أحدث المقالات

د. الشيخ صفاء الدين الخزرجي(*)

تمهيد

لا شَكَّ أن العاطفة الدينية والولائية أمر مقدّس وثمين لدى الإنسان؛ لأنها وليدة المعتقد الحق، لكنْ شريطة أن تتحرك ضمن إطارها المرسوم لها، وتكون في نصابها الصحيح، بعيداً عن حالات الإفراط والتفريط، أو الغلوّ في مجال السلوك والفهم والتفكير والتحليل للنصوص الدينية.

ولكنْ ربما يحصل العكس، فتتغلب العاطفة والمشاعر في فهم النصوص، ويظنّ البعض خطأً أن ذلك من قوة العقيدة واستحكامها، في حين لا يعدو الأمر أن يكون مبالغةً على حساب المنطق العلمي في قراءة النصوص وفهمها، لا أكثر.

وفي هذا المقال نستعرض نموذجين لنصّين من النصوص التاريخية المرتبطة بواقعة الطفّ الخالدة، والتي اختلط فيها البُعْد العاطفي الولائي بالفهم والاستظهار العُرْفي والعقلائي للنصّ.

1ـ النصّ الأوّل

 قول الإمام السجاد× لعمته زينب÷ بعد خطبتها بالكوفة، التي وبّخت فيها أهل الكوفة على فعلتهم وخيانتهم، فتوجّه إليها بقوله، مسكّناً من روعها: (عمّة، اسكتي، فأنت بحمد الله عالمةٌ غير معلمة، وفهمة غير مفهمة)([1]).

وقد حاول البعض إضفاء بُعْدٍ معرفي على هذا النصّ، ليثبت من خلاله أن الإمام× أراد أن يشهد لعمته بالعلم اللَّدُنّي والإلهام الإلهي، أي إنه× أراد الإشارة إلى مقامها العلمي، وأنّ علمها÷ علم لَدُنّي وإلهي غير مكتسب، بمعنى أنها÷ غير معلّمة بعلمٍ كسبي، أو تعليم عادي.

قال الفاضل الدربندي: (هذا الكلام حجّة على أن زينب بنت أمير المؤمنين× كانت مُحَدَّثة، أي مُلْهَمة، وأن علمها كان من العلوم اللَّدُنّية والآثار الباطنية)([2]).

 وتبعه على ذلك الشيخ جعفر النقدي(1369هـ)، فقال، معلّقاً على كلام الإمام السجاد×: (يريد [أي الإمام] أن مادة علمها من سنخ ما منح به رجالات بيتها الرفيع، أفيض عليها إلهاماً، لا بتخرّجٍ على أستاذ، أو أخذ عن مشيخة)([3]). ونقل كلامَ الشيخ النقدي الشيخُ فرج آل عمران القطيفي، من علماء البحرين، موافقاً له ([4]).

وعلى ما يبدو إنه لم يكن لهذا التفسير من أثرٍ في المصادر المتقدّمة لعلمائنا، وإنما ظهر هذا التفسير في الأزمنة المتأخرة جدّاً. ولعل أول مَنْ طرحه هو الفاضل الدربندي، ثم ذاع وراج على الألسن والأفواه والأقلام، بحيث كاد اليوم أن يكون هو التفسير الوحيد الذي لا يقبل الشكّ لدى الكثير ممَّنْ يذكر هذا النصّ، أو يستشهد به، ولا سيَّما في المنابر والخطب والكلمات.

وعلى أيّ حالٍ فإنه يمكن المؤاخذة على هذا التفسير للنصّ بما يلي:

أوّلاً: خلوّه من الدليل

 لم يدعم أصحاب هذا التفسير تفسيرهم هذا بأيّ شاهد أو قرينة داخلية أو خارجية على ما ذكروه من التفسير، وإنما هو مجرّد دعوى بلا دليل.

وقد يُقال: إن الظهور حجّة، فيكون الدليل هو حجّية الظهور.

والجواب: إن حجّية الظهور وإنْ كانت تامّة من جهة الكبرى، ولكن الكلام في الصغرى، أي من جهة أصل انعقاد مثل هكذا ظهور صغروياً، حيث يلاحظ فيه السياق والقرائن الحافّة بالكلام حال انعقاده.

ثانياً: الملاحظة السندية

إنه قد وردت هذه الخطبة في مصدرين: أحدهما: الأمالي، للشيخ المفيد، بشكلٍ مسند؛ والآخر: الاحتجاج، بشكلٍ مرسل. إلاّ أنه لم يَرِدْ هذا المقطع الذي يشهد فيه الإمام السجاد× لعمته÷ بكونها عالمة غير معلمة في أمالي الشيخ المفيد، الذي روى خطبتها÷ في الكوفة مسندةً([5]). نعم، ورد هذا المقطع ضمن خطبتها÷ في نقل الاحتجاج مرسلاً([6]). وعليه فالمقطع المنقول مرسلٌ لا سند له.

ثالثاً: الملاحظة الدلالية

لا شَكَّ في أن أهل البيت^ هم في أعلى مراتب الفصاحة والبلاغة، لكنْ مع أنهم أفصح الفصحاء وأبلغ البلغاء، بل هم سادة الكلام، إلاّ أنهم كانوا يجرون في محاوراتهم العرفية مع الآخرين مجرى العرف في اعتماد أساليب الحوار المعهودة والمتداولة في مجتمعاتهم، سواء في الاستعارات أو المجازات أو الكنايات أو المبالغات أو غيرها؛ لأنهم بشرٌ يعبِّرون عن حاجاتهم وأغراضهم الاجتماعية، وكذلك الرسالية والدينية، بالأساليب المعهودة آنذاك، كما هو شأن الأنبياء والمرسلين، الذين يقول الله فيهم: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ﴾ (إبراهيم: 4). كما أنهم من جهةٍ أخرى يعتمدون في أساليب الحوار المعهودة هذه أعلاها وأجودها وأفصحها، فهم^ أفصح من نطق بالضاد([7])، وقد قال الإمام الصادق×: (أعربوا حديثنا فنحن قوم فصحاء)([8]). ومن هنا فلا بُدَّ من فهم كلّ نصّ وارد عنهم^ ضمن سياقه العرفي، وحمله على معناه الظاهر، ما لم يكن ثمة صارف عنه، من قرينة حالية أو مقالية. وهذا أصلٌ أوّلي، وقاعدة مطّردة، تأسست في ضوئها قاعدة حجّية الظهور العرفي لفهم كلامهم^ في علم الأصول.

وبناءً على ذلك فإنه يمكن الملاحظة على التفسير السابق بما يلي:

1ـ مخالفته للقرينة المقامية

 إنه من المهم جدّاً ملاحظة القرائن اللفظية والمقامية والسياقية الحافّة بكل نصّ، وعدم غضّ النظر عنها؛ لأهميتها في تحديد المعنى المقصود منه. وفي مقام المناقشة للتفسير الأوّل نركز على القرينة المقامية خاصّة؛ إذ لا بُدَّ من ملاحظة السياق والمقام الذي صدر فيه هذا النصّ، فإنه ليس مقام ذكر الفضائل والمناقب، وإنما هو مقام التسلية على المصاب، والتسكين للخاطر، والتهدئة للمشاعر، حيث أمرها الإمام× بعد خطبتها، وهياج المشاعر، بالسكوت والهدوء، فقال: (عمة، اسكتي). وعليه فلا يناسب أن يكون المراد هنا التذكير بعلمها اللدني؛ إذ لا مناسبة بين الأمرين.

 وعليه فالمشكلة عند أصحاب التفسير الأوّل هو اجتزاؤهم المقطع هذا عند نقله عن سياقه الوارد فيه، ولذا يبدو كأنه ـ حَسْب ما يدّعيه أصحاب هذا الاستظهار ـ ظاهراً في العلم اللدني، فيكون من التحميل على النصّ بلا وجه.

بل نقول: حتّى لو خلا الكلام من القرائن السياقية ـ مقالية أو مقامية ـ فإن هذا المقطع لا ظهور له في المطلوب، فهو لا يدلّ بحَسَب النظر العرفي على أكثر من الاعتراف للمخاطب بمنزلته ومقامه وفضله وعلمه، ولا دلالة فيه على نوع علمه، وأنه لَدُنّي أو غير لَدُنّي. فلو قيل مثلاً لزيدٍ من الناس مهما كان مقامه ـ حتى لو كان من أولاد الأئمة^، وكان القائل له معصوماً ـ بأنك عالمٌ غير معلّم فهل يدلّ ذلك على أنه مُحَدَّث ومُلْهَم وعلمه لَدُنّي؟! إن القطع بذلك يحتاج إما إلى دلالة قطعية؛ أو إلى دلالة ظنية واضحة ومعتبرة؛ وإما إلى مجموعة شواهد وقرائن، يكون هذا أحدها، فتكون له قيمةٌ احتمالية ما.

2ـ مخالفته لأحاديث الأئمة^

إن من الضروري عرض الأحاديث بعضها على بعض، وإرجاعها إلى المشهور منها؛ للتأكد من صحتها، سواء من الناحية المضمونية أو من الناحية اللفظية. وعندما نعرض هذا الحديث على سائر الأخبار الأخرى التي تحدّثت عن مسألة الإلهام والتحديث نجد أنها استعملت مصطلح «المُحَدَّث» بشكلٍ واضح لا لبس فيه لمَنْ ثبت لهم مقام الإلهام. فالأئمة^ يعبِّرون عادة في أحاديثهم عمَّنْ له علم لَدُنّي ـ وهو مصطلحٌ لم يَرِد في أحاديثهم^ ـ بـ (المُحَدَّث)، ولا يعبِّرون عنه بـ (العالم غير المعلَّم)، فإن مثل هذا التعبير لم يَرِدْ في نصٍّ من نصوصهم قطّ.

وهذان نموذجان من أحاديثهم^ في ذلك:

الأوّل: عن جعفر محمد بن عيسى قال: سمعت أبا عبد الله×: (إنما سُمِّيت فاطمة÷ مُحَدَّثة؛ لأن الملائكة كانت تهبط من السماء فتناديها، كما تنادي مريم بنت عمران، فتقول: يا فاطمة، الله اصطفاك وطهّرك واصطفاك على نساء العالمين)([9]).

الثاني: عن زرارة: سمعتُ أبا جعفر يقول: (الاثنا عشر الإمام من آل محمد، كلهم مُحَدَّث، من ولد رسول الله| وولد عليّ×)([10]).

فنلاحظ في هذين النصين أن اللغة المستخدمة لغة واضحة ونصّية، لا لبس فيها ولا إجمال. وهذه اللغة هي المعروفة في أحاديث الأئمة^ في التعبير عن (المُحَدَّث). وليس من المألوف التعبير بلغة حمّالة ذات وجوه، وخصوصاً في مثل هذه المقامات الخطيرة.

3ـ إجمال النصّ

لو تنزّلنا عن المناقشتين السابقتين، فإنه مع ذلك لا ظهور للحديث في هذا التفسير المذكور؛ وذلك لوجود احتمال آخر في تفسيره، وهو التفسير العرفي المنسجم مع الظهور الأوّلي للنصّ، وحينئذ يكون الحديث مجملاً في دلالته، غير صالح للاستظهار.

والتفسير العرفي عبارةٌ عن أن المراد بالحديث معنى عرفياً شائعاً في الحوارات العرفية بين الناس والمجتمعات البشرية، على اختلاف لغاتها وألسنتها. نعم، قد يختلف الناس في التعبير عنه من فترةٍ إلى أخرى، لكنّ المضمون واحدٌ؛ فتارةً يقولون لمخاطبهم: أنت عالم غير معلم؛ وتارةً يقولون له: أنت بحمد الله من العلماء، ونحو ذلك.

وعليه فحاصل هذا الوجه هو أن الإمام السجّاد× أراد تذكيرها بمقامها، وما يجب أن تكون عليه من الصبر والتحمّل، وأنها÷ فاهمةٌ لا تحتاج إلى تفهيم، وعالمة لا تحتاج إلى تعليمٍ من أحد، فهي قد بلغت من العلم والمعرفة والفهم حدّاً يجعلها في غنىً عن التذكير. فقوله× لها على وزان قول القائل لأحدهم: إنك عارفٌ بالأمور، ولا تحتاج إلى تعليمٍ، أو ما يتعارف قوله اليوم للإنسان: إنك سيد العارفين، وإنك أرفع شأناً من أن يعلِّمك أحدٌ، ونحو ذلك. وعليه فالخطاب لا يعدو أن يكون أسلوباً يُراد به تطييب الخاطر، وتسكين النفس، لا أكثر. ويدلّ على هذا الفهم ما يلي:

1ـ القرينة السياقية: إن ملاحظة سياق النصّ وسبب صدوره يساعد كثيراً في فهمه، وإن اقتطاعه عن السياق هو سبب اللبس في الفهم. فقد ورد هذا الحديث بعد أن خطبت السيدة÷ في الكوفة، ونحن نورد المقطع الأخير منها؛ لمدخليته في فهم النصّ، ولا سيَّما العبارة السابقة واللاحقة مباشرةً لعبارة الإمام السجّاد×، التي هي محلّ البحث، قالت÷ مخاطبةً أهل الكوفة: (ويلكم، أتدرون أيّ كبدٍ لمحمد فريتم، وأيّ دمٍ له سفكتم، وأيّ كريمةٍ له أصبتم. لقد جئتم شيئاً إدّاً، تكاد السموات يتفطّرن منه وتنشقّ الأرض وتخرّ الجبال هدّاً. ولقد أتيتُم بها خرقاء شوهاء طلاع الأرض والسماء ـ إلى آخر توبيخها لهم ـ. قال حذيم: فرأيتُ الناس قد ردّوا أيديهم في أفواههم، فالتفتُّ إلى شيخ في جانبي يبكي، وقد اخضلّت لحيته بالبكاء… فقال عليّ بن الحسين’: يا عمة، اسكتي، ففي الباقي من الماضي اعتبارٌ، وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة، فهمة غير مفهمة، أن البكاء والحنين لا يردّان مَنْ قد أباده الدهر. فسكتت. ثم نزل×، وضرب فسطاطه…)([11]). فالسياق واضحٌ في أن الإمام× أراد تهدئة روعها، وتسكين خاطرها، حينما أمرها بالسكوت، ثم مهّد لها بقوله (ففي الباقي من الماضي اعتبار)، ثم أراد أن يذكّرها بما هي عالمة به، ألا وهو (أن البكاء والحنين ـ الظاهر أن المراد بهما بكاء وحنين أهل الكوفة، ويحتمل بكاؤها وحنينها هي÷، والأوّل أقرب بحَسَب السياق ـ لا يردّان مَنْ قد أباده الدهر)، لكنه×؛ حفظاً لشأنها، مهَّد لذلك بقوله: (وأنت بحمد الله عالمة غير معلمة، فهمة غير مفهمة). والدليل على ذلك سكوتها بعد أن سمعَتْ تذكيره×: (فسكتت). ولذا فإن جملة (إن البكاء والحنين لا يردّان مَنْ قد أباده الدهر) ليست مستأنفة، بل هي تتمة الجملة قبلها، وتقرأ (أن) بالفتح، لا الكسر، فتكون الجملة هكذا: (وأنت بحمد الله عالمة غير معلّمة، فهمة غير مفهّمة، أَنَّ البكاء والحنين لا يردّان مَنْ قد أباده الدهر). وعليه فيكون متعلّق علمها وفهمها÷ مذكوراً في الكلام، لا محذوفاً حتّى يفسَّر بالعلم اللَّدُنّي. ومثل هذا المتعلَّق ليس من العلم اللَّدُنّي في شيءٍ، كما هو واضحٌ؛ لأنه أمر معلوم للجميع، وليس علمه مختصّاً بها÷.

وهناك موقفٌ مشابه للحوراء زينب÷ مع ابن أخيها السجاد×، فقد هوَّنت عليه في كربلاء بعد الواقعة عظم المصاب لما رأى أباه وأخوته مضرّجين مرملين غير مدفونين، فشق عليه ذلك. يقول×: (فكادت نفسي تخرج، وتبيّنت ذلك منّي عمتي زينب الكبرى بنت عليّ×، فقالت: ما لي أراك تجود بنفسك، يا بقية جدّي وأبي وإخوتي، فقلتُ: وكيف لا أجزع وأهلع وقد أرى سيدي وأخوتي وعمومتي وولد عمي وأهلي مضرّجين بدمائهم مرمّلين بالعرا…، فقالت: لا يجزعنّك ما ترى، فوالله، إن ذلك لعهدٌ من رسول الله| إلى جدّك وأبيك وعمك، ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة، لا تعرفهم فراعنة هذا الأمّة، وهم معروفون في أهل السماوات، أنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرّقة، فيوارونها)([12]). فمثل هذه المواقف التي تبعث الصبر والثبات كانت متبادلةً بعد واقعة الطف بين الإمام السجاد وعمّته الحوراء’.

2ـ إن مثل هذا الأسلوب من البيان متعارفٌ في كلام العرب، ووارد حتّى في الأدعية. وإليك بعض الشواهد على ذلك:

أـ ورد في بعض الأدعية: (اللهم أنت بحاجتي عالم غير معلّم)([13])، بمعنى أن علمك بحالي يغني عن السؤال، ولا يحتاج إلى تعليم أو إلى إعلام([14]). ولا علاقة له بكون علمه تعالى لَدُنّياً أو غير لَدُنّي.

كما ورد في الدعاء أيضاً: (فإنك عالمٌ بكلّ معلوم غير معلّم)([15]).

وكذلك قوله× في الدعاء للحجّة#: (وأمرك ينتظر، وأنت العالم غير معلم بالوقت الذي فيه صلاح وقت وليّك)([16]).

ب ـ قول خالد بن الوليد لأمير المؤمنين×، لما بعثه أبو بكر إليه؛ ليأتي به للبيعة: (يا أبا الحسن، أنت فهم غير مفهَّم، وعالم غير معلَّم، فما هذه اللوثة التي بدرت منك)([17]). وعليه فإن مثل هذا الأسلوب واردٌ في كلام العرب، ولا يُراد به أكثر من معناه العُرْفي الظاهر.

النتيجة

إن النصّ المذكور على تقدير صدوره عن الإمام السجاد× لا يعني في ميزان اللسان والعرف العام أكثر ممّا ذكرناه في التفسير الثاني. ولو تنزّلنا ورفعنا اليد عن هذا التفسير فلا أقلّ من احتماله، ومعه يكون النصّ مجملاً، ولا يمكن استظهار المعنى الأول منه على أيّ حالٍ.

 وهنا ينبغي التنبيه إلى أن إنكار دلالة هذا النصّ على التفسير الأوّل (العلم اللَّدُنّي) إنما هو بلحاظ النصّ المذكور خاصة، لا مطلقاً. فلو ثبت علمها اللُّدُنّي بدليلٍ آخر فالدليل هو المتَّبع، وخصوصاً في مثل مسألة مقامات الأولياء، التي هي من سنخ المسائل التوقيفية، التي لا تعلم عادةً إلاّ من جهة الدليل الخاصّ؛ لأن الله تعالى هو العالم بأوليائه ومراتبهم وشؤونهم. ولذا لا بُدَّ من اتّباع الدليل الخاصّ في ذلك.

النصّ الثاني

هو قول الإمام الحسين× ليلة العاشر من المحرّم لأخيه أبي الفضل العباس×، عندما زحف معسكر ابن سعد نحو الحسين×: (عباس، اركب بنفسي أنتَ يا أخي، حتّى تلقاهم وتقول لهم: ما لكم، وما بدا لكم، وتسألهم عمّا جاء بهم)([18]). فقد فدّاه الإمام بنفسه، وطلب منه أن يكلِّم القوم، وينظر ماذا يريدون.

وهنا ربما يخطئ البعض في فهم هذا النصّ، فيحاول أن يستدلّ به على عصمة العباس×، باعتبار تفدية المعصوم له بنفسه، والمعصوم لا يفدي نفسه لغير المعصوم؛ لأن نفسه هي أشرف النفوس.

 وبالطبع فنحن في هذا المقام لا نريد أن نبحث في أصل عصمة العباس×؛ لأنها خارجةٌ عن محلّ البحث، بل نريد مناقشة استفادة العصمة من هذا النصّ فقط، فنقول:

إن هذه الاستفادة بعيدةٌ عن النصّ المذكور، وعن سياقاته ودلالاته العرفية، فيكون من تنزيل الكلام على غير معناه؛ وذلك لما ذكرنا من جَرْي الأئمة^ في حواراتهم مجرى العرف، وقد استخدم عرف أهل اللغة أسلوب التفدية من الأدنى إلى الأعلى، وبالعكس أيضاً، وهو نوعٌ من إظهار المودّة والمحبة، ولا يحمل أبعاداً أو معاني عقائدية أو غير ذلك. وإليك بعض الشواهد الروائية في هذا المجال:

1ـ روى محمد بن قيس أنّ النبيّ| رجع من بعض أسفاره، فدخل على ابنته فاطمة÷، فرأى أنها صنعت مسكتين من ورق ـ أي فضّة ـ وقلادة وقرطين وستراً لباب البيت؛ لقدوم أبيها، فغضب النبي| من ذلك، وخرج، فنزعت فاطمة÷ القلادة وقرطيها ومسكتيها والستر، وبعثت به إلى أبيها|، وقالت: ليجعله أبي في سبيل الله، فقال| ثلاث مرّات: فعلت، فداها أبوها([19]).

 2ـ روى أبو علقمة موسى بن هاشم قال: صلّى بنا النبيّ| الصبح، ثم التفت إلينا، وقال: معاشر أصحابي، رأيت البارحة عمّي حمزة بن عبد المطّلب وأخي جعفر بن أبي طالب رضي الله عنهما، وبين أيديهما طبق نبق، فأكلا ساعةً، ثم تحوّل النبق عنباً، فأكلا ساعة، ثم تحوّل العنب رطباً، فأكلا ساعة، فدنوت منهما، فقلت: بأبي أنتما وأمّي، أيّ الأعمال وجدتما أفضل؟ فقالا: فدينا بالآباء والأمهات، وجدنا أفضل الأعمال الصلاة عليك، وسقي الماء، وحبّ علي بن أبي طالب×([20]).

3ـ ورُوي في حديثٍ طويل أن الحسين× جاء في صغره إلى أمّه ذات يوم، فقال لها: (يا أمّاه، إن جدي ملّني من كثرة تردُّدي إليه، قالت: فداك نفسي، لماذا؟ قال: يا أماه، جئت أنا وأخي إلى جدّنا لنزوره…، إلخ)([21]).

4ـ روى محمد بن مسلم قال: دخل أبو حنيفة على أبي عبد الله×، فقال له: رأيت ابنك موسى يصلّي والناس يمرّون بين يديه فلا ينهاههم، وفيه ما فيه، فقال أبو عبد الله×: ادعوا لي موسى، فدُعي، فقال له: (يا بنيّ، إن أبا حنيفة يذكر أنك كنتَ صلّيت والناس يمرّون بين يديك فلم تنههم)، فقال: (نعم، يا أبه، إن الذي كنت أصلّي له كان أقرب إليّ منهم، يقول عزَّ وجلَّ: ﴿وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ﴾، فضمّه أبو عبد الله×، ثم قال: (يا بنيّ، بأبي أنت وأمي، يا مستودع الأسرار)([22]).

5ـ روى زكريا بن آدم قال: إني لعند الرضا× إذ جيء بأبي جعفر، وسنّه نحو أربع سنين، فضرب بيده الأرض، ورفع رأسه إلى السماء، فأطال الفكر، فقال له الرضا×: (بنفسي أنت، فيم تفكِّر طويلاً منذ قعدْتَ؟ قال: في ما صُنع بأمي فاطمة÷…،إلخ)([23]).

6ـ نقل عن كتاب كشف اللآلي أن جماعة من الشيعة قصدوا بيت الإمام الكاظم× في المدينة، فكان خارج المدينة، فدفعوا مسائلهم إلى ابنته فاطمة المعصومة÷، فأجابت، ثم لما خرجوا لقوا الإمام× بالأجوبة، فقال ثلاث مرّات: فداها أبوها([24]).

والحاصل من هذه الشواهد وغيرها أن أسلوب التفدية أسلوبٌ متداول عند العرب في محاوراتهم، والأئمة^ كانوا يجرون في حواراتهم العرفية والشرعية على مقتضى سياقات البيان العربي.

الخاتمة

إن من المهمّ جدّاً في التعامل مع النصوص وقراءتها تحكيم المنطق العلمي، والتجرّد عن كافة المؤثّرات، التي قد تؤدّي إلى القول بغير علمٍ في تفسير النص الديني.

ختاماً ننوّه إلى أن المناقشة في النموذجين السابقين لا يعني بوجهٍ المسّ بالمكانة الشامخة لأهل البيت^، وما لهم من المقامات العظيمة الثابتة بالدليل القطعي الواضح، الذي لا يمكن إنكاره. وإنما هو محاكمةٌ لبعض الاستظهارات التي تحاول أن تثبت بعض المقامات لهم^ من نصوصٍ رُبَما لا تكون ظاهرةً في ذلك، بحيث يكون الأمر تحميلاً على النصّ، أو مبالغة في تفسيره؛ فإن الكلام إنما هو في هذا النحو من الاستظهار المتأثّر بالبُعْد العاطفي، لا في أصل الكبرى، التي هي من القطعيات الثابتة.

الهوامش

(*) أستاذٌ وباحثٌ في الحوزة العلميّة في مدينة قم، وعضو هيئة تحرير مجلّة فقه أهل البيت^.

([1]) الاحتجاج 2: 31.

([2]) وفيات الأئمة: 238، وفيه رسالة بعنوان: وفاة السيدة زينب الكبرى، للقطيفي، نقلاً عن: أسرار الشهادة.

([3]) المصدر السابق، نقلاً عن: زينب الكبرى، للشيخ جعفر النقدي.

([4]) المصدر السابق.

([5]) المفيد، الأمالي: 323.

([6]) الاحتجاج 2: 31.

([7]) لعلّ الشائع والمرتكز في الأذهان أنه حديث عن النبيّ| يصف به نفسه، ولكنه ليس كذلك.

([8]) وسائل الشيعة 27: 83، باب 8، ح25.

([9]) علل الشرائع: 182.

([10]) علل الشرائع: 182.

([11]) الاحتجاج 2: 31.

([12]) كامل الزيارات: 445.

([13]) مصباح المتهجّد: 287.

([14]) شرح أصول الكافي 10: 508.

([15]) مستدرك الوسائل 4: 302.

([16]) كمال الدين: 512.

([17]) بحار الأنوار 29: 53.

([18]) تاريخ الطبري 6: 137؛ البداية والنهاية 8: 176.

([19]) مدينة المعاجز 3: 35.

([20]) مدينة المعاجز 3: 35.

([21]) الشريفي، كلمات الإمام الحسين: 34.

([22]) وسائل الشيعة 5: 136.

([23]) خاتمة مستدرك الوسائل 1: 124.

([24]) نقل ذلك السيد نصر الله المستنبط، صهر السيد الخوئي، عن كتاب كشف اللآلي، لابن العرندس، من علماء القرن التاسع، المخطوط في مكتبة التستريين في النجف الأشرف.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً