرئاسة الأولى، وسائر الرئاسات الإنسانية متأخِّرةٌ عن هذه، وكائنةٌ عنها، والناس الذين يُدبَّرون برئاسة هذا الرئيس هم الناس الفاضلون والأخيار والسعداء، فإنْ كانوا أمّةً فتلك هي الأمّة الفاضلة.
إن الإنسان يحتاج إلى معلم يرشده إلى السعادة؛ لأنه المقصود بوجود الإنسان أن يبلغ السعادة القصوى؛ فإنه يحتاج في بلوغها إلى أن يعلم السعادة، ويجعلها غايته ونصب عينه. ثم يحتاج بعد ذلك إلى أن يعلم الأشياء التي ينبغي أن يعملها حتّى ينال بها السعادة، ثم أن يعمل تلك الأعمال. ولأجل ما قيل في اختلاف الفِطَر في أشخاص الإنسان فليس في فطرة كلّ إنسانٍ أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة، ولا الأشياء التي ينبغي أن يعملها، بل يحتاج في ذلك إلى معلِّمٍ ومرشدٍ، فلذلك يحتاجون إلى مَنْ يعرِّفهم جميع ذلك، وينهضهم نحو فعلها. وليس أيضاً في قوّة كلّ إنسانٍ أن يرشد غيره. ولا أيضاً في قوة كلّ إنسانٍ أن يحمل غيره على هذه الأشياء.
فالرئيس هو مَنْ يقدر على إرشاد غيره وتعليمه؛ لأنه مَنْ لم يكن قادراً على أن يحرِّك غيره أو يُنهض غيره نحو شيءٍ من الأشياء أصلاً، ولا أن يستعمله منه، وإنْ كان له قدرة على التحريك والإرشاد لكن لم يفعل ذلك، فهذا لم يكن رئيساً أصلاً في شيءٍ، بل يكون مرؤوساً أبداً، وفي كلّ شيء. والعقل الفعّال، لمّا كان هو السبب في أن تصير به المفعولات التي هي بالقوّة معقولات بالفعل، وأن يصير ما هو عقلٌ بالقوة عقلاً بالفعل، وكان ما سبيله أن يصير عقلاً بالفعل هي القوّة الناطقة، وكانت الناطقة ضربين: ضرباً نظرياً؛ وضرباً عملياً، وكانت العملية هي التي شأنها أن تفعل الجزئيات الحاضرة والمستقبلة، والنظرية هي التي شأنها أن تفعِّل المعقولات التي شأنها أن تعلِّم، فالرئيس من زاوية وصل بالعقل النظري، فإن الذي تنال القوة الناطقة عن العقل الفعّال قد يفيض منه على القوة المتخيّلة، فيكون للعقل الفعّال في القوة المتخيّلة فعلٌ ما، تعطيه أحياناً المعقولات التي شأنها أن تحصل في الناطقة النظرية فتبلغ ممّا عند الله([82])([83]). فالروح القُدْسيّة ـ ذات النفس الكاملة ـ لا تشغلها جهةٍ تمّت عن جهةٍ فوق، وما يستغرق الحسّ الظاهر حسَّها الباطن، ويتعدّى تأثيرها عن بدنها إلى أجسام العالم وما فيه، ويقبل المعقولات من الروح المَلَكيّة بلا تعليمٍ من الناس([84]).
والأرواح العامية الضعيفة إذا مالَتْ إلى الباطن غابَتْ عن الظاهر، وإذا مالَتْ إلى الظاهر غابَتْ عن الباطن، وإذا ركنَتْ من الظاهر إلى شيءٍ غابَتْ عن الآخر.
أما الروح الكاملة ـ الروح القُدْسيّة ـ لا يشغلها شأنٌ عن شأنٍ.
3ـ سرّ التمييز بين النبيّ والفيلسوف
عند الرجوع إلى عبارات وآراء الفارابي يتّضح السرّ في هذا التميُّز؛ فقد قلنا سابقاً: يعتقد الفارابي أن أكثر الأفراد ليس لهم قوّة التعقُّل وتصوّر حقيقة وذوات الأمور، وخاصة مبادئ الموجودات، والعقل الفعّال، وبقية الحقائق المرتبطة بعالم العقل. أغلبهم ليس كذلك. فأغلبهم يدرك هذه الأمور عن طريق الصور الخيالية المحاكية لهذه الحقائق. ومن هنا نستطيع أن نقول: إن النبي عندما يقوم بمهمّة إلقاء وإخبار الحقائق العلوية للناس ينبغي أن يستخدم الصور الخيالية.
فهنا يُثار سؤال مفاده: لماذا يستخدم النبيّ في إخباره عن عالم الغيب الصور الخيالية أو يستفيد من الصور الخيالية؟
والجواب: إنما يكون ذلك لسببين اثنين:
الأوّل: لتجسيم الحقائق؛ لأن الناس مأنوسون بالمحسوس، ولا يستطيعون أن يدركوا إلاّ الشيء المحسوس، فيضطرّ النبيّ إلى تصوير هذه الحقائق الغيبية بأشكال محسوسةٍ، فيجسِّمها حتّى يتمّ استيعابها من طرف الناس.
الثاني: كما قلنا: الأمة مأنوسةٌ بهكذا حقائق مجسّدة ومجسّمة، وإلاّ لا يستطيع أن يدرك ذلك، ولا يصل إلى المقصود من وجوده، أي أن يبلغ الإنسان السعادة القصوى([85])؛ فإنه يحتاج في بلوغها إلى أن يعلم السعادة، ويجعلها غايته ونصب عينيه، ثم يحتاج بعد ذلك إلى أن يعلم السعادة والأشياء التي ينبغي أن يعملها حتّى ينال بها السعادة، ثم أن يعمل تلك الأعمال. ولأجل ما قيل في اختلاف الفطرة في أشخاص الإنسان فليس في فطرة كلّ إنسانٍ أن يعلم من تلقاء نفسه السعادة والأشياء التي ينبغي أن يعملها([86]).
لهذه الأشياء وغيرها اضطرّ النبيّ إلى تصوير هذه الحقائق بأشكال محسوسةٍ.
أما بالنسبة لما قلناه سابقاً من أن النبي([87]) أغلب الأمور الناس تدركها عن طريق الأشياء والصور الخيالية، لهذا يتطرَّق الفارابي إلى ذلك في موضعٍ من كتبه، فيقول: وأكثر الناس الذين يؤمّون السعادة إنما يؤمّونها متخيّلة، لا متصورة([88]). وكذلك المبادئ التي سبيلها أن تتقبل ويُقتدى بها وتعظم وتُجلّ، إنما يتقبّلها أكثر الناس وهي متخيّلة عندهم، لا متصورة. والذين يؤمّون السعادة متصوّرة ويتقبّلون المبادئ وهي متصوّرة هم الحكماء. والذين توجد هذه الأشياء في نفوسهم متخيّلة ويتقبّلونها ويؤمّونها على أنها كذلك هم المؤمنون([89]). هنا يريد الفارابي أن يقول: إن التصوُّر والتعقُّل للموجودات هو طريقة الفلاسفة؛ أما التخيُّل فطريقة العامة.
من هنا يمكن أن نقول: بالنظر إلى النقطتين السابقتين في عرضه للحقائق يلتزم صور المحاكية([90]) لهذه الحقائق، فيبيِّنها لهم وممكن بالنسبة لناس آخرين يستخدم لغة التمثيل([91]) حتّى يستوعبوا هذا المفهوم. وهذه المسألة من وجهة نظر الفارابي تختلف باختلاف الأمم المخاطَبة بالوحي؛ لأن بعضها لديه قدرةٌ واستيعابٌ قويّ في هذه القضايا، لكن في مقام ترك هذه الحقائق والمعارف من النبيّ تتفاوت فيما بينها([92])، لهذا يتطرّق الفارابي إلى ما قام به النبي من تبليغ ما يوحى إليه من مغيبات، فيقول في أحد كتبه: لذلك أمكن أن تحاكي([93]) هذه الاشياء لكلّ طائفة ولكلّ أمّةٍ بغير الأمور التي تحاكي([94]) بها للطائفة الأخرى أو للأمّة الأخرى.
من جهةٍ أخرى النبي؛ وبالنظر إلى الوظائف الموكولة إليه، ينبغي له أنْ يكون بينهم ويتحدَّث إليهم ويخبرهم بالحال والمستقبل، مثل: المعجزة أو الإرشاد والهداية. ومن البديهيّ جدّاً أن هذا الأمر المهمّ لا يتحقَّق من خلال إدراك المعقولات الكلّية بواسطة العقل المستفاد والقوّة الناطقة… ورغم كلّ ذلك ليس ضرورة بالنسبة إلى الفلاسفة أن يستفيدوا من قوّة الخيال، فالنبي ينبغي أن يستفيد من قوّة الخيال؛ باعتبار أنه يخاطب أناساً استعداداتهم مختلفة؛ أما الفيلسوف فليس ضروريّاً أن يستخدم قوّة الخيال؛ لأن وظيفتهم ليست تبشير وإنذار الناس، ولذلك الحقائق والمعارف مستقرّةٌ في قواهم الناطقة. وهنا تجدر الإشارة إلى أن الفارابي يذهب إلى القول: إن النفوس الإنسانية عندما تستقبل فيض العقل الفعّال، أو عندما تستعدّ لاستقبال فيض العقل الفعّال، فإن مبادئ العلوم إنما تنشأ بالأساس من قوّة الخيال([95]).
وعليه المقصود عند الفارابي من عدم احتياج الحكماء إلى القوة المتخيّلة هو الذي ذكرناه الآن، الحكماء، مثل الأنبياء، في مقام الاتصال بالعقل الفعّال، يحتاجون إلى قوّة الخيال. وتفاوت النبيّ والحكماء هو في فيضان هذه المعارف إلى القوة المتخيّلة، وانقسامها بعد الاتصال بالعقل الفعّال، وبعد درك الحقائق بواسطة القوة الناطقة. وهذا الأمر يصدق على النبيّ، ولكنْ لا يصدق على الحكيم، كما رأَيْنا سابقاً.
من هنا يذهب الفارابي كما يذهب البعض ـ وهذا موجودٌ في كلام ابن الطفيل([96])، وكذلك في كلام الدكتور إبراهيم مدكور([97]) ـ إلى أن الفلاسفة يرجحون على الأنبياء، وكذلك على الرسول. وهذا الكلام نجد له ما يؤيِّده في عبارات الفارابي، وهو أن الفلاسفة في مقامٍ أعلى حتّى من الأنبياء، فهو في كتابه فصول منتزعة([98]) يقول: إن المدينة الفاضلة لها خمس أركان، هي: «الأفاضل؛ وذوو الألسنة؛ والمقدّرون؛ والمجاهدون؛ والماليّون. فالأفاضل هم الحكماء والمتعلِّقون، وذوو الآراء في الأمور العظام ثمّ حَمَلة الدين. وذوو الألسنة هم الخطباء والبلغاء والشعراء والملحِّنون والكُتّاب ومَنْ يجري مجراهم، وكان في عدادهم. والمقدّرون هم الحُسّاب والمهندسون والأطباء والمنجِّمون ومَنْ يجري مجراهم. والمجاهدون هم المقاتلة والحَفَظة ومَنْ جرى مجراهم، وعُدّ فيهم. والماليّون هم مكتسبو الأموال في المدينة الفاضلة، مثل: الفلاّحين والرعاة والباعة ومَنْ جرى مجراهم. فالفارابي قد ذكر الترجيح للفلاسفة على الأنبياء في هذا الكلام المتقدِّم بشكلٍ صريح؛ والسبب في ذلك، كما قلناه سابقاً، أنهم لا يلجؤون إلى الصور الخيالية. إذن من وجهة نظر الفارابي أنَّ الفلاسفة وصلوا إلى الكمال في القوّة الناطقة لهم، واتَّحدوا بالعقل الفعّال؛ وأما الأنبياء وصلوا إلى الكمال في القوة المتخيلة لهم المستفاد منها في تلقي الوحي. وهذا التمايز بين الفيلسوف والنبيّ إنما يعود إلى نطاق وظائف وأحوال النبيّ، وكذلك الفيلسوف. إذن الفيلسوف في دَرْكه للحقائق الكلّية هو مع النبيّ، لكنّ حقيقة النبيّ من الجزئيات يحكي عن الجزئيات في الحال، وكذلك في المستقبل([99])، وهو عالمٌ بها في الحال والمستقبل، بينما الفيلسوف لا يمكنه مثل هذا العلم في الحال والمستقبل، وإنما يملكه النبيّ فقط».
ومع هذا التوصيف يكون للأنبياء امتيازٌ عن الحكماء، وليس بمعنى أنهم في درجةٍ أقلّ من الأنبياء. نعم يجعل الفارابي الفلاسفة في مرتبة أعلى من بقيّة المؤمنين؛ لأن الفلاسفة يتصوَّرون الحقائق، والمؤمنين يتخيَّلون هذه الحقائق([100]). مثل هذا غير مقبول أن يكون جميع الأنبياء فلاسفة وحكماء في نفس الوقت([101])، لكنْ ليس بالضرورة أن يكون كلّ فيلسوفٍ نبيّاً وإنْ كان قد يُوحى إليه، وبعبارةٍ أخرى: بين الفيلسوف والنبي عمومٌ وخصوصٌ مطلق، ونطاق النبوّة أخصّ من نطاق الفلسفة.
في نظر الفارابي إذا لم يتّصل عقل النبيّ بالعقل الفعّال لا يستطيع الاستفادة من الوحي، لذا هو يقول: «فإن الإنسان إنما يوحى إليه إذا بلغ هذه الرتبة، وذلك إذا لم يبقَ بينه وبين العقل الفعّال الواسطة. وذكَرْنا ذلك سابقاً. إذن كلمة إنما تدلّ على الحصر في قوله: (إنما يوحى إليه)، إذن معناه أن سبب يُوحى إليه بالمعنى العامّ له يكون ممكناً إذا لم تكن بين الإنسان والعقل الفعّال أي واسطة»([102]). وبعبارةٍ أخرى: حتى يحصل على الحكمة، والفلسفة هو الشرط اللازم للنبوة، هو يعتقد هكذا. طبعاً في بعض عبارات الفارابي في هذا المضمار ما قد يوهم برأيٍ مخالف([103]). ومن تلك العبارات ما قاله في بعض كلماته: ولا بين مَنْ يوحى إليه وهو مستكملٌ العلم النظري وبين مَنْ يوحى إليه وهو ليس مستكملاً العلم النظري نسبةٌ ولا اتفاقٌ في الحقيقة، بل اتفاقٌ في الاسم فقط. وواضحٌ من هذا الكلام كأنه يوحي إلى مخالفٍ لما جئنا على ذكره سابقاً([104]).
فمن هنا في الاصطلاح العامّ النبيّ عند الفارابي هو مَنْ عنده اتصالُ النفس بالأوائل. وهنا تعارضٌ وتنافٍ ظاهري بين كلامه السابق وهذا الكلام اللاحق.
4ـ الفاعل ومنشأ الوَحْي
إن المتخيلة إذا تحرَّرت من سلطان الحواسّ في حالة اليقظة، تنشط نفسياً في أثناء النوم، فتقوم بعملية خلقٍ لصور جديدة، أو تقوم باسترجاع صور ذهنية قديمة على أشكال مختلفة؛ إذ تحاكي الجزئيات المحسوسة أو المدركات العقلية. فالمخيّلة بهذا المعنى قوةٌ قادرة على الخلق والإيجاد والتصوّر، وهي أيضاً قدرةٌ عظيمة في المحاكاة والتقليد، وفيها استعدادٌ كبير للانفعال والتأثير([105])، فالمخيلة تسهم بدَوْرٍ مهمّ في النبوة من حيث اتصالها بالعقل الفعّال. فكلّما قويَتْ المتخيّلة وتحرَّرت من سلطان الحواسّ والناطقة ازدادَتْ الرؤية، واتّصلت بالعقل الفعّال، وتلقَّتْ منه ـ العقل الفعّال ـ المعقولات لا مثيل لها في عالم الحسّ، كان ذلك طريقاً لمحاكاة المعقولات. ويحصل هذا الاتصال بلا رؤيةٍ، بل بكشفٍ وإشراقٍ، «إلا أن ما يحصل للقوة المتخيّلة من هذه كلِّها بلا توسط رؤية»([106]).
ويتابع الفارابي تفسير آلية اتصال القوة المتخيلة بالعقل الفعّال، قائلاً: «فيكون ما يعطيه العقل الفعّال للقوة المتخيّلة من الجزئيات بالمنامات والرؤيات الصادقة، وإنما يعطيها من المعقولات التي تقبلها، بأن يأخذ محاكاتها على الأشياء الإلهية. وهذه كلّها قد تكون في النوم، وقد تكون في اليقظة»([107]).
إن ما يعطيه العقل الفعّال للقوة المتخيّلة من المعقولات شريفة ذات تمثيلات متناهية الجمال والكمال في المتخيّلة، تجعل مَنْ يراها يقول: «إن له نبوّةً بالأشياء الإلهية؛ فإن هذه الفاعلية للقوّة المتخيّلة أعلى مراتب الرؤية، ولا تتأتّى إلاّ للأنبياء. وبهذا شرح عملية تلقّي الوحي من النبيّ عن الله، ومنشأ الوحي، وما هو الفاعل للوحي، وفي نفس الوقت فرَّق بين ما يتلقّاه النبيّ وما يتلقّاه الفيلسوف، فيكون الله عزَّ وجلَّ يوحي إليه بتوسُّط العقل الفعّال، الذي يسمّى بالروح الأمين أو روح القُدُس أو جبرائيل×»([108]).
5ـ حقيقة وكيفية الوَحْي
تقوم حقيقة الوحي والنبوّة عند الفارابي في أساسها على العقل الفعّال، فهي (أسمى جزءٍ في مذهبه الفلسفي)، تقوم على دعائم في علم النفس وما وراء الطبيعة، وتتّصل اتصالاً وثيقاً بنظريته في العقل الفعّال([109]).
ولعلّ الفارابي أوّل فيلسوف خصَّص لحقيقة النبوة والوحي مكاناً مهمّاً في نَسَقه الفلسفي، فحاول تأويلها تأويلاً عقلياً.
لما كان الفارابي قد جعل المعقولات موجودةً في العقل الفعّال فقد أوكل إليه مهمّة إيصالها إلى العقل الإنساني، غير أن هذا التصوُّر الميتافيزيقي الذي قدمه الفارابي يدفعنا للتساؤل عن الكيفية وعن الوسائل التي يجري بها الاتصال بين العقل الإنساني والعقل الفعّال؟ وما هي القوّة التي يجري عبرها هذا الاتصال؟
هنا يميِّز الفارابي بين وسيلتين في عملية اتصال العقل الإنساني بالعقل الفعّال، وهما:
الطريق الأوّل: طريق العقل أو النظر العقلي والتأمُّل الفلسفي. وهو منهج الفيلسوف. وقد حدَّد الفارابي هذا الطريق ضمن حدود ما يُفاض على العقل الإنسانيّ من العقل الفعّال، فيصبح الإنسان حكيماً فيلسوفاً ومتعقّلاً للأشياء([110]).
وأما الطريق الثاني فهو المتخيّلة (أو الإلهام). وهو منهج النبيّ. ووفقاً للفارابي هو «بما يفيض العقل الفعّال إلى قوّة المتخيّلة اتصالها بالعقل الفعّال». وهنا يفسِّر لنا الفارابي الطريق الأول بأن العقل الإنساني لا يستطيع الاتصال بالعقل الفعّال دفعةً واحدة، بل يتدرَّج بالترقّي عبر التأمُّل النظري في العقل بالقوّة إلى العقل بالفعل، متدرجاً نحو الأكمل والأعلى على أن يصل إلى مرتبة العقل المستفاد، حتّى يصل إلى العقل الفعّال، وبه يصير الإنسان عقلاً بالفعل بعدما كان عقلاً بالقوة، إلى أن يصير في قرب من رتبة العقل الفعّال، فيصير عقلاً بذاته بعد أن لم يكن كذلك، ومعقولاً بذاته بعد أن لم يكن كذلك، ويصير إلهيّاً بعد أن كان هيولانياً. فهذا هو فعل العقل الفعّال، ولهذا سُمِّي العقل الفعّال([111]).
فالإنسان بما يُفاض عليه من الحقائق الكلِّية من العقل الفعّال يكون حكيماً فيلسوفاً؛ لأن العقل الفعّال يجمع في ذاته المعقولات أو الصور كلّها، ويرسلها إلى العقل الإنساني، فتتولَّد فيه المعرفة، أي معرفة الحقائق الكلِّية؛ لأن غاية العقل الإنساني أن يتّصل بالعقل الفعّال ويتشبّه به، وبذلك يكون العقل الفعّال واهباً للمعرفة، وواهباً للصور أيضاً.
إن تبيان الفارابي لآلية الانتقال التدريجي لتعقُّل الفيلسوف للحقائق الكلِّية، واستكمال المعرفة الإنسانية عبر الاتصال بالعقل الفعّال، يُعبِّر عن بُعْدٍ معرفي ميتافيزيقي، كما أكَّد في آراء أهل المدينة الفاضلة قائلاً: «فيكون الله عزَّ وجلَّ يوحي إليه بتوسُّط العقل الفعّال، فيكون ما يفيض من الله تبارك وتعالى (…)، فيكون بما يفيض منه ـ أي العقل الفعّال ـ إلى عقله ـ أي العقل الإنساني ـ المنفعل حكيماً فيلسوفاً ومتعقّلاً على التمام»([112]).
ويظهر في هذا النصّ تأثُّر الفارابي بالمعلِّم الأوّل، ولا سيَّما كتاب الأخلاق النيقوماخية([113]).
إذن كانت القوّة الناطقة هي الأساس في هذا الاتصال عند الفيلسوف، ويزداد معرفةً بقدر ما يدرك من الحقائق الموجودة بالعقل الفعّال، أي ينجز هذا الاتصال بقواه الذاتية، وبطريقة خلاّقة في النظر والتفكير، فيتحقَّق الاتصال عبر القوّة الناطقة عند الفيلسوف. وأما الوسيلة الثانية للاتصال بالعقل الفعّال فيمكن أن تجري عن طريق المخيّلة (أو الإلهام)، وهو طريق النقل، الذي يسمّى الوحي عند الأنبياء. فالقوة المتخيّلة متوسّطة بين القوة الحاسّة وبين القوة الناطقة([114]).
فالمخيّلة تسهم بدَوْرٍ مهمّ في فهم النبوة، وتغيُّرها، عند الفارابي. فالإلهامات النبويّة تجري عبر المتخيّلة بطريقتين: في حال النوم؛ أو في حالة اليقظة. فالمتخيلة تعمل في وقت اليقظة مثل حالها عند تحلُّلها منها في وقت النوم([115]). فهي تحصل على الرؤيا الصادقة أو الوحي. والفرق بين هذين الطريقين نسبيٌّ، والاختلاف بينهما في الرتبة والجوهرية والشَّرَف، وليس في الغاية والهدف.
فالفارابي يعتقد أن أفضل وأكمل درجةٍ بالنسبة لإنسان يحصل عليها هي بواسطة القوة المتخيّلة، ويعتقد بأن أفضل أنواع الوحي الذي يرتقي به النبيّ إلى أكمل درجةٍ هو من خلال قوّته المتخيّلة.
«والنبوّة تختصّ في روحها بقوّةٍ قُدْسيّة تذعن لها غريزة عالم الخلق الأكبر، كما تذعن لروحك غريزة عالم الخلق الأصغر، فتأتي بمعجزاتٍ خارجةٍ عن الجبلّة والعادات، ولا تصدأ مرآتها عن انتقاشٍ بما في اللوح المحفوظ من الكتاب الذي لا يبطل، وذوات الملائكة، التي هي الرسل، فتبلغ ممّا عند الله»([116]).
وكذلك من ناحيةٍ أخرى إن تنوُّع الوحي من خلال قوّة الكمال والضعف لا يرجع إلى هذا التنوُّع للوحي، يرجع إلى كمال وضعف القوّة المتخيّلة، بل بسببه في ذلك إلى تنوّع المحتوى لهذا الوحي، وليس إلى كمال وضعف القوة المتخيّلة؛ لأنه بعض المعارف والحقائق أغلبها تكون في حالة اليقظة، وبعضها في حالة النوم تعرض هذه الحقائق للنبي([117])([118]). ثمّ يوضِّح الفارابي أن الأفراد الذين يصلون إلى العقل الفعّال والعقل المستفاد، طبعاً سيكون لهم مراتب مختلفة. أما عامة الناس فإنَّهم أيضاً يستفادون من إفاضات العقل الفعّال، لكنْ بنسبٍ مختلفة ترتبط باستعدادهم ومزاجهم، لذلك يتحدَّث عن الاختلاف بين الناس بالتفضيل، ومن الأمورالتي تفسد مزاج الإنسان هي الإفاضة منه ـ العقل بالفعل ـ بوجود ضعف الاستعداد والمزاج، وبالتالي تؤثِّر على تخيُّلاته([119]).
النتائج
1ـ لم يستفِدْ الفارابي في بيانه للوحي من قوّة الحَدْس، ولا نجِدُ له أثراً في كتب الفارابي.
2ـ على الرغم من اعتقاد الفارابي بالأفلاك والنفوس الفلكية، مثل بقيّة المشّائين، إلاّ أنه يؤمن باتصال نفس النبيّ بالعقل الفعّال فقط.
3ـ إنّ الخيال في نظر الفارابي والمشّائين ليس مجرّداً، بل إنّ جميع قوى الإنسان ـ ما عدا قوّة العقل ـ مادّيةٌ.
4ـ يعتقد الفارابي أنّ النفس تستفيد من الصور الكلِّية والجزئية في العقل الفعّال.
5ـ يطبِّق الفارابي الوحي فقط على الوحي المعقول، ولا توجد له مراتب أخرى.
6ـ لم يُشِرْ الفارابي إلى الفارق القائم بين الوحي والإلهام.
التوصيات
1ـ أن تكثَّف الدراسات بطريقةٍ موضوعية حول جدوائية الدراسات الحداثية في إيجاد حلولٍ لبعض مشاكل التفكير الفلسفي حول الظاهرة الوحيانية.
2ـ تسليط الضوء على حدود الوحي ومَدَياته، فلمعرفة حدود الوحي دَوْرٌ أساس في علاج كثيرٍ من القضايا الدينية، وبالتالي تجنيب الدين كثيراً من المشاكل التي زُجَّ بها من دون أيّ عذرٍ.
3ـ أن يحافظ الباحث على النقطة الجوهرية في دراسة الظاهرة الوحيانية بصورةٍ خاصة، وهي مسألة تعالي الوحي وارتباطه بالغيب، وعدم السماح للدراسات الحداثية أو غيرها بنزع هذا التعالي، فزوال تعالي الوحي وارتباطه بالغيب زوالٌ للقضية الدينية برمّتها.
4ـ عدم التسرُّع في استخدام المناهج المستوردة من أفق ثقافاتٍ أخرى، لم تولد من رحم الدراسات الإسلامية المتَّزنة والأصيلة، فكثيراً ما تؤدّي مثل هذه المناهج إلى نتائج لا تمتّ إلى الروح الدينية بصلةٍ.
5ـ لا بُدَّ من النظر في التجربة الدينية السائدة لإيجاد نقاط القوّة، وإبطال النظرة الكلِّية التي يحكم بها الفكر الحداثي على التجربة الدينية برمّتها.
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذٌ في الحوزة العلميّة، متخصِّصٌ في الفلسفة الإسلاميّة.
([1]) يعقوب بن إسحاق الكندي، رسائل الكندي الفلسفية 1: 372، تحقيق: محمد عبد الهادي، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، ١٩٥٢م.
([2]) علي مراد الداوري، العقل في حكمة المشّاء: 232، حكمت، طهران، ط1، ١٣٨٧هـ.
([4]) أبو الفتوح محمد الشهرستاني، الملل والنحل 2: 10 ـ 46، دارالمشرق، بيروت، ط1، ١٩٨٦م.
([5]) إبراهيم المدكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه: 67، مكتبة الإسكندرية، مصر، ط1، ١٩٧٦م.
([6]) حسن بن يوسف الحلّي (العلاّمة)، كشف المراد في شرح تجريدالاعتقاد: 375، مؤسسة النشر الاسلامي، ط2، ١٤٣٠هـ.
([7]) أبو حاتم الرازي، أعلام النبوّة: 221، دار السابق، بيروت، ط1، ٢٠٠٣م.
([8]) المصدر السابق: 127 ـ 210.
([10]) أبو بكر محمد الأزدي، جمهرة اللغة 2: 382، تحقيق: عادل عبد الرحمن البدري، دار صادر، بيروت، ط1، ١٩٨٨م.
([11]) الراغب الإصفهاني، مفردات غريب القرآن: 515، مؤسسة الراية، بيروت، ط1، ١٣٨٧هـ.
([12]) محمد عبد العظيم الزرقاني، مناهل العرفان في علوم القرآن: 46، دار الفكر العربي، القاهرة، ط1، ١٩٩٥م.
([13]) مناع القطان، مباحث في علوم القرآن: 33، مؤسسة الرسالة، بيروت، ط1، ١٩٩٥م.
([14]) الشهيد محمد باقر الصدر، المدرسة القرآنية: 219، دار الشريعة، قم، ط1، ١٤٢٦هـ.
([15]) أحمد بن فارس، معجم مقاييس اللغة 1: 127، دار الرسالة، بيروت، ط2، ١٩٨٦م.
([16]) محمود بن عمر الزمخشري، الكشّاف 1: 6، دار المعرفة، بيروت، ط1، ٢٠١٣م.
([17]) أبو نصر محمد الفارابي، الفصول المنتزعة: 78 ـ 79، دار المشرق، بيروت، ط1، ١٤٠٥هـ.
([18]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 66، تحقيق: ألبير نصر، المطبعة الكاثوليكية، بيروت، ط1، ١٩٥٩م.
([19]) الفارابي، السياسة المدنية: 31، دار الهلال، بيروت، ط1، ١٩٩٦م.
([21]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 66.
([23]) الفارابي، السياسة المدنية: 38 ـ 62.
([24]) جعفر سجادي، ترجمة وحاشيه أنديشه هاي أهل مدينة فاضله: 21، جامعة طهران، إيران، ط1، ١٣٩٢هـ.ش.
([25]) أبو علي (ابن سينا)، النجاة: 656، دارالسعادة، القاهرة، ط1، ١٩١٢م.
([26]) الفارابي، السياسة المدنية: 32.
([27]) الفارابي، فصوص الحكم: 73، الفص 33، دار المعارف، بغداد، ط1، ١٣٩٦هـ.
([28]) الفارابي، السياسة المدنية: 36.
([30]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 88.
([32]) الفارابي، السياسة المدنية: 33.
([33]) الفارابي، فصوص الحكم: 77، الفص 47.
([34]) المصدر السابق: 84، الفص 42.
([35]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 108.
([39]) الفارابي، فصوص الحكم: 15، الفص 52.
([40]) الفارابي، التعليقات: 6، بوستان كتاب، قم، ط1، ١٣٩٢هـ.
([41]) الفارابي، السياسة المدنية: 85 ـ 86.
([44]) الفارابي، رسائل أبي نصر الفارابي: 13، دار المعارف، بيروت، ط1، ١٩٩٦م.
([46]) الفارابي، السياسة المدنية: 24.
([47]) باعتبار النـزوع يكون إلى علم شيء، شأنه شأنه أنْ يدرك بالقوّة الناطقة، فإن الفعل الذي ينال به ما تشوِّق من ذلك يكون بقوّةٍ ما أخرى في الناطقة، وهي القوة المفكِّرة التي يكون بها الفكر والرؤية والتأمُّل والاستنباط.
([48]) الفارابي، آراء أهل المدنية الفاضلة: 87.
([49]) الفارابي، رسائل أبي نصر الفارابي: 13.
([50]) الفارابي، التعليقات: 23.
([52]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 94.
([53]) عاطف العراقي، الميتافيزيقيا في فلسفة ابن طفيل: 189، دار المعارف، القاهرة، ط5، ١٩٩٢م.
([54]) الفارابي، فصوص الحكم، الفص 27 و28.
([55]) الفارابي، رسالة في إثبات المفارقات: 2، مكتبة مجلس الشورى الإسلامي، طهران، ط1، ١٣٨٤هـ.
([56]) إبراهيم المدكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه 1: 48.
([57]) هذه فيها إشارة إلى قوى النفس الناطقة بحسب مراتبها في الاستكمال، وتلك المراتب تنقسم إلى ما يكون باعتبار كونها كاملة بالقوة؛ وإلى ما يكون باعتبار كونها كاملة بالفعل. والقوى مختلفة أيضاً بحَسَب الشدّة والضعف، وهذه كالتالي: القوة المناسبة للمرتبة الأولى تسمّى عقلاً هيولانياً؛ لكونه خالياً من جميع الصور المستعدّة لقبولها؛ والمرتبة المتوسطة تسمّى عقلاً بالملكة، وهي ما يكون عند حصول العلوم المكتسبة؛ وأما المرتبة الأخيرة المناسبة لها هي عقل بالفعل، وهي ما يكون عند الاقتدار على استحضار المعقولات الثانية بالفعل متى شاء بعد الاكتساب بالفكر أو الحَدْس. وهذه قوة للنفس وحضور تلك المعقولات كمالٌ لها، وهو المسمى بالعقل المستفاد؛ لأنها مستفادةٌ من عقلٍ فعّال. فالمستفاد متقدّم على العقل بالفعل وجوداً، فالمستفاد هو الغاية القصوى، وهو الرئيس المطلق الذي يخدمه ما تقدَّم من قوى الإنسان.
([58]) زينب العفيفي، الفلسفة الطبيعية والإلهية عندالفارابي: 542، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة، ط1، ٢٠٠٩م.
([59]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 47.
([60]) إبراهيم المدكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه: 47.
([61]) محمد القاسم، النفس والعقل لفلاسفة الإغريق والإسلام: 6، الأنجلو المصرية، القاهرة، ط4، ١٩٦٢م.
([62]) الفارابي، رسائل أبي نصر الفارابي: 2.
([64]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 58.
([65]) الفارابي، المجموع: 55 ـ 56، دار السعادة ، القاهرة، ط1، ١٩٠٧م.
([66]) الفارابي، آراء أهل المدنية الفاضلة: 112.
([67]) محمد عبده، رسالة التوحيد: 46، كتاب الثقافة الجديدة، القاهرة، ط1، ٢٠٠٩م.
([68]) الفارابي، فصوص الحكم: 42، الفص 36.
([69]) هنا المعلِّم الثاني يقصد من كلامه أن العقل الفعّال يعطي للمتخيّلة معقولات شريفة، وهي تتمثل بنهاية الجمال والكمال، وهذه المرتبة لا تكون إلاّ إذا بلغت قوته المتخيّلة نهاية كمالها، فيقبل في يقظته الجزئيات الحاضرة والمستقبلية، ويقبل محاكات المعقولات المفارقة وسائر الموجودات الشريفة، ويراها، فيكون حينئذٍ بما قبله من المعقولات نبوة بالأشياء الإلهية، وهذا هو أكمل المراتب التي تنتهي إليها المتخيّلة، وأيضاً أكمل المراتب التي يبلغها الإنسان بقوته المتخيّلة، وبهذه المرتبة تتفاوت الناس في قبول ما يفيض على مخيلتهم من العقل الفعّال.
([70]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 111.
([71]) الفارابي، فصوص الحكم: 42، الفص 47.
([72]) إبراهيم المدكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه 1: 96.
([73]) إبراهيم المدكور، مقالة (نظرية النبوّة عند الفارابي)، مجلّة الرسالة، العدد ١٧٣، السنة الرابعة، مصر، ١٩٣٦م.
([74]) إبراهيم المدكور، مقالة (نظرية النبوّة عند الفارابي)، مجلّة الرسالة، العدد ١٧٣.
([75]) إبراهيم المدكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه 1: 109.
([76]) الفارابي، الملّة: 26، دار المشرق، بيروت، ط1، ١٩٩١م.
([77]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 111.
([78]) أي من خصال الرئيس الأول للمدينة الفاضلة ـ التي نظَّر لها الفارابي ـ الذي حلّ به الجور والظلم لا يأتي بالمثل، بل يأتي بكلّ ما هو جميل وحسن؛ لكونه رئيس المدينة الفاضلة.
([79]) الفارابي، آراء أهل المدنية الفاضلة: 124.
([80]) الفارابي، السياسة المدنية: 89.
([82]) لكون مؤهّلات الرئيس ملكات فطرية وإرادية، ولا تتوفر هذه الملكات في أيّ إنسانٍ اتّفق؛ لأن الرئيس إنسان استكمل عقله ومتخيلته، والعقل المستكمل هو المستفاد الذي حصل على جميع المعقولات، ومتى غدا العقل مستفاداً استطاع أن يتّصل بالعقل الفعّال، وأصبح فيلسوفاً. أما المخيلة المستكملة فهي المخيلة القوية التي تخلص من سيطرة الحاسّة والناطقة، والتي تستطيع أن تتّصل بالعقل الفعال في اليقظة وتستمدّ منه، وهذه مرتبة الأنبياء. لهذا بكمال العقل وكمال المتخيّلة تكتمل شخصية الرئيس، زيادة على الخصال الأخرى التي ينبغي توفُّرها فيه.
([83]) الفارابي، فصوص الحكم: 9، الفص 32.
([85]) هذا لكون الناس لا تستطيع إدراك المغيّبات غير الظاهرة لهم؛ لأنهم فقط يدركون المحسوس والمشاهد، فهنا اضطرّ النبي حتى يوصل لهم المعاني الغيبية الماورائية أن يأتي بأمثلةٍ؛ ليُجسّم ويشبّه لهم تلك المعاني بأشياء محسوسة. وأصلاً هذا الكلام أعلاه جاء لردّ إشكال أُثير على النبيّ: لماذا لم يأتِ بأشياء مخيّلة للناس أو لم يستعمل المتخيّلة في ذلك؟
([86]) الفارابي، السياسة المدنية: 86 ـ 87.
([87]) على اعتبار أن مبادئ الموجودات ومراتبها والسعادة ورئاسة المدن الفاضلة إما أن يتصوّرها الإنسان ويعقلها؛ وإما أنْ يتخيّلها؛ لكون المعارف تتمّ إما بالصور والتعقّل؛ وإما بالتخيّل والمحاكاة. وهذا التصور إنما يكون عن طريق ارتسام ذوات الموجودات في النفس كما هي في الحقيقة، وإما التخيّل ارتسام مثالاتها أو أمور تشبهها في النفس.
([88]) الفارابي، السياسة المدنية: 97.
([90]) لبعض الناس لكونهم لا قدرة لها على فهما إلاَّ بالمحاكاة.
([91]) لكون بعضهم يكفي معهم فقد المحاكاة؛ والبعض لا يكفي معه إلاّ بالاتيان بالمثال، والنوعان يشملهم عدم قدرتهم على الفهم، وهذا يكون إما بالفطرة أو بالعادة.
([92]) حسب الناس المخاطبة من قِبَل النبيّ؛ فمنهم يفهم بالمحاكاة؛ ومنهم يفهم بالتمثُّل.
([93]) هنا يقصد أن تعامل النبيّ ليس على سليقة واحدة مع المجتمعات؛ فالذي يأتي له بمحاكاةٍ للأشياء لا يأتي بمثلها للآخر، بل يأتي بتمثيلٍ، وهكذا؛ بسبب عدم الفهم لهذه الأشياء.
([94]) نفس ما ورد في الهامش 11.
([95]) زنده بيدار، ابن الطفيل: 32، ترجمة: بريدع الزمان، انتشارات علمي وفرهنگي، طهران، ط1، ١٣٨٨هـ.
([96]) إبراهيم المدكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه: 80.
([97]) الفارابي، الفصول المنتزعة: 65، الفصل 57.
([98]) الفارابي، رسائل أبي نصر الفارابي: 13.
([99]) باعتبار أن المتخيلة تستطيع الاتصال بالعقل الفعّال إذا قويَتْ، فعند ذلك تتلقّى منه الجزئيات، ومنها ينتقل إلى جزئياتٍ أخرى الآن أو في المستقبل، وهذه الحالة خاصّةٌ بالنبوة. وأما الفيلسوف فلا تكون له هذه الحالة، أي الانتقال من الجزئيات إلى جزئياتٍ أخرى، سواء كانت الآن أو في المستقبل. وحصول هذه الحالة للنبيّ سواء كانت الجزئيات والمعقولات بلا تروٍّ في حين يحصل للناطقة بالرويّة.
([100]) الفارابي، السياسة المدنية: 86.
([101]) لأن الفيلسوف عند الفارابي يتلقّى الحقائق بواسطة العقل الفعّال، فتكون طبيعة المعرفة والحقائق عقلية، وليست حسّية، بينما النبيّ تأتي المعرفة إليه بواسطة المَلَك، ويتلقّى الوحي بواسطة المتخيّلة، ثمّ يتمّ تحويل الصور المتخيّلة إلى صور ومعانٍ تنقل للناس. وبالتالي معارف النبوة معارف مخيّلة بالأساس.
([102]) الفارابي، السياسة المدنية: 79.
([103]) يتميَّز النبيّ عن الفيلسوف بالقوّة المتخيّلة التي بواسطتها يتلقّى الوحي، وكذلك يستطيع النبيّ بها تجريد المعاني وتمثيلها وتبسيطها، وتحويلها إلى لغةٍ مفهومة للعامّي، ومؤثِّرة في مشاعرة ومبادئه وقراراته؛ خلافاً للفيلسوف الذي يفتقد لهذه الميزة، مما جعله يبدو ناشفاً وصعباً وغير مفهوم ولا مؤثِّر بدرجةٍ كافية. نعم، الفيلسوف يأتي بعد النبيّ؛ لكونه يفهمه ويعرف ماذا حدث له، خلافاً للعامي الذي يعتمد على التقليد والاتباع. إذن انتقال الوحي للمتخيّلة يصبح بها نبيّاً. وهذه ميزةٌ أخرى للنبي على الفيلسوف، وإنْ كان يقع لبعض الفلاسفة من الفيض وقوة الإدراك وتفكيك أسرار الحياة ما يجعلهم في مصافّ الأنبياء، لكنْ لا يُوحَى إليهم. فالنبوّة صفة عقلية أوّلاً، والنبيّ بمؤهِّلاته النفسية والعقلية يتميَّز عن الفيلسوف.
([104]) الفارابي، الفصول المنتزعة: 98 ـ 99.
([105]) إبراهيم المدكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه 1: 74.
([106]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 108.
([108]) الفارابي، فصوص الحكم: 9، الفص 32.
([109]) إبراهيم المدكور، في الفلسفة الإسلامية: منهج وتطبيقه 1: 70.
([110]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 121.
([112]) الفارابي، السياسة المدنية: 28.
([113]) لكون تأثّر الفارابي بأرسطوطاليس، وخصوصاً في كتاب الأخلاق النيقوماخية، الذي تحدَّث فيه أرسطو حول العقل العملي، الذي يخضع للإرادة في استنباط ما ينبغي أن يفعل أو يترك، والذي من ميزته النموّ والتطوّر.
([114]) الفارابي، آراء أهل المدينة الفاضلة: 108.
([116]) الفارابي، فصوص الحكم: 9، الفص 32.
([117]) هنا يريد الفارابي أن يبين أن الوحي واحدٌ لا يتنوّع، وإنما الكلام كلّ الكلام في التنوّع يرجع إلى ضعف وقوّة المتخيّلة ليس إلاّ، فالوحي يفيض بالمعارف والحقائق بحَسَب قوة المتخيّلة وكمالها أو ضعفها.