قراءة في كتاب «المجالس السَّنيّة في مناقب ومصائب العترة النبوية»
أ. حسين العباسي(*)
ترجمة: نظيرة غلاّب
مدخل ــــــ
يرى علماء الشيعة أنه إذا نظرنا إلى العصمة بلحاظ الزمان فإنّها تشكِّل دورة تاريخية في حدود 273 سنة. ابتدأت من البعثة النبوية الشريفة، واستمرت إلى غيبة الإمام المهدي#. وقد اعتبرت خلالها سيرة المعصومين^ إمداداً لوجيستياً وروحياً لكل الشيعة المخلصين، ولكل علماء المذهب الرساليين. فسيرة المعصومين الأربعة عشر^، بكل ما تشكلت منه، من أعمال وأقوال وتقارير، هي في حقيقتها لوحة واحدة، لا ازدواجية فيها بلحاظ وحدة المنبع. لقد كان الشاهد على هذه الفترة من الزمان ومن عمر البشرية جمع من صحابة النبي الأكرم‘، ومن بعدهم صحابة الأئمة المعصومين، الذين واكبوا سيرتهم في كل الحالات، حالة السلم والحرب، حالة التفاعلات السياسية والاجتماعية. وقد رأوا وسمعوا وعاينوا مباشرة كل تلك الفترة بكل أحداثها ووقائعها. رأوا المعصومين في المحراب، كما رأوهم في ميدان الحرب، وفي مواجهة الأعداء، بمختلف الطرق والوسائل، فاحتفظوا بها في قلوبهم، وتناقلوها شفاهياً، رجلاً عن رجل، إلى أن دخل عصر التدوين، ليسعى البعض منهم إلى تقييدها بالكتابة. ولربما استطاعت يد التحريف أن تطال شيئاً من تلك الكتابات، بعد أن وجدت الأسباب الموضوعية لذلك، فكان عدم وصول الإدراك البشري لعمق كلمات المعصومين، وعدم درك القصد الحقيقي لفعل المعصوم. وأحياناً كان الجهل بالداعي الموضوعي للحديث، أو كان البعد الزماني والتاريخي، وتطور اللغة، ولربما أيضاً كان الحب الأعمى والإفراط فيه، سبباً في التحريف، سواء اللفظي أو المعنوي. كما كان التحريف ـ وفي اغلب المواقع ـ ناتجاً عن أغراض حقيرة ودنيئة، سوَّلتها النفس الشيطانية لكل الحاقدين وأعداء أهل البيت^ طوال التاريخ، وبالذات طوال مدة التدوين، وجمع الروايات. وقد سعى الفقيه المجتهد المقتدر السيد محسن الأمين في كتابه «المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية» إلى إعادة تدوين تاريخ الإسلام، وبالأخص تاريخ كربلاء، بحيث يبتعد عن كلّ ما فيه من زيادة أو نقصان، مستـنداً إلى الروايات المعتبرة، والرواة الثقات.
مقدمة ــــــ
إن القرآن الكريم واحد في ذاته، وفي موضوعاته. ولا يمكن النظر إليه إلا في إطار هذه الوحدة، ولا يمكن سلب مفرداته وألفاظه، وحتى آياته، من وحدة سياقها. وإن محاولة فهمها في معزل عن كل القرآن تشكِّل في النتيجة ابتعاداً، بل انحرافاً، عن المعنى الحقيقي والمراد الواقعي لتلك الآيات والعبارات. وقد خرج الكثير من المفسِّرين والمترجمين للقرآن عن السبيل؛ بسبب عدم دركهم لهذه الوحدة، وذهابهم إلى تحميل الآيات غير معناها.
وكذلك هو الأمر بالنسبة للمعصومين. فهم القرآن الناطق، والواسطة في الفيض بين السماء والأرض. فكانت سيرتهم بكلّ حركاتها وسكناتها وحدة وكلاًّ كاملاً، لا يمكن فصل جزء منه عن الآخر، ولا يمكن فهم قولهم بعيداً عن فعلهم، ولا درك كنه تقريرهم بعيداً عن كلامهم وفعلهم، بل لابد من النظر إلى كلّ وحدة من وحدات تلك السيرة ضمن الكلّ الذي لا يتجزأ. وأيُّ حذف أو تغيير في ما روي عنهم يصبح واضحاً إذا نظرنا إليه من خلال نظرة شاملة تجتمع فيها أخلاقهم، وأعمالهم، ونهيهم، وأمرهم. فكل سيرة المعصومين الأربعة عشر في وحدتها مدرسة ذات هدفٍ واحدٍ. ولهذا فإنّ أية محاولة لفهم القرآن وسيرة النبي الأكرم‘ والأئمة المعصومين، بعيداً عن تلك النظرة الكلية، تعد محاولة للدفاع عن المقدَّس بغير المقدَّس.
وهذه الدعوة ليست في حدّ ذاتها دعوة لضرب كل التفاسير وكل الاستنباطات بعرض الحائط، بل المراد هو الابتعاد عن تصنيع الأحداث وتأليفها، والخروج بها من الواقعية إلى اللاواقعية، وكذا العزوف عن كل محاولة لتنميق وتزويق الوقائع بقصد الإثارة والانفعال. فالمراد هو إيصال ذلك التاريخ، من غير تحريف أو تدليس، وخصوصاً أن الشاهد على تلك المرحلة من حياة الأمة هو الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وروايات المعصومين الصحيحة، بشكل تكون ميزاناً يعرض عليه غيره.
والتحريف بمعنى الانحراف والميول إلى طرف دون آخر. وتحريف الكلام تغيير معناه، وهو قريب الشبه. وبمعنى آخر: إظهار المعنى المحتمل، وعزل المعنى الصريح من دائرة الضوء، في محاولة للتشويش على العقل، وإبعاده عن الفهم الحقيقي لمراد المخاطب. ويحتاج العمل على رفع تلك التحريفات التي طالت الوقائع التاريخية والأحداث الدينية والمذهبية إلى مجهودات عظيمة وجبارة. كما أن ما بذله العلماء والباحثون في هذا الميدان إلى يومنا هذا يستحق ـ بحقٍّ ـ التنويه والتقدير.
مناهج العلماء في مواجهة تحريفات عاشوراء ــــــ
ومن خلال استقرائنا للمناهج التي اتّبعها هؤلاء الأعلام في تعاملهم مع ذلك النوع من التحريفات يتضح لنا منهجان:
1ـ إن من العلماء مَنْ عمل على إبراز مواضع التحريف، وسار في كشف الستار عن كل الزيادات والنقائص التي لحقت المتون التاريخية وغيرها. ومن هؤلاء: الأستاذ الشهيد العلامة مرتضى مطهري في كتبه: «السيرة النبوية»، «الحماسة الحسينية»، «أصل الاجتهاد في الإسلام»، «عشرون قولاً»، «الحق والباطل»، «إحياء الفكر الإسلامي». فقد سعى ضمن ما أملته احتياجات الفترة إلى كشف المقبول وغير المقبول من الأحداث والوقائع التاريخية، وبيَّن حقيقة بعض المفاهيم الخاصة بالسلوك وحدودها المعقولة والمقبولة شرعاً. وكمثال على ذلك: فلكي يبيِّن المعنى الحقيقي للزهد انطلق من مناقشة سلوكيات وأخلاق بعض مَنْ كانوا يختبئون تحت عناوين الزهد، فكان أن طرح كلّ مفرداتهم، وكلّ ما يعرضونه من مفاهيم وصور وسلوكيات على أنها إسلامية، للبحث، وأظهر ما كان فيها التحريف والتصحيف، ليخلص القارئ معه إلى المفهوم الحقيقي للزهد، وغيره من المفاهيم التي تناولها بالدرس والبحث.
2ـ وعمل قسم آخر من العلماء الرساليين على إظهار الأساسيات الصحيحة والواقعية، والموازين العقلية والشرعية، لكلّ حدث تاريخي، لتصبح ميزاناً يعرض عليه كل ما يحكى، أو يتمّ سرده، من الوقائع والأحداث. وحسب هذا الاتجاه فإن كلّ ما غاير تلك القوالب، سواء بالزيادة أو النقيصة، يعدُّ تحريفاً للنصّ الواقعي.
وقد اختار العلامة السيد محسن الأمين المسلك الثاني في كتابه «المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية». فقد كثر في زمانه التحريف اللفظي والمعنوي للكثير من الوقائع والأحداث التاريخية، فانبرى، من خلال هذا الكتاب، لإزالة اللبس عن تاريخ المعصومين^، بدءاً من النبي الأكرم‘، إلى خليفته بالحق قائم آل محمد#.
وقد تسلَّح العلامة محسن الأمين في هذا الكتاب بالاعتماد على المصادر التي هي مورد اعتماد علماء الشيعة وأهل السنة، وبالاحتياط في تعامله مع المتون التاريخية القديمة.
ويعدّ كتاب «المجالس السنية» نموذجاً قلّ نظيره في مجال التاريخ. وقد سعى إلى إبراز سيرة المصطفى‘ وسيرة المعصومين من ولده^ في إطارها الصحيح، وبالاعتماد على النقاط المهمة في مجال تربية وإصلاح الأمة. فالتعرض لهؤلاء المعصومين^، وذكر الخصال الراقية التي تجلَّت في كل واحد منهم^، وكذا إظهار التضحيات المقدَّسة التي بذلها أصحابهم المنتجبين، وخصوصاً أصحاب الإمام الحسين×، كفيلةٌ بزرع روح الإخلاص والتفاني في سبيل إعلاء كلمة الحق والسير إلى الله. كما عمل الكتاب على أن تكون تلك السيرة الشريفة جديدة لا تبلى.
فصول «المجالس السنية» ــــــ
لقد عرض «المجالس السنية» مناقب ومصائب أهل البيت^ في خمسة فصول. وقد طبع في مجلدين: المجلد الأول: تشكل من أربعة أجزاء. وقد تناول فيه تاريخ الإسلام في الصدر الأول، ولاسيما مصيبة كربلاء، وما يستخلص منها من العبر والدروس؛ المجلد الثاني: تطرَّق فيه الكاتب إلى حياة ووفاة النبي الأكرم‘، وحياة سيدة نساء العالمين فاطمة الزهراء÷، وكذا تناول بالدرس أحوال الأئمة الأطهار، بدءاً من أمير المؤمنين، إلى آخر ولد من أولاده المعصومين^.
فكان الجزء الأول من الكتاب في ولادة وشهادة كل ما يتعلق بحياة الإمام الحسين×، إمامته، ألقابه، وكناه، وكل ما من شأنه التعريف أكثر بالإمام الحسين×. وكذا عرض فيه حوالي مائتين وسبعين خطبة، دارت كلّها حول عاشوراء وما واكبها من التضحيات.
وقد تنوعت عدّة السيد محسن الأمين في عرضه لهذا الجزء، حيث استفاد من الآيات القرآنية، والأحاديث النبوية، وروايات المعصومين، والأشعار، والآثار التاريخية. كما لم يغفل عن الأدعية والمناجاة. وبمعنى آخر: إنه استفاد من كل ما من شأنه الإشارة إلى حياة الإمام الحسين×، من ولادته، وشهادته، واستمر إلى عودة موكب آل النبي‘ إلى المدينة، وكذلك كلّ ما يتعلق بحياة وشهادة باقي المعصومين×.
ويشار إلى أن السيد محسن الأمين قد اضطر إلى جمع بعض المراثي الحسينية في كتاب «الدر النضيد في مراثي السبط الشهيد»، لكي تكون في متناول خطباء المنبر الحسيني، يستفيدون منها في خطبهم ووعظهم.
وقد اختص الجزء الثاني والثالث والرابع من الكتاب بذكر مناقب أهل البيت، وغزواتهم، ومواعظهم،وحكمهم، وأخلاقهم، وما قاله بعض السلف الخيِّر ـ بشكل مختصر ـ فيهم، وما جاء في الكتب التاريخية المعتبرة.
ميِّزات في الكتاب ــــــ
لقد سعى إلى عرض واقعة كربلاء بعيداً عن الحشو والخرافة التي لازمتها في كثير من الأخبار والكتب. بل يمكن عدُّ الكتاب ثورة حقيقية على كل أشكال السرد والخطابة والإخبار عن واقعة كربلاء التي كانت سائدة في زمانه وفي وسطه الاجتماعي، وحتى في بعض الأوساط العلمية والدينية. ونستخلص ذلك صراحةً من خلال ما جاء في مقدمة وخاتمة كلّ جزء من أجزاء الكتاب، حيث أشار إلى أن أصحاب المنابر والخطباء والشعراء وكل المشتغلين في مجال ذكر مصائب ومراثي أهل البيت، وبالخصوص مصيبة الحسين بن علي بن أبي طالب×، قد وجدوا لتخيلاتهم وظنونهم وكل ما جادت به قرائحهم من صور لكربلاء حقيقةً يضيفونها للتاريخ، مساهمين ـ عمداً أو جهلاً ـ في الكذب على التاريخ، ووضع الروايات والأخبار، ومساهمين في مزيد من تجهيل عقل الأمة. إن الرغبة في إثارة العواطف، واستمالة القلوب، وسكب الدمعة، لا يشفع لمَنْ يزيد في الأحاديث والروايات ما ليس منها، ولا يقبل ممَّنْ يضيف أو ينقص من التاريخ شيئاً، ولن يقبل من أيّ أحد، عدم التدقيق في الروايات والكتب التي ينقل عنها؛ فإن مطبّاتهم وأخطاءهم تلك قد فتحت المجال أمام الناقدين بمختلف توجُّهاتهم، ودفعت بالكثير منهم إلى إنكار كل ذلك، بل فتحت المجال للمساس بقدسية بعض الأحداث، والتشكيك في مصداقيتها. وهي بفعلها ذاك تخالف كل المعايير والأخلاق الإسلامية. فكثيراً ما شدَّد النبي الأكرم‘ على النهي عن الكذب مهما كانت الغايات، وكثيراً ما أمر المعصومون بتحري الصدق واليقين في نقل الأقوال والأفعال، حتى ولو كانت لعدوٍّ.
بل إن الكذب على النبي وأهل بيته^ من أشد المنكرات، ويستلزم غضب الرحمن. فالله سبحانه وتعالى قد أغلظ القول في حقّ كلّ كذاب آثم، وكرَّر الله سبحانه وتعالى كثيراً في كتابه العزيز، وعلى لسان نبيه محمد‘ ولسان المعصومين، أن الكذّاب لا حرمة له في الدنيا؛ فهو مفتاح كل خطيئة، ولا شفيع للكذّاب في الآخرة، فالله طيب لا يقبل إلاّ الطيب.
ومن موقع العالم والفقيه اعتبر السيد محسن الأمين كلّ ضرب للرأس أو للصدر مسبِّب ضرراً بالبدن حراماً وجزءاً من الأعمال المحرَّمة، التي يزيِّنها الشيطان للبعض تحت عناوين مختلفة، ولا علاقة لها مطلقاً برضا الإمام الحسين× بل هو منها بريء. فالحسين× خرج للإصلاح في أمة جدّه رسول الله، متمسكاً بما أتى به جده‘، يحلّ حلاله، ويحرّم حرامه، وقد حرَّم الرسول الأكرم‘ إلحاق الأذى بالبدن والنفس.
ولم يصدر عن زينب الكبرى÷، بل كل نساء كربلاء، مطلقاً ما تناقلته بعض الكتب وبعض المنابر، من أنّهنّ شققنَ الجيوب، ولطمنَ الخدود، حتّى خرج منها الدم، فإن كل هذه الادعاءات وما شابهها كَذِبٌ وافتراء على أهل بيت العصمة، وعلى نساء الركب الحسيني، وهتكٌ لحرمة أهل بيت الطهارة. ومما يؤسَف له اليوم أن تصدر تلك الادعاءات في كل مواقع التعزية لأهل بيت الرسول‘، فهي فوق كونها كذباً وافتراءً تجعل مصداقية المنابر في مهب الريح. وإذا كان الغرض هو التعبير عن مواساة أهل البيت، والتقرب إليهم، فإن الاقتداء بهم هو أقرب وأصح الطرق. فقد روي عن الإمام الرضا× أنه قال: «كان أبي إذا دخل شهر محرَّم لا يُرى ضاحكاً، وكانت الكآبة تغلب عليه، حتى تمضي منه عشرة أيام، وإذا كان يوم العاشر كان ذلك اليوم يوم مصيبته وحزنه وبكائه، ويقول: هو اليوم الذي قتل فيه الحسين×.
ينطلق العلامة السيد محسن الأمين من هذه الرواية ليقول: إنها لم تكن في مقام الحديث عن حال الإمام في العاشر من المحرم فحسب، بل كانت في مقام ترسيم حدود الحزن والبكاء على الحسين× والطريقة التي يجب أن يكون عليها. و كل خروج عن تلك الحدود هو في حقيقته خروج عن الشرع، وتجاوز لحدود الحلال والحرام.
وقد جعل السيد محسن الأمين هامش الكتاب مكاناً هاماً، حيث تطرَّق فيه إلى ترجمة المفردات القديمة وقليلة الاستعمال. كما طرح فيه اختلافه النظري مع باقي الأعلام حول مسألة من مسائل الكتاب، وميداناً يتعرف من خلاله القارئ على مواقف الشيعة والسنة حول مسألة ما.
وقد تنوع أسلوبه في الكتاب. فقد يستند على كتب الزمخشري في نقله لمناقب أهل البيت^؛ وقد ينظر إلى مفردة من مفردات الكتاب من جهة الصرف والنحو، أو طرق التلفظ بها، ومرادفاتها في اللغة العربية، ولربما يجلب نظر بعض العلماء، فينتقدها، ويبيِّن الصحيح والسقيم فيها، ويأتي لرأيه ببرهان ودليل؛ وقد يحرص على إرشاد الخطباء وأصحاب المنابر بخصوص موضوع ما. فمثلاً: ضمن خطب المجلَّد الأول من الكتاب يعطي بعض الوسائل التي تساعد الخطيب على التوسُّع في خطبته، كقوله: أضِفْ هذا الجزء، أو اجعل هذا الشعر هنا أو هناك. كما أنه طرح في نفس القسم من الكتاب بعض الروايات التي تروي كيفية استشهاد أبي الفضل العباس، وبيَّن الصحيح منها وغير الصحيح.
وقد حرص السيد محسن الأمين في جميع هوامش الكتاب أن يكون أميناً في تعامله مع كلّ المصادر التي اعتمدها، والآراء التي أوردها في الكتاب لعلماء آخرين، حيث كان في كلّ الهوامش يذكر اسمهم، واسم الكتاب الذي نقل عنه. وكذلك كان متحمِّلاً للمسؤولية العلمية حيال كلّ آرائه، فكان يشير إليها بـ«المؤلف». ولعل هذا السلوك من الطرق التربوية الناجعة، ودعوة غير مباشرة من طرف الكاتب للخطباء، الذين كثيراً ما وجَّه إليهم القول ضمن هذا الكتاب، ليحذوا حذوه، وتكون الأمانة العلمية نهجهم، وأن يتجنبوا السرقات العلمية.
قراءة في أجزاء الكتاب الخمسة ــــــ
الجزء الأول ــــــ
تم الانتهاء من هذا القسم في صبيحة يوم السبت الثاني عشر من ذي القعدة لسنة 1343هـ، في دمشق. كما تم الانتهاء من تنقيحه وإعادة النظر فيه؛ لأجل الطباعة الثانية، في يوم الجمعة لخمسة عشر يوماً خلت من شهر ذي الحجة من سنة 1350هـ، في منطقة شقرا في جبل عامل. وللمرة الثالثة يعاد النظر في الكتاب، فيحذف منه، ويزاد فيه، في دمشق، وذلك في اليوم الرابع عشر من شهر رمضان لسنة 1364هـ، لتخرج الطبعة الخامسة بجهد كبير من السيد حسن الأمين، نجل السيد محسن الأمين. وكل هذا التنقيح لكل طبعة جديدة من الكتاب دليلٌ على اهتمام المؤلِّف، وجدّيته في هذا المشروع العلمي.
اشتمل هذا الجزء على خمس وتسعين خطبة، ابتداءً من الصفحة 8 إلى الصفحة 163. وقد ابتدأ هذا الجزء من ولادة الإمام الحسين×؛ دفعاً لأي خلط أو شبهة بينه وبين تاريخ ولادة، ومدة عمر، أخيه الإمام الحسن×، وكذا عمل على رفع أي إبهام يساور أي حدث من الأحداث المتعلِّقة بحياة الإمام الحسين×.
وقد ركَّز المؤلِّف على الروايات التي رواها أبناء الإمام الحسين عن أبيهم ×، حتى يحدِّد بدقة مدة عمره، وإمامته، وتاريخ ولادته، وشهادته، وانصياعه واحترامه لأوامر أخيه الإمام الحسن، وخاصة في ما يخص صلحه مع معاوية، وألقابه، وشعراءه، وعدد أولاده ذكوراً وإناثاً، وتاريخ وفاة أو شهادة كلٍّ واحد منهم، واختلاف العلماء حولهم. فهو أولاً يطرح نظره ودليله، ثم يعقِّبه بنظر العلماء الآخرين، ثم يبيِّن نقاط الاختلاف في الرؤى بينه وبينهم، وعلة هذا الاختلاف. وقد يشير إليه في نفس المتن، أو في هامش الصفحة. وفي بداية هذا الجزء الأول من الكتاب، الخاصّ بواقعة كربلاء والإمام الحسين بن علي×، إشارة لأهمية هذه الواقعة ومصيرها المحتوم.
لقد تحاشى السيد محسن الأمين في هذا الجزء التعصُّب الأعمى، فخاض الموضوع بعلمية، حيث خلا هذا الجزء بالذات من كل صور اللعن والشتم، التي كثيراً ما تكون مدعاة لتنفُّر النفس السليمة، كما تكون سبباً في إعراض الذين يختلفون معنا في الرأي عن الانفتاح على كتبنا ونتاجنا الفكري. فحتى في إعلان البراءة من قتلة الحسين× اكتفى بإيراد الآيات، حتى يكون لكل واحد يؤمن بحقانيتها أن يحكم بنفسه على هؤلاء القتلة، وأن يتَّخذ موقفاً عقلائياً، بعيداً عن دفعات الشحن العاطفي.
إن إكرام النبي الأكرم‘ للحسنين، وحنوّه عليهما، نموذجٌ لكل المؤمنين في التعامل مع الأطفال، والإحسان إليهم. وقد أشار السيد محسن الأمين إلى هذه النظرية بشكل إرشادي. كما أنه ابتعد عن تعيين أسماء بعض الأشخاص الذين بادروا إلى إلحاق الأذى بأهل بيت النبي الأكرم‘، واكتفى بالإشارة إليهم بضمير الغائب، أو بصيغة المجهول، كقوله «فأخوك وابن عمك علي قتلوه، وهو يصلي في محرابه، وولداك الحسنان، اللذان فديتهما بأبيك وأمك، قتل أحدهما بالسمّ الذي دسّّّّ إليه…، وأخوه الحسين قتل بضرب السيوف، وطعن الرماح، ورمي السهام…». ولعل الإبقاء على اسم الفاعلين مبهماً وغائباً أبلغ من إفشائه، وأدق في تصوير الفاجعة وتعظيم الجريمة التي ارتكبها حاكم دمشق في حقّ أهل بيت الرسول‘، والذين لم يسأل من أجر سوى احترام قرابتهم منه‘.
كما أن خطب الجزء تعطي تصويراً حياً عن كيفية تربية هؤلاء الأطهار، ومدى الحنان والحبّ الذي رضعاه من ثدي العصمة والطهارة، وبالتالي سيكون مثالاً يحتذى به. فالزهراء÷ كانت مثالاً وقدوة في حبّ الأم وحنانها، واحترام مشاعر الطفولة، فقد كانت تلاعب وتداعب الحسنين، وتقرأ لهما الأشعار، وتلعب معهما… وكذا كان تعامل الرسول‘ معهما؛ وكيف أن هذين الطفلين سيخرجان للمباهلة، و أن بعض الآيات القرآنية ستنزل فيهما خاصة، كآية ﴿هَلْ أَتَى﴾؛ وكيف أن نفس هذين الطفلين سيكونان موضع أذية وعنف البعض، ممَّن كانوا يُحسبون على الإسلام، والذين عاينوا مباشرة كل تلك اللحظات من الحب والحنان، فلم يكن مقامهما بخفيٍّ عنهم، ولا مجهولاً لديهم. كما صوَّر لنا المؤلِّف كل تلك اللحظات، بل لم يغفل ـ وهو في أدق لحظات الإرشاد والدعوة إلى أخذ العبرة ـ عن أن يصور بالعدد وبالإمارات صفّ الجيش الكبير الذي وقف ليقاتل الحسين، وليكون على طرف النقيض لكلّ الآيات، وكلّ أقوال النبيّ وأحاديثه في الحسين×، فكان يناقش بعض الروايات التي تحدثت عن عدد جيش عبيد الله بن زياد، فكان يردّ ما لم يصحّ منها، فاحتراز الصحة والواقعية لم تغِبْ عنه، حتى وهو في مثل هذه الصور الجياشة. وكان يأتي في ختام كل خطبة بنفس شعر الخطبة السابقة، لا لتجييش دمعة، بل للتأكيد على مصير الإنسان، وقدره الذي لا مفرّ منه. ولما كان السيد محسن الأمين يبيِّن أخلاق أهل البيت^ وسجاياهم كان يدعو إلى جعلهم الميزان الذي تعرض عليه كل السلوكيات والأخلاق، ويحدَّد من خلالهم الصحيح من غيره. فهم لم يكونوا مجرد أناس مروا في التاريخ، وانتهوا بموتهم وشهادتهم، بل هم والقرآن الثقلان، ملازمٌ أحدهما للآخر، وهم بالضرورة حاضرون في كل الأزمان، ودورهم شعلة لا تخمد مادام الإنسان على الأرض. ومن هنا يظهر دورهم، وتتضح قيمتهم. لم يكونوا يعيشون لأنفسهم، بل كانوا يعيشون لكل الإنسانية، ولكل المؤمنين بشكل خاص. فها هو الإمام الحسين× يسأل أحد فقراء أعراب البادية، وكان كلّما أجاب ذلك الإعرابي عن سؤال من أسئلته بشكل صحيح يغدق عليه. وكان يقدم للأطفال الذين يحفظون شيئاً من القرآن الهدايا؛ تشجيعاً وتحفيزاً لهم ولذويهم. وكان يقبل هدية تلك الجارية التي تقدم إليه الشيء البسيط بإطلاق سراحها في سبيل الله «أنت حرّة لوجه الله». لقد كان سلوك الإمام الحسين× في كل خطواته، وفي كل مراحل حياته، يقابل خير الناس وإحسانهم ـ وإن قلّ ـ بالإحسان الكثير، فقد كانت تتجلى فيه الآية الكريمة: ﴿وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا﴾. وقد بيَّن السيد محسن الأمين أن سخاء وإحسان الإمام الحسين× قد استمر حتّى في أشد اللحظات وأكثرها عسرة بالمقاييس الدنيوية، ففي كربلاء حيث عمل الحرّ بن يزيد الرياحي وألف رجل من جيش يزيد على منعه من التحرك، وحاصروه، لم تصدر من الحسين× أيّ رد فعل تجاههم، ولم يمنعهم الماء، بل قابل فعلهم بالخير والإحسان، فسقاهم وخيولهم. ليحيلنا السيد محسن الأمين إلى استفسار مهمّ، يفضح فيه سلوك وأخلاق مَنْ حكموا الأمة مدة طويلة من الزمن، ويبيِّن حقيقتهم، حيث قال: «ماذا كان سلوك يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد، وماذا كانت أخلاقهم، في كربلاء؟ ألم يمنعوا الماء عن الحسين؟ بل ألم يمنعوا الماء حتى عن أطفال ونساء الحسين؟!!
ليحملنا بعد كل هذا في المجلس العاشر من هذا الجزء إلى خطبة الإمام الحسين× يطلب فيها من معاوية أن يقضي حاجة أعرابي. ويشير الأمين إلى أن الخطباء في غفلة عن فصاحة وبلاغة الإمام الحسين×، وهو لم يرِثْ من جدّه رسول الله‘، ومن أبيه علي بن أبي طالب×، الشجاعة والكرم والإحسان فحسب، بل ورث فصاحة اللسان، وحسن البيان، وبلاغة اللفظ، وهي منقبة من مناقبه، التي يجب إيصالها إلى الناس.
إن الخطبة السادسة عشرة من الكتاب هي رسالة معاوية إلى الإمام الحسين× يهدِّده فيها، ويتوعده بالويل والثبور، وبعدها يأتي جواب الإمام وردّه على تلك الرسالة. اعترف معاوية في تلك الرسالة بمناقب أهل البيت^، وفضلهم عليه، وعلى سائر الخلق. وقد عمل السيد محسن الأمين على درج مقارنة متقنة بين أخلاق وفضائل أهل البيت وبين حقارة وصغر آل أبي سفيان، وعطشهم للدماء والانتقام. فهذا شهر محرَّم، الذي كان الناس في الجاهلية يعظِّمونه، ويحرِّمون القتال فيه، ومع ذلك تجد آل أبي سفيان في كربلاء لم يقتلوا فحسب، بل قطعوا الأعضاء، وحزّوا الرؤوس، وأسروا أهل بيت النبي‘، الذي بعثه الله ليتمِّم مكارم الأخلاق.
لا جزع، ولا فزع، ولا ندب، ولا خدش للوجوه، ولا تطبير. تلك كانت سيرة الأئمة المعصومين^ في حزنهم على الحسين، وذاك هو سلوكهم في أيام عاشوراء. فالإمام الصادق× كان يدعو لزوار الحسين×، وكان يحثّ أنصاره على زيارة قبر الحسين، ويعلِّمهم كيف تكون تلك الزيارة في أيام عاشوراء. وقد كان بكاء الإمام الصادق× على الإمام الحسين في أيام عاشوراء عظيماً، فهم سفينة النجاة، وهم القدوة، وهم الأسوة، في كل كبيرة وصغيرة . وكان الكاتب دقيقاً في ذكر أسماء جميع الذين استشهدوا في كربلاء، ولم يكن يعتمد على مصدر واحد، بل كان يستند إلى العديد من المصادر، فهو قد يأخذ من ابن شهرآشوب، ولكنّه إذا اختلف معه انتقل إلى المفيد، وآخرين، فينقل الروايات المخالفة للأوّل، وهكذا.
وكذلك كان السيد محسن الأمين أميناً في نقل الأحداث التاريخية مرتَّبة ومنظمة. وكثيراً ما كان يتوجَّه بالشرح للمفردات، ونظم العبارات والجمل في الرواية، حتى تكون الرواية صحيحة. وإذا لفت انتباهه أي إشكال في الرواية، سواء من جهة التصريف أو القواعد النحوية، فإنه يحيل ذلك إلى هامش الصفحة بالتصحيح، وربما بالنقد. وكان يبيِّن أخطاء بعض المؤرِّخين في ما يخص بعض الوقائع والشخصيات. وكمثال على هذا: ما وقع فيه بعض المؤرخين من الخلط بين قيس بن مسهل الصيداوي رسول الحسين× وبين عبد الله بن يقطر رسول مسلم بن عقيل إلى الحسين، حيث اعتبروهما شخصاً واحداً، وهو خلاف الواقع، كما بيَّن ذلك السيد في هذا الكتاب. وقد يلاحظ على السيد محسن الأمين أثناء نقله للروايات أو أشعار وجزل الإمام الحسين وأصحابه، أنه كان يقيِّدها بكلمات «الأظهر»، «والله أعلم»، وهي عبارات عوَّدتنا عليها كتب الفقه، وبالضبط في مقام الفتوى، ولا نجد لهذا تفسيراً سوى أن السيد محسن الأمين لا يرى أي فرق بين شأنية الفتوى التي تجري في معاش وأرزاق العباد وبين شأنية تلك الروايات والوقائع؛ لأن أي خطأ وتحريف بالزيادة أو النقيصة لتلك الروايات والأخبار سيمسّ بقداسة الروح الملكوتية والإلهية لأهل بيت النبي الأكرم‘، وبالتالي ستجعل فكر، بل عقيدة الناس، محلّ ارتباك وشبهة.
ربما لا تسترعي بعض المسائل في سيرة وحياة الإمام الحسين× الاهتمام؛ لصغر شأنها، ولكن السيد محسن الأمين العاملي كان يتوقَّف عندها، ويعتبرها ـ كأشباهها من الحوادث الكبار ـ ذات أهمية، وذات غاية ومقصد. فالحسين×، هذه الواسطة في الفيض، والواصل للأرض بالسماء، كلُّ فعله ذو شأن، وكلُّ حركاته وسكناته موجَّهةٌ إلينا، ولا تجري في فعلهم العبثية. فتحديد السيف قد يراه الكثيرون مسألة عادية يقوم بها أي شخص، ولكن عندما يقوم بها المعصوم، وحين يقوم بها الحسين، وهو في طريقه إلى كربلاء، فإنها تحتاج إلى دراسة وإمعان النظر.
كان الإمام الحسين× قبل بدء المعركة في كربلاء ينادي على نساء أهل بيت النبوة واحدة واحدة، ويوصيهن إذا رأينَه صريعاً بأنْ لا يشققنَ عليه جيباً ولا يخدشن وجهاً وأن لا يقُلْنَ إلا ما يرضي الله. وبلا شكّ فإنه ليس غرض الكاتب من إيراد هذه المواقف، وتكراره أكثر من مرة، تبيين فضائل ومناقب أهل البيت، والإمام الحسين بالذات، فحسب، وإنما غرضه أيضاً تحديد معالم العزاء، والشكل الذي يجب أن يكون عليه.
وقد صحَّح السيد الأمين في هذا الكتاب العديد من الأخطاء الشائعة بين الناس في ما يخص تلفُّظ بعض الأسماء، فالشَّمِر (بفتح الشين وكسر الميم) على وزن كَتِف هو الصحيح، وليس الشِّمْر (بكسر الشين وتسكين الميم).
الجزء الثاني ــــــ
انتهى السيد محسن الأمين من كتابة هذا الجزء من كتاب «المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية» في سنة 1340هـ، وانتهى من إعادة تنقيحه في دمشق في الواحد والعشرين من شهر شوال لسنة 1353هـ. ويتكون هذا الجزء من 134 صفحة، ويشتمل على 54 خطبة. ومن النقاط المهمة في هذا الجزء:
1ـ إن بعض مطالب هذا الجزء هي نفسها التي أتت في الجزء الأول، مع شيء من الاختلاف. وهذا يدلّ على دقّة الكاتب وأمانته في حفظ أقوال العلماء الذين نقل عنهم كاملاً، بدون زيادة أو نقصان. فهو لم يكن طوال صفحات هذا الكتاب متساهلاً مع أي نوع من التحريف، بل يسارع إلى الإشارة إليه كلّما لمحه في هوامش الكتاب وهوامش الجزء.
2ـ يرى السيد الأمين أن الخطب التي يلقيها الخطباء من فوق المنبر مدرسة تثقيفية، ومؤسِّسة لمواقف إسلامية. لذا يجب أن تكون في غاية الصحة، وأن تستوعب كل المفاهيم والمفردات الإسلامية. وقد ركز في هذا الجزء على شرح مفردات التاريخ والثقافة الإسلامية بشكل أكثر كثافة من الجزء الأول.
3ـ تسليطه الضوء في هذا الجزء على الجانب النسوي، وحضوره الفعّال في كلّ أحداث تاريخ الإسلام وواقعة كربلاء.
4ـ إن القصص القرآني ميدان فسيح للمقارنة بين تاريخ أهل البيت^ وبين ما كان عليه حال الأنبياء قبلهم. إن تفسير الآيات، وشرح بعض الألفاظ المشكل في بعض آي القرآن، وحفظ التسلسل في الحكاية عن القصص القرآني، من شأنها إغناء المحاضرات والخطب. فقد ألقت قصة يوسف× بظلالها على هذا الجزء في خمس خطب؛ لتشابهها وقصة الحسين بن علي بن أبي طالب×. كما حضرت كل القصص القرآنية الأخرى. ولا يمكن للقارئ أن يستلهم العبر والمواعظ من تاريخ الأنبياء وتاريخ الإسلام إذا لم يعرض هذا التاريخ بشكله الصحيح.
ولكي يربط الكاتب بين تاريخ الإسلام وواقعة كربلاء في الخطبة 110 لم يكن في حاجة إلى صنع المقدمات، بل انطلق من ليلة المبيت، وكيف أنها ذكّرته بحال بعض أنصار الإمام الذين تعرَّضوا لحادث مماثل: ذكَّرني هجوم أصحاب ابن زياد على مسلم بن عقيل في الكوفة، حين أرسله ابن عمّه الحسين×؛ ليأخذ البيعة من أهلها، بهجوم قريش على علي× في مكة،حين أباته ابن عمّه رسول الله‘ على فراشه». وقد صوَّر السيد محسن الأمين هجوم عسكر عبيد الله على مسلم بن عقيل، وهو وحيدٌ فريدٌ، بعد أن شبَّهه بهجوم كفّار قريش على علي×، واستعمل كلّ الكلمات والمفردات التي تسافر بالقارئ إلى مكان وزمان تلك الواقعة، وكأنّه شاهد حيٌّ عليها. «فالإمام الحسين× ومسلم أبناء عمومة، كما كان النبي‘ وعلي× أبناء عمومة، ومسلم كان نائباً عن الحسين وكان علي× نائباً عن رسول الله‘، وكما وثب الأعداء على مسلم وثبوا على علي×». وقد أصّل لفساد بني أمية، والذي بلغ أقصى ما يمكن أن تعرفه الإنسانية من عدوانية وحقد وتعطش لروح الانتقام في كربلاء. وقد أورد أوجه تشابه الأحداث والوقائع بين زمن النبي الأكرم‘ وما لقيه من الكفار والمشركين، وخصوصاً في مواقع، كوفاة أبي طالب، وليلة المبيت، وهجرة النبي‘ من مكة إلى المدينة، وغزوة بدر وأحد، التي كانت نقطة ميلاد النفاق والتستُّر وراء عناوين الإسلام، بينما كانت القلوب بركاناً يغلي بالحقد والكراهية للنبي الأكرم، ولكل مَنْ يمتّ إليه بصلة. وقد تفجر هذا البركان بعد وفاة النبي، وفاضت نيرانه، لتحرق اليابس والأخضر في كربلاء. وقد عبَّروا يومها عما في قلوبهم بصراحة، فقد كان مبدأهم: هذه بتلك. كما صوَّر الكاتب ذلك التشابه الكبير بين الإمام الحسين ومناصريه، ووقوفهم في وجه الأعداء، وإصرارهم على القتال، رغم أن الحسين× قد أحلّهم من كل العهود والمواثيق، وطلب منهم أن يتستَّروا بظلام الليل، وأن يرحلوا، فإن القوم إنما يطلبونه هو، وبين مواقف النبي الأكرم والفئة المؤمنة في الدفاع عن الإسلام، والسعي في حفظه بكل غالٍ ونفيس.
وقد كان السيد محسن الأمين ـ الفقيه المجتهد ـ دقيقاً في نقله للروايات التي تتحدث عن تاريخ صدر الإسلام، سواء بلحاظ سندها أو متـنها، ولم يكن متعصِّباً لأحد الفريقين. فقد نقل عن مدرسة الصحابة، كما نقل عن الشيعة. وكان يسلِّط الضوء على بعض الأحداث؛ بغرض تصحيحها، كعدد الذين كانوا يستطيعون فتح وإغلاق بوابة خيبر، التي قوَّض أركانها علي بن أبي طالب×. فقد ذهبت بعض الروايات إلى أن عددهم بلغ الأربعين نفراً، ولكن الكاتب لم يشأ نقلها بذلك الشكل، الذي يبتعد بها عن الواقعية، بل أراد أن يتعرض للحادث من خلال روايات أخرى، فنقل: «قال أبو رافع، مولى رسول الله‘: فلقد رأيتني في سبعة نفر أنا ثامنهم نجهد أن نقلب ذلك الباب فما نقلبه».
كما أنه لم يكن يسلك مسلك علماء وخطباء جبل عامل، فلأنهم كانوا يعيشون مع أصحاب الأديان الأخرى؛ ورغبة منهم في التسامح، وحقن الدماء، كانوا لا ينقلون بعض الأحاديث والروايات التي تتحدث عن عدم إيمان أصحاب الأديان الأخرى، أو تتحدث عن نفاقهم، بينما نجد السيد محسن الأمين ينقل تلك الأحاديث والروايات بشرط إحرازها الصحة، ولا يغير من أحداث التاريخ إذا ثبتت واقعيتها وصدقها، غير مكترث برضا هؤلاء أو أولئك.
كثيراً ما يلجأ أصحاب المنابر والخطباء إلى بتر الرواية، والاكتفاء بذكر الجزء الذي يهمهم منها، غير مكترثين إلى سياقها الخارجي، ولا مهتمين بظرفها الزماني والمكاني. لذا فهم يأخذون النتائج من تلك الروايات حسب ما يرتضون. وهذا البتر والاصطفاء يغيِّر من معاني الروايات، ويوقف من مدّها. بينما تعامل السيد الأمين مع الروايات بشكل آخر، فهو ينظر إلى الرواية بجميع جزئياتها، فينقل الرواية كما جاءت في مختلف الكتب، ويجعل آراء وأقوال الآخرين حول الرواية بين قوسين، ومن ثم يعرض جميع ما يحيط بالرواية من أحداث تاريخية سابقة لها، مما يبيِّن الداعي لصدور الرواية، وبالتالي يفهم المراد الحقيقي منها. وكمثال على منهجه: تعامله مع الحديث المعروف في كتب الحديث وغيرها بـ«حديث المنزلة». فكثيراً ما سمعنا هذه الرواية، ولكن غاب عنا الكثير مما يحيط بها، فقد أورد نبذة عن تاريخ ما قبل صدور الحديث: المكان، الأسباب، الأفراد الذين كانوا موضع عتاب النبي الأكرم‘ لما تنصَّلوا من مهامهم التي كُلِّفوا بها. قد يكون الكثير ممَّنْ يقرأون الحديث قد غابت عنهم تلك المقاطع من التاريخ، وبالتالي لم يعطوا أهمية لمقدمات الحديث، ويكتفون بالبدء بقوله‘: «يا علي»، رغم أن تلك المقدمة حملت من المعاني المعبِّرة عن منزلة علي×. وحتى لو لم يكن في العبارة «يا علي» أو «أنت» فإنك أن تعرف أن الخطاب موجَّه إلى هذا الشخص دون غيره . فقد خرج النبي الأكرم‘ في إحدى غزواته، وهي المعروفة بغزوة تبوك، برفقة خمسة عشر ألف رجل من المسلمين، ومجموعة من العبيد، وكانت الحاجة تعوزهم في تلك الغزوة؛ لشحّ السماء بالمطر، وقلة الزاد، حتى أن ذلك الجيش سمي بـ«جيش العسرة»، وقد استخلف رسول الله‘ علياً× على المدينة؛ حتى يحفظها من نعرات المنافقين، التي عرفت نمواً متصاعداً آنذاك، فقد كان النبي الأكرم‘ يخشى أن يقوم المنافقون بعمل تخريبي في المدينة، ولن يجدوا أمامهم مَنْ يردعهم، وخصوصاً أن المسافة بين المدينة وموقع المعركة كانت كبيرة، فأشاع المنافقون عن بقاء علي× في المدينة أموراً؛ إذ قالوا: إنما تركه رسول الله استثقالاً له، وتخفُّفاً منه، سعياً للإثارة، وعسى أن تخلو المدينة لهم، فأسرع علي× فلحق بالنبي الأكرم‘ على مقربة من المدينة، وقال له: «يا نبي الله، زعم المنافقون أنك إنما خلفتني لأنك استثقلتني، وتخفَّفت مني»، فقال‘ : «كذبوا، إنما خلفتك لما ورائي، فارجع فاخلفني في أهلي وأهلك، فإن المدينة لا تصلح إلا بي أو بك، فأنت خليفتي في أهلي بيتي ودار هجرتي. أما ترضى أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى، إلا أنه لا نبي بعدي». ولم تذكر الرواية نهاية للحدث. فقد أطاع علي× أوامر النبي‘، فرجع إلى المدينة حارساً لها من أي ضرر، وخصوصاً أن دعوات المنافقين في التحريض ضدّ النبي قد أخذت موقعها، فقد بدأت أعداد من أفراد الجيش تنسحب مفضِّلةً الرجوع إلى المدينة، كما تخلَّف الكثير منهم قبل الخروج.
والرواية لم تتطرَّق إلى دور المرأة في تلك الأحداث. فبعد أن تخلَّف الثلاثة: كعب بن مالك؛ ومرارة بن الربيع؛ وهلال بن أمية، عن أوامر النبي الأكرم‘، ولم يخرجوا معه في الغزوة، اتخذت نساؤهم موقفاً منهم، فهجرنَهم، ولم يعُدْنَ يكلِّمنَهم بخطاب، فخرج الثلاثة إلى أحد جبال المدينة، مدَّعين أن النبي إنما أمر نساءهم بهجرهم، وأنَّهنّ لن يكلِّمْنَهم إلاّ أن يتوب الله عليهم، مع أن موقف النساء كان موقفا شخصياً. فتلك النسوة لم يكنّ راضيات بتخلُّف أزواجهنّ عن رسول الله، ولا دخل لرسول الله‘ في هذا الأمر. ورغم ما كان منهنّ من الهجران كنّ يحملن إليهم الطعام والشراب، من دون أن يجرين معهم خطاباً أو كلاماً، حتّى نزلت على رسول الله الآية: ﴿وَعَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُواْ حَتَّى إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ…ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ﴾.
وليس هذا كل ما تزخر به الرواية من أحداث، فهناك غيرها مما ذكره السيد محسن الأمين، وكلها أحداث تكشف الوجه الحقيقي للمنافقين، وترفع كل لبس عن حق علي×. والمسألة الأخرى ذات الأهمية في أحداث هذه الرواية أن هناك بعض الصحابة المخلصين، أمثال: أبي خيثمة، وأبي ذر الغفاري، اللذين أرادا الالتحاق بالنبي الأكرم في غزوة تبوك، ولأن النبي‘ كان مطلعاً على نياتهما الصادقة فقد دعا لهما بكل خير، بينما لم يكن هذا فعله‘ مع عدد آخر ممَّن رافقوه في تلك الغزوة. وحصيلة ما حدث، وما ذكره السياق الداخلي والخارجي لرواية المنزلة، أن الإمام علي× استخلف على المدينة وكان ذاك حالها، ولا يمكن إدراك قيمة خلافة علي× وعظمتها ما لم يتمّ تغطية جميع هذه الأحداث وقراءتها، باعتبارها ذاتية لحديث المنزلة. ولم يحصر السيد محسن الأمين أحداث غزوة تبوك وما انتهت إليه في هذا الجزء من الكتاب، بل تابع الحديث عنها ضمن خطبه في الصفحات التالية لكتاب «المجالس السنية»، حيث تطرق إلى خطبة النبي الأكرم‘ التي تناول فيها الحديث عن المنافقين، كما أشاد فيها ببعض الصحابة المخلصين، أمثال: أبي ذر. فانطلق العلامة ليعيد ذكر فضائل هؤلاء الصحابة الخلَّص، حين ذكر أقوال الإمام علي×، وقد ذكرها ابن حديد تحت عنوان: «مناقب أبي ذرّ»، وما لقيه من أذى وعنف من طرف عثمان بن عفان، الذي أمر بنفيه إلى منطقة لا تملك أيَّ مقوم من مقومات الحياة. وكذا ما مارسه عليه معاوية بن سفيان من قهر وتسلط، بينما نجد على الطرف الآخر تلقيه كل أنواع المحبة والتكريم من النبي الأكرم، ومن أصحاب الكساء جميعهم، وبدون استثناء. ومن صور هذا الحب والاحترام والتقدير مناداة الإمام الحسين× له بـ «يا عمي».
لقد دأب السيد محسن الأمين على وضع الروايات في مسارها التاريخي والجغرافي الصحيح، وسلَّط الضوء على كلّ ما عرفته الرواية من أحداث مختلفة، من الصلح، والثورة، والحرب، وكل محاولات المنافقين الرامية إلى إسكات صوت الحق، وصوت الوحي، الذي كان يتنزل على الأئمة الأطهار، الذين كان كلُّ سعيهم الإصلاح في أمة جدّهم رسول الله‘. أحداث تلتقي وتندمج بلحاظ موضوعها، لينجلي الليل على واقعة كربلاء، بحيث إن الأحداث تظهر وكأنها في مقطع زمنيّ واحد، وأفرادها مجموعة واحدة. لقد كان النبي الأكرم والإمام علي شرفاءها في زمن النبي‘، وكان الحسين وأهل بيته شرفاءها في واقعة كربلاء. روايات استخرجها السيد محسن الأمين من أمّهات كتب أهل السنّة المعتبرة لديهم، كصحيح مسلم؛ وشرح ابن أبي الحديد؛ والإصابة في تمييز الصحابة، لابن حجر العسقلاني؛ وإرشاد الساري إلى شرح صحيح البخاري، للقسطلاني؛ وسنن ابن ماجة القزويني، وسنن أبي داود؛ وسنن النسائي؛ وسيرة ابن هشام؛ والسيرة النبوية، لمفتي الشافعية زيني دحلان؛ وشرح صحيح مسلم؛ والفائق، للزمخشري؛ وكفاية الطالب في مناقب علي بن أبي طالب، لمحمد بن يوسف الكنجي الشافعي؛ ومسند أحمد بن حنبل؛ وينابيع المودة، للقندوزي الحنفي. كما أن هناك مجموعة من الكتب الأخرى، التي اضطر الكاتب؛ لعدم حصوله عليها، إلى النقل عنها بواسطة، ككتاب ربيع الأبرار، للزمخشري؛ وصحيح الترمذي؛ والفرائد في فضائل المرتضى والزهراء والسبطين، للشافعي الخراساني؛ وكتاب المناقب، لأبي المعالي الفقيه المالكي.
و يرى السيد محسن الأمين أن معرفة شأن نزول الآيات والأحاديث يكشف عن عمق الأحداث التي عرفتها كربلاء. فغزوة ذات السلاسل، والمباهلة، وقضية حجة الوداع، وحرب الجمل، وغيرها، بكل حركاتها الخارجية والداخلية، مقدّمة موضوعية لكربلاء وثورة الإمام الحسين×، وتكشف للقارئ والمطالع المسكوت عنه من التاريخ.
كما لا يمكن غضّ الطرف عن الحضور الفعّال للعنصر النسوي في كل تلك الأحداث، رغم أن العديد من الكتب حاولت تحاشي الحديث عن المرأة في تلك الوقائع. ومن هؤلاء النماذج القدوة: خديجة زوج النبي الأكرم‘، وفاطمة الزهراء بنت النبي‘؛ وأسماء بنت يزيد، وكانت من الأنصار، انتخبت لتكون الناطق بلسان نساء العرب في محضر النبي الأكرم‘؛ وسفانة بنت حاتم الطائي. نساءٌ مهَّدْنَ ـ في الجملة ـ الطريق أمام المرأة لتدخل التاريخ في كربلاء من بابه الواسع.
كانت الخطبة رقم 145 قد أضيفت في الطبعة الرابعة للكتاب، ولم تكن بيد السيد محسن الأمين، بل من طرف جمع من الكتاب المتخصِّصين؛ لسد بعض ثغرات الكتاب في ما يخصّ واقعة كربلاء. فكان ما أضافوه، ومن وجهات النظر حول واقعة كربلاء، وبعض النقاط التاريخية الأخرى، إشراقة أخرى أضفت على الكتاب رونقاً إضافياً، وخصوصاً أن تلك الأحداث التاريخية من العظمة بحيث تستدعي تعاوناً في محاولة الإحاطة بكل مكوِّناتها، وما أسفرت عنه من وقائع.
كما كان هناك إضافات أخرى للمجلد الثاني من كتاب «المجالس السنية»، فكان المجلس رقم 146، بقلم الأستاذ محمد شرارة، والمجالس 147 و148 و149 و150، بقلم الأستاذ أحمد عباس صالح. ورغم بعض الاختلاف في ناحية بيان الأحداث وشرحها إلا أن الإضافة ـ في الجملة ـ لم تخرج عن الإطار المنهجي لعرض الأحداث في الكتاب، بحيث تطرّق كلا الأستاذين محمد شرارة وأحمد عباس صالح إلى عرض التحريفات اللفظية والمعنوية، وبعض الزيادات والنقائص، التي رافقت عرض الأحداث في الكتب التاريخية، أو تلك التي كانت تصدر من خطباء المنبر الحسيني. وما يمكن ملاحظته على تلك الإضافات الخمس هو غياب ما يصطلح عليه الخطباء بـ«الگوريز»، وهو الانتقال من المحاضرة أو الخطبة إلى العزاء الحسيني. كما غاب الشعر عنها كذلك. فكانت تلك الإضافات خطباً تاريخيةً سعت لإبراز حقائق أخرى لمحيط ملحمة كربلاء، فكان السهم الأكبر موجَّهاً إلى الحديث عن المدينة في عهد التسلُّط الأموي، وثورة الإمام على تلك الأوضاع وزعمائها، ومحاولة بعض أصحاب الإمام إقناعه بعدم الخروج إلى كربلاء، خوفاً عليه، وخصوصاً أنهم كانوا يدركون مدى حقد وكره يزيد بن معاوية وحاشيته للحسين×.
الجزء الثالث ـــــــ
لقد تم الانتهاء من هذا القسم في ربيع الثاني لسنة 1343هـ في مدينة دمشق. وتم إحداث تغييرات وإضافات إليه في الثالث عشر من رمضان سنة 1362هـ، ليطبع في نواحي بيروت في 1969م. وقد وقعت بعض الأخطاء في عرض الخطب في هذا الجزء، بحيث تمّت إعادة الخطب (145 إلى 150). وكذلك أُعيد تكرار الخطبة 144. فيكون بهذا عدد خطب الأجزاء الأربعة من المجلد الأول 270، وليس 263، كما أشير لذلك في نهاية المجلد الأول.
يبتدئ هذا الجزء بالحروب التي خاضها الإمام علي× مع الناكثين والمارقين والخارجين، فحاول الكاتب إيجاد ربط بين كل حدث من أحداثها وواقعة كربلاء، كإيجاد التشابه بين وصول الإمام علي× وأصحابه إلى البصرة ووصول الإمام الحسين وأهل ركبه إلى كربلاء؛ وحبس الماء عن علي× وجيشه وحبس الماء عن الإمام الحسين× وأصحابه وأهل بيته، من نساء ومرضى وأطفال ورضَّع؛ وإخلاص القيادات المخلصة وتفانيها في نصرة علي× وإخلاص أبي الفضل العباس وأهل بيت الحسين وأصحابه الذين رافقوه في تعريض أنفسهم للسيوف والرماح دفاعاً عن الحسين×؛ ودعاء الإمام علي× لآل همدان ودعاء الحسين× لأصحابه والذين كانوا معه؛ وخدعة رفع القرآن فوق الرماح في صفين ورفع رؤوس شهداء كربلاء فوق الرماح.
وحينما وصل العلامة الأمين إلى إحصاء عدد قتلى الأعداء، سواء الذين قتلوا على يدي الإمام علي× وأصحابه، أو الذي قتلوا من جيش العدو في كربلاء على يدي الحسين وأبطال الطفّ، لم يتطرَّق لعددهم؛ خوفاً من مجانبة الصواب، بعد أن اختلفت الروايات في عددهم؛ وخوفاً من نسبة شيء لم يقع إلى بيت العصمة،و اكتفى بالقول: «حتى قتل منهم مقتلة عظيمة».
إنّ الروح المؤمنة الشريفة التي دافعت بكل شيء من أجل خلاص الإنسانية من عبادة غير الله، وجندت نفسها جندياً محامياً عن محارم الله، وضحت بنفسها في سبيل إعلاء كلمة الله، تلك روح رسول الله، التي كانت بين جنبات الإمام الحسين: «حسين مني، وأنا من حسين»، لا يمكن حصرها في أعداد، أو التحدُّث عنها بلغة الأرقام. وكذلك لا يمكن التحدث عن الطرف النقيض من خلال أرقام هنا أو هناك؛ فإن ما قام به يزيد من هتك كلّ الحرمات، والتعدي على دين الله، والجهر بالكفر والفسق من على المنابر، أكبر من أن يحصر في عدد، فإن ما فعله كان قد ورثه عن أبيه، الذي هو من صلبه، ولم يأتِ يزيد إلا بما أتى به معاوية، فيزيد كان امتداداً طبيعياً لمعاوية. بينما الحسين لا يمكن أن يكون إلاّ متمِّماً لما ورثه من أبيه وأمه، فإن المثل العليا والكاملة للإمام الحسين× هي من نبع مثل علي× في صفين وغيرها. وإن قتل الحسين× بأبشع وأوحش صور الإجرام التي يمكن أن تعرفها الإنسانية هو في الحقيقة امتدادٌ لما قام به بنو أمية في حروبهم غير المتكافئة مع الفئة المؤمنة قبل كربلاء.
إن بيان عداوة وحقد المنافقين على أهل بيت النبي الأكرم‘ لم يدفع بالسيد محسن الأمين إلى تحريف الوقائع، أو النقل من الكتب غير الموثَّقة؛ لأن التحريف بالنسبة له خطٌّ أحمر لا يمكن تجاوزه، ولو في الحديث عن الأعداء. كما أن إثارة المشاعر، والرفع من مستوى هيجان العاطفة؛ بقصد إمالة القلوب إلى ما حدث في كربلاء، لم يكن دافعاً للعلامة الأمين، للابتعاد عن العقل والمنطق. بل إن الأشعار التي أتى بها كانت غاية في حفظ الصحة والتوثيق للأحداث، في حين أن الشعر قد يخرج عن ذلك؛ باعتبار طبيعته في استعمال الاستعارة، والمبالغة، وباقي أنواع البلاغة الأخرى.
إنّ الرجز والأشعار التي اختتم بها خطب الجزء كانت في حدود ذكر الحقائق التاريخية، من غير مبالغة أو خيال. فإن الاستدلال في فكر العلامة الأمين يقوم على البرهان، وليس على التمثيل، والخيال، والعناصر الأخرى المسموح بها في صناعات الشعر.
وفي هذا الجزء يدرك القارئ الجذور الحقيقية لعداوة أهل البيت^. فإذا كان اليزيديون لم يتورَّعوا عن قتل وحزّ رؤوس أطفال أهل بيت النبي‘ فإن يزيد امتدادٌ لمعاوية وما فعله في صفّين، بل لما فعله آباؤه وأمهاته في بدر، وحنين، وغيرها من الحروب في المدينة ومكة واليمن، فقد أحكم آل أبي سفيان القتل في شيعة علي× لحبهم علياً×. وكذا كان خلفهم يزيد، ومَنْ ولاّه، أكثر فحشاً وفظاعةً وجرماً.
وقد كان العلامة الأمين منصفاً في ذكره للمرأة، فلم يخلُ جزءٌ من الكتاب من حديث عن المرأة، وما ساهمت به من فداء وتضحية، وما قدمته في طريق الإسلام. فقد دافعت المرأة في أشعارها عن أهل بيت النبي‘، ووقفت في مجالس معاوية، ومروان، ويزيد، وعمرو بن العاص، وسعيد بن العاص، ولم يتملَّكها الخوف ـ ولو للحظة ـ من الدفاع عن أهل بيت النبوة. وقفت مدافعةً عن الحقّ، وسجل التاريخ ـ وإنْ على صفحات هنا و هناك ـ أسماءً خالدةً، أمثال: سودة بنت عمارة بن الأشتر الهمدانية؛ وبكارة الهلالية؛ والزرقاء بنت عدي؛ وأم سنان خثيمة المذحجية؛ وعكرشة بنت الأطرش؛ ودرامية الحجونية؛ وأم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقي؛ وأروى بنت الحارث بن عبد المطلب؛ وامرأة من بني ذكوان؛ وغانمة بنت غانم؛ وآمنة بنت الرشيد، زوج عمرو؛ ونساء اعتقلن في سجون معاوية لأنّهن نادين بالحقّ، ورفضنَ ما يتلوه عليهنّ معاوية وركبه، ورأينَ في علي× صاحب الحق، والامتداد الشرعي لوحي السماء، فاختلف سلاحهنّ. وكان سهم الشعر أوفر، لما كان للشعر من مكانة في الأوساط العربية آنذاك، فقد كان يعادل ضربة بالسيف.
وكان العلامة الأمين في نهاية حديثه عن كل واحدة من تلك النسوة، وما جادت به أنفسهنّ من الشعر، يشير في المقابل إلى واحدة من نساء أهل بيت النبي اللواتي شاركن في كربلاء. فشعر الرباب زوج الإمام الحسين×؛ وخطبة العقيلة زينب÷؛ وردّ سكينة وكلثوم بنتا الإمام الحسين على يزيد، كلّها متشابهة، من حيث الغاية والهدف، وهو الدفاع عن محارم الله.
وقد لازم العلامة الأمين الاحتياط في كل مراحل الكتاب، وحتى في الأشعار. فعندما نقل شعر زوجة حجر بن عدي ـ الصحابي الكبير، الذي قتله معاوية ـ أشار في هامش الصفحة إلى أن البيت الثالث لم يذكره لها المرزباني، وذكر بيتاً آخر بدله ابن الأثير.
وذكر من الرجالات المخلصين أحنف بن قيس، الذي وقف في وجه معاوية، مدافعاً عن علي×. كذا وقف زهير بن القين في كربلاء مدافعاً عن الحسين. وكذا هناك أبو الطفيل عامر بن وائلة، الذي يعدّ من شعراء الإمام علي×، وأحد جنوده الأوفياء. كما ينبغي عدم نسيان قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري؛ ووليد بن جابر بن ظالم الطائي؛ وعمرو بن حمق الخزاعي؛ وعدي بن حاتم الطائي؛ وضرار بن ضمرة؛ وصعصعة بن صوحان؛ وعقيل بن مسلم. وقد كان كلُّ واحد منهم منبراً قائماً بذاته، بحيث مثَّلت أشعارهم حرباً واضحة وعظيمة ضد محور النفاق والكفر، ولا تقلّ بطولتهم عن بطولة مسلم بن عقيل، وحبيب بن مظاهر، والعباس بن علي×، والقاسم بن الحسن×.
وعلى هذا المسار كان حديث الكساء، وآية التطهير، وحديث الغدير، وقضية الزبير، إلى جانب أقوال الصحابة وشهادتهم في علي×، وكتبهم التي استخرجت كلها من كتب السنّة، شاهداً على حقّ علي×. وبمعنى آخر: استند العلامة الأمين إلى كتب السنة في تفسير الآيات والروايات التي نزلت في علي×، وذلك من خلال تفسير ابن عباس، وابن أبي الحديد، وأحمد بن حنبل، وابن عبد ربه، وابن الصائغ المالكي، والمرزباني، وابن قتيبة.
وقد اختلفت الخطب وبعض المجالس في الجزء الثالث عن خطب ومجالس الجزء الثاني، حيث أصبحت أكثر طولاً، وأكثر تنوعاً من حيث مواضيعها.
فابتداءً من المجلس 191 يتطرق الكتاب إلى خصال وفضائل الإمام علي×،إلى علمه؛ وتعبده؛ وشجاعته؛ وحكمته؛ وعدله وإنصافه؛ وبلاغته وفصاحته، بالإضافة إلى قناعته وزهده. وكذا تطرق إلى شهادته، وأصحابه، وأعدائه، وإلى الآيات التي نزلت فيه، والأحاديث والشعر الذي قيل فيه. هذه المناقب والفضائل التي ذكر الكثير منها الإمام الحسين× على مسامع معسكر الأعداء، لكن لا حياة لمن تنادي، فقد كانت لهم آذان لا يسمعون بها، وقلوب لا يعقلون بها، وقد أُشْرِبت قلوبهم حبّ اللات والعزى، وكانوا يحنون إليها في كل لحظات حياتهم، وكان شعارهم: لا رسولٌ أتى، ولا وحيٌ نزل.
إن بنو أمية ـ كما رأى العلامة الأمين، وانطلاقاً من أسانيد تاريخية معتبرة ـ أعلنوا إسلامهم تحت الإكراه، وأُشربت قلوبهم أحقاداً بدرية وخيبرية، وكان فتح مكة وغيرها من الحركات التحررية الرسالية التي قادها النبي الأكرم، ورافقه فيها بالسلاح علي×، عاملاً رئيساً في تأجُّج نار الحقد والبغض في قلوبهم ضد النبي وآله، بل كانت أحقادهم في الحقيقة ضد الإسلام، وضد القرآن. لذا فبمجرد أن مُكِّنوا من أمر المسلمين، بالحيل والدسائس، كشفوا عن مخالبهم التي تقطر سمّاً قاتلاً، فكان أن صبّوا جام غضبهم على آل الرسول الأكرم‘، فعدّوا شتم علي وأولاده^ شرطاً ضرورياً لكلّ من أراد أن يعتلي المنبر، بل جعلوا شتم علي وأولاده واجباً يفتتح به، ويختم به، المرتزقة من علمائهم كل صلاة. وقد استمر هذا التعدي على حرم الله إلى أن جاء عمر بن عبد العزيز، فمنع شتم علي وآل بيته، وأرجع فدك، الأرض التي وهبها رسول الله إلى ابنته فاطمة÷، إلى أولادها.
كان كشف عداوة أهل الكتاب للإسلام ورسول الإسلام، وخصوصاً عداوة اليهود، من النقاط الهامة التي تعرض لها كتاب «المجالس السنية». فقد خاضوا حروباً ـ بطريق مباشرة وأخرى غير مباشرة ـ ضدّ النبي الأكرم‘. وذكر كيف استطاع النبي الأكرم والفئة المؤمنة ممَّنْ كانت معه أن تنتصر على كل محاولاتهم، وأن تردّ كيدهم إلى نحورهم. لم ينسَ السيد محسن الأمين، وهو في خضم ذكر فضائل أهل البيت الأطهار، أن يشير إلى أخلاق الفئة المؤمنة التي شايعت ونصرت رسول الله وأهل بيته في كل المواقف، فتحدَّث عمّا كانوا يتمتعون به من الصفات العالية والأخلاق الإسلامية. كما كان الكتاب مناسبة للحديث عن بعض الأخلاق الإسلامية، من تقوى، وزهد، واحتواء للفقراء والمحتاجين، وتكافل، وحسن الخطاب…، التي تعتبر من الأخلاق القرآنية التي كان الأئمة يتمتَّعون بها، وكانوا يدعون الناس إليها.
وفي آخر خطبة من الجزء الثالث سعى العلامة الأمين إلى إبراز الخصوصيات الأخلاقية والسلوكية للإسلام، وكيف استطاع أن يغير حياة البشرية، والتي كانت الجزيرة العربية أحد نماذجها، وينقلها نقلة نوعية. فبعد أن كانت الضلالة والحيرة اهتدى الناس إلى ربهم، كما اهتدوا إلى مبادئ وأخلاقٍ ما كانوا ليصلوا إليها لولا الوحي، ولولا رسول الله وأهل بيته^.
دعا رسول الإسلام محمد‘ إلى المساواة، والأخوة، والعفو والتسامح، والعلم واقتناء المعارف، وغيرها. كما دعا إلى الابتعاد عن الربا، والزنا، والمحرَّمات في كلّ ما يخصّ المال، والعرض، والنفس، والولد، و…
وتمتعت المرأة في ظل الإسلام بقوانين تحفظ لها كرامتها، وتحميها من السلطوية والتسلط، التي مورست عليها تحت شعارات متعددة، وبألوان مختلفة.
لقد كان أهل البيت^ مثالاً لكل خير، وقدوة في كل خير وإحسان. فقد كانوا مرآة الإسلام، وكانوا النموذج في الرقي والكمال الإنساني. شهادة اعترف بها العدو قبل الصديق، والبعيد قبل القريب. وإن الإحسان إليهم، بمحبتهم ودفع السوء عنهم، أقلّ ما يمكن أن يقدَّم للرسول الأكرم؛ اعترافاً له بالفضل، واعترافاً له بالجميل على الإنسانية، وعلى القوم خاصة. ولكن ليت الأمر اقتصر على عدم احترامهم، أو حتى عدم محبتهم، بل تعدّاه إلى ما يدمي قلب البشرية، من قتل وذبح وأسر…
الجزء الرابع ــــــ
تم الانتهاء من تحرير هذا الجزء في ذي القعدة من عام 1343هـ. وأدخلت عليه إصلاحات وإضافات في رمضان 1362هـ. وأعيد النظر فيه مرة أخرى بمزيد من التنقيح في 16 من جمادى الأولى لسنة 1373هـ. وكانت العبارة التي اختتم بها هذا الجزء تقول: «إن الجزء الخامس، والذي سيتم طبعه في مجلد مستقل، لن يتطرَّق إلى مصائب أهل البيت^ وكربلاء».
ويلاحظ في هذا الجزء خطبه الطويلة، وكثرة الشعر فيه. إن إحدى هذه الخطب هي شعرٌ للعلامة الأمين، مع شرح له. وقد دار موضوعها حول واقعة كربلاء.
كانت مراعاة الأدب إحدى السمات الأساسية للعلامة الأمين خلال هذا الكتاب. وهي خصلة مهمة يجب أن يتحلى بها أصحاب المنبر الحسيني، وكذا الخطباء، ومَنْ يشتغل في مجال الوعظ والإرشاد.
كان العلامة الأمين يبتعد عن استعمال الكلمات المخلّة بالآداب، والبعيدة عن اللياقة، وكان يكتفي بالقول: «في كلام آخر قبيح…».
وقد ارتكز الكلام في الخطبة الأخيرة من هذا الجزء على بعض المفاهيم الإسلامية في الفكر الإسلامي، كالحديث عن قيمة العلم، وسمو مكانته، والعبودية، ومكارم الأخلاق، والتوبة. فقد خصّها بالبحث، واعتبر غياب هذه القيم واحداً من الأسباب التي أدت إلى حصول فاجعة كربلاء.
لقد ابتدأ هذا الجزء بعرض قصة موسى×، وخوفه من جور وظلم فرعون، حيث كان التشابه بينه وبين خوف الإمام الحسين× من ظلم واستبداد بني أمية. فقد كان كلاهما يسأل الله «ربنا نجِّنا من القوم الظالمين».
كانت قصة هاشم جد النبي‘ وعلي والحسين، وحقد بني أمية على بني هاشم ومَنْ والاهم، ووفاء وصمود بني هاشم مع الحسين، ومناصرتهم إيّاه يوم عاشوراء، موضوعَ الخطب الأخرى للجزء الرابع. ولم يكن مقام أهل البيت خفياً على أحد. فها هي مجموعة من النصارى تعلن إيمانها، وتقر لعلي وللحسين’ بالمقام المحمود، وتعترف لهما ولباقي أهل البيت بالفضل، وتقف مع علي× ضد معسكر الكفر والنفاق، ووشَّحت صدرها بوسام الشهادة في الدفاع عن الحسين على أرض كربلاء. بل إن معسكر يزيد، الذين أعلنوا الإسلام، وأخفوا الكفر، كانوا على علم بمكانة أهل البيت^، ولكن زيَّن لهم الشيطان سوء عملهم، وتخلَّوا عن جميع العهود.
تعرض العلامة الأمين في جزء من خطب هذا الجزء إلى كيفية استشهاد الإمام علي×. وإن عداوة آل بني سفيان، والتي انتقلت إلى يزيد، وزياد بن أبيه، وابنه عبيد الله، لم تكتفِ باللعب بأموال وأرواح الموالين لعلي×، بل تطاولت لتصل إلى أعز الناس إلى قلب رسول الله‘، وهما: الحسن والحسين’. فقد عانى الموالون لأمير المؤمنين علي× وللحسين×، أمثال: ميثم التمار، الذي عُدّ أحد حواريي علي×؛ وسعيد بن سرج، كل المرارة على يد معاوية ويزيد، فقد تتبَّع أثرهم في كل مكان، وهدم بيوتهم، وزجّ بعائلاتهم في السجون، وشرد أبناءهم. فاختيارُ علي× في نظر معاوية ويزيد ومَنْ معه جريمةٌ لا تغتفر، ومَنْ اختار علياً× فليُعِدَّ نفسه لكل أنواع البلاء. وقد قتل ابن زياد ميثم التمّار، وصلبه.
لم تكن مكانة أهل البيت^ خافيةً على أحد. وفي نفس الوقت لم يكن يخفى على أحد فسق يزيد بن معاوية، وخروجه عن الحدود الشرعية، بل وتطاوله ـ وبشكل علني ـ على الإسلام في أكثر من موقع. فقد نقل العديد من المؤرخين ذلك «ننقل هذه الواقعة عن تاريخ الطبري، وكامل ابن الأثير، والفخري، والإمامة والسياسة، والأخبار الطوال، والعقد الفريد، والأغاني، وغيرها». ففسق يزيد وآل أمية كان أشهر من نار على علم.
ورغم تعدد موارد الشعر في هذا القسم وكثرتها، إلا أنها لم تكن في مقام الاستدلال والبرهان، بل كانت لبيان وتوضيح المطالب. فقد استعان أهل البيت بالشعر؛ لتبيين موضعهم، وكشف حالهم، وما لاقوه من ظلم، وما مورس عليهم من ذبح وقتل. ويلاحظ إعادة الأشعار أكثر من مرة، وتكرارها؛ ويرجع ذلك إلى توخي العلاّمة الأمين الدقة. فالوثوق والصحة عند العلامة الأمين شرطٌ ضروريٌّ لا يستثنى منه الحديث، كما لا يستثنى منه الشعر.
إنّ حزن الإمام زين العابدين× على أبيه الحسين×، وفضائل وتقوى هذا الإمام، ومجالس عزاء التابعين على شهداء كربلاء، وقتل زيد بن علي×، وحزن نساء بني هاشم على الحسين وأنصاره، وقتل حفدة الإمام الحسن على يدي المنصور، وبيان مقاطع من حياة الأئمة: زين العابدين؛ ومحمد الباقر؛ وجعفر الصادق؛ وموسى الكاظم؛ وعلي الرضا؛ ومحمد الجواد؛ وعلي الهادي، وذكر أشعار أبي فراس وبني حمدان، باعتبارهم من المخلصين لأهل البيت^، وأشعار الفرزدق، وبغض وقهر وقتل العباسيين لأهل البيت^، وأشعار دعبل الخزاعي، بالإضافة إلى مطالب أخرى، من مكارم الأخلاق، والتوبة، والموت، والحسد، وغيرها من المواضيع الأخرى، كانت من بين مطالب هذا الجزء. وقد تطرق إليها من نواحٍ مختلفة، وبيَّن أن السبب الحقيقي في كل المساوئ هو الابتعاد عن أهل البيت^، وعدم التمسك بهم باعتبارهم باب النجاة.
اختصّ المجلسان الأخيران لهذا الجزء الرابع بذكر النسوة اللائي اكتويَن بمرارة فقد إخوانهنّ، سواء في زمن ما قبل الإسلام أو في زمن الإسلام، وما جادت به قريحتهنّ من قصائد وأشعار وخطب، عبَّرنَ فيها عن حزنهن وأساهن لفقد الأعزّة، غير أن حزن السيدة زينب÷ على أهلها، وعلى الحسين بالخصوص، فاق كل الأحزان والأسى.
الجزء الخامس ــــــ
هذا الجزء هو المجلد الثاني لكتاب «المجالس السنية في مناقب ومصائب العترة النبوية».
وقد اختص هذا الكتاب بحياة ووفاة النبي الأكرم‘، وابنته الطاهرة فاطمة الزهراء÷، وجميع المعصومين من ولدها. وقد تطرق كذلك في هذا المجلد الثاني إلى أحوال وفضائل الأئمة، كما بيَّن الأدلة والبراهين على إمامتهم، حيث أدرج الكلّ على شكل الخطب التي تلقى على المنبر الحسيني.
وكذلك بيَّن أحوال وغيبة الإمام الثاني عشر#، والشعر الذي قيل فيه،انطلاقاً من الروايات الصحيحة والكتب المعتبرة، مع عدم إغفال الأقوال والروايات المخالفة.
وفي القسم الأخير من هذا الجزء ذكر تواريخ شهادة كل واحد من المعصومين الأربعة عشر، استناداً إلى الروايات الصحيحة. كما أن الطبعة الثانية لهذا الجزء قد احتوت خطب ومجالس إضافية.
ويلاحظ في هذا الجزء أيضاً التوسيع في مطالب الهامش، حيث تعرَّض فيه إلى بيان آراء مدرسة الصحابة حول بعض المسائل، وأشار بشكل تفصيلي إلى بعض المصادر، وأوضح معاني بعض الألفاظ، وبيَّن اختلاف الروايات في بعض من المطالب. كما أنه يشير إلى الخطب التي تمّت إضافتها في هذا الجزء، ولم تكن ضمن الطبعة الأولى له. وكل هذا يشير بصدقٍٍ إلى الأمانة العلمية التي كانت ـ مع غيرها ـ من السمات الأخلاقية الحسنة للعلامة الأمين في ظلّ كل صفحات هذا الكتاب.
وبعد مقدمة صغيرة يبتدئ المجلس الأول من هذا الجزء، والذي اختص بالكلام عن النبي الأكرم‘، واستمر الموضوع نفسه إلى المجلس الثامن، ليختتم بما جرى على لسان بعض الشعراء من رثاء لنبي الإسلام‘.
وقد كان أحد أهداف العلامة السيد محسن الأمين من درج الروايات المختلفة حول تاريخ ولادة وشهادة المعصومين البيان لأرباب المنابر أن الجزم في هذه المسائل غير صحيح؛ لاختلاف الروايات، وعدم وجود قرينة ترجِّح إحداها على غيرها.
كما أراد العلامة من درجه للروايات المختلفة توخّي الدقة، وشرح محل الاختلاف، حتى أن القارئ، وهو بين صفحات هذا الكتاب، يرى نفسه وكأنه أمام متن فقهي لا تاريخي؛ لكثرة ورود عبارات من قبيل: إنْ قيل:…، قلتُ:…، وإنْ قلتَ:…، قال:…، والله أعلم. وهذا هو أسلوب العلماء الذين يفقهون مسؤولية الكتابة والبحث، فلا يجب أن يكون الغرض هو إضافة كتاب إلى رفوف المكتبات، وكتابة الأسماء ضمن لائحة الكتّاب، بل المراد هو الكتابة المحقَّقة، والتي تعد مصدراً علمياً يُطمأنّ في الرجوع إليه، وخصوصاً في ما يخصّ تاريخ أهل البيت؛ لأن أية كتابة جعلت الخروج عن الحقائق، والتزيُّن بالخرافات، واعتماد التحريف، أسلوباً لها؛ من أجل مصالح لحظوية، مَضَرَّة كلّ مضرة بمكانة أهل البيت، ومسيئة إليهم، مهما اختلفت النيات. فالجاهل لا يعذر بجهله للقانون. وقد أشار الإسلام في كلّ تشريعاته وتوجيهاته إلى أن الغاية لا تبرِّر الوسيلة، بل الغاية الربانية تقوم على الوسائل الربانية والمشروعة لا غير.
(*) باحث في التراث والتاريخ الإسلامي.