مشهد التحولات الإيرانية العاصفة في القرن العشرين
أ. محمد نوري(*)
ترجمة: محمد عبد الرزاق
إن رصد ودراسة التجديد والتطور الفكري ـ وبعبارة أدق ـ التحول الفكري لدى رجال الدين، ضرورة ملحة للوصول إلى حلول لجملة من مواضيع النقاش المستعصية؛ وهذا ـ بالطبع ـ عنوان شامل لبحوث متشعبة؛ وما نحن بصدده هنا تقديم فكرة مجملة عن المشهد العام للتحوّل الفكري على الساحة الدينية عند علماء الشيعة في إيران. موكلين المواضيع والجوانب الأخرى إلى بحوث لاحقة.
تاريخ التحول الفكري لدى علماء الشيعة ـــــــ
بغض النظر عن التأثير والتأثر بالحضارة الغربية([1])؛ أول الأسماء التي تطالعنا في مجال التطور الفكري هي السيد جمال الدين الأفغاني الذي يقف في طليعة رواد العصر الحديث على الساحة الإسلامية؛ فقد قيل عنه: رائد الصحوة، والمصلح، ومؤسس الحركة الدينية الاجتماعية. ويمكن اعتباره أيضاً أبا التجديد الحوزوي ومعلّمه، حيث وثب من صميم الدرس الديني ليدعو إلى اليقظة ونبذ التقوقع والجمود.
وثمة اتجاهات لرجال الدين في إيران إبان عصر الحركة الدستوريّة (المشروطة): الأول: أولئك الملتزمون بالأفكار التقليدية في الإسلام والتشيع؛ والداعون إلى بقائها واستمرار ما هم عليه. والثاني: ممثل بالتيار الإصلاحي المجدّد بأفكاره وما يدعو إليه؛ فكان من طليعة هذا التيار: جمال الدين الأفغاني؛ الميرزا محمد حسين النائيني؛ الشيخ هادي نجم آبادي؛ وكان لكتابات هؤلاء ونشاطاتهم دور بارز في التحول الجذري في الحوزات الشيعية([2]).
لقد كان التخلف والانحطاط في المجتمع الإسلامي من أهم هواجس تلك النخبة وتركّز اهتمامهم حول التوفيق بين الإسلام بوصفه نظرية وتطبيقها على المتطلبات الجديدة؛ فقد اختار النائيني (تنبيه الأمة وتنزيه الملة)([3]) عنواناً لكتابه أمارةً على الدعوة إلى صحوة المجتمع وإحياء تعاليمه الدينية وتنزيهه عن الخرافات والتخلّف؛ وهذه جميعها مؤشرات على الرغبة في التحول الفكري والتجديد آنذاك. وقد تصدّرت مفاهيم التقنين والبرلمان والحرية وصوت الشعب وشروط أو حدود السلطة والحكم؛ قائمة النقاشات بين الإصلاحيين والمحافظين. والأمر في ذلك تابع لطبيعة فهم كل فرقة وانطباعاتها عن الدين والشريعة. وبالطبع كان دافع التطور ورفض التخلّف حافزاً على تقبل آراء الإصلاحيين في أغلب الأحيان.
لقد شكّل تسلّم البهلويين زمام السلطة عقب سقوط القاجاريين عاملاً مساعداً للظروف السابقة ليزيد من تقهقهر الحوزة العلمية. إن قصور الحركة الدستوريّة وتذبذب أدوار الإصلاحيين، والتخطيط المنسجم للسلطة الجديدة هي جملة من العوامل الممهدة لنفوذ العلمانية الجديدة. وكان دور الحوزة الأبرز في هذه الفترة ممثلاً بأفكار الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي؛ إلا أن اهتمامه كان منصباً على صيانة كيان الحوزة في مجابهة التحديات. ثم تفعّل دور رجال الدين مرةً أخرى بين العام 1325 ـ 1332ش/1946ـ 1954م، وسجلوا حضوراً على الصعيدين: الاجتماعي والسياسي، دون أن تكون لديهم طروحات وأفكار جديدة؛ حيث غلب الطابع العملي على أتباع حركة فدائيي الإسلام وآية الله أبي القاسم الكاشاني. واقتصرت نشاطات الحوزة ـ بزعامة الحائري حتى بداية العقد الرابع ـ على التوسع الكمي وزيادة المدارس.
الاتجاه السياسي والاتجاه الثقافي في الحوزة العلمية ـــــــ
بعد ذلك وبتغير الأجواء السياسية والاجتماعية في إيران دخلت الحركة الدينية مرحلة جديدة ظهر خلالها اتجاهان في الحوزة: أحدهما ذو أهداف سياسية يسعى من خلالها لتسليم السلطة لرجال الدين بوصفهم العلماء الضالعين بالقانون؛ وكانت هذه الفكرة مطروحة من قبل الإمام الخميني؛ أما الاتجاه الآخر فهو ثقافي بحت بعيداً عن المؤسّسات السلطوية، يسعى إلى النهوض بالواقع الثقافي الديني الطامح إلى تحول جذري في المجتمع من خلال تغيير منظوماته الفكرية. ويضاف إلى هذين التيارين التيار السابق أعني المحافظ.
كان التيار الثقافي ممثلاً بآية الله السيد محمود الطالقاني و (دارالتبليغ)؛ بالإضافة لبعض التكتلات والمؤسّسات الأخرى، كمؤسسة (در راه حق/في طريق الحق)، إلاًَ أن هذه المؤسسات كانت تضع في أولوياتها موضوع محاربة الفرق والأديان الأخرى فكرياً. وما كان واضحاً من مساعي هذا التيار بجميع فصائله هو المشاركة في تطوير الفكر الديني بين الحوزويين، من قبيل محمد جواد مغنية ومرتضى مطهري وغيرهما، ولا يخفى ـ بالطبع ـ دورهم على ذلك الصعيد في توجيه طلبتهم. وقد كان للتبادل الفكري بين آراء شريعتي والمهندس مهدي بازركان بين الأعوام 1350 ـ 1356ش/1971 ـ 1977م، تأثير واسع في التحول الفكري الحاصل في الحوزة؛ بوصفهما من خريجي الجامعة والحوزة. فكانت المواضيع والأسئلة المطروحة آنذاك تحفز الحوزويين على البحث والتفكير في هكذا نمط من التنظيرات.
انتصار الثورة وبداية المواجهة بين المحافظين والإصلاحيين الحوزويين ـــــــــ
يعدّ انتصار الثورة الإسلامية في إيران انتصاراً للأفكار المناضلة سياسياً بغية إصلاح المجتمع وتسلّم زمام أموره؛ أما الاتجاه الثاني فقسمٌ منه تأثر بالاتجاه المنتصر وآخر انسحب من العمل تماماً. وكان من بين قادة المجتمع الجدد نخبة من علماء الدين المتنورين ممن يحملون أفكاراً نامية أمثال: السيد محمد حسين بهشتي؛ وأكبر هاشمي رفسنجاني. أما حال رجال الدين بشكل عام فقد بقي على ما هو عليه سواء على الصعيد الإداري أم التعليمي وسائر المؤسسات العليا. أما أولئك الذين كانت بجعبتهم بعض الأفكار المتطلّعة نحو التجديد فقد باتوا أقلية دون تخطيط وبرمجة لتحقيق أهدافهم؛ ففقدوا التأثير الإيجابي في تغيير التحجّر في العقل الحوزوي.
وإذا كانت حوزة قم وغيرها من الحوزات في المدن الأخرى قد شهدت صراعات في بدايات الثورة الإسلامية بين المحافظين والإصلاحيين لاسيما في المجال الاقتصادي، إلا أن ذلك لم يكن له وجود إبان الحرب بين إيران والعراق؛ فكانت أهم الصدامات في هذا المجال تنشأ حول قرارات مجلس الشورى وردود الفعل تجاهها من قبل بعض رموز المؤسّسات المحافظة في الحوزة العلمية؛ وكان أبرزها آنذاك الشيخ راستي والشيخ آذري قمي، بوصفهما ناطقين باسم التيار المحافظ، فكانا يشنان حملات متواصلة ضد حكومة مير حسين الموسوي ومجلس الشورى الإسلامي. وقد شكلت هذه السجالات عاملاً أساسياً في بلورة الدراسات الجادّة في الوسط الحوزوي وما أعقب ذلك من تحولات فكرية؛ فمن جملة تلك التحولات ظهور مصطلح الفقه الدينامي في مقابل الفقه المحافظ أو التقليدي وما اتصل بهما من بحوث. ولا ينسى في هذا السياق دور إحدى المؤسّسات الرسمية في الحوزة العلمية والمحسوبة على الاتجاه المنفتح والمتنوّر فكرياً أعني (مكتب الإعلام الإسلامي)؛ فكان يمثل الطرف الآخر في مقابل (جماعة المدرسين) المنتمية للاتجاه المحافظ في الحوزة. وكان لمنظمة مكتب الإعلام نشاطات واسعة ضمن فروعها من قبيل دور النشر؛ ومراكز الدراسات والتعليم. وقد لعبت مبادرات المكتب الإعلامي دوراً كبيراً في تطوير الفكر الحوزوي؛ وذلك من خلال طباعة الكتب الجديدة وإصدار المجلات الحديثة؛ وتأسيس المكتبات؛ ودعم المشاريع في دراسة التراث وتحليله تحليلاً حديثاً؛ بالإضافة إلى إنشاء المعاهد التعليمية وفقاً للمنهج الجامعي. وكان هناك إلى جانب المكتب الإعلامي جملة من المراكز التعليمية والمكتبات العامة أسّسها الشيخ المنتظري؛ من بينها مكتبة متخصّصة بالعلوم السياسية ساهمت بشكل فعال في المجال ذاته. ثم أنشأت بعد ذلك مراكز تعليمية أخرى من قبيل مؤسّسة الإمام الخميني التعليمية؛ ومؤسسة الإمام الصادق؛ وجامعة المفيد؛ ومعهد باقر العلوم؛ فشملت فروعاً وأقساماً متنوعة كالتاريخ، والعلوم السياسية، والكلام الجديد، والاقتصاد، والفلسفة الغربية، والديانات؛ الأمر الذي أحدث نقلةً نوعية في الحوزات الجديدة.
والجدير بالذكر أن غالبية تلك المراكز كانت تدار من قبل المحافظين، إلا أنّ مواكبة المناهج التعليمية فرضت عليهم التجديد والإصلاح في هذا الجانب. ومن المساهمين أيضاً في دفع عجلة التجديد إلى الأمام الدراسات الاستراتيجية في مركز الفكر الإسلامي في مدينة قم، والذي قدّم طروحات جديدة أغلبها في مجالات تطوير البنى التحتية.
تأثيرات مجيء الحركة الإصلاحية مع خاتمي على تطورّات الحوزة العلمية ـــــــ
وبعدما جاءت نتائج حركة الثاني من خرداد 1376ش/1997م بقيادة الإصلاحيين بتأييد شعبي واسع في الانتخابات، انعكس إيجابياً على اتساع رقعة نفوذهم تبعاً لذلك؛ وكان للحوزة دور في تحقيق هذا الإنجاز لكن من وراء حجاب وإن لم تكن إداراتها ومؤسساتها على وئام مع الحركة؛ إلاً أنها كانت تحظى بدعم بعض علماء الحوزة والطلبة الشباب الذين كانوا يطمحون لتحوّلٍ فكري على شتى الأصعدة؛ ولهذا أحرز السيد خاتمي في قم أعلى نسبة من الأصوات (70%).
لقد دخلت العلوم الحوزوية مؤخراً ـ وفي مقدمتها الفقه والكلام ـ مرحلة جديدة يمكن رصدها على صعيد التحوّل في ثلاثة مواقف:
1 ـ ضرورة المحافظة على فقه وكلام السلف الصالح بوصفهما مناهج للدرس الحوزوي دون المساس بمبتنياتهما. وهو رأي يتجاهل مستجدات العصر وظهور المذاهب والأفكار المناهضة للإسلام؛ لذا بقي بعيداً عن واقع التحول والتجديد، معتبراً التغيير في المضمون أو الأسلوب خطاً أحمر لا يمكن تجاوزه.
2 ـ وهناك من يعتقد بضرورة تقديم العلوم الحوزوية بلغة جديدة تتماشى ولغة العصر مع الحفاظ على المضمون؛ وكأنّ تلك العلوم كشيخ تبلى ثيابه فهو بحاجة إلى كسوته بثياب جديدة تحسّن مظهره؛ إذاً فهؤلاء يقولون بمبدأ الإصلاح داخل الحوزة، الإصلاح الذي بدأه عبدالكريم الحائري وكتب فيه مطهري؛ وهو يدور إما حول التغيير في المؤسّسات والهيكلية الاجتماعية من خلال التمييز بين أهل العلم وأهل الزيف المندسّين، وإما حول التغيير في الإدراة والرموز واختيار ذوي الكفاءات حسب الاختصاصات، وأحياناً يكون موضوع الإصلاح هو المواد الدراسية ومحتواها. إلا أنهم لم يقدّموا حتى الآن خططاً شاملة لهذا المشروع، وليست هناك إقدامات ملموسة على أرض الواقع.
وقد أيدت الحوزة الحالية شرعية هذه الفكرة؛ فأصبح لها أنصار كثر، إلا أن الضعف في التنظير والإدارة أبقى زمام الأمور بيد أصحاب الموقف الأول، واقتصر أصحاب الموقف الثاني على نشاطات من قبيل إصدار بعض المجلات والانخراط في بعض المراكز العلمية والبحثية.
3 ـ المجموعة الثالثة لها نظرة ثاقبة وفاحصة للعلوم الحوزوية؛ فطالبت بتوظيف خبرات الآخرين ومحاولاتهم في خدمة الفقه والكلام، وهم يرون في القانون ذلك الفقه المتطوّر في المجال الاجتماعي الذي يتكفل إدارة المجتمع والسياسة والاقتصاد بشكل ناجح، ويكون عاملاً مؤثراً ومنسجماً مع المعايير العالمية. ويقولون أيضاً بضرورة تلاقي الفقه والقانون، وتوظيف أساليب القانون وقواعده في التحليل الفقهي. وهكذا في مجال الكلام والفلسفة؛ حيث ينظرون للكلام الجديد والفلسفة الغربية بوصفهما المدخل لتطوير الكلام الإسلامي والفلسفة الإسلامية، وهم لا يرجّحون تقديم الأفكار القديمة في العقليات بحلّة جديدة؛ بل بصدد دراسات متحوّلة جذرياً بتحديد عام وشامل للفكرة في علمها. وقد سلّط أصحاب هذا الاتجاه الضوء على الملامح الظاهرية للدين؛ فكانت قراءاتهم بأجمعها رصداً لمقولات الدين ونقدها من الخارج.
أما المستوى الكمي لهؤلاء فهو ضئيل، لكنه يبقى قابلاً للانتشار؛ وإن كانوا تعرّضوا للطعن بالتبعية للآخر؛ حيث كان لدخول مؤلّفات العرب والأوروبيين للحوزة الأثر البالغ في بلورة التيار المذكور. ويعتبر دخول هذه الأفكار الجديدة للحوزة نقطة البداية لرأب الصدع بين علماء الشيعة ومفكّري العالم؛ تحضيراً للتحاور والدور الإيجابي للتشيع في هذا المجال، وإن كانت عراقيل الاتجاه الأول والثاني تشكّل عقبة أمام هذا التحول الحياتي؛ ولهذا السبب لايزال الحوزويون بعيدين عن الميادين العلمية في العالم. وواقع الأمر أنّ نشاطات المجموعة الثالثة هي الأرضية المناسبة لخلق الوفاق والتحاور مع الآخرين والتبادل الفكري معهم.
هواجس رجل الدين اليوم: أزمات الهوية، مشكلات السياسة.. ـــــــ
حالياً، هناك أزمتان أمام علماء الدين ومسألة التحول الفكري: إحداهما أزمة الهوية ونيل الاستحقاقات وتدعيم الحضور الاجتماعي. وقد عبر مطهري عن ذلك بـ(فئوية رجل الدين). إن فقدان الهوية لكلّ طبقة اجتماعية سيخلق مشاكل عديدة من الناحية النفسية والاجتماعية، وقد يكون دافعاً لمراجعة الأسس والمبادئ الفكرية والتشكيك بها.
يحمل رجل الدين المعاصر في قرارته هاجسين؛ هاجس الانتماء للنظام السياسي والحفاظ عليه، وهاجس الحفاظ على الدين والبقاء على اتصال بالناس والمجتمع. وبالرغم من تقلّد بعض الحوزويين مناصب في الدولة؛ إلا أن أكثرهم يفتقد الحنكة السياسية؛ وغالباً ما يكون بصدد نشر الدين والتواصل مع الطبقات الاجتماعية وحسب. وتقود أزمة تحديد الهوية رجالَ الدين إلى أزمة إيمان الآخرين بهم؛ فقد يلاحظ انعدام الدافعية والتفاعل الجادّين من قبل الناس مع مقترحاتهم. ولقد أثارت هذه الإشكاليات تساؤلات أساسية في الأذهان: هل هناك ضرورة شرعية وذاتية في كون المؤسّسة الدينية منظمة حكومية تخدم مصالح النظام السياسي؟ هل المهم هو الحفاظ على النظام السياسي أم الحفاظ على الدين؟ وما أهداف الدين والتشيع من حيث المبدأ؟
الأزمة الأخرى هي شرعية السياسة؛ حيث للنظام السياسي دور أساس في تحول الحوزة الفكري. لقد واجه النظام السياسي الحالي إشكاليات عديدة على صعيد النظرية والتطبيق، وكان هناك من الحوزويين من رأى واجبه في حلّ تلك المشاكل العالقة؛ وكان هؤلاء على صنفين: أحدهما يميل للتعبد والاقتدار المطلق؛ والآخر يميل للعقلانية ومشاركة الشعب. وكان للسجال بين الفريقين دور في تفتح الآراء وتداعي بعض التساؤلات. وقد اعتُبر الشيخ مصباح اليزدي متحدثاً باسم الاتجاه الأول، فيما مثل الثاني أعضاء مجمع المحققين والمدرسين في الحوزة العلمية. لقد دعت النقاشات المتنوعة بين الاتجاهين حول الدساتير والفقه السياسي إلى الوقوف والتأمل فيها؛ بينما دعت تلك الأجواء المشحونة بعض الحوزويين إلى العزوف عن السياسة؛ وقد ترك ذلك بصماته في مجال التعليم الحوزوي؛ بحيث بدت الدروس تركز على الجانب الفردي بدلاً من بحوث الفقه الاجتماعي. وكانت قد أقيمت في قم مهرجانات كبرى كمهرجانات الشيخ المفيد والأنصاري من قبل المحافظين؛ ومؤتمر علاقة الفقه بالزمان والمكان من قبل الإصلاحيين إلى غير ذلك من الندوات، كندوة الكلام الجديد والأنثروبولوجيا؛ وكان لجميع هذه النشاطات مساهمة فعالة في تطوير الفكر الحوزوي؛ ففي مهرجان الشيخ المفيد الدولي بمشاركة أجانب ومسيحيين كـ(مكدرموت) أدرك الحوزويون الهوّة بينهم وبين الركب العلمي، حتى على صعيد تراجم أعلامهم وشخصياتهم التاريخية البارزة؛ فبادروا إلى استخدام أساليب الآخرين في البحث والدراسة بغية تقديم نتاجات أفضل ودراسات أعمق. لقد ألهم الشيخ المفيد ـ صاحب الاتجاه العقلي ـ آفاقاً جديدة للمؤتمرين، وشكّل لهم البيان الختامي مفخرة ودعماً معنوياً لمدرستهم الفكرية وتاريخهم التليد.
وقد حمل مهرجان الشيخ الأنصاري رسائل أهمها التفاخر بانتصار الأصوليين على الأخباريين وتبلوره في فكر الشيخ الأنصاري؛ الأمر الذي كان حافزاً أيضاً لمتابعة التحولات الفكرية والتجديد في الرؤى؛ هكذا بالنسبة لمعارضة الأنصاري لنظرية ولاية الفقيه السياسية في «مكاسبه» وما استدعاه ذلك من طرق أبواب جديدة.
أما في ندوة (الفقه بين الزمان والمكان) فقد اشتملت مضامينها على مقولات جديدة ركزت على تحديث الفقه الشيعي من قبيل ملاحظة الواقع ومتطلباته؛ والتكنولوجيا والحداثة؛ والعقل والتجربة البشرية؛ في الاستنباطات الفقهية؛ وتكوين نظرة جديدة للاجتهاد بوصفه آلية دينامية كاشفة عن الشريعة.
في النهاية، لاتزال زمام أمور الحوزة رسمياً بيد المحافظين وأولئك الذين يحملون أفكاراً إصلاحية غير جذرية ـ أي الاصلاح المقتصر على الإدارة والتعليم في الحوزة ـ إلا أن بوادر الأمل تلوح في الأفق مؤذنةً بتحولات جذرية على يد طبقة الشباب الحوزوي؛ على الرغم من صغائر وكبائر العقبات التي تعترض طريقهم؛ لكنّ الأجواء الثقافية ووسائل الطباعة والنشر في الحوزة باتت تحت تصرّفهم في الأعم الأغلب.
الهوامش
(*) باحث في الحوزة والجامعة، ومشرف وكاتب في العديد من الموسوعات الإسلامية.
([1]) انظر: رئيف الخوري، الفكر العربي الحديث؛ أثر الثورة الفرنسية في توجيهه السياسي والاجتماعي؛ مقال (نقائض التأصيل والتجديد في الفكر الإسلامي المعاصر) من كتاب سياسيات الإسلام المعاصر؛ لرضوان السيد. وكان أول من طرق موضوع التعاكس الفكري (عبدالهادي الحائري)؛ علماً أنّ هناك من يخالف آراءه، منها اعتباره حركة المشروطة في إيران من الهبات الأجنبية لها أو الحركة الرامية إلى تنصيب مطبّقي الخطط الغربية؛ وانظر: علي أكبر ولايتي، سير وتفحصي در مشروطيت وبس از آن؛ وأيضاً؛ علي محمد نقوي، جامعة شناسي غربكرايي.
([2]) انظر: مقصود فرستخواه، سرآغاز نوانديشي معاصر: 337 ـ 342، طهران؛ الشركة المساهمة؛ 1374ش/1995م.
([3]) حقّقه وقدم له السيد محمود الطالقاني، طبع في طهران 1334ش/1955م، وترجمه للعربية في مجلات العرفان والموسم صالح الجعفري؛ وككتاب مستقل ترجمه عبدالحسن آل نجف؛ قم؛ 1419هـ؛ ونقل عنه حامد الكار في مقاله الوارد في كتاب: Muslin religious institations in the middle east