ـ القسم الثاني ـ
د. أبو القاسم فنائي(*)
﴿لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ﴾ (الأحزاب: 21).
3ـ بسط التجربة النبوية الفقهية
واضح أن هذه الانتقادات لا تعرّض أصل نظرية قبض وبسط التجربة النبويّة للشكّ والترديد، وإنما تزيل الغموض المحيط بها. نرى أن الادعاء القائل بأن مضمون التجربة النبوية الوحيانية هو كلام الله، وبذلك يكون النبيُّ تابعاً للوحي، منسجمٌ مع القول القائل بأن الوحي تابعٌ للنبي بشكل كامل. وعليه فإن القول بالادعاء الثاني أو تأكيده لا يتوقف على إنكار الادعاء الأول، شريطة أن نفسّر تبعية الوحي للنبي بشكل صحيح طبعاً. يمكن القول: إن الوحي يتأثر بشخصية النبي وبتحاوره وتعاطيه مع أجوائه المحيطة به، وإن كلام الله في الحقيقة إنما هو انعكاس للأحداث التي تقع ضمن الأجواء التي يعيش النبي في محيطها. وهذا أفضل تفسير يمكن تقديمه للنزول التدريجي للقرآن والارتباط الوثيق لآيات القرآن بشأن نزول هذه الآيات. إن لكلام الله بسطاً تاريخياً، وتدريجاً، وتكاملاً، ولو سار التاريخ في اتجاه مغاير أو عاش النبي في أجواء أخرى، وعرضت له أسئلةٌ مختلفة، وكانت لغة وثقافة عصره وتصوّراته وتصديقاته من نوعٍ آخر، لكان مضمون الوحي مختلفاً أيضاً، وإنْ كان جوهره سيبقى ثابتاً على ما هو عليه. إلا أننا لكي نقبل بهذا الادّعاء ليس من اللازم أن ننفي تبعية النبيّ للوحي، أو أن نحلّ كلام النبيّ محلّ كلام الله.
ربما أمكن القول: إن هذه المسألة من متفرعات مسألة «ربط الحادث بالقديم»، و«كيفية تصرّف ما وراء الطبيعة في الطبيعة». من وجهة نظرنا فإن المشكلة الموجودة هنا تكمن في التعريف الذي يقدِّمه الفلاسفة والمتكلِّمون لمعنى «تجرّد» و«إطلاق» الله. ففي التعريف الذي يقدّمه الفلاسفة والمتكلِّمون المسلمون للموجود «المجرّد» يتمّ تعريف وصف «التجرّد» على شكل صفة مضادّة لوصف «المادة». طبقاً لهذه الرؤية لا يخلو الموجود إما أن يكون مادّياً أو مجرّداً. والمجرّدات لا يمكنها التواجد والظهور في عالم الطبيعة؛ لأن هذه الموجودات بالنسبة إلى المادة مأخوذةٌ على نحو «بشرط لا»، وليست «لا بشرط». وإن إله الفلاسفة والمتكلِّمين وجود لا بشرط قسمي، ومثل هذا الإله لا يمكنه الحضور في عالم الطبيعة، وأن يخلق أحداث الطبيعة بشكل مباشر، أو أن يتحدّث إلى الناس بشكل مباشر، وأن يكون كلامه تدريجياً، وأن يتغيّر بما يتناسب وتغيّر الأوضاع والأحوال والظروف. إن إطلاق الله وتجرُّده ـ من وجهة نظر الفلاسفة والمتكلِّمين المسلمين ـ سلاسل تقيِّد حركته، وتمنعه من الحضور والتواجد المباشر في عالم الطبيعة، وتمنع من صدور الفعل التدريجي والتاريخي عنه. إن إله الفلاسفة والمتكلِّمين لا يمكنه إعادة النظر في قراراته وتشريعاته السابقة.
أما إله العرفان فلا يواجه هذه المشكلة؛ لأن هذا الإله وجود لا بشرط مقسمي. إن مثل هذا الوجود المطلق موجودٌ في كل مكان، وله حضورٌ فاعل وحيّ في جميع العوالم، وإن حضوره في عالم الطبيعة، وتكلمه، وكذلك تاريخية حواره مع الناس من خلال الوحي، منسجمٌ مع إطلاقه وتجرّده بشكل كامل. طبقاً لهذه الرؤية يكون الإطلاق بمعنى عدم القيد، ويكون التجرّد بمعنى التحرُّر من القيود الماديّة. إن الموجود المتحرِّر من قيود المادّة يمكن أن يكون له حضورٌ وظهور في عالم الطبيعة؛ لأن التجرّد يعني ما فوق المادية، وليس بمعنى الضدّية للمادة. إن الموجود المجرّد بالنسبة إلى المادة مأخوذٌ على نحو «لا بشرط»، وليس «بشرط لا». ولذلك فإن بعض التوضيحات الجيّدة التي يذكرها الدكتور سروش بشأن كيفية حضور النبي في مسرح الحياة، والتكوّن التدريجي للدين، تصدق في مورد الله تعالى أيضاً، بمعنى أننا إذا قبلنا بالرؤية والفهم العرفاني عن الله يسهل علينا توضيح التكوّن التدريجي للدين من طريق الحضور أو الظهور أو تجلّي الله في التاريخ، واعتبار الحوار بين الأنبياء وسائر الناس حواراً بين السماء والأرض، وهو الحوار الذي يمثل الله أحد طرفَيْه، ويلعب فيه الأنبياء دور الوسيط، وليس دور الطرف الآخر من الحوار. من هنا يجب على المؤمنين ـ قبل السعي إلى تقييم تصويرهم عن النبيّ «من خلال إدخال عنصر البشرية والتاريخية» ـ أن يسعوا إلى تفسير تجرّد وإطلاق الله بشكلٍ صحيح؛ ليعملوا من خلال ذلك على تقييم تصويرهم لله.
وبعبارةٍ أخرى: يجب أن ندخل الله إلى مسرح الحياة، قبل إدخال النبي إلى مسرح هذه الحياة. لو لم يكن عند الله من جديدٍ يقوله، ولو أغلقت أبواب السماء بختم النبوّة، فعندها سيفقد بسط التجربة النبوية مفهومه ومعناه. وعلى هذا الأساس فإن إحدى الفرضيات الهامة لنظرية بسط التجربة النبوية تتمثَّل في الدور الحيوي والراهن لله في حياة البشر، وهو الدور الذي لا يزول بختم النبوة ورحيل النبي، ويبقى مستمرّاً إلى الأبد. وهذا هو مضمون كلام الله تعالى، حيث يقول: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾ (الرعد: 39).
يبدو من كلمات الدكتور سروش أنه يرى شخصيّة النبي محوراً لدين الإسلام، إلى الحدّ الذي يكون معه إسلامُ المسلم رهناً بالاعتراف بهذا الشيء. أما نحن فنرى أن محور الدين أو محور الدين الإسلامي هو أصل التوحيد، وإن أهمية شخصية النبي تعود إلى انتسابه إلى الله تعالى، بمعنى أن أهمية النبي ـ من الناحية الدينية ـ تعود إلى حمله لرسالة السماء، وإن الاعتراف بنبوّة النبي يحظى بأهمِّيته من حيث كونه اعترافاً بـ «النبوّة». وعلى أيّ حال فإن التوحيد ـ في مقام المقارنة ـ متقدِّمٌ على النبوّة، وإن النبوة مأخوذةٌ على نحو الطريقية. وإن قيمة وأهمية التجربة الدينية تأتي من حيث إن المؤمنين من خلال هذه التجربة إما أن يتمكَّنوا من رؤية الله بعين البصيرة أو من خلال سماع ندائه وكلامه بمسامع العقول.
أـ دور الله في حياة المؤمنين
إن من أهمّ صفات الله تعالى هو «الحيّ». فالله «حيٌّ لا يموت». إن لهذه الصفة تداعيات مصيرية حاسمة، وإن لها تأثيراً هامّاً في حياة المؤمنين. وإن من أهمّ هذه التداعيات بقاء أبواب السماء مفتوحة على الأرض حتّى بعد رحيل النبي. فإذا كان الله حيّاً ستكون أبواب السماء بدورها مفتوحةً إلى الأبد، بمعنى أن يد الله تعالى ستبقى مفتوحة في التكوين والتشريع، وإنه «فعّال لما يشاء» على الدوام وفي كلّ حال، أو كما يقول العرفاء: في تجلٍّ مستمرّ: ﴿كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ﴾ (الرحمن: 29). وهذا يعني أن الله تعالى في تكلّم مستمر، كما يعني أن البشر يمكنهم أن يرافقوا الأنبياء في أسفارهم والعروج معهم في السماء، وأن يشاهدوا الله، وأن يسمعوا كلماته.
في الفهم التقليدي لدور الله في الجانب التشريعي يُفترض أن الله قد شرّع القوانين الثابتة والمستمرة مرّةً واحدة، وإلى الأبد، وأنه قد أبلغ تلك القوانين إلى الناس بواسطة خاتم الأنبياء، وكأنّه بذلك قفل باب التشريع، ولن يكون هناك تشريعات جديدة، بمعنى أن ختم النبوّة يعني إلغاء دور الله تعالى في الجانب «التشريعي»، ولن يكون لاسمه «الهادي» من ظهورٍ جديد، وكأنّ كل شيء يتوقّف بعد رحيل النبي، وأن حاجة الناس إلى الهداية التشريعية من قبل الله تزول دفعةً واحدة، وأن أبواب السماوات تغلق بوجه الخلائق إلى الأبد.
ولذلك فإننا نرى أن هذا الادّعاء يتنافى مع كون الله تعالى حيّاً، وكونه فعالاً لما يشاء، كما يتنافى مع حرّيته واختياره وبسط يده؛ فإن يداه مبسوطتان، سواء في خلق الكائنات الجديدة، أو في وضع القوانين والتشريعات الجديدة، ونسخ قوانينه وتشريعاته السابقة إلى الأبد، وإنه على الدوام في حالةٍ مستمرّة ومتواصلة من الخلق والجعل. وقد انتقد الله تعالى في القرآن موقف اليهود الذين كانوا يغلّون يد الله، وشجب هذا الموقف ببيان بليغ، إذ يقول: ﴿وَقَالَتْ الْيَهُودُ يَدُ اللهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ﴾ (المائدة: 64). ولذلك فإننا نرى أن الفهم التقليدي لختم النبوّة مشمولٌ لهذا الانتقاد أيضاً. إن تقييد يد الله تعالى في الجانب التكويني يعني أن الله خلق العالم والكون لمرّةٍ واحدة، ثم انسحب ولم يَعُدْ قادراً على التصرّف في العالم الذي خلقته يداه، بمعنى أن نظام الخلق يقيّد يد الله، ويحدّ من قدرته، فيكون عاجزاً في مواجهة مخلوقاته. وأما تقييد يد الله تعالى في الجانب التشريعي فيعني أنه وضع القوانين والتشريعات لمرّةٍ واحدة، وإلى الأبد، ولن يعود بإمكانه بعد ذلك أن ينسخ أو يُغيِّر تلك القوانين، ولا يمكنه استبدال تلك القوانين والتشريعات الجديدة بقوانين وتشريعات جديدة.
وأما إذا كانت يد الله مبسوطة في مقام التشريع ـ وهي كذلك ـ، وإذا كان هو على الدوام في حالة وضع الأحكام، وممارسة دوره في الهداية التشريعية وتوجيه الناس، وإذا كانت الأسماء الإلهية في تجلٍّ مستمر، فلا مندوحة للناس بدورهم من أن يكون لهم طريقٌ إلى معرفة الأحكام التشريعية الجديدة لله تعالى، وهذا الطريق هو ما نسمّيه بـ «بسط التجربة النبوية الفقهية». إن شخصيّة النبي تمثِّل قدوةً للمؤمنين، وكلما كانوا أقرب إلى النبيّ من حيث الخصائص الروحية والمعنوية فإنهم سيكونون شركاءه في الأذواق والمواجيد بنفس النسبة.
إن هذا الادّعاء منسجمٌ مع ختم النبوّة وكمال الدين؛ إذ نرى أن المعنى الصحيح لخاتمية النبي هو أنه بعد رحيل النبي الأكرم‘ لن يكون هناك نبيٌّ آخر، وأن العقل الجمعي والتجربة الجماعية للبشر ـ التي هي في حقيقتها ليست سوى بسط العقل النبوي وبسط التجربة النبوية ـ ستكون هي الوسيط في الارتباط المباشر والمستمر بين الله تعالى ومخلوقاته، وإن الناس سيتمكَّنون من إدراك التشريعات الجديدة الصادرة عن الله تعالى من هذا الطريق. وبطبيعة الحال فإن إدراك التشريعات الجديدة لله تعالى يتوقَّف على الرجوع المستمر إلى تشريعاته السابقة أيضاً، إلاّ أن هذا الرجوع إنما يمكن من طريق الاجتهاد المتمحور حول الأسوة والقدوة، وليس من طريق الاجتهاد المتمحور حول التقنين.
كما أن كمال الدين يجب أن لا يُفهم بشكلٍ يستلزم تعطيل وصف الله تعالى بـ «الهادي»، كما يجب أن لا يستلزم تعطيل الدور التشريعي له. إن «كمال» الدين لا يعني «ثبات» الدين. إن هذا الكمال إنما هو كمالٌ في الحدّ الأدنى، وليس في الحدّ الأقصى. إن كمال الدين في الحدّ الأدنى يعني أن الحدّ الأقل ممّا يلزم للهداية في عصر النبيّ قد وصل إلى الناس، وتمّ وضع النموذج والمقدّمات الضرورية واللازمة للكشف عن أنواع البسط التالية للدين في متناول البشر([1]). إن الدين سيبلغ غاياته وحدود كماله القصوى عند نهاية التاريخ. وحيث إن الدين في عالم التشريع في حالة تكامل وقبض وبسط مستمرّ فإن المعرفة الدينية للبشر يجب أن تنسجم مع هذا القبض والبسط. إن النبي طوال حياته المفعمة بالمنعطفات لم يكن بإمكانه إلاّ رفع الخطوات الأولى باتجاه بناء المجتمع المثالي المنشود، ويرسم خارطة الطريق المؤدّية إلى بناء هذا المجتمع، وبعد ذلك تقع المسؤولية على عاتق الأتباع للمضيّ في الخطوات اللاحقة لإكمال بناء هذا المجتمع المثالي.
إن الفهم التقليدي لختمّ النبوّة ـ من وجهة نظرنا ـ يستلزم ختم التديُّن؛ إذ على أساس هذا الفهم لختم النبوّة يتمّ غلق أبواب السماء، وينقطع حبل التواصل والارتباط بين الله والبشر، ولن يكلِّمهم بعد ذلك، ولن يتمكَّن من ممارسة دور حيويّ في حياة البشر. وأما إذا لم تكن يد الله مغلولة في مقام التشريع، وإذا كان فعّالاً في هذا المجال بشكلٍ مستمرّ، فإن الدين لا محالة سيكون في مقام الثبوت وفي عالم التشريع في حالة مستمرّة من البسط والتكامل، وإن الله سيكون في وحيٍ وحوار مستمرّ، وإن القرآن سيكون في حالة مستمرّة ومتواصلة من البسط والتفصيل. وفي هذه الحالة سيكون «بسط التجربة النبوية» هو الطريق الذي يمكن من خلاله اكتشاف أنواع القبض والبسط وأنواع التكامل اللاحقة للدين، وسماع كلمات الله الجديدة. إن ختم النبوّة لا يعني ختم الدين والشريعة، بل إن معنى ختم النبوّة هو أنه لا توجد شريعة جديدة بعد شريعة الإسلام، لا أن شريعة الإسلام ستبقى ثابتةً إلى الأبد، دون أن يحدث فيها أدنى تحوُّل أو تغيير. فإن مثل هذا الأمر يستلزم تقييد يد الله تعالى في التشريع، كما يستلزم سكوته الأبدي. إن ختم النبوة لا يعني موت الله أو تقاعده.
ومن جهةٍ أخرى فإن حاجة الناس إلى الهداية والتوجيه الإلهي لا يرتفع بالرجوع إلى ما أوحي إلى الأنبياء سابقاً. وبطبيعة الحال فإن الناس مكلَّفون بالرجوع إلى الوحي، إلاّ أن الرجوع إلى ذلك الوحي وقيمته واعتباره لا يعني الثبات الأبدي للدين في عالم التشريع، ولا يعني السكوت الأبدي لله تعالى، ولا يعني حرمان الناس من سماع الكلمات والتوجيهات الجديدة لله تعالى. يقول الإمام علي×: «وَمَا بَرِحَ للهِ عَزَّتْ آلاؤُهُ فِي الْبُرْهَةِ بَعْدَ الْبُرْهَةِ، وَفِي أَزْمَانِ الْفَتَرَاتِ، عِبَادٌ نَاجَاهُمْ فِي فِكْرِهِمْ، وَكَلَّمَهُمْ فِي ذَاتِ عُقُولِهِمْ»([2]).
وقد ورد في كلمات بعض الصلحاء: «اقرأوا القرآن وكأنَّه يوحى إليكم»([3]).
لا بُدَّ من النظر إلى وحي الأنبياء بوصفه أسوة ونموذج، لا بوصفه مجموعة من التعاليم والقوانين التعبُّدية الثابتة والأبدية. إن الهدف من إرسال الرُّسُل وإنزال الكتب هو تربية الناس بحيث يتمكنون من الدخول في حوار مباشر مع الله، ويسألونه ويستمعون إلى أجوبته عن تلك الأسئلة. لقد جاء الأنبياء كي يضعوا أيدي البشر في يد الله، لا أن يغلقوا أبواب السماء في وجوههم. وعليه إذا كان فهمنا لختم النبوّة يتلخص في أن الله تعالى قال كلَّ ما يجب أن يُقال، ولم يَعُدْ لديه من شيءٍ يقوله، وأن أبواب السماء قد أُغلقت بختم النبوّة ورحيل النبي، فإن هذا الفهم يتنافى مع الغاية من بعثة الأنبياء وفلسفة إنزال الكتب السماوية. إن التعاليم الموجودة في القرآن والسنّة مأخوذةٌ على نحو الطريقية، بمعنى أنها إنما تكون هامّةً وذات قيمة ما دامت مَدَداً للتجارب الدينية([4])، وتساعد المؤمنين في الوصول إلى الله أو الاقتراب منه، ورؤيته وسماع كلماته.
والأمر الهامّ الذي يجب الالتفات إليه هنا هو أن دَوْر الله في حياة الإنسان لا يقتصر على دوره «التشريعي»؛ فإن الله بالإضافة إلى التشريع يتّصف بصفات أخرى أهمّ بكثير من التشريع، بل هي متقدِّمة على صفة التشريع. إن صفات الله تنقسم إلى مجموعتين، وهي: «الصفات الإلهية»؛ و«الصفات الأخلاقية». إلاّ أن صفاته الأخلاقية متقدّمة على صفاته الإلهية، وليس العكس، بمعنى أن الصفات الأخلاقية لله تقتضي تحديد صفاته الإلهية؛ فإن الله ـ على سبيل المثال ـ قادرٌ، ويمكنه على المستوى التكويني أن يدخل الصالحين والمحسنين إلى جهنم، وأن يدخل المسيئين والطالحين إلى الجنة، دون أن يتمكَّن أحدٌ من تحديد قدرته على القيام بذلك، أو يسلبها منه، إلاّ أن اتصافه بصفة العدالة يمنعه من ذلك. وإن هذا المنع ينسجم مع توحيده وإطلاق قدرته؛ لأن وحدانية الله تعالى وإطلاق قدرته يعني أنه لا يوجد أحدٌ أو شيء غيره أو وراءه يستطيع أن يحدّ من قدرته، وليس بمعنى أن صفاته وفضائله الأخلاقية أيضاً لا تستطيع أن تحدّ من قدرته أيضاً([5]). إن الله يستطيع أن يظلم عباده، بمعنى أنه قادرٌ على ذلك من الناحية التكوينية، إلاّ أن اتصافه بصفة العدالة يمنعه من القيام بمثل هذا الفعل، وإلاّ فإن الفضائل الأخلاقية لله لن تكون فضيلة.
إن دور الله في حياة المؤمنين تابعٌ لـ «معرفتهم الإلهية» من جهةٍ، وتابع لتوقُّعاتهم من الله تعالى من جهةٍ أخرى. فلو كان إله المؤمنين هو إله الفقه، وكان المؤمنون ينظرون إلى الله بوصفه مشرِّعاً ومقنِّناً فقط، أو أن اتصاف الله بهذا الوصف كان هو الأبرز من بين سائر صفاته الأخرى، وكان هو المقدَّم عليها، فإنهم سيرجعون إليه لمجرَّد رفع حاجتهم إلى القانون فقط. وأما إذا كان التصوُّر الذي يحمله المؤمنون عن الله بوصفه شاهداً مثالياً، وأنه حكيمٌ، ومتَّصف بالفضائل، ففي مثل هذه الحالة سيكون رجوعهم إلى الله من أجل التشبُّه به([6])، والتخلُّق بأخلاقه([7]).
وبعبارةٍ أخرى: إذا عمد البشر ـ من أجل تنظيم ارتباطهم بالله تعالى والاستفادة من هدايته في مقام اتخاذ القرار والعمل ـ إلى مجرّد الرجوع إلى «إله الفقه»، واستبدال هذا الإله بـ «إله الأخلاق»، ولو تجاهلوا سائر صفات الله الأخرى التي يمكن لها أن تلعب دوراً محورياً في تنظيم هذه العلاقة والهداية العملية للناس، فإنهم في هذه الحالة، وبَدَلاً من الاقتراب من الله، سيبتعدون عنه. لو لم يتمّ تحسين وتقييد إله الفقه من خلال «الشاهد المثالي» الذي هو إله الأخلاق لن نحصل على تصويرٍ متناسق وحقيقي عن الله.
لو أمكن تصحيح وتنقيح التصوُّر الذي نمتلكه عن الله فسوف نصل إلى تمييز دقيق بين دائرة الدين وغير الدين. يمكن القول: إن سعادة المؤمنين في الدنيا والآخرة رهنٌ بامتلاك رؤيةٍ واضحة في مجال توقُّع الناس من الدين، وتبعاً لذلك من دائرة الدين. وفي هذا الشأن يُعَدّ التفكيك بين مختلف صفات الله وحيثياته وبيان ارتباطها ونسبتها إلى بعضها ناجعاً. إن هذا البحث في شكله الراهن وإنْ كان جديداً، ولكنْ يمكن العثور على جذوره في التفكير الديني التقليدي أيضاً.
فعلى سبيل المثال: إن من التقسيمات الشائعة في الكتب الفقهية والأصولية تقسيم الأوامر الإلهية إلى: «أوامر مولوية»؛ و«أوامر إرشادية». وإن الأمر المولوي هو الذي ينبثق عن الولاية التشريعية لله أو من إرادة الإله المشرِّع؛ وأما الأمر الإرشادي فيبيِّن حكم العقل أو الوجدان الأخلاقي. إن هذا الفصل والتفكيك ينشأ من فرضية أن لله تعالى صفات وحيثيّات مختلفة، وأن أوامره ونواهيه لا تنبثق دائماً عن مجرّد كونه مشرِّعاً. وبذلك فإن فصل حكم الشرع (الأوامر المولوية) عن حكم العقل والوجدان (الأوامر الإرشادية) تعبيرٌ آخر عن الفصل والتفكيك بين مجال الشريعة والفقه وبين مجال الأخلاق. وإن هذا الفصل والتفكيك هو عين الاعتراف بالعلمانية في الحدّ الأدنى، أو العلمانية المعتدلة في مجال الأخلاق والسياسة.
إن تعيين منزلة ومنشأ كلام الله تعالى، وما هي الناحية التي بسببها صدر عنه ذلك الكلام؟ وما هو غرضه ومراده من التكلُّم في مورد هذا الموضوع؟ أو ما هو صدور الحكم بشأن ذلك؟ لا يعني أبداً تعيين التكليف لله. من الواضح أن الله قال كلمته ويقولها، وأن كلماته لا تتبع ميولنا وإرادتنا([8])، ولكنْ ليس هناك من شَكٍّ في أن الله قد تحدّث من أجل تلبية حاجة من احتياجاتنا. وعليه فإن الفصل والتفكيك بين مختلف صفات الله تعالى سيخبرنا ما الذي يجب أن نتوقَّعه من الدين، وأن نقيّم كمال الدين ونقصه في ما يتعلق بتلبية هذه التوقُّعات. إن هذا التفكيك سوف يقول لنا: إن علينا أن لا نكوِّن توقُّعاً اعتباطياً من الدين، وأن لا نحمِّل الدين وزر الأمور غير الدينية وما فوق الدينية، وأن لا نطالب الدين بحلّ جميع مسائلنا ومشاكلنا، والعمل على رفع جميع احتياجاتنا. فعلى سبيل المثال: لو كان توقُّعنا من الدين يقتصر على ضمان سعادتنا في الآخرة فإن هذا التوقُّع يقتضي أن نطلب من الدين مجرّد تلك الأمور التي تؤثِّر بشكلٍ من الأشكال في سعادتنا الأخروية، والتي لا نشعر بتأثيرها. وعلى هذا الأساس إذا صادفنا في النصوص الدينية أموراً لا ربط لها بسعادتنا في الآخرة لا ينبغي لنا أن نعتبرها جزءاً من الدين، أو أن نحمل على عاتقها الآثار واللوازم المترتبة على الدين. وبطبيعة الحال يمكن لنا أن ندّعي بشكلٍ معقول ومبرّر أن السعادة في الآخرة تتوقَّف على نحوٍ أو أنحاء خاصّة من المعيشة الدنيوية، إلاّ أن هذا الادّعاء في حدّ ذاته جوابٌ عن سؤال ما يتوقعه الإنسان من الدين.
وبعبارةٍ أوضح: إن شأن ومنزلة الله تعالى لا يُختزل في مولويّته وآمريته وشارعيّته وبيان الأمور الدخيلة في سعادتنا، لتكون جميع كلماته جزءاً من الدين، وأن يكون الالتزام النظري والعملي بها لازماً وضرورياً بوصفه من الدين. إن الدين لا يساوي الوحي، بل هو أخصّ منه، فلربما أمكن من طريق الوحي أن يعلم الإنسان أموراً من خارج مجال الدين قطعاً. فإن تعليم النبي نوح صنع السفينة([9])، أو كيفية صنع الدروع للنبي داوود([10])، أو كيفية بناء السدّ لذي القرنين([11])، أو تعليم النبي سليمان لغة العجماوات([12])، وكذلك الآيات والأحكام المنسوخة في القرآن تُعَدّ جزءاً من الوحي، ولكنّها لا تعتبر جزءاً من الدين. يمكن لله تعالى، من باب التفضُّل والعطف والحكمة، ولاقتضاء سائر صفاته الكمالية، أن يتكلَّم مع الإنسان في غير المجالات الدينية، وأن يعمل على هدايته في تلك المجالات أيضاً. إلاّ أن الاستفادة الصحيحة والمناسبة من هذه الهداية رهنٌ بالتفكيك بين الجانب الديني والجانب غير الديني، وتصحيح توقُّعات الإنسان من الدين.
ب ـ دور النبي في حياة المؤمنين
إن الدور الذي يمارسه النبيّ في حياة المؤمنين يتأثّر بـ «معرفتهم النبوية» وتوقعاتهم من النبيّ. إن الأنبياء ليسوا مجرّد أنبياء، وإنما هم قبل ذلك من البشر، وعندما يصبحون من الأنبياء لا تزول هويتهم الإنسانية؛ فإن الأنبياء بعد أن يُبعثوا بالنبوّة لا يفقدون صفاتهم وخصائصهم البشرية، وإن تمتُّعهم بالهداية الإلهية من طريق الوحي لا يستلزم إلغاء عقولهم وتجاربهم البشرية. وقد تحدّثنا في موضعٍ آخر وقلنا: إن الوحي لا يحلّ محلّ العقل والتجربة البشرية. وهذا الكلام يصدق بشأن الأنبياء أيضاً.
إن النبيّ يمثِّل أسوةً للمؤمنين. ومن الواضح أن الشخص الذي يستطيع أن يكون أسوة ومثلاً ونموذجاً للمؤمنين في حياتهم وسلوكياتهم هو الذي تكون مبادئ قراراته في هذين الأمرين مشابهة لمبادئ قراراتهم. إن المؤمنين؛ بحكم كونهم من البشر ومن العقلاء، مكلَّفون في اتخاذ قراراتهم بتوظيف العقل والتجربة البشرية. وإذا كانت «شريعة العقل» بالنسبة إلى سائر أفراد البشر متقدّمة على «شريعة النقل» فهي كذلك بالنسبة إلى النبيّ أيضاً. إن الأنبياء معصومون، ولكنْ يجب عدم تفسير عصمتهم بشكلٍ يطغى على كونهم أسوة ومثلاً للآخرين. فطبقاً للقراءة الشائعة عن العصمة تؤدي هذه الخصوصية إلى تحويل المعصومين إلى كائناتٍ مسلوبة العقل والتجربة والعواطف والمشاعر الإنسانية، بحيث لا تلعب هذه الأمور أيّ دور في اتخاذ القرارات وفي ما يقولونه أو يفعلونه أو يمارسونه. إن مباني قرارات وسلوكيات المعصومين ـ طبقاً لهذه الرؤية ـ تنبثق عن العقل والتجربة والعواطف والمشاعر الإنسانية، في حين أن مباني قرارات وسلوكيات المعصومين في جميع الأحوال هو الوحي الإلهي.
إلاّ أننا لا نرى أن العصمة تقتضي صدور أفعال المعصوم دائماً عن الوحي والأوامر الإلهية؛ إذ أوّلاً: إن الإله الشارع ليس له حكم بشأن جميع الموارد؛ وثانياً: إن القول بإطلاق حدود الشريعة لا يُبقي موضعاً للعقل والحكمة العملية. إن العصمة تعني أنه عندما يكون للإله الشارع حكم فإن النبي لا يعمل على نقض حكمه، ولا يتجاهله. ولكنْ في إطار تلك الأحكام هناك هامشٌ من الحرّية للنبيّ يمكنه ويحقّ له أن يتَّخذ القرار على أساسٍ من عقله وتجربته، أو على أساس من التشاور مع الآخرين والرجوع إلى العقل الجمعي واتّباع رأي الأغلبية. إن «الحكمة» من أكبر النعم الإلهية التي مَنَّ بها الله على الأنبياء. إن الحكمة تختلف عن النبوّة، بمعنى أنه يمكن للشخص أن يكون حكيماً، وفي الوقت نفسه لا يكون نبياً([13]).
ومضافاً إلى ذلك فإن القرآن يرى أن المؤمنين مكلَّفون بإطاعة أوامر النبيّ، وأن النبيّ مكلَّفٌ باستشارتهم أيضاً([14]). وأما إذا كانت أوامر النبي وتعاليمه مجرّد تطبيق للأحكام الله تعالى على موارده الجديدة، أو تطبيق الأحكام والتعاليم الإلهية العامة على الموارد الجزئية، ففي مثل هذه الحالة ستكون إطاعة النبي سالبةً بانتفاء الموضوع، كما سيكون تشاوره مع المؤمنين لغواً وعبثاً. وإن هذه المسألة تثبت أن أحكام الإله الشارع ليست شاملةً، كما تثبت أن للنبيّ بدوره أحكاماً تنبثق عن مبدأ غير الوحي والأحكام الإلهية، رغم أن تعاليم النبي ـ بحكم الحديث القائل: «لا طاعة لمخلوقٍ في معصية الخالق»([15]) ـ «لا تنقض» أحكام الله تعالى.
وعليه عندما يأمر الله المؤمنين بإطاعة النبي، ويأمر النبي بالتشاور مع المؤمنين، فإن هذا يعني أن للنبيِّ، بالإضافة إلى مسؤوليته في إبلاغ الأحكام الإلهية، حقَّ اتخاذ القرارات وإصدار الأحكام أيضاً، وأنه يحقّ للمؤمنين أيضاً أن يشاركوا في تقرير مصيرهم، وأن يبدوا رأيهم في الأمور التي تعنيهم جميعاً، بمعنى أن المرجعية في الأمور الاجتماعية تكون لـ «العقل الجَمْعي»، وإن مجرّد عدم مخالفة القرار المتخذ من قبل الجمع للحكم الإلهي المُلْزِم يكفي لإثبات مشروعيته الدينية. ويكفي في انسجام حكم أو قرار أو سلوك مع الوحي مجرّد سكوت الوحي في ذلك المورد، وليس من الضروري أن يكون ذلك الحكم أو القرار أو السلوك «منبثقاً» عن الوحي.
إن مقامات الأنبياء ومنازلهم لا تُختزل في بيان الوحي وتبليغ الدين؛ فإن الأنبياء قبل كل شيء يتمتعون بهوية إنسانية، وإنهم متمسكون بلوازم ومقتضيات هذه الهوية. إن الأنبياء، بالإضافة إلى علمهم اللدنّي، يتمتَّعون بالعقل والحكمة والأخلاق والعلوم البشرية المعهودة أيضاً، وإن علمهم اللدنّي لا يُغنيهم عن العلوم البشرية([16]). لقد كان الأنبياء يمثِّلون مرجعية للناس، ويمارسون دوراً استشارياً للناس حتّى في غير الأمور الدينية وما فوق الدينية أيضاً. وبطبيعة الحال ليس كلّ كلامهم يعود إلى الوحي والتجربة الدينية. لقد كانت حياة الأنبياء مفعمةً بالتجربة والتأمّل والحكمة والتعقّل، وإن الله لم يبعث نبياً إلاّ بعد أن يستكمل عقله([17]). إن النبوّة لا تستلزم تعطيل العقل المستقلّ والعُرْفي للأنبياء، ولا تبطل العلم والحكمة الناشئة عن هذا العقل. من هنا لو ذهب شخصٌ إلى القول باعتبار جميع كلام النبي من الدين يكون في الحقيقة مبتدعاً([18]).
وكما تقدّّم أن ذكرنا فإن الأنبياء يتمتَّعون بنوعين مختلفين من التجارب: الأوّل: التجربة الوحيانية؛ والثاني: التجربة غير الوحيانية. وإن كلماتهم وسلوكياتهم هي في الحقيقة حصيلة المزج والتلفيق والتفاعل والتعاطي بين هاتين التجربتين([19]). نحن نرى أن النبي عندما يغدو نبياً لا يستغني عن العقل والتجربة البشرية. إن النبي ليس ملاكاً. ولا يمكن للملائكة أن يكونوا أنبياء للبشر؛ لأنهم لا يستطيعون أن يمثلوا أسوة صالحة للناس. ولكي يتمكَّن النبي من أن يكون أسوة لسائر الناس يجب أن تكون مبادئه في التفكير والقرار والعمل شبيهةً بمبادئ سائر أفراد الناس، بمعنى أن يتصف بكل ما يتصف به الناس. وأما إذا كان النبي بصيرورته نبياً يستغني عن العقل والتجربة البشرية، وتحوَّل إلى مجرّد منفِّذ للقرار الإلهي، وتحوَّل إلى شخص مسلوب الإرادة، فإن مثل هذا النبي لا يمكن أن يكون أسوة لسائر الناس. وعليه لا بُدَّ من فهم النبوّة على هذا النحو: إن النبوّة عبارةٌ عن تمتُّع الشخص بمصدرٍ جديد من مصادر المعرفة، وقاعدة جديدة لاتخاذ القرار والعمل، مضافاً إلى المصدر والقاعدة التي يمتلكها غير الأنبياء أيضاً؛ فهو يتمتَّع بما يتمتَّع به سائر الناس وزيادة. ولا تعني النبوّة إحلال الوحي محلّ العقل والتجربة البشرية.
إن الأنبياء، بالإضافة إلى النبوّة، يتَّصفون بالحكمة والفلسفة والعلم والأخلاق أيضاً، بل لا يمكن للشخص أن يتحمل ثقل أعباء النبوّة دون أن تكون له معرفة كافية بهذه الأمور. وعلى هذا الأساس ليس هناك أيّ استبعاد من أن يجيب النبيّ عن أسئلة الناس الفلسفية والعلمية والأخلاقية من زاوية غير دينية أو ما فوق دينية أيضاً. ولهذا السبب يمكن توقُّع العثور في كلمات النبي على نظريات في مجال فلسفة الدين، وفلسفة الأخلاق، وفلسفة الحقوق، وفلسفة السياسة، والعلوم وسائر المعارف البشرية الأخرى. ولكنْ يجب الالتفات إلى أن وجود مثل هذه النظريات في تضاعيف كلمات النبي يجب أن لا يُعتبر دليلاً على دينية تلك الكلمات وشمول الدائرة الدينية للموضوع مورد البحث أيضاً؛ إذ ربما لا تكون تلك الكلمات صادرةً عن النبي «في مقام بيان الدين»، بل قد تكون بياناً لموقف غير ديني أو ما فوق ديني، وأن يكون موقفاً قد توصّل إليه النبيّ بوحيٍ من عقله وحكمته، أو حتى من طريق الوحي أيضاً. نعم، لو ثبت في مرتبةٍ سابقة أن مجال الدين ـ مثلاً ـ يشمل فلسفة الأخلاق أيضاً أمكن حينها حمل آراء النبي في مجال فلسفة الأخلاق على بيان موقف الدين في هذا المجال أيضاً. وأقصى ما يمكن قوله في هذا الشأن هو أن مواقف الأنبياء وآراءهم المنبثقة عن عقولهم وتجاربهم البشرية لا «تتنافى» مع الوحي والديانة. إلا أن «عدم المنافاة» مع الدين شيءٌ، و«كونها جزءاً من الدين» شيءٌ آخر. إن جميع الأمور غير الدينية وما فوق الدينية منسجمة مع الدين، ولكنها ليست عين الدين، ولا جزءاً منه. إن مجرّد أن يتحدّث النبي في القضايا والمسائل الرياضية لا يشكِّل دليلاً صالحاً على اعتبار الرياضيات جزءاً من الدين.
وقد ذهب بعض الفقهاء، من خلال التمسّك بتعدُّد مهامّ ومناصب النبيّ، إلى القول ـ مصيباً ـ بأنه لا ينبغي حمل جميع الأحكام الصادرة عن النبيّ على أنها أحكامٌ إلهية ووحيانية؛ إذ إن النبيَّ، بالإضافة إلى منصب النبوّة، كان يتولّى أيضاً منصب «القضاء» و«الحكم» أيضاً، وهذا يقتضي أن تكون بعض الأحكام والتعاليم الصادرة عنه أحكاماً «قضائية» و«حكومية». وطبقاً لهذا الاستدلال يمكن القول: حيث إن النبيّ، بالإضافة إلى ما يتمتع به من مقام النبوة؛ بمقتضى ارتباطه بعالم الغيب واستفادته من الوحي والعلم اللدنّي، يتمتَّع أيضاً بالعقل والحكمة والعلم والتجربة البشرية فإن بعض كلماته (وقراراته وسلوكياته) تستند بدورها إلى العقل والحكمة والعلم والتجربة البشرية أيضاً، ولا تستند إلى الوحي، أو إذا كانت مستندة إلى الوحي فهي من التعاليم غير الدينية أو ما فوق الدينية التي تصل إلى البشر من طريق الوحي.
ولكنْ عندما يكون مضمون كلام النبي أمراً «غير ديني» أو «ما فوق ديني» لا يمكن التعبُّد بذلك الكلام، والتمسُّك بعمومه وإطلاقه وسريانه وجريانه على جميع الأوضاع والأحوال والأزمنة والأمكنة. إن طريقة حلّ المعضلات غير الدينية وما فوق الدينية ليست ثابتةً، وعلى وتيرة واحدة دائماً([20])، وإن الناس في مثل هذه الموارد مكلَّفون باتباع عقولهم وتجاربهم البشرية، واختيار أفضل السبل والأساليب الممكنة في كلّ عصر. لو افترضنا أن النبي نصح مريضاً بتناول دواء معيّن لا يمكن في هذا المورد القول: حيث إن كلام النبي مطابق للواقع، وإنه ينبثق عن علمه الغيبي، إذن لا بُدَّ أن تكون هذه الطريقة العلاجية هي المتَّبعة والقائمة في جميع الأزمنة والأمكنة، ومع جميع الأشخاص، على وتيرةٍ واحدة، وإن تطبيق هذه الوصفة سيكون مطلوباً للدين إلى الأبد. فربما كانت تلك الوصفة هي الأسلوب الأفضل «المتوفِّر» في عصر النبي، وإن النبي إنما نصح بها لعدم وجود البديل الأفضل في حينها([21]).
والنتيجة التي يمكن استخلاصها من هذا البحث هي أن النبي كانت له الكثير من التجارب، وإن الوحي إنما يمثِّل تجربة واحدة من بين تلك التجارب المتعدّدة. وأن الاتباع الصحيح والمناسب للنبي يقتضي البسط المتزامن والمتوازن لجميع أنواع تجاربه. وعلى هذا الأساس فإننا في مقام اتباع النبي لا يحقّ لنا أن نتجاهل الأساليب الحديثة من أجل حلّ وفصل المسائل البشرية المتاحة لنا حالياً، ولم تكن متاحةً لأمثالنا في عصر النبيّ الأكرم.
4ـ الاجتهاد المتمحور حول القانون، والاجتهاد المتمحور حول القدوة
في ما يلي يمكن لنا ـ بالالتفات إلى ما تقدَّم ـ أن نميِّز ونفصل بين نوعين من أنواع الاجتهاد. ونسمّي هذين النوعين من الاجتهاد بـ: «الاجتهاد المتمحور حول القانون»، و«الاجتهاد المتمحور حول القدوة». إن هذين النوعين من الاجتهاد يقومان في الحقيقة على نمطين مختلفين من الفهم بشأن الأخلاق الدينية (الشريعة)، والسرّ في حاجة الإنسان إلى المرشد العملي، وكيفية الهداية التشريعية للناس من قبل الله تعالى([22]). وفي كلا هذين النوعين من الاجتهاد يبحث الشخص عن جوابٍ لسؤالين دينيين رئيسين، وهما:
1ـ «كيف ينبغي أن نعيش؟».
2ـ «ما الذي يجب فعله؟».
إن القائلين بكلا هذين النوعين من الاجتهاد يسعَوْن لاتّباع النبيّ، إلاّ أن أحدهما يكتفي بالاتباع «الظاهري» للنبيّ، بينما يذهب الآخر إلى تقديم الاتباع «الباطني» للنبيّ على اتباعه الظاهري. إن أحدهما يولي أهمِّية لـ «نتيجة» التجربة النبوية، دون أن يُعنى بذات تلك التجربة، بمعنى «المصدر» و«الأسلوب» الذي انتهجه النبيّ للوصول إلى تلك النتيجة، معتبراً ذلك من مختصّات النبي؛ أما الآخر فيهتم بالتجربة النبوية، ولا يراها من مختصات النبيّ، ويسعى إلى بسطها.
يشترك كلٌّ من الاجتهاد المتمحور حول القانون والاجتهاد المتمحور حول القدوة في المحاور التالية:
1ـ يجب اتباع النبي في حياته وطريقة عيشه.
2ـ يجب اتباع النبي في سلوكه وعمله.
إلا أن الاختلاف بينهما يكمن في أن الأول يعرّف حياة النبي وسلوكه بالاتباع الظاهري، واتباع ظاهر تعاليم النبي وأحكامه في الماضي (التي صدرت في حياته)، بينما يتجاهل روح وباطن تلك التعاليم؛ في حين أن الثاني يسعى إلى اكتشاف روح وباطن الأحكام السابقة للنبيّ، وبذلك يعمل على استنباط الأحكام الجديدة والمعاصرة والمتناسبة مع زمانه ومكانه.
وبعبارةٍ أخرى: إن اختلاف هذين النوعين من الاجتهاد يكمن في الإجابة المقدّمة بشكلٍ عام عن هذين السؤالين المذكورين، وترسم مسار وأسلوب هذين الاجتهادين.
إن الإجابة التي تمثِّل الموجّه والقدوة للاجتهاد المتمحور حول القانون هي:
1ـ يجب العيش على طبق الأحكام «السابقة» لله والنبي.
2ـ يجب العمل على طبق الأحكام «السابقة» لله والنبي.
أما الإجابة التي تمثِّل الموجّه والقدوة للاجتهاد المتمحور حول القدوة فهي:
1ـ يجب العيش على طبق الأحكام «الراهنة» لله والنبي.
2ـ يجب العمل على طبق الأحكام «الراهنة» لله والنبي.
وبطبيعة الحال ليس بالضرورة أن تختلف الأحكام «الراهنة» لله والنبيّ عن الأحكام «السابقة» لهما، وليس من اللازم في الوقت نفسه أن تكون عينها أيضاً. إن كلا هذين النوعين من الاجتهاد يصل في نهاية المطاف إلى مجموعة من الأسس والقواعد المعيارية والقِيَمية، إلاّ أن الاختلاف الجوهري بينهما يكمن في أن الأسس والقواعد المستنبطة في النوع الأول هي نفس ما ورد في النصوص الدينية من الناحية الظاهرية تماماً، دون إدراج الفروع ضمن الأصول، ودون ترجمة النصوص الدينية ثقافياً، ودون فصل ذاتيات الدين عن عَرَضياته، ودون الالتفات إلى الاختلافات الجوهرية بين العالم القديم والعالم الجديد، في حين أن هذه الأسس والقواعد في النوع الثاني تستنبط من صلب الفرضية الجوهرية القائلة: ما الذي كان يقوله الله لو أنزل القرآن في هذا العصر؟ وكيف كان يحكم النبيّ لو كان يعيش بيننا؟ وكيف كان يسلك أو يتكلَّم؟ وبعبارةٍ أخرى: إن مصدر الأحكام الشرعية في الاجتهاد المتمحور حول القانون ينحصر في «ظاهر» القرآن والسنّة، ولذلك يُسمّى هذا النوع من الاجتهاد بـ «الاجتهاد المتمحور حول النصّ» أيضاً([23]). في حين أنّه في الاجتهاد المتمحور حول القدوة تعتبر التجربة الفقهية واحدةً من مصادر الأحكام أيضاً، ويتمّ الاهتمام بـ «باطن» القرآن والسنّة، وفلسفة الأحكام ومقاصد الشريعة، أكثر من «ظواهر» هذين الأمرين. إن هذا الاجتهاد هو في حقيقته ذات بسط التجربة النبوية في خصوص مجال الفقه. إن من بين الفرضيات الجوهرية في الاجتهاد المتمحور حول القدوة أن الأحكام الشرعية قد تتغيَّر بعد رحيل نبي الإسلام أيضاً، وأن تتعرّض للقبض والبسط، وأن هذا التحوُّل سوف يستمرّ إلى الأبد؛ لأن الشارع الحقيقي هو الله، وليس النبي، وبرحيل النبي لا تُغَلّ يد الله في التشريع. وعليه في مقام اكتشاف الأحكام الشرعية يجب علينا توظيف الأسلوب الذي يأخذ في الحساب احتمال تغيير وإكمال أحكام الإسلام بعد رحيل النبي، ولا يُنفى مثل هذا الاحتمال بشكلٍ مسبق.
وفي هذا الأسلوب لا نستغني عن الرجوع إلى القرآن والسنّة، ولكنْ بالإضافة إلى ذلك نضطرّ إلى إدخال الله والنبي في مجريات الأحداث، وأن نطوّر ذوقنا وتجربتنا الفقهية من خلال الاتباع الباطني للنبي؛ لأننا ـ قبل تعميم الأحكام الموجودة في القرآن والسنة على العالم الجديد ـ مسؤولون بأن نقيّم هذه الأحكام بميزان الذوق والتجربة الفقهية([24])، بمعنى أن القرآن والسنّة في العالم الجديد لا يشكِّلان المصدرين الوحيدين والحصريين لاستنباط الحكم الشرعي، ولا يكفيان لاستنباط الأحكام الشرعية المتناسبة مع العالم الجديد، بل تُعَدّ التجربة الفقهية الحيّة مصدراً ثالثاً للأحكام إلى جانب هذين المصدرين أيضاً. إن التجربة الفقهية تفيد الظنّ، إلاّ أن هذا الظنّ يعتبر من الناحية المعرفية ـ في ظلّ بعض الشروط ـ معتبراً وقيِّماً. وعند حصول التعارض بين الظنّ الحاصل من التجربة الفقهية والظنّ الحاصل من ظاهر النصوص الشرعية (القرآن والسنّة) يجب علينا العمل على طبق الظنّ الأقوى؛ لأن الحكم المستند إلى هذا الظنّ يتمتَّع بدعامةٍ معرفية أقوى.
وكما هو واضحٌ فإن كلاًّ من: الظنّ الحاصل من القرآن والسنّة والظنّ الحاصل من التجربة الفقهية على درجاتٍ مختلفة، ويتعرَّضان لتأثير مختلف العوامل، وتخضع للزيادة والنقصان. وعليه لا يمكن إصدار حكم عام مسبقاً بشأن تقدّم أحدهما على الآخر، بمعنى أنه لا يمكن القول: إن ملاك صدق واعتبار التجربة الفقهية يكمن في انسجامها مع ظاهر القرآن والسنة، بل على العكس، فإنْ كان الظنّ الحاصل من التجربة الفقهية في مورد أقوى من الظنّ الحاصل من ظاهر القرآن والسنة نكون ملزمين بحكم العقل بالعمل على طبق التجربة الفقهية. ومن هذه الناحية لا فرق بين التجربة الفقهية وسائر أنواع التجارب الأخرى. فلو أن التوصية الأخلاقية الواردة في القرآن والسنة لم تكن منسجمةً مع مشاهداتنا الأخلاقية مثلاً لا بُدَّ لنا من تقييم الظنّ الحاصل من القرآن والسنّة بالظنّ الحاصل من تلك المشاهدات، وأن نعمل على طبق الظنّ الأقوى. وهكذا الأمر بشأن التجارب العرفانية، حيث لا يمكن القول بأن صحّة أو بطلان هذه التجارب رهنٌ بموافقتها أو مخالفتها لظواهر القرآن والسنّة. فمن الناحية العقلانية تكون الأولوية عند حصول التعارض بين الظنون للظنّ الأَوْلى والأقوى، ويجب أن يكون هذا الظنّ الأقوى هو المتَّبع.
في الاجتهاد المتمحور حول القانون يسعى الشخص إلى العودة إلى صدر الإسلام، وأن يتبع سيرة السلف الصالح، وأن يبني مجتمعاً تطبَّق فيه الأحكام التي كانت سائدةً في صدر الإسلام؛ وأما في الاجتهاد المتمحور حول القدوة فيسعى الفرد إلى إحضار النبي إلى عصره، ليرى ما الذي كان يقوله، وما الذي كان يفعله، فيما لو بُعث النبيّ «الآن»، و«في هذا المكان»؟ وكيف كان يعيش؟ وما هي الأمور التي كان سيوافق عليها؟ وما هي الأمور التي سيخالفها؟ وكيف سيكون شكل الحرب والسلم، والحياة والموت، وطرق التفكير والمعيشة والعشرة، والاقتصاد والسياسة والإدارة الخاصّة به؟
وفي مثالٍ بسيط يمكن في الكشف عن موقف النبي من حقوق الإنسان أن نعمل على طبق واحدٍ من أسلوبين. فإذا أردنا أن نحقِّق في هذا الموضوع من خلال الأسلوب السائد في الاجتهاد المتمحور حول القانون سوف يتعيَّن علينا الرجوع إلى الماضي لنرى مدى انسجام حقوق الإنسان المعاصر مع الحقوق السائدة في صدر الإسلام، والمعترف بها في القرآن والسنّة. إن نتيجة هذا الاجتهاد ستكون هي ما يقوله السلفيون والأصوليون في الشأن الديني، وهو أن حقوق الإنسان الغربيّ تختلف عن حقوق الإنسان الإسلامية، وأساساً لا توجد حقوق للإنسان بما هو إنسانٌ.
وأما إذا أردنا أن نحقِّق في هذا الموضوع من خلال اتباع أسلوب الاجتهاد المتمحور حول القدوة فسوف نضطرّ إلى إحضار النبي إلى العالم الجديد لنرى ما هو الموقف الذي كان سيتَّخذه في ما يتعلَّق بحقوق الإنسان لو واجه الأوضاع والأحوال التي نعيش ضمن أجوائها. لا شَكَّ في أن التجربة الفقهية للنبيّ، وتَبَعاً لها الموقف الذي سيتَّخذه في دائرة حقوق الإنسان في هذين العالمين، سيكون مختلفاً. ففي العالم الذي لا يتمّ فيه الاعتراف بحقوق الإنسان من قبل غير المسلمين والعالم الذي يُعترف فيه بهذه الحقوق من قبل غير المسلمين لا يكون الحكم الفقهي واحداً، بمعنى أن الاعتراف بحقوق الإنسان من قبل الآخرين أو عدم الاعتراف بها من قبلهم يعتبر من الأمور «ذات الصلة» من الناحية الشرعية والأخلاقية، والتي تؤثِّر في الحكم الشرعي والأخلاقي للعمل([25]). لو أن غير المسلمين نقضوا الحقوق الطبيعية وما فوق الدينية للمسلمين فإن نقض حقوقهم من قبل المسلمين لن يكون مخالفاً للعَدْل والإنصاف، شريطة أن يكتفى في ذلك بنفس حجم ومقدار النقض بطبيعة الحال، فلا يكون هناك تجاوزٌ لمقدار النقض([26]).
في الاجتهاد المتمحور حول القدوة لا يتمّ تجاهل أحكام الله السابقة، وإنما يُستفاد منها على نحوٍ آخر. وفي هذا الاجتهاد تطغى روح وباطن هذه الأحكام على ظواهرها، ويتمّ تفسيرها في ضوء تلك الروح. والذين يجتهدون في ظل هذا النموذج يتساءلون عند مواجهتهم لأحكام الله السابقة قائلين: «لو كان النبيُّ حاضراً بيننا فما هي الأحكام التي كانت ستوحى إليه؟ وما هو نوع المواقف التي سيتخذها تجاه أحكام الله؟ وكيف كان سيفسِّرها؟ وكيف كان يتصرَّف في تطبيق هذه الأحكام على الأوضاع والأحوال الجديدة؟». وأما في الاجتهاد الذي يتمحور حول القانون فيتمّ تجاهل كون الله حيّاً، وأن يده مبسوطة في التشريع وفي تغيير الأحكام، كما يتمّ تجاهل الشخصية المحورية للنبيّ، والدور المصيري الذي يجب على الله والنبي أن يلعباه في حياة المؤمنين. هذا، في حين أن الاعتقاد بـ «البَداء» من أهم التعاليم الدينية([27])، وإن اتباع النبي بوصفه «قدوةً» من بين أحكام الله تعالى. إن مهمّة النبيّ لا تقتصر على إبلاغ رسالة الله تعالى فقط، وإنما يُعَدّ تعليم طريقة إدراك وتفسير رسالة الله تعالى وكيفية العيش على أساس تلك الرسالة جزءاً من مهامّ الرسول أيضاً.
يقوم الافتراض في الاجتهاد المتمحور حول القانون على أن النبيّ كان يعيش ويتصرّف على أساس أحكام الله السابقة، وعلينا أيضاً إذا أردنا أن نتَّخذ من النبي قدوة لنا أن نعيش ونتصرَّف على طبق الأحكام الإلهية السابقة. ولكنْ في مثل هذه الحالة سوف تكون شخصية النبيّ على الهامش، وسوف يفتقد صفة الأسوة والقدوة؛ لأن ما هو المهمّ في هذا النموذج هو نفس القانون وشكله وصورته، وليس شخصيّة المقنِّن ومنفِّذ القانون. وأما في الاجتهاد المتمحور حول القدوة فيُقال: إن علينا أن نرى ما الذي كان سيوحى إلى النبيّ بوصفه من أحكام الله فيما لو كان النبيّ يعيش في عصرنا؟ وكيف كان يفهم أحكام الله؟ وكيف يفسِّرها؟ وكيف كان ينظِّم أقواله وأفعاله على طبق تلك الأحكام؟([28]).
وعليه فإن الاختلاف بين هذين النوعين من الاجتهاد يكمن في أن الاجتهاد المتمحور حول القانون يعمل على تقييد يد الله في التشريع، ويؤدّي إلى جعل شخصيّة النبيّ وكونه قدوة وأسوة للآخرين فاقدةً للمعنى، كما أن هذا الاجتهاد يتجاهل مقتضيات الزمان والمكان والاختلاف بين العالم الجديد والعالم القديم. في حين أن الاجتهاد المتمحور حول القدوة لا يتجاهل أحكام الله السابقة، وإنما يعمل من خلال إحضار الله والنبيّ إلى دائرة الحياة الراهنة، وأخذ مقتضيات العصر الراهن بنظر الاعتبار، إلى تقديم تفسيرٍ جديد لتلك الأحكام. وإن هذا التفسير الجديد وإنْ كان يبدو متنافياً مع ظاهر تلك الأحكام، إلاّ أنه سيكون منسجماً مع روحها وباطنها. وفي هذا الأسلوب والنهج الأشكالُ والصورُ تتغيَّر ويتمّ استبدالها بأشكال وصور جديدة متناسبة مع الزمان والمكان، إلاّ أن روح وجوهر الرسالة الإلهية ستبقى محفوظةً، في حين أن الاجتهاد المتمحور حول القانون يضحّي بروح وجوهر الرسالة الإلهية وفلسفة وحكمة الأحكام الدينية فداءً لأشكالها وقوالبها، وفي هذا الاجتهاد يفقد الله والنبي دورهما الحيوي والمحوري في حياة المؤمنين، وباختصارٍ: لا يبقى من الدين سوى القشرة الظاهرية المترنِّحة على هامش الحياة، حيث تحلّ «عبادة القانون» محلّ «عبادة الله». وفي هذا الاجتهاد تذبح الأهداف والغايات من أجل الوسائل.
في الاجتهاد المتمحور حول القانون يسعى الفرد ليعود إلى عصر النبيّ ليرى ما الذي قاله الله في ذلك العصر؟ وكيف عمد النبيّ إلى تفسير كلام الله؟ وكيف عاش على طبق ذلك التفسير؟ وأما في الاجتهاد المتمحور حول القدوة فيسعى الفرد إلى إعادة التواصل مع الله، والاستماع إلى كلامه من جديدٍ، ويدعو النبيّ إلى عصره، ليرى ما الذي سيفعله في ظلّ الأوضاع والأحوال الراهنة؟ وكيف سيعيش؟ يجب على المتدينين الذين يعيشون في العالم الجديد ـ لكي يبقوا على تديُّنهم ـ أن يدعوا الله والنبي للحضور المباشر والحيوي في حياتهم، وأن يفترضوا أن النبيّ قد بُعث بينهم من جديدٍ، ليروا بعد ذلك ما الذي سيقوله هذا النبيّ ـ الذي بعث من بينهم، ويعرف تفاصيل أوضاعهم الراهنة بشكلٍ دقيق، ويلامس معاناتهم ومشاكلهم واحتياجاتهم ـ؟ وما الذي سيفعله؟ وإلى أيّ حدٍّ سوف تكون أقواله وأفعاله الراهنة شبيهةً أو مختلفة عن أفعاله وأقواله السابقة؟ بمعنى أن شكل وإطار الأقوال والأفعال النبوية السابقة لا تصلح لتكون قدوةً مناسبة لأولئك الذين يعيشون في مكانٍ وزمان مختلف. إن الذي يحظى بالأهمِّية هو شخصيّة النبي وروح رسالته وجوهر كلماته وأفعاله.
وبعبارةٍ أخرى: إن كلام النبي وفعله في الماضي إنما يحظى بالأهمِّية في الاجتهاد المتمحور حول القدوة من كونه يمثِّل مفتاحاً لمعرفة شخصيّته والكشف عن قاعدته ومنهجه في اتخاذ القرارات، وليس من حيث كونه مصدراً للقوانين المطلقة وما فوق التاريخية. وأما بعد التعرُّف على شخصيّة النبي فيجب إعادة هذه الشخصيّة مرّةً ثانية إلى دائرة الضوء، وإزاحة غبار التاريخ والثقافة القديمة عنها، وإبرام عقدٍ جديد معه. إن النبيّ يُمثِّل «الإنسان الكامل» و«الشاهد المثالي»، ولذلك فإنه يُمثِّل النموذج والأسوة والقدوة لسائر البشر. إن اتباع النبي يعني استنساخ شخصيته وأسلوب حياته. إن خلود الدين لا يعني خلود وثبات أحكامه على مستوى الشكل والصورة، بل بمعنى خلود شخصيّة النبي، وخلود النموذج والمثال الذي يضعه الدين بين أيدي الناس ليتأسّوا به في حياتهم. كما أن ختم النبوّة يعني أن النبي شخصيّةٌ جامعة، ومتعدّدة الأبعاد، ومتنوّعة ومرنة، بحيث يمكن إعادته إلى بقعة الضوء في جميع الأزمنة والأمكنة، وفي ظلّ مختلف الظروف والأوضاع والأحوال، والاستفهام منه، واسترشاده، والحصول على الإجابة منه. إن ختم النبوّة يعني أن الناس لم يعودوا بحاجةٍ إلى قدوةٍ وأسوة جديدة، وأن هذه القدوة ستبقى متجدِّدة، ولن يبليها غبار التاريخ، ولن يفقدها بريقها وغضارتها وريعانها.
في الاجتهاد المتمحور حول القدوة لا تؤخذ «قرارات» النبيّ التي صدرت عنه في الماضي على نحو «الموضوعية»، وإنما تؤخذ على نحو «الطريقية». إن ما هو المهم ويجعل من النبي قدوة للمؤمنين هو «مبادئ» قراراته، و«أسلوب» و«آلية» وصوله إلى اتخاذ تلك القرارات. وأما في الاجتهاد المتمحور حول القانون فيتمّ تصوير النبيّ على أنه مجرّد منفِّذ ومطبِّق للقرارات الإلهية المتَّخذة مسبقاً، والتي أبلغت إليه من طريق الوحي. وطبقاً لهذا الاجتهاد تنحصر مبادئ كلام وسلوك النبي في الوحي، ويفقد النبي صلاحيته ليكون قدوةً للآخرين. وأما في الاجتهاد المتمحور حول القدوة فيقوم الافتراض على أن النبي ليس مجرَّد منفِّذ للقرارات الإلهية، وأن إنسانيته وبشريته لا تضمحل في ضوء نبوّته، بمعنى أن النبيّ كان مثل سائر البشر يتَّخذ القرارات ويتصرَّف ويتكلَّم من منطلق كونه من البشر، وإن الوحي كان مجرّد واحد من مبادئ قراراته، بمعنى أن أقواله وأفعاله في بعض الموارد تنبثق عن الوحي، وأما في سائر الموارد الأخرى فتنبثق عن العقل والتجربة البشرية واستشارة الآخرين، غاية ما هنالك أن قراراته لم تكن تنافي ما يوحى إليه.
إن النبي إنسانٌ تلقى تربية مباشرة من الله تعالى، وقد تكاملت شخصيّته في المدرسة الإلهية. وقد تعلم في هذه المدرسة كيف يتَّخذ القرارات، وليس كيفية تنفيذ وإجراء قرارات الله. وبطبيعة الحال فإن النبيّ كان ينفِّذ القرارات الإلهية أيضاً، ولكنْ حيث لا يكون لله قرارٌ كان النبيّ يتخذ قراره على أساس من عقله وتجربته البشرية واستشارة الآخرين ومشاركتهم في عقولهم. وحيث يكون لله حكمٌ يعمل النبيّ على فهم وتفسير هذا الحكم بميزان عقله وتجربته، ليعمل بعد ذلك على أساسه، بمعنى أنه حتّى في هذا المورد لم يكن اتّباع النبيّ للقرارات الإلهية اتباعاً أعمى. وعليه فإن مبادئ اتّخاذ النبي للقرارات كانت كثيرة، وإن النبي كان يمزج بين الوحي الإلهي والعقل والتجربة البشرية، وبذلك يحدِّد تكليفه. فإذا كان اتّباع النبيّ يعني اتباعه في أسلوب اتخاذ القرار فإنّ بإمكاننا أيضاً أن نتَّخذ قراراتنا من خلال مزج الوحي بالعقل (الفردي والجمعي) والتجربة البشرية.
نرى أن المسلمين قبل رحيل النبي وبعده قد اهتمّوا من خلال «الاجتهاد» ببسط التجربة النبوية الفقهية. ولكنْ حيث كان هذا البسط يقوم على الإدراك والفهم الناقص وغير الصائب للخاتمية، وكمال الدين، وكمال الفقه، وفلسفة التشريع، وسرّ حاجة الإنسان إلى الدين، وارتباط العقل والوحي بسائر الفرضيات الفلسفية والإلهية الهامة، فإنه لذلك لم يسلك الطريق الصحيح. ويبدو أن مشكلة المسلمين كانت تكمن في عدم فهمهم الصحيح لأخلاق الاجتهاد. وبعد انتصار الثورة الإسلامية في إيران أُضيف مصدرٌ جديد لمصادر الأحكام السابقة، وهو «مصلحة النظام». وكان هذا يعني تحوُّلاً في أخلاق الاجتهاد. إلا أن إضافة هذا المصدر لم يقتصر على عدم حلّ المشاكل السابقة فحَسْب، بل أدّى بدوره إلى ظهور مشاكل جديدة أيضاً. إن تعليق الأحكام الفقهية وتجميدها مؤقَّتاً من أجل «مصلحة النظام» يختلف عن طريقة التقنين المعهودة في العالم الجديد من ثلاث جهات هامّة للغاية، وهي:
الجهة الأولى: إن مصدر القانون في العالم الجديد هو «المصلحة العامة»، وليس «مصلحة النظام».
الجهة الثانية: إن «المصلحة العامة» إنما تكون معتبرةً في العالم الجديد في إطار قِيَم «الأخلاق الاجتماعية» أو «حقوق الإنسان»، بمعنى أن «الحقّ» و«القيمة الأخلاقية» في مقام التقنين يجب أن تكون متقدِّمةً على «المصلحة».
الجهة الثالثة: إن المصلحة العامة في العالم الجديد تكون هي المبنى لتشريع القانون، دون تعطيله.
وعليه فقد كان انتصار الثورة الإسلامية في إيران نوعاً من البسط الفقهي والسياسي للتجربة النبوية. إلاّ أن هذه التجربة قد تمّ بسطها في مسار خاطئ من ثلاث جهات، وهي:
الأولى: إن هذا البسط قد اقتصر على الجانب الفقهي فقط، وانفصل عن بسط التجربة النبوية في الجانب المعنوي والأخلاقي.
الثانية: في هذا البسط حلَّتْ «المصلحة» محلَّ «الحقّ»، وتقدّمت عليه، وتمّ تعريف «الحقّ» على أساسٍ من «المصلحة»، وتمّ الاعتراف بـ «التفكير المصلحي» بوصفه المعيار الوحيد لتشخيص التكليف والمسؤولية.
الثالثة: لقد حلَّتْ «مصلحة النظام» محلّ «المصلحة العامة».
وفي الحقيقة فإن الخطأ الذي صدر في هذا الشأن كان ناشئاً عن التشخيص الخاطئ لمباني اتخاذ القرار من قبل النبيّ وسلوكه في المجال السياسي.
من هنا لا يمكن اعتبار ظهور عنصر المصلحة في الفقه الشيعي دليلاً على صيرورة هذا الفقه عُرْفياً، أو عنصراً ممهّداً لقيام الديمقراطية، أو «آلية للانتقال نحو الحداثة وتحويل الفقه إلى قانون»([29]). نحن نرى أن المصلحة التي تشتمل على مثل هذه الخصائص والآثار والتداعيات هي «المصلحة العامة»، وليست «مصلحة النظام». وإن تجاهل موارد الاختلاف بين هاتين المصلحتين يعتبر نوعاً من مغالطة الاشتراك اللفظي. إن صيرورة الفقه حكومياً وسياسياً لا يعني بالضرورة صيرورته ديمقراطياً. وإن الفقه العلماني المنفصل عن الأخلاق العلمانية سينتهي بنا إلى الأصولية والاستبداد الديني. هذا، بالإضافة إلى أن الحفاظ على مصلحة النظام يشكِّل عنصراً هاماً لمخالفة الخصخصة بالمعنى الصحيح للكلمة، ويحول دون تنمية وتطوير المجتمع المدني، وازدهار الطبقة المتوسّطة، وتنمية مؤسسات المجتمع المدني، من جهةٍ؛ ويشكِّل عنصراً هامّاً لدمج المؤسسات الدينية بالمؤسسات الحكومية، وإعادة إحياء الآليات التقليدية للمؤسسة الدينية، من قبيل: التعليم والقضاء وإدارة أمور المجتمع وأسلمة الأمور ما وراء الإسلامية، من جهةٍ أخرى. وفي الأساس فإن الدافع الرئيس لعلماء الدين من الثورة الإسلامية الإيرانية كان يرمي إلى إعادة هذه المؤسَّسات إلى أحضان الدين، والعمل على أسلمتها. وإن أسلمة الجامعات والمدارس أو أسلمة العلوم الإنسانية ليس له من معنىً أو مفهوم غير الحيلولة دون انتشار العلمانية العلمية وتبعاتها([30]). ويمكن القول: إن فلسفة بناء المؤسسات الثورية في إيران المعاصرة وجوهر آليتها هو الحيلولة دون مسار الصيرورة العُرْفية.
وقد سبق أن ذكرنا أن المسار نحو الصيرورة العُرْفية في المجتمع الغربي قد بدأ بصيرورة العلم والأخلاق، ولو أن هذا المسار قد بدأ في المجتمعات الأخرى من مبادئ أخرى فإن النتائج المترتِّبة عليه ستكون مختلفة قطعاً. ومضافاً إلى ذلك فإن التعليق المؤقَّت للأحكام الفقهية؛ من أجل الحفاظ على مصلحة النظام، لا ربط ولا علاقة له بصيرورة الفقه عُرْفياً. إن صيرورة الفقه عُرْفياً رهنٌ بتغيُّر «أسلوب» و«منهج» الاستنباط الفقهي أو أخلاق الاجتهاد، في حين أن التعليق المؤقَّت للأحكام الفقهية؛ من أجل الحفاظ على مصلحة النظام، يرتبط بمرحلة «تطبيق» الحكم الفقهي من قبل الدولة على مستوى المجتمع، والذي يقع بعد «استنباط» الحكم الشرعي بعدّة مراحل، بمعنى أن عنصر المصلحة لا يدخل على الفقه، وإنما يدخل على مرحلة تطبيق الأحكام الفقهية.
إن الفقهاء الذين يقولون بوجوب حفظ النظام، وتقدُّمه على سائر الأحكام الشرعية، يذهبون إلى القول بأن الأحكام الشرعية تنبثق عن إرادة الإله الشارع، أو بعبارةٍ أخرى: عن المصالح والمفاسد الغيبية، إلاّ أن هذه الأحكام ليست على نسق واحد من حيث الأهمِّية، وإن وجوب حفظ النظام أهمّ منها، بمعنى أنه عند التزاحم بين هذا الحكم وسائر الأحكام الشرعية في مقام التطبيق يكون هذا الحكم هو المقدَّم، وتكون سائر الأحكام الأخرى ساقطةً عن الفعلية مؤقَّتاً. وأين هذا من انبثاق القوانين الحقوقية من الإرادة والمصلحة الدنيوية للمواطنين (العلمانية الحقوقية)؟!
إن المقارنة بين هذين الأمرين ـ من وجهة نظرنا ـ والمقايسة بينهما قياسٌ مع الفارق.
والاختلاف الجوهري الآخر الموجود في البين يكمن في آلية وأسلوب تشخيص المصلحة. ففي الأنظمة العلمانية يتمّ تحديد المصلحة إما من طريق الرجوع إلى آراء الناس (الديمقراطية المباشرة)؛ أو من طريق مَنْ يمثِّل الناس (الديمقراطية التمثيلية)، وفي كلتا الحالتين يكون العقل الجمعي أو عقلاء القوم هي المرجعية لتشخيص المصلحة. إن هؤلاء العُقلاء يتَّخذون قراراتهم على أساس من قاعدة العقلانية العُرْفية (ما فوق الدينية)؛ في حين أن مرجعية تشخيص المصلحة في النظام الديني هم عقلاء الحوزة (سواء كانوا من المعمَّمين أم غيرهم)، حيث يتَّخذون قراراتهم على أساس العقلانية الفقهية والحوزوية. وهذا في حدِّ ذاته يُشكِّل دليلاً مستقلاًّ لصالح القول بأن المصلحة مورد البحث في هذين النظامين تختلف عن الأخرى بشكلٍ كامل. وبهذا يتَّضح أن مصلحة النظام لا تسهِّل العبور إلى الحداثة، أو تسرِّع من وتيرة الوصول إليها، بل إنها تشكِّل عقبة كبيرة تحول دون تحقيق ذلك.
نضيف هنا أن تنقيح المناط الذي يتمّ الحديث عنه في الفقه لا يكون ذا قيمة عند الفقهاء التقليديين ما لم يصل إلى القطع واليقين، أو ما لم يكن منصوصاً. وعليه فإن مجرّد الاهتمام بالمصلحة في مقام «تطبيق» الحكم الشرعي لا يعني دخول عنصر المصلحة إلى التفكير الفقهي؛ لأن التفكير الفقهي ناظرٌ إلى مقام «استنباط» الحكم الشرعي، وبونٌ شاسع بين مقام الاستنباط وبين مقام التطبيق. إن الفقهاء الذين يؤكِّدون على مصلحة النظام، وتأثير عنصر الزمان والمكان في الاجتهاد، يؤكِّدون أيضاً على التزامهم بالفقه التقليدي الجواهري([31]) بوصفه منهجاً صحيحاً في الاستنباط الفقهي أيضاً. وعليه لا يمكن اعتبار تأكيد هؤلاء الفقهاء على عنصر المصلحة في مقام تطبيق الأحكام بوصفه استبدالاً لـ «الفقه الجواهري» بـ «فقه المصلحة»، وإدخالاً لعنصر المصلحة في المنظومة الفقهية([32]).
5ـ كلمةٌ أخيرة
إن حضور الدين في العالم المعاصر بشكلٍ حيوي يتوقَّف على إعادة فتح أبواب السماء على الأرض. وبذلك سوف تتمّ إعادة الحوار بين السماء والأرض، وسوف يكون لله حضورٌ جديد في حياة البشر، وسوف يكلِّمهم، وسوف يتولّى هدايتهم، وسوف يحصل الناس على إمكانية الاستماع إلى كلام الله ومحاورته واتّباع هَدْيه. إلاّ أن إعادة فتح أبواب السماء رهنٌ بالتفسير الصحيح للخاتمية. فإذا كانت الخاتمية تعني السكوت التشريعي لله تعالى بعد رحيل النبي ففي هذه الحالة سيفقد التديُّن في العصر الحديث مفهومه ومعناه، وسيؤدّي ختم النبوّة إلى ختم التديّن.
وأما إذا كان معنى الخاتمية أن الإنسان بعد رحيل النبيّ لا يعود بحاجة إلى «واسطة» أخرى تبلغه رسالة الله، وأن بإمكانه الاقتداء والتأسّي بخاتم الأنبياء ومشاركته في تجربته، والعمل على بسط هذه التجربة، وبناء الارتباط المباشر مع الله، والتكلُّم معه، والحصول على رسالته، ففي مثل هذه الحالة يمكن اعتبار ختم النبوّة شرطاً ضرورياً للحضور الحيوي والمباشر للدين في العالم المعاصر.
إن الخاتمية تعني تخرّج الإنسان من مدرسة الأنبياء، إلاّ أن التخرُّج هنا لا يستلزم الاستغناء عن المعلِّم وتعاليمه وتجاربه؛ لأن الذي يتمّ تعلُّمه في هذه المدرسة ليس مجموعة من أصول العقائد والقواعد الثابتة والتعبُّدية، وإنما تعرض قدوة وأسوة لبيان الطريق إلى التجربة الدينية وآداب الحياة طبقاً لهذه التجربة([33]). إن حاجة الإنسان إلى الدين إنما ترتفع من خلال التجربة الدينية، وإن التجربة النبوية إنما تلبّي هذه الحاجة فيما لو لم تنقطع هذه الحاجة بعد رحيل النبي، وأن يستمر بسط هذه التجربة حتّى بعد رحيله. وإن بسط هذه التجربة في الفترة اللاحقة يقع على عاتق «مجتمع» المؤمنين، لا على عاتق شخص بعينه أو عددٍ من الأفراد بأشخاصهم. إن الخاتمية تعني استمرار التجربة الشخصية للنبي في إطار التجربة الجماعية للمؤمنين، لا بمعنى إحلال التجربة الشخصية لفردٍ أو صنفٍ أو طبقةٍ خاصّة محلّ تجربة النبي.
سبق أن ذكرنا أن الأخلاق متقدّمةً على الشريعة، ولازم تقدُّم الأخلاق على الشريعة في مقام الثبوت تقدُّم علم الأخلاق على علم الفقه في مقام الإثبات. وعليه لا يمكن بسط التجربة الفقهية النبوية دون بسط تجربته الأخلاقية، ولا يمكن بسط التجربة النبوية الأخلاقية دون بسط تجربته العقلانية ـ المعنوية. من هنا يمكن القول: إن بسط هذه التجارب من مقتضيات أخلاق التحقيق والتفكير الفقهي. كما يمكن القول: إن التجربة النبوية الفقهية قد تأثَّرت إلى حدٍّ كبير بالعُرْف الذي عاصره النبيّ‘، ولذلك لن يكون بالإمكان بسط هذه التجربة دون معرفة عميقة للعُرْف المعاصر للنبيّ. يجب أن يقترن بسط التجربة النبوية ببسط العقلانية والمعنوية ما فوق الدينية؛ لأن اتّباع الأنبياء الظاهريين إنما يكون مثمراً إذا كان مقترناً بفضيلتي العقلانية والمعنوية ـ وكلاهما ما فوق دينيتين ـ، واتباع النبيّ الباطني (العقل) أيضاً.
وكما سبق أن أشرنا فإن أحد أهم خصائص الاجتهاد المتمحور حول القدوة يتمّ فيه الفصل بين ذاتيات الشريعة وعُرْفياتها.
الهوامش
(*) أستاذٌ في جامعة المفيد، وأحد الباحثين البارزين في مجال الدين وفلسفة الأخلاق، ومن المساهمين في إطلاق عجلة علم الكلام الجديد وفلسفة الدين.
([1]) إن الفصل والتفكيك بين الكمال في الحدّ الأدنى والكمال في الحدّ الأقصى من بين تعاليم الدكتور سروش. انظر في هذا الشأن: سروش، «دين أقلي وأكثري»، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 107 ـ 108.
([2]) نهج البلاغة، الخطبة رقم: 222.
([3]) لستُ متأكداً ممّا إذا كان هذا الكلام مضمون حديث شريف أم لا. ولكنّ معنى الآية في القرآن الكريم أن الله تعالى يتجلّى في آيات القرآن. وليس ذلك التجلّي سوى سماع كلمات الله تعالى منه مباشرة. كما جاء في أدعية الشيعة بشأن أهل البيت^ أنهم: «مهبط الوحي ومختلف الملائكة». وممّا جاء بشأن السيدة فاطمة الزهراء÷ أن جبرائيل كان ينـزل عليها مراراً وتكراراً بعد رحيل أبيها رسول الله‘. وإذا كانت الملائكة تنـزل على أهل البيت فإنها كانت تنـزل حتماً بنداءٍ جديد من قبل الله تعالى.
([4]) يمكن الادّعاء ـ طبق الأصول ـ أن هذا هو شأن فلسفة التربية والتعليم دائماً، بمعنى أن معرفة واتباع تجارب الآخرين حتّى في مجال العلم والفلسفة وغيرهما يؤخذ على نحو الطريقية، وأن الغاية من التعليم والتربية في العلم هو تطوير المذاق العلمي، وأن الغاية في الفلسفة تكمن في تطوير المذاق الفلسفي، وهكذا.
([5]) إن من بين صفات الله تعالى ما جاء في الدعاء إذ يقال: «يا مَنْ سبقت رحمتُه غضبَه»، بمعنى أن الله هو الذي تتقدّم رحمته على غضبه، وإن تقدم الرحمة على الغضب يعني تحديد غضبه في إطار رحمته. إن الله يمكنه أن يوجب على نفسه أموراً، بل أوجب على نفسه ذلك، إذ يقول: ﴿كَتَبَ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ﴾ (الأنعام: 12).
([6]) قيل في تعريف الحكمة: «الحكمة هي التشبُّه بالإله».
([7]) جاء في الحديث: «تخلّقوا بأخلاق الله». (بحار الأنوار 58: 129).
([8]) انظر في هذا الشأن: سروش، قبض وبسط تئوريك شريعت «نظرية تكامل المعرفة الدينية»: 344 ـ 345، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط.
([9]) انظر: هود: 37؛ المؤمنون: 27.
([13]) جاء في بعض الروايات أن الفرق بين الحكمة والنبوّة يكمن فقط في أن مشقة ومسؤولية الثاني أكبر، وأن الله تعالى قد خيَّر لقمان الحكيم بين الحكمة والنبوّة، فاختار الحكمة. (انظر: الميزان 16: 221؛ مجمع البيان 8: 494). وقال بعض الصوفيين في بيان الفرق بين التجربة النبوية والتجربة العرفانية: «إن النبي ذهب إلى المعراج وعاد، ولو كنتُ مكانه لما رجعتُ».
([14]) وفي ذلك يقول القرآن: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظّاً غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ﴾ (آل عمران: 159).
([15]) بحار الأنوار 10: 226، 356.
([16]) قال الله تعالى حكايةً عن النبيّ الأكرم‘: ﴿قُلْ لاَ أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلاَ ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ﴾ (الأعراف: 188).
([17]) وهذا هو صريح الحديث القائل: «ولا بعث الله نبيّاً ولا رسولاً حتّى يستكمل عقله، ويكون عقله أفضل من جميع عقول أمّته…». (الكافي 1: 12).
([18]) البدعة عبارةٌ عن: «أن تدخل في الدين ما ليس فيه».
([19]) عمد الدكتور سروش إلى تقسيم التجربة النبوية إلى نوعين أيضاً: الداخلية (الذاتية)؛ والخارجية (الموضوعية). (سروش، «بسط تجربه نبوي»، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 15). إلاّ أن هذا التقسيم هو غير التقسيم المتقدِّم؛ لأن التجربة الداخلية والخارجية للنبيّ كلاهما من التجارب الوحيانية، وليسا من التجارب غير الوحيانية.
([20]) سوف نقف في دراسة أخرى على أن طريقة حلّ المعضلات الدينية أيضاً ليست ثابتة وأبدية دائماً، وأن الأحكام الدينية تنقسم بدورها أيضاً إلى قسمين: ثابتة أو أبدية؛ ومتغيّرة أو مؤقتة.
([21]) انظر في هذا الشأن: سروش، (خاتميت پيامبر ـ 2)، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 83 ـ 112.
([22]) لقد عمد (بازيل ميتشل)(Mitchell)، 1980: 147 ـ 156، إلى الفصل بين نوعين مختلفين من الأخلاق الدينية، وأطلق على النوع الأول اسم (الأخلاق المتمحورة حول القانون)، وعلى النوع الثاني اسم (الأخلاق المتمحورة حول القدوة). ثم عمد إلى دراسة الانتقادات التي أثارها فلاسفة الأخلاق حول الأخلاق المتمحورة حول الأسوة والقدوة الدينية وغير الدينية. كما كان لبعض المفكرين المسلمين، من أمثال: الشاه ولي الله الدهلوي وإقبال اللاهوري، مثل هذا الرأي بشأن ماهية الاجتهاد أيضاً. وقال الدكتور سروش في هذا الشأن: «إن جوهر كلام الشاه ولي الله الدهلوي هو أن قول وفعل النبيّ تجاه قومه إنما ينطوي على قيمة التأسّي والاقتداء فقط، وليس لتطبيقها في جميع الأمكنة والأزمنة وعلى جميع الأجيال وتطبيقها واتباعها حذو القذّة بالقذّة. وإنما هي مجرّد مصاديق لأصول عامة وكلِّية. وإن على كلّ قوم أن يبحثوا عن مصاديق الأصول العامة التي تناسبهم. وهذا ما ذهب إليه الراحل إقبال اللاهوري في باب الاجتهاد في الفروع أيضاً… وشرط الاجتهاد هو النظر إلى سُنّة النبي بعين القدوة والأسوة المحدودة» (سروش، (خاتميت پيامبر ـ 1)، وذلك في: بسط تجربه نبوي: 123).
([23]) يقول الدكتور سروش في هذا الشأن: «لو ألقينا نظرةً على عامّة المسلمين لوجدنا أن هويتهم مرتبطة تماماً بالنصّ، وكان مرجعهم على الدوام يتمثَّل في الكتاب والسنّة. بَيْدَ أن النوادر الذين خاضوا التجربة المباشرة لم يكونوا من القائلين بمحورية النصّ منذ البداية. وفي الحقيقة لم يكن لتأويل النصّ غير هذا المعنى. يبدو أن أصحاب التأويل كانوا متمسكين بالنصّ، ولكنهم في الحقيقة كانوا يركنون النصّ جانباً، وبطبيعة الحال فإن هذا الوضع كان يختلف شدّةً وضعفاً» (سروش، «إيمان وأميد»، وذلك في: أخلاق خدايان: 140).
([24]) من الجدير أن نعلم أن الفقهاء الذين يجتهدون في إطار الفقه التقليدي يتمسكون في بعض الحالات النادرة جداً بـ «الذوق الفقهي» أيضاً. إلاّ أن هذا التمسك في مقام الفهم أو تفسير النصوص الدينية واستنباط الأحكام الفقهية لا ربط له بالعالم الجديد، بل يخصّ المورد الذي يخلو من كلّ نصّ. على سبيل المثال: انظر في هذا الشأن: فتاوى السيد الخوئي والشيخ التبريزي بشأن مرجعية وقضاء المرأة، وفتوى الشيخ صانعي في استنساخ الإنسان. وبالإضافة إلى ذلك فإن بعض الفقهاء يعتبر «الشمّ الفقهي» واحداً من معايير الأعلمية. إلا أن هذا الذوق والشمّ الفقهي إنما ينتج عن التعمُّق والتوغُّل في الآيات والروايات الفقهية، وليس نتاج الرجوع المتكرِّر إلى الله وإقامة الحوار الجديد بين السماء والأرض. انظر في هذا الشأن: (عدالت نجاد، «باب مسدود اجتهاد»، اندر باب اجتهاد: درباره كارآمدي فقه إسلامي در دنياي إمروز: 64، تصحيح: سعيد عدالت نجاد، طهران، انتشارات طرح نو).
([25]) وهذا ما تدلّ عليه هذه الآيات بوضوح: ﴿لاَ يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمْ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الظَّالِمُون﴾ (الممتحنة: 8 ـ 9).
([26]) لقد خاطب الله تعالى المسلمين في القرآن قائلاً: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ للهِ شُهَدَاءَ بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَنْ لاَ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُوا اللهَ إِنَّ اللهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ﴾ (المائدة: 8).
([27]) روي عن الإمام جعفر الصادق× أنه قال: «ما عُبد الله بشيء مثل البداء» (الكافي 1: 146). وفي روايةٍ أخرى عنه× أنه قال: «ما عُظِّم الله بمثل البداء» (المصدر نفسه). والبداء يعني أن الله يغيِّر حكمه السابق ويستبدله بحكمٍ جديد. وإن هذا التغيير لا يقتصر على الأمور التكوينية، بل يشمل الأحكام الشرعية أيضاً، وإن هذه العملية التغييرية لا تتوقَّف بختم النبوّة ورحيل النبي الأكرم‘. وقال الشيخ الصدوق في تفسير البداء: «ليس البداء كما تظنه جهال الناس بأنه بداء ندامةٍ ـ تعالى الله عن ذلك علوّاً كبيراً ـ، ولكن يجب علينا أن نقرّ لله عزَّ وجلَّ بأن له البداء، معناه أن له أن يبدأ بشيءٍ من خلقه، فيخلقه قبل شيء، ثم يعدم ذلك الشيء، ويبدأ بخلق غيره، أو يأمر بأمرٍ ثم ينهى عن مثله، أو ينهى عن شيء ثم يأمر بمثل ما نهى عنه، وذلك مثل: نسخ الشرائع، وتحويل القبلة، وعدّة المتوفى عنها زوجها، ولا يأمر الله عباده بأمر في وقتٍ ما إلاّ وهو يعلم أن الصلاح لهم في ذلك الوقت في أن يأمرهم بذلك، ويعلم أنّه في وقت آخر الصلاح لهم في أن ينهاهم عن مثل ما أمرهم به، فإذا كان ذلك الوقت أمرهم بما يصلحهم، فمَنْ أقر لله عزَّ وجلَّ بأن له أن يفعل ما يشاء، ويؤخِّر ما يشاء، ويخلق مكانه ما يشاء، ويؤخِّر ما يشاء كيف يشاء، فقد أقرّ بالبداء، وما عظم الله عزَّ وجلَّ بشيءٍ أفضل من الإقرار بأن له الخلق والأمر، والتقديم والتأخير، وإثبات ما لم يكن، ومحو ما قد كان. والبداء هو ردٌّ على اليهود؛ لأنهم قالوا: إن الله قد فرغ من الأمر [التكوين والتشريع]، فقلنا [نحن الشيعة]: إن الله كل يوم في شأن، يحيي ويميت، ويرزق، ويفعل ما يشاء». (نقلاً عن: بحار الأنوار 4: 108 ـ 109). وجاء في روايات البداء أنه من مكنون ومخزون علم الله، فعن أبي عبد الله× أنه قال: «إن لله علمين: علم مكنون مخزون لا يعلمه إلاّ هو، من ذلك يكون البداء». (المصدر السابق: 110). وعليه فإن البداء بالنسبة إلى الله تعالى لا ينشأ عن «جهل»، ولا عن «ندم»، بل على العكس من ذلك تماماً، إنه ينشأ عن القدرة والحكمة. كما رُوي عن أمير المؤمنين× أنه قال: «لولا آية في كتاب الله لأخبرتكم بما كان وبما يكون وبما هو كائنٌ إلى يوم القيامة، وهي هذه الآية: ﴿يَمْحُو اللهُ مَا يَشَاءُ وَيُثْبِتُ وَعِنْدَهُ أُمُّ الْكِتَابِ﴾». (بحار الأنوار 89، كتاب القرآن، الباب الثامن). وفي التعاليم الإسلامية يُعتبر «النسخ» تعبيراً آخر عن البداء. يستطيع الله تعالى، بمعنى أنه قادر ويحقّ له، أن ينسخ أحكامه، وإن هذه القدرة وهذا الحقّ لا يزول بختم النبوّة ورحيل النبي، وإنْ كانت طريقة وأسلوب إبلاغ النسخ وتغيير حكم الله تعالى إلى الناس يختلف بفعل ختم النبوّة وبعد رحيل النبي.
([28]) إن النبي ـ على سبيل المثال ـ قد أيَّد الكثير من الآداب والسنن والتقاليد الشائعة في المجتمع الذي عاش فيه. إلاّ أن أتباع النبي يمكنهم أن يتعاطوا مع هذا التصرُّف الصادر عن النبيّ بطريقتين:
1ـ طريقة تعاطي أنصار الاجتهاد المتمحور حول القانون مع هذا التصرّف الصادر عن النبيّ هو أن النبي بتأييده لهذه التقاليد والسنن قد أضفى عليها الشرعية إلى الأبد، بمعنى أنه يحوّل التقاليد والسنن المحلية والتاريخية إلى سنن وتقاليد عالمية وما فوق تاريخية. ومن هنا يتعيَّن على المسلمين أن يعتبروا تقاليدهم وسننهم الاجتماعية وسائر التقاليد والسنن الاجتماعية الأخرى كلها بدعاً، باستثناء تلك التقاليد والأعراف التي أيَّدها النبي بحكم عيشه ضمن أجوائها.
2ـ وأمّا طريقة تعاطي أنصار الاجتهاد المتمحور حول القدوة مع هذا التصرّف من قبل النبيّ فهو أن دين الإسلام لم يكن ليخالف التقاليد والسنن السائدة في عصر رسول الله، وأن الأصل الأوّلي في التعاطي مع التقاليد والسنن في كلّ مجتمع يقوم على أن تلك التقاليد والسنن مشروعة، إلا إذا قام الدليل في الدين المطلق على خلافها. وإن مجرّد تأييد النبي لتقاليد وأعراف المجتمع القبلي في صدر الإسلام لا يحمل أيّ دلالةٍ على عدم مشروعية الأعراف والتقاليد الأخرى السائدة في المجتمعات الحديثة.
([29]) انظر في هذا الشأن: صالح پور، «دين دمكراتيك حكومتي»، وذلك في: مدارا ومديريت: 496، طهران، مؤسسه فرهنگي صراط؛ صالح پور، «فرايند عرفي شدن فقه شيعي»، وذلك في: مدارا ومديريت: 611 ـ 630؛ صالح پور، «إمام خميني، فقه دوران گذار، أز فقه جواهري تا فقه المصلحة»، كيان: 26 ـ 37، 46.
([30]) في ما يتعلق بإمكان وضرورة أسلمة الجامعات انظر: ملكيان، «تأمُّلاتي چند در باب إمكان وضرورت إسلامي شدن دانشگاه»، وذلك في: راهي به رهائي: جستارهائي در عقلانيت ومعنويت: 52 ـ 73، طهران، نشر نگاه معاصر. وفي ما يتعلق بأسلمة العلوم انظر: ملكيان، «علم ديني»، وذلك في: راهي به رهائي: جستارهائي در عقلانيت ومعنويت: 81 ـ 92.
([31]) نسبة إلى كتاب (جواهر الكلام في شرح شرائع الإسلام)، لمؤلِّفه: الشيخ محمد حسن النجفي. المعرِّب.
([32]) انظر: صالح پور، «إمام خميني، فقه دوران گذار، أز فقه جواهري تا فقه المصلحة»، كيان: 26 ـ 37، 46. قال الأستاذ صالح پور: «يمكن لنظرية ولاية الفقيه المطلقة أن تقرأ بشكلٍ ليُستنبط منها نوع من أنواع الدولة الحديثة… وبعد عرض القراءة المنتقاة عن هذه الولاية يمكن اعتبار «الولاية» مساوية لـ «السلطة» والسيادة (sovereignty). كما أن اعتبار هذه الولاية «مطلقة» لا يتزاحم مع الدولة الحديثة؛ لأن السلطة بطبيعتها مطلقة… هل يمكن في الانتقال والعبور إلى الحداثة وفي إطار النقد الحديث اتخاذ بوتقة لتحويل «الفقه» إلى «قانون»، وتكون نتيجة ذلك تحويل «الولاية المطلقة للفقيه» إلى «سيادة للقانون»، وتحوّل منظومتنا الفقهية إلى منظومة حقوقية عُرْفية؟ أرى أن هذه البوتقة ـ التي هي ليست سوى عنصر «المصلحة» ـ موجودةٌ في فكر الإمام [الخميني]، ومن هنا اخترْتُ لمقالتي هذه عنوانها الفرعي (من الفقه الجواهري إلى فقه المصلحة)…. وقد أوضحتُ كيف يمكن لعنصر المصلحة أن يعمل بوصفه أهم عنصر بوتقة (secularizer) لعولمة الأمور على تحويل المنظومة الفقهية إلى منظومة حقوقية عُرْفية». (المصدر السابق: 28).
إلاّ أن التجربة التاريخية أثبتت أن هذا التصوّر لم يكن أكثر من توهّم، وأن دخول عنصر المصلحة إلى منظومة الفقه قد تحوّل إلى أهم عقبة أمام تحويل الفقه إلى منظومة حقوقية عُرْفية. والسرُّ في ذلك يكمن في أن عنصر المصلحة لا يدخل في المنظومة الفقهية، وإنما يُلحظ في مقام تطبيق الأحكام الفقهية فقط. وبالإضافة إلى ذلك فإن المصلحة التي تعمل على تحويل النظام المعياري إلى منظومة حقوقية عرفية هي «المصلحة العامة»، وليست «مصلحة الإسلام» أو «مصلحة النظام». ثمّ إن هذه المصلحة ليست «مطلقة»، فليست هي فصل الخطاب، وإنما هي مؤطّرة بالإطار الأخلاقي الذي عبّر عنه الأستاذ صالح پور تحت عنوان (أدب القانون)، واستفاد منه لبيان مواطن الاختلاف بين الفقه والقانون. فلو اقتضت مصلحة الإسلام أو النظام فإن الفقهاء سيقفون بوجه مسار تحديث المجتمع وصيرورته عُرْفياً بكل ما أوتوا من قوّةٍ، فما ظنك بما لو طال الأمر صيرورة الفقه عُرْفياً. والأعجب من ذلك ادعاؤه أن السيادة في الدولة الحديثة مطلقة.
([33]) في ما يتعلق بشبهة العلمانية واستغناء البشر عن الأنبياء انظر: سروش، «ريشه در آب است: نگاهي به كارنامه كامياب پيامبران»، وذلك في: مدارا ومديريت: 407 ـ 412، حيث يقوم الدكتور سروش بالفصل بين نوعين من الاستغناء المذموم والاستغناء الممدوح، معتبراً العلاقة القائمة بين النبيّ والناس من قبيل: العلاقة القائمة بين الطبيب والمريض، أو الأستاذ والتلميذ، ويرى أن هذا التفسير لختم النبوّة لا يستلزم ختم التديُّن.