إيمان شمس الدين
فطر الإنسان على حب الكمال ، وحب الكمال يتطلب تتطور مستمر في البناء والفهم والادراك العقلي، وهذا مرهون بتطور المحيط الإنساني على كافة الأصعدة ، والتطور هو عكس الركود والجمود بل هو نوع من أنواع التحرر من مسلمات سابقة تم : إما تطويرها بمعطيات جديدة وإخضاعها لعنصري الزمان والمكان ، أو تم تهافتها نتيجة أدلة هدمتها كمُسَلّمَة .
وهي تحرر من حالات اطمئنان موهومة إلى قلق إيجابي يسعى دوما نحو التحرك باتجاه الحقيقة بخطوات علمية موضوعية راسخة، يستطيع فيها الإنسان الباحث أن يتحرر حتى من ذاته لأجل بلوغ الحقيقة الواقعية .
فالمطلوب هو العودة للفطرة في حب الكمال والسير على طريق التكامل والتحرر من كل الصناديق ، وفي كل مرحلة ومرتبة نحتاج فيها دوما لعملية التحرر كي تتراكم معارفنا وتتسع مداركنا وتتكامل عقولنا للاقتراب أكثر من الحقيقية.
إن التحرر من النظر للماهيات هو واقعا تحرير للعقل من أسر الطبيعة والمادة ، وسوق الروح والعقل إلى آفاق أوسع تعرج بنا من مرتبة وجودية إلى أخرى ، فالخروج من الموروث الفكري والعقدي الذي تعامل معه العقل كمسلمات وفق منطق أرسطو ، هو واقعا تخلص من المحمول القبلي للانطلاق نحو الحقيقة بموضوعية ، وكلما اقتربنا من منبعها كلما اشتد وجودنا وأصبحنا أكثر قدرة على مسك زمام الكون وصناعة القدر بسوق الكون نحو مزيد من كماله الحقيقي نحو الحق ، وتحقيق الخيرية الواقعية التي تحقق آثارها في الانسان والكون وتظهر بركات الله وتميط عنها اللثام.
وألو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا ”
الجن – ١٧
إن الغرب استطاع بالعقل الهيمنة على الطبيعة وتسخيرها بخلاف منشأ الخيرية الواقعية في الكون ، لذلك ” ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس”
وهذا لا يعني أن مكتسبات الغرب العلمية شر مطلق ، بل منطلقاته الفلسفية ورؤيته الكونية قاصرة على جزء من الحقيقة ، والحقيقة كي تحرز ثمارها لا بد أن تكون كاملة لأنها لا تتجزأ .
ونحن نملك كمسلمين رؤية كونية ومباني فلسفية تمكننا من الهيمنة الحقيقية في بعديها المادي والمعنوي ، التي ترتكز على اصالة الخير والحق والصلاح ، حيث تكون الاستقامة على الطريقة هي اقصر الطرق للوصول بكل الوجود إلى كماله اللائق به في الدنيا ، وهذه الاستقامة تبدأ من الذات كعقل وروح وجسد وتنظلق لكل الخارج .
فاستقامة العقل هي أساس في احراز ثمار الطريقة من ماء غدقا .
هذه الاستقامة تتحقق بالوصول إلى مرحلة العدالة عقليا ، والقسط خارجيا اذ يتفاعل كل منهما مع الآخر .
وصول العقل للعدالة هو احراز لعدالة المفاهيم والمعايير وتحقق للقيم الحقيقية ، وهو منطلق نحو تحقيق القسط في المجتمع .
هذا السعي يقود الانسان بالسعي بكل ما هو دونه نحو الكمال .
إن الانغلاق على فهم واحد لله والكون والطبيعة هو نوع من النمطيات التي تغلق العقل عن التفكير والتطوير .
وأيضا إن الأفهام التي تنطلق من منظور عصبوي في نظرتها للأمور، وفي قراءتها للتاريخ وشخصياته الفاعلة والمؤثرة فيه تتحول إلى حجاب مانع عن رؤية الحقيقة.
هناك دوما وجهة نظر أخرى تمثل جزء من الحقيقة، وما أملكه قد يمثل جزء منها، هذا في دائرة المتغيرات، كون هناك حقيقة ثابته لكن إدراك هذه الحقيقة الثابته يختلف من قابلية إلى قابلية ومن مرتبة وجودية إلى أخرى.
لذلك إدراك الحقيقة يتطلب قابلية كبيرة في الخروج من الصناديق المغلقة في العقيدة والفكر، فعلى سبيل المثال قد أكون نشأت في بيئة لها فهم خاص لشخصية النبي ص وأهل بيته ع ، ولكن حينما أخرج من دائرة الأسرة إلى دائرة أكبر قد أرى فهما أوسع لم اعتاده ضمن نمط التفكير الاسري الذي نشأت فيه.
وهنا إما يقوم هذا الشخص بالرفض التام لهذا الفهم الأوسع مما اعتاد عليه، أو أنه ينقلب على فهمه وعلى كل مسلماته ، وهو بذلك يتصرف بين إفراط وتفريط ، بينما الاعتدال يفترض أن يدفعه للتعاطي بتوازن مع ما يملك من أفكار نمطية وبين ما اطلع عليه من أفهام أخرى، بحيث يقوم بإعادة النظر والتقييم والتطوير وليس الرفض المطلق أو القبول المطلق.
الخروج ثقافة تتطلب قدرة على محاكاة الاراء والأفهام بطريقة خيركم من جمع العقول إلى عقله.
فرأيي صواب يحتمل الخطأ ورأيك خطأ يحتمل الصواب، ومع وجود احتمالات للخطأ والصواب تبقى مساحات إعادة النظر والتقييم كبيرة .
هذا فضلا أن الوحي حالة خاصة بالنبي ص وقد انقطع بعد رحيله، وما لدينا الآن ليس وحيا وإنما مجموعة نصوص منسوبة لبيت الوحي سيدنا محمد وأهل بيته عليهم أفضل الصلاة والسلام، وهو ما يحتاج تحقق من حيث صدورها كأحاديث أو وقوعها كحدث تاريخي، ومهما كانت نتيجة البحث الدقيق فعلى العاقل أن يسلم بها لا أن يحاول لي عنق النص ليوافق ما اعتاده من اعتقاد موروث.
فالسعي لمعرفة واقع الأمر يحتاج فقط خوف من الله وليس خوفا من الناس، وخوفا على دين الله ودين الناس لا خوفا على ما اعتقده أنا كشخص حتى لو ثبت خلافه.
لا تُبنى العقائد على العواطف بل تبنى بالعقل والدليل وحجية القطع، فإن ثبتت بذلك ترسخت شجرة الإيمان في القلب وأثمرت معرفة، ومن زادت معارفه حتما تزيد عواطفه، لكنها عواطف متصلة بالبرهان لا بالوراثة ولا بالتنميط ولا العادة .
و لا معصومية لمن دون المعصوم في قراءته العقائدية، مهما تكاثر هؤلاء ومهما أجمعوا على أمر، كون معيار الحقيقة ليس الكثرة ولا المألوف ولا المشهور ولا الإجماع، بل البرهان والدليل والقطع .
فقط يجمع أكثر العلماء على أمر، ويأتي بعض العلماء بذات الأمر مخالفا لما أجمع عليه العلماء، ويأتي بدليل وحجة قطعية على ما توصل إليه في بحثه، فوظيفتي هنا أن أبحث في ما توصل له كلا الطرفين ومن ثم أحكم ميزان العقل و أميل مع الحقيقة المبرهنة لا مع الكثرة المجمع عليها.
هذا يتطلب مني أن أكون باحثا يمتلك أدوات البحث، وللأسف أغلبنا مقصر في ذلك، وأغلبنا سلم مفاتيح عقله في الاعتقاد للعلماء، رغم أن الاعتقاد عملية بحثية يجب على المكلف خوضها وامتلاك أدواتها والاستعانة بآراء ومناهج المتخصصين، والوصول بنفسي كمكلف في عقيدتي لنتائج مبنية على البحث والبرهنة.
وبعد الحداثة والعولمة وتوفر الوسائل الحديثة، لم يعد معذورا أغلبنا في تعطيل عقله، وتسليمه للآخرين في الاعتقاد والبحث عن الحقيقة.