تمهيد
أقامت نصوص الشريعة المجتمعَ الإسلامي ومفهوم المواطنة فيه على أساس عقائدي فقط؛ فشرط اكتساب الجنسية في الشريعة لا يتمّ على أساس التقادم في المواطنة، ولا على الأساس العرقي؛ إنما على الأساس العقائدي.
وقد أقيم هذا الأساس على مستويين:
المستوى الأوّل: الأخصّ، وهو الإيمان بالإسلام عقيدةً وشريعة وقيماً ومفاهيم.
المستوى الثاني: الأعمّ، وهو الانتماء على أساس التوحيد، والانتماء لواحد من أديان أهل الكتاب، التي ميّزها القرآن والسنّة كالنصرانية واليهودية، وفي المجوسية خلافٌ في كونها ديناً، واتفاق على معاملة المجوس معاملةَ أهل الكتاب.
وتبعاً لاختلاف القاعدة الأساس في اكتساب حقوق المواطنة، تختلف بعض الحقوق والواجبات؛ فقد فرضت الشريعة على الذمّي ــ أي النصراني واليهودي ــ الذي يعيش في كنف المسلمين حقاً مالياً، سميّ بالجزية، مقابل أخذ الزكاة من المسلم، وإن اختُلف في الأساس النظري له، كما مُنع الذمي من أن يرث مسلماً، لكنّ الإمامية يرون أنّ المسلم يرث الكافر مطلقاً، ولا يصحّ العكس كما هو موضع الاتفاق عند فقهاء المسلمين، ويشترط الفقهاء أيضاً لانتقال ملكية العقار للذمّي من المسلم تبعات مالية مضافة على الذمي، وهذا هو منعقد بحثنا هنا، أي حكم شراء الذمّي للأرض من المسلم في الفقه الإسلامي، وسأتناول هذا الموضوع ــ أولاً ــ على صعيد فقه المذاهب الإسلامية، ثمّ أتطرّق ــ ثانياً ــ إلى الخلاف الفقهي فيه عند مجتهدي الإمامية، ومستند الآراء المتعدّدة والراجحة فيه، وكذلك الآثار المترتبة على الحكم الراجح.
ونشير ــ بدايةً ــ إلى أن التقسيم الإسلامي لطبيعة الأرض تقسيمٌ ثلاثي:
1 ــ الأراضي الموات.
2 ــ الأراضي العامرة المفتوحة عنوةً.
3 ــ الأراضي التي تمّ التصالح عليها.
فالأراضي الموات، هي ملكية مشتركة أو ملكية الدولة على خلاف بين الفقهاء.
أمّا الأراضي الصلحية، فهي بحسب بنود الصلح فتكون إمّا خراجية أو عشرية، أو مضعَّفة العشر.
أمّا الأراضي العامرة ــ المنتجة اقتصادياً ــ فبحسب طريقة انضمامها إلى الوطن الإسلامي، فإن كانت قد دخلت نطاق هذا الوطن بالفتح العسكري فهي أرض خراجية رقبتها للأمّة وللإمام تقبيلها للناس، بوظيفة خراجية محدّدة يرتئيها وفقاً للمصلحة، وإن كانت قد دخلت للوطن الإسلامي بإسلام أهلها عليها فهي أرض عشرية، ليس فيها إلا عشر المنتج منها اقتصادياً.
وعموماً، فالأرض ــ من حيث هي عنصر من عناصر الإنتاج ــ إما أن تكون خراجيةً، أي عليها وظيفة مالية تحدّدها الدول حسب الظروف الاقتصادية للأمّة، أو تكون عشريّةً، أي يمتلك المسلم رقبتها والوظيفة الشرعية عليها وظيفة على الناتج عنها من المعطيات الاقتصادية بما يسمّى العشر.
والبحث هنا يهتمّ بحكم انتقال الأرض العشرية من مسلم إلى ذمي، كما هي رؤية فقهاء المذاهب الأربعة، بينما يلاحظ أن فقهاء الإمامية يلاحظون في رؤيتهم عموم انتقال الأرض من ملكية المسلم إلى ملكية الذمّي، سواء كان أصلها خراجياً أو عشرياً.
حكم انتقال الأرض من المسلم إلى الذمي في فقه المذاهب الأربعة
اختلف علماء المسلمين ــ من غير الإمامية ــ في انتقال ملكية الأرض العشرية، من المسلم إلى الذمي، على أقوال:
أ ــ ذهب أبو حنيفة إلى الحكم بانقلاب الحق فيها من العشر إلى الخراج، وحجّته أنّ الأرض تحت يد المسلم ليس فيها إلا العشر، وهو الزكاة، وحيث إنها من العبادات التي تحتاج إلى القربة، والكافر ليس أهلاً للقربات؛ فيبطل العُشر في حقّه، وحيث لا وجود للأرض بلا حقّ، فتتحوّل الأرض حينئذٍ إلى الخراج([1]).
ب ــ أمّا محمد بن الحسن الشيباني، تلميذ أبي حنيفة، فقد ذهب إلى أنّ الأرض تبقى على حالها، ولا تتغيّر بتغير المالك، فقد اكتسبت صفتها الأساسية عند الفتح، كالخراجية إذا اشتراها المسلم.
ج ــ أمّا أبو يوسف ــ التلميذ الآخر لأبي حنيفة ــ فقد ذهب إلى أنه يضاعف عليها العشر، فيؤخذ منها بدل العشر (10%) الخمس، أي (20%) سنوياً بدل الزكاة، مستدلاً بدليل أبي حنيفة من أنه لا وجه لبقاء العشر فيها لانتفاء القربة من الذمي، ولا وجه لتبديل ما اكتسبته من أنها عشرية في الأصل، ولأنّ عمر بن الخطاب , جعل الجزية على بني تغلب عشرين؛ فالحلّ الأمثل أن يُضاعف فيها العشر([2]).
د ــ أمّا ما ذهب إليه الشافعي وأحمد ــ في الراجح من مذهبه ــ فإنه لا يجب فيها عشرٌ ولا خراج؛ لأن العشر زكاة، ولا تصحّ من الذمي، والخراج إنما يؤخذ من أرض خراجية أصلاً، والأرض في الأصل ليست خراجيةً؛ لذلك ورد عن أحمد نصّ في كراهة مثل هذا البيع، ولازم الكراهة على المسلم الكفّ؛ لأنه حكم تكليفي شرّع له، وذلك لإفضاء مثل هذا البيع إلى إسقاط العشر([3]).
هـ ــ ونقل عن الإمام مالك عدم صحّة هذا البيع ــ وهو رواية عن أحمد ــ لإفضائه إلى إسقاط العشر لانتفاء القربة من الذمّي، وعدم الأصل في أخذ الخراج منها، وحيث إنهما ــ أي العشر والخراج ــ من الحقّ العام والنظام العام، وحيث إنّ البيع يسقطهما، فإنّ مخالفة النظام العام كافية في ردّ صحّة هذا البيع([4]).
وهذا التنظير الفقهي تجده في مباحث الفقهاء حيال مدى إمكانية اجتماع العشر والخراج، في ملكية أرض واحدة، وللإمامية إضافة لما سيأتي من قول في هذا الموضوع، وهو عدم اجتماعهما، فإذا أسلم الذمّي سقط الخراج ووجب العشر في غلّتها، وهو رأي الشيخ الطوسي، وعند الكركي، من الإمامية: يجتمعان([5])، لكنّهم يرون في مبحث الخمس أنّ الذمّي إذا اشترى أرضاً فعليه الخمس، ولهم فيه أقوال، واستدلالات، وسيأتي.
حكم انتقال الأرض من المسلم إلى الذمي في الفقه الإمامي
اختلف فقهاء الإمامية في مثل هذه المسألة على أقوال:
أ ــ مشهور الإمامية أنّ الذمي إذا اشترى أرضاً من مسلم، فإنّ عليه أن يدفع لبيت المال خمس العقار، عيناً أو قيمة، ويصرف في مصرف الخمس، نصفه للمصالح العامة، ونصفه لمحاويج بني هاشم، وقد نُسب هذا القول إلى الشيخ الطوسي، وابن حمزة، وابن زهرة، ونسبه الشهيد الثاني في الروضة إلى المتأخرين، ونسبه العلامة الحلي في المنتهى والتذكرة إلى من سمّاهم: (علماءنا)، وادّعى في الغنية الإجماع عليه، ونسبه السيوري إلى من سمّاهم: (أصحابنا)([6]).
ب ــ سكت عنه فقهاء آخرون من الإمامية، فلم يذكروه من موارد الخمس السبعة، ومنهم العلامة المبدع ابن الجنيد، وقرينه ابن أبي عقيل، وشيخ الفقهاء المفيد، والتقيّ الحلبي، وحُكي عن الشهيد الثاني التأمّل فيه، ولم يذكره السيد الطباطبائي في رياض المسائل، وأشكل العاملي في المدارك على دعوى الإجماع؛ لعدم ذكره من المتقدمين، ولم يورده ابن الرواندي في فقه القرآن([7])، لكنّ أحداً لم ينفِ ــ حسب تتبعي ــ إلا أنّ عدم الإيراد يشعر بعدم الوجوب، بل بعدم المطلوبية مطلقاً، ولكلّ من الموجب والساكت مجموعة أدلّة أعرض لها على التوالي.
أدلّة القولين
استدل كلّ من الفريقين بمجموعة من الأدلة:
1 ــ أدلّة الموجبين للخمس
استدلّ الموجبون بمجموعة من الأدلة هي:
1 ــ ما رواه الشيخ الطوسي، بإسناده في تهذيبه عن سعد بن عبد الله، عن أحمد بن محمد، عن الحسن بن محبوب، عن أبي أيوب إبراهيم بن عثمان، عن أبي عبيدة الحذّاء، أنه قال: سمعت أبا جعفر الباقر % يقول: «أيّما ذمّي اشترى من مسلمٍ أرضاً؛ فإنّ عليه الخمس»([8]).
2 ــ روى الصدوق في الفقيه مثله بإسناده عن الحذّاء.
3 ــ روى المحقّق في المعتبر، عن الحسن بن محبوب مثله.
4 ــ روى المفيد في (المقنعة) عن الصادق % أنه قال: «الذمي إذا اشترى من المسلم الأرض فعليه الخمس».
2 ــ تقويم الروايات
قال المحقّق النجفي صاحب الجواهر، في صدد تقويمه لرواية التهذيب: إنّ سندها صحيح؛ بل هي في أعلى درجات الصحّة([9])، واحتجّ لها باعتضادها بعمل كثير من العلماء الأجلاء بها، وهو قرينة على صحّة الرواية وضرورة العمل بمقتضاها([10])، كما عضدت بموافقتها لمقاصد الشريعة؛ فإنه لا يتصوّر ألا يكون للشريعة حكم في مثل هذه الحالة على ما فيها من الخطورة.
لكنّ هذا الكلام كلّه تسجّل عليه ملاحظات، أعرض لها بإيجاز:
أولاً: إنّ رواية التهذيب، وإن وردت مسندةً، إلا أن في إسنادها كلام؛ فقد وردت في (الفقيه) و(المقنعة) مرسلةً، والمرسل لا يعضد معلول السند، وكلاهما غير كاف مستنداً لإشغال الذمة، لأجل أن الاشتغال اليقيني يحتاج إلى دليل بقوّته، بل إنّ عدم ورود الرواية في الكافي يضيف تأملاً في المسألة.
كما أنّ رجال إسناد رواية التهذيب جلّهم ثقات، كما أوردته الأصول الرجالية، إلا أبا أيوب إبراهيم بن عثمان، فهو مشترك مع إبراهيم بن عيسى وإبراهيم بن زياد، وقيل: هو الخاز أو الخزار الكوفي، لا سيما أن الشيخ عدّ إبراهيم بن زياد من أصحاب الصادق%، وعدّ شخصاً آخر، هو إبراهيم بن عيسى، في أصحابه أيضاً؛ حتى ألجأ هذا الإمامَ الخوئي أن يعترف في معجمه؛ فيقول: «وظاهر ذلك تغايرهما»، وذكر ظهوراً آخر هو اتّحادهما معلّلاً ظهوره الخاصّ أن زياداً هو والد عثمان، وجدّ إبراهيم، ولم يورد P دليلاً على استنتاجه هذا الذي ولّد له ظهوراً خاصاً، مما يبقي الأمر اجتهاداً له خالياً من مدرك مذكور، فهو ملزم له ولمقلّديه، لا لغيره من المجتهدين([11]).
ولم نجد في ترجمات الأسماء المشتركة ــ تغايرت أعياناً أو اتحدت ــ توثيقاً لواحد منهم، حتى يتوكأ على هذا التوثيق مع ظهور الاتحاد لأيّ سبب، ولعلّ رواية المفيد لها في باب الزيادات مشعرةٌ بضعفها وغرابتها، إضافةً إلى الإرسال في روايتها، ولعلّ هذا هو الذي منع المفيد P من العمل بها؛ حيث صنّفه العلماء من ضمن من أعرض عن إدخالها في موارد الخمس، كما أنّه لا يقوي الرواية ذكر المحقّق الحلّي لها في كتاب (المعتبر)؛ لأنه رواها عن الحسن بن محبوب، وبينه وبينها أبو أيوب المشترك هذا، فالإشكال لا يزال قائماً.
هذا، ولم أتوصّل إلى الأسباب التي دعت العلاّمة الحلّي P في كتاب مختلف الشيعة إلى اعتبار هذه الرواية من الموثق، ومتابعة السند الأول له في الروضة، إلا احتمال كون الحسن بن محبوب ممّن تتلمذ على شيوخ أهل السنّة، وهذا لعمري لا يكفي تفسيراً؛ ولأجله يقول في الجواهر: «وهذا الرأي ليس في محلّه، ومعه تنزيلاً، فالموثق حجّة عندنا»([12]).
ثانياً: يعارض الرواية من جهة الدلالة الروايات الصحيحة الواردة في حصر الخمس في خمسة موارد، ليس منها الذمّي إذا اشترى أرضاً من مسلم؛ فحصر موارد الخمس، وإخراج هذا المورد ــ مع الإشكالات المتقدمة ــ موهنٌ للرواية المذكورة.
ومن أمثلة روايات الحصر:
أ ــ رواية الحسن بن محبوب نفسه، ومحمد بن أبي عمير (الثقة مطلقاً)، عن المعصوم % أنه قال: «الخمس في خمسة أشياء..»، ولم يذكر منه الذمّي إذا اشترى أرضاً من مسلم.
ب ــ رواية علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن حمل، عن العبد الصالح %: «الخمس خمسة أشياء..»([13])، دون ذكر هذه الأرض أيضاً.
ومّما تقدّم، يمكننا تفسير موقف الشهيد الثاني في (فوائد القواعد) بعدم الإفتاء بمقتضاها، بل صرّح بضعف تلك الرواية؛ فأثار بذلك حفيظة صاحب الجواهر؛ حيث قال: «واستضعافه ضعيفٌ جداً»([14]).
3 ــ أدلة المتوقّفين
استدلّ الساكتون عن اعتبار هذه الأرض من موارد الخمس بمجموعة من الأدلة:
1 ــ حصيلة الملاحظات السابقة على أدلّة القائلين بلزوم الخمس.
2 ــ إن موارد الخمس الأخرى تستند إلى اكتساب من ترتبت عليه فوائد مالية، مثل الغنائم الحربية والسلمية، والمعادن، والغوص، والمال المختلط، والكنوز، أما مورد الذمي، فليس هو الغانم إنما هو من جهة كونه معاوضاً مغرم، وليست الوظيفة على المسلم حتى يقال: إنه غانم بيع أرضه، وإن كان في اغتنامه تأمل، ولأنه لا حقّ شرعي على المسلم لو باعها لمسلم، ولا على الذمّي لو باعها على ذمّي؛ فتفقد الأساس الاقتصادي الذي يُبنى عليه الخمس، وهو الغنيمة، عملاً بقوله تعالى: >وَاعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ فَأَنَّ لِلّهِ خُمُسَهُ<.
3 ــ يتفق الجميع أنّ الخمس من أفراد العبادات، وهو قرين الزكاة، فهو يحتاج إلى توقيف شرعي من جهة، ونية القربة من جهة أخرى، وكلاهما غير متوفر هنا؛ فأمّا الأول، ففي سند التوقيف كلام، وأما الثاني، فلأن الذمي ليس أهلاً للقربات؛ فوجب عدم تكليفه بما هو عبادة شرطها الإيمان، وكان المناسب أن يلحق بهذه الأرض هنا ــ إذا كان لابد من العمل بالرواية ــ كلّ من الجزية والخراج.
4 ــ إنّ إعراض جماعة من أجلاء الفقهاء المتقدّمين والمتأخرين عن الرواية الأم هنا ممن تقدّمت آراؤهم، يضعّف العمل بها، لا سيما المتقدمين ممّن هم أقرب إلى عصر النص، فإعراضهم موهنٌ للرواية، وإن صحّ سندها على رأي المشهور.
5ـ يحتمل المتوقّفون أن تكون الرواية هنا موافقة لمذاهب أهل السنّة في بعض أحكامهم، وطبقاً لموازين التعارض والترجيح المعروفة بين هذه الرواية وما يعارضها من روايات الحصر، ينبغي الإعراض عنها لقاعدة الرشد.
4 ــ مناقشة أدلة التوقّف
1 ــ إنّ مروية التهذيب، وإن كانت أبرز مدرك لهذا الحق، إلا أنّ الاشتراك في أبي أيوب قد تمّ حسمه بتوحيد المشتركين كما هو حال ترجيح معجم رجال الحديث؛ لذلك فالراجح صحّة الاستدلال بها، ولا يضرّ مع التحقق في الإسناد أن يرد مضمونها في مكان آخر مرسلاً، أما وصف بعض العلماء للرواية بالموثقة فليس بموهن لها في باب الاستدلال؛ لأن الموثق يحتجّ به.
2 ــ لا يستفاد من روايات حصر الخمس في خمسة موارد ليس منها الذمي معارضة هذه الرواية، كما لا يستفاد منها الاطمئنان باستبعاد موردنا لو رووا روايات لبعض الموارد لم يشملها الحصر، ولعلّ روايات الحصر كانت إجابةً لسائل على مقتضى سؤاله، أو مقتضى الحال، وليس لسانها لسان استقراء، فكم من روايات ذكرت موارد للحصر مثلاً ولم تذكر أخرى ذكرتها روايات أخرى، فيحمل المذكور من الموارد على غير المذكور.
3 ــ أما التساؤل عن الأساس النظري لإيجاب الخمس هنا؛ فأولاً لا يؤخذ في التعبديات قطعاً عند العلماء كافّة؛ لأن إدراك علّة الأحكام ليس أساساً في الاستدلال فضلاً عن صعوبته.
4 ــ أما كون الخمس عبادة تحتاج إلى توقيف، فالرواية مستندة، وكونها تحتاج إلى نية سيأتي الحديث عنه، يبقى فقط إلحاق الجزية والخراج، وفيه وجه لولا الروايات الواردة في إلحاق مصرفه بمصرف الخمس الشرعي.
5 ــ أمّا إعراض المتقدّمين، فيتطرّق إليه احتمالان:
الاحتمال الأول: طبقاً لمدرسة السند، لما ثبتت صحّة الرواية سنداً فإعراض الأجلاء عنها يفسّر بعدم وضوحها عندهم، أو غفلتهم عن العمل بها لسببٍ يلزمهم، ولا يلزم المجتهد الفاحص بنفسه عن الحكم.
الاحتمال الثاني: إنّ المتقدمين عاصروا مرحلة جمع الحديث، وفترة الجمع الأولى لا يفترض فيها توفر تمام النصوص بدرجة تكون مبوّبةً ومتوفرة تحت يد المجتهد، أما من تأخر عنهم، فلا قيمة لإعراضه.
6 ــ أما موافقة الرواية لأهل السنّة، ففيه وجهان:
الوجه الأول: ليس كلّ موافقة مسقطة للرواية إلا في حالات منها: وجود المعارض الحقيقي، ولا معارض يعتدّ به هنا، ومنها أن توجد قرائن تفيد صدورها عن تقية، ولا قرائن.
الوجه الثاني: إنها ليست موافقةً لأهل السنّة، لا في الأصل، ولا في الحكم؛ لأن حكمها عند الفقهاء ــ من غير الإمامية ــ يندرج فيما عبروا عنه بحكم اجتماع العشر والخراج في الأرض، حيث اختار أبو حنيفة عدمه، واختار الجمهور اجتماعهما([15]).
وعليه، فلو اشترى ذمّيٌ أرضاً من مسلم، فالفقهاء مشغولون فيما يدفع سنوياً عنها للسلطان، لا فيما يصحّح البيع جملةً أو ما هو شرط في صحّته؛ فهذا أجنبي عما نحن فيه تماماً؛ لأن الإمامية في صدد تحديد شرط الانتقال وصحّته، أما ما يجب على المشتري دورياً ــ أي سنوياً ــ فهذا مبحث آخر؛ لأن حكم الإمامية هو اجتماع العشر والخراج؛ فقد قال المحقق الحلي: «لا تجب الزكاة إلا بعد إخراج حصّة السلطان» ([16])، وقال العلامة الحلّي: «تجب الزكاة في أرض الصلح»، أي وإن كانت خراجية([17])، وأكّد صاحب الجواهر أنّ هذا مما عليه فقهاؤنا وأكثر علماء الإسلام([18]) ما عدا أبي حنيفة، وعند النجفي ــ بل نسبه إلى علمائنا ــ أنه لا تسقط بالخراج؛ لصحيحة أبي بصير المروية عن الإمام الباقر %، وإن عورضت بمجموعة من الروايات التي ناقش صاحب الجواهر سندها ودلالتها في موضعه.
7 ــ لذلك كلّه فحمل الرواية على التقية خلاف الظاهر، بل فيها لسان عموم في قوله %: «أيما»؛ من هنا، فحملها على خصوص العشرية يحتاج إلى شاهد شرعي؛ ولذا ذهب أكثر أهل العلم ــ إلا الفاضلين والمحقق ــ إلى أنها في كل أرض، بينما مذهب المخالفين أنها في الزراعية حصراً، لما ورد في المعتبر والنهاية من أنّ مراد الإطلاق هو أرض الزراعة. والغريب ما مال إليه صاحب المدارك من قوله: إنه جيّد؛ لأنه المتبادر([19]).
بل استفيد من العموم أنّ الحقّ يرد في الانتقال بعوض وغيره؛ فقد ذهب الشهيدان إلى تعدّيه لكل حالة انتقال، ولو بالهبة والوصية؛ لعدم الخصوصية في المعاوضة، وحصرها الشيخ جعفر في (كشف الغطاء) في التعدي للمعاوضات فقط؛ بدعوى صدق لفظ الشراء على كلّ أصناف المعاوضة، ولأنه لا خصوصية في لفظ الرواية، ولأنه لا يصار إلى خلاف مدلول لفظ الشراء إلا بقرينة، ولعلّ الأقل صحّةً موقف المتوقفين عند حالة الشراء؛ لنص الرواية عليه؛ تقيّداً بالنص، ولما قاله السيد المرتضى من أنه الظاهر المشهور([20]).
أمّا اختلافهم في مدلول لفظ (الأرض) في متن الرواية، فهو ملحق بمبحث العموم؛ فلو كانت الأرض مزروعةً، أو مشيّداً عليها، فهل الخمس في ثمن الأرض البيضاء، أم الأرض والمنشآت؟
توقف المشهور على ثمن أو عين الأرض البيضاء، قيل: لعدم شمول اللفظ للنخيل والأشجار والمباني، أو أن المفهوم لا يساعد على إدخالها في لفظ الأرض؛ إما للظهور، أو لمقتضى الدلالة المطابقية، أو لانصراف مفهوم الأرض ــ التزاماً ــ للعقار، ودلالة الالتزام دلالةٌ عقلية؛ وحيث إنّ اللزوم العقلي أو العرفي لا ينهض مستنداً شرعياً فلا تدخل المنشآت فيه بمستند معتبر حينئذٍ، وهو ما قد يناقش بأنّ الشراء إنما وقع على شيء مملوك لا يتجزأ عادةً؛ فكلّ ما فيه يدخل بالتبع.
الراجح في المسألة وأدلّة الرجحان
بعد النظر في الآراء وأدلّتها، وما نوقشت به الأدلة، يمكن القول:
1 ــ إن أدلة التكليف الشرعي هي القرآن الكريم والسنّة المطهرة على معناها الحقيقي الشامل لمرويات المعصومين (، والإجماع بمعناه الحقيقي، والعقل، وحيث أشار القرآن الكريم ــ على طريقته في البيان الإجمالي ــ إلى تحقيق الخمس في مطلق الغنائم؛ بقوله: >اعْلَمُواْ أَنَّمَا غَنِمْتُم مِّن شَيْءٍ<، وفصّلت سنّة أهل البيت ( هذا الحكم في بيان موارده، فأدخلت فيه الركاز والكنوز والمردود المالي العام الفائض عن المؤونة، وكان منها إيرادهم ( الخمس في مثل موضع البحث.
ونظراً للسلامة الظاهرية في الرواية الأم هنا من جهة سندها ودلالتها، فالموقف المدركي الصحيح يتراصف مع الموجبين، لا سيما وأن الاشتراك محسوم، ولعدم القدح في أيّ من المشتركين، بل ورد في رجال النجاشي عن إبراهيم بن عيسى أنه ثقة كبير المنزلة، كثير الرواة عنه([21])، ومعروف أن الجرح يحتاج إلى تفسير، والتعديل لا يحتاجه، فسكوت الرجاليين عن الثلاثة، سواء كانوا متحدين أو مشتركين، يعني قبول روايتهم طالما لم يقدح بهم أحدٌ، فضلاً عن أن مشايخ الرواية والإجازة ــ كالمفيد والصدوق والطوسي ــ رووها، وعمل بها الثاني والثالث منهم، وهو ما يكفي في تعضيد هذا الخدش اليسير في سندها باشتراك أبي أيوب، ولا سيما إذا عضدتها قرائن أخرى تأتي.
وإلى جانب هذا كلّه، تكاد تجتمع كلمة الفقهاء المتأخرين على اعتبارها والعمل بها، ولا عبرة بإرسال بعض أسانيدها مع وجود السند في أحد طرقها، وعدم ورودها في الكافي لا ينهض دليلاً على التشكيك بها، ولا تنهض شبهة معارضة الروايات الحاصرة لموارده من جهة أنها لم تذكره؛ لأن الروايات الحاصرة وردت على مقتضى الأحوال، وهي مطلقة والذاكرة له مقيّدة، وحيث يُحمل المطلق على المقيد، أو المجمل على المفسّر؛ فإن شبهات الساكتين لا تقوى على أدلّة الموجبين، ألا ترى أن الشهيدين والعلامة على الرغم من تأملهم في الرواية عملوا بها؛ فلا يمكن عدّهم مع المتوقفين.
2 ــ إنّ دعوى أنّ الحقّ المالي المتوجب في الذمة إشغالٌ يقيني يحتاج إلى دليل معتبر، صحيح والدليل هنا ــ كما تقدّم ــ معتبرٌ وكافٍ، فضلاً عن الإلزام هنا على مبنى الاحتياط.
أمّا انضواء الخمس تحت قاعدة الغنم والاغتنام؛ فإن الذمّي ــ في كل الأحوال ــ غانم من عملية امتلاك الأرض في دار الإسلام، كما أنّ التفتيش عن علّة ــ وإن لم يصلح مدركاً ــ إلا أنه قد يوصلنا إلى شبه الموقف هنا بعلة الجزية، أي لقاء إقامته في دار الإسلام.
وتبقى قضية كون الخمس مما يحتاج إلى نية القربة، والذي يفكّ هذه المعضلة أن الذمة ــ فيما أجتهده ــ قسمان:
أ ــ الذمّة الشرعية: وهي محل الالتزام الشرعي للمسلم وعليه.
ب ــ الذمة التعاقدية: وهي محلّ الالتزام التعاقدي للذمي وعليه للدولة، فالجزية ثبتت في ذمّة الذمي التعاقدية ومستحقها المسلمون.
3 ــ أمّا من جهة مقاصد الشريعة، فإنها من المفاصل الأساسية لاستنباط الأحكام الشرعية ــ فيما أراه ــ لأنّ الإفتاء دون النظر إلى تلك المقاصد يجعل أحكام الفقه الإسلامي غير مترابطة مع بعضها؛ بل يفقدها التماسك كمنظومة حقوقية تصدر عن مصدر واحد بآليات واحدة، لها آثار واحدة، ولعلّ هذا الأمر واضح؛ بل بارز في فقه أهل البيت (، وقد أشار أحد العلماء إلى هذا بقوله: «لا يبعد أن تكون الغاية من الحكم ــ أي: وفقاً للمقاصد العامة للشريعة ــ عدم توسّع أهل الذمّة في تملّك الأرض، كمصدر رئيس للإنتاج في بلاد الإسلام، أو ربما يدفعهم هذا الحكم إلى التفكير باعتناق الإسلام كالجزية»، لكنه يستدرك فيقول: «وهذا مبنيّ على استنباط العلة، وهو ظنّ، ولا يكون المدار إلا على القطع»([22]).
والذي يظهر لي أنّ حكم الخمس في الانتقال حكم شرعي سليم المدرك لجهة أنه مانع أو معوق لامتلاك غير المسلم أبرز وسيلة إنتاج، وهي الأرض، وأن الخمس المأخوذ في الانتقال هو حقّ شرعي للمسلمين، يتولاه الأئمة ونوابهم من ولاة الأمور؛ لتعويض المسلم المضطرّ لبيع أرضه بامتلاك غيرها أو إحياء غيره، وحينئذ فالإشكال في مصرف هذا الخمس له وجه، حيث لم يرد في الرواية على حقيقته الشرعية، فالأولى أنه ينقح مصرفه على مصرف الجزية والخراج وعموم مصارف الفيء؛ لأنه حق دستوري، لا حقاً مالياً بالمعنى الأعم، أو يجعل في الخمس على أن يُصرف في حقّ الإمام أو المصالح العامة، أما جهة حقّ المسلمين أفراداً؛ فهو الحق السنوي المأخوذ من مستثمرها، فإنّ كان مسلماً؛ فالزكاة ــ عشراً أو غيره ــ وإن كان ذمياً؛ فهو الخراج السنوي.
نظرية التضييق على ملكية الذمي للأرض ودورها المعاصر في السياسة الإسلامية
وقع في زماننا، وربما في أزمنة سابقة، نوع تصارع بين المسلمين وغيرهم، كانت إحدى وسائله امتلاك الأرض، ومثال ذلك أنّ أبرز أساليب اليهود في فلسطين شراء الأرض من المسلمين، فهذا الموضوع لو أدرك المسلمون الفلسطينيون مبكّراً هذا الحكم ومدلولاته؛ لامتنعوا عن بيع أراضيهم، ولو طبّق المسلمون الحكم ــ باعتبار كون اليهود ذمّيين ــ ولو كان في الاعتبار نظرة؛ لعطلوا إلى حدّ ما عملية تكوّن المستوطنات الأساسية الأولى، وهذا حاصل في الهند، والبوسنة، وأماكن كثيرة أخرى.
* * *
الهوامش
([1]) الجصاص، أحكام القرآن 3: 11 ـ 19؛ والبحر الرائق 2: 238؛ والهروي، الأموال: 87؛ والكاساني، بدائع الصنائع 2: 55؛ وعبد السلام العبادي، الملكية في الشريعة الإسلامية 1: 313.
([2]) المصادر نفسها.
([3]) الدمشقي، رحمة الأمة في اختلاف الأئمة: 79، طبعة مكتبة أسعد؛ والشيخ الطوسي، الخلاف في الفقه: 125، المسألة رقم: 80؛ والمرتضى، الذخيرة 2: 96؛ وابن قدامة، المغني والشرح الكبير 2: 576، طبعة دار الكتاب العربي.
([4]) المصادر أعلاه؛ والشعراني، الميزان الكبرى 2: 6، طبعة دار الفكر.
([5]) الشيخ الطوسي، الخلاف: 124؛ والكركي، قاطعة اللجاج: 16.
([6]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام 16: 65؛ والمقداد السيوري، كنـز العرفان 1: 211.
([7]) جواهر الكلام 16: 65؛ والرواندي، فقه القرآن: 411، تحقيق: السعيدي؛ والكاظمي، مسالك الأفهام 2: 79؛ ومحمّد تقي الفقيه، مباني العروة الوثقى: 140.
([8]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 6: 352.
([9]) النجفي، جواهر الكلام 16: 65.
([10]) المصدر نفسه.
([11]) الإمام الخوئي، معجم رجال الحديث 8: 75، ج5 م93، ج1: 88، 119، 120، 121، ج7: 312، ج21: 284؛ ورجال النجاشي: 16، قال: «إبراهيم بن عيسى بن أيوب الخزار، وقيل: إبراهيم بن عثمان، روى عن الصادق والكاظم ‘..».
([12]) جواهر الكلام 16: 65.
([13]) وسائل الشيعة 6: 352.
([14]) محمد حسن النجفي، جواهر الكلام 16: 65.
([15]) تقدمت الإشارة إلى مصادر آراء الحنفية والجمهور والإمامية في مدى إمكانية اجتماع العُشر والخراج.
([16]) المحقق الحلي، شرائع الإسلام 1: 154، 180 ـ 181.
([17]) العلامة الحلي، مختلف الشيعة، الطبعة الحجرية، باب الزكاة.
([18]) جواهر الكلام 16: 67.
([19]) محمد تقي الفقيه، مباني العروة الوثقى: 143.
([20]) المصدر نفسه.
([21]) رجال النجاشي: 16.
([22]) محمد تقي الفقيه، مباني العروة: 145.