في الأيام القليلة الماضية طرحت المؤسسات السياسيةوالاقتصادية فيالعالم سؤالا عن مدى صدق الافتراض القائل بأن الولايات المتحدة يمكن أنتزول أوتضعف، وما هو دور الدول والمؤسسات خارج الولايات المتحدة تجاه ذلك التحولالممكن؟وما هي أبعاده وآثاره الاقتصادية والسياسية على المدى القريب، أو على المدىالبعيد؟
في العالم العربي طرح التساؤل ذاته، لكن أحدا لم يطرحسؤالا حولالدور الذي يمكن أن تقوم به الدول العربية في حال حدثت أي تغيرات فيالخارطةالدولية، أو عن مؤديات ذلك التحول، بل اكتفوا بطرح السؤال بصيغته الأولى،وتم تقديمأجوبة متباينة، تتلخص في عبارة نعم أو لا أو محتمل، وكأن العالم المتقدمكان ينتظرمن العالم العربي ومفكريه ومحلليه وكتابه إحدى تلك الإجابات بفارغ الصبر.
وأحسب أن السؤال الذي يفترض أن يُناقش على نطاق واسع فيالعالمالعربي، وبين نخبه السياسية والاقتصادية والثقافية، يدور تحديدا حول مدىإمكانية أنيلعب العرب دورا رئيسا في تغيير موقعهم العالمي.. بمعنى، هل يمكن أن تفكروتسعىالدول والشعوب العربية من ضمن ظروفها المحلية والإقليمية للدخول في حلبةالمنافسةالعالمية، والتأثير في القرارات الدولية؟ وهل ثمة دلالات تشير إلى إمكانيةأن تكونهذه الدول رقما مهما في المسار العالمي للقرن الجاري، أو حتى القرن القادم؟ويحسبلها الآخرون ألف حساب؟ أم أن هناك شروطا سياسية أو اقتصادية أو ثقافية يجبأنتتوافر للتمكن من الدخول في دائرة المنافسة، وتقديم نفسها كبديل حضاري؟
من المؤكد أن الدخول في هذه المباحث أمر غير مشجع إطلاقافي العالمالعربي، لأن الإجابة تكاد تكون واضحة ولا تحتاج إلى عناء كبير، فلا أحديجادل اليومفي أن الدول العربية عاجزة عن مواكبة التطورات العلمية، فضلا عن أن الحديثعن كونهابديلا حضاريا يشوبه الكثير من المبالغة، فهي لم يسبق لها أن أثَّرت يوما مافيالقرارات الدولية، فكيف يمكن أن تكون رائدة في هذا المجال الآن أو فيالمستقبل؟ إنما يُحكى عن ازدهار العرب في يوم ما، لا يعدوا أن يُحسب اليوم في عداد «القصصالتاريخي» التي لا يمكن أن تتكرر ضمن المنظور القريب.
الرغبة في تغيير حجم التأثير، والحلم في الصعود إلى مصافالدولالمتطورة، يبقى أملا تتطلع إليه كل الشعوب بغض النظر عن موقعها الحضاري أوإمكاناتها الذاتية، إن ذلك الأمل تحديدا هو الذي يدفع المجتمعات للتفكيرطويلا فيواقعها القائم، والتبرم من الإخفاقات المستمرة في مسيرتها، والعمل مجدداللخروج منحلقة التخلف، وقد وفقت الكثير من المجتمعات لتغيير واقعها عندما آمنت بأنالتخلفليس قدرا لا يمكن التخلص منه، ووضعت رجلها على الطريق الصحيح.
الهند مثال على إمكانية النهوض من التخلف في وقت قصيرنسبيا متىتوافرت الإرادة والتفكّر العلمي، فقد وجد المسؤولون الهنود أن البلاد تعانيمنمشكلة حادة ورئيسة تتمثل في الحجم السكاني الكبير الذي وصل حد الانفجار،فأخذالخبراء والباحثون بقراءة الواقع الهندي وتحليله بالكثير من الدقة العلمية،وتوصلواإلى أن المشكلة ستظل قائمة وسوف تشكل خطرا إضافيا وعبئا على الوضع المعيشيالمتأزمبحد ذاته، لكن يمكن للحكومة الهندية أن تستثمر هذا المخزون البشري إذاأحسنتالتعامل معه، وحولته إلى نقطة قوة.
لقد رسم البحاثة الهنود طريق الخلاص عبر استغلال نقطةالضعفالأساسية، فحولوا مشروعهم نحو الاستثمار في الملايين من البشر، عن طريق دفعوتشجيعالمواطنين إلى التخصص في اتجاه علوم المستقبل، وتحديدا في مجال البرمجيات،وفيالعام 1998 أعلن رئيس الوزراء الهندي عن مشروع البرمجيات الهندي الكبير «المعلوماتية للجميع العام 2008» وقال في خطابه التاريخي: «خلال عشر سنواتسنجعل منالهند قوة عظمى لتكنولوجيا المعلومات وأحد أكبر المنتجين والمصدرين في عالمالبرمجيات».
وتشير بعض الدراسات إلى أنه في العام 1997 كان لدى الهندما يقارب 160,000 مختص بالبرمجيات، وبعد المشروع قفز هذا الرقم العام 2000 إلى 340,000 مبرمج، ووصل عدد المبرمجين في الهند إلى ما يزيد على المليون بنهاية 2006،وتُخرجالجامعات الهندية والمدارس المتخصصة عشرات الآلاف من الطلبة سنوياً، والتيتخضعلتدريب عالي الدقة في الشركات الهندية والتي كان لا يتجاوز عددها 100 شركةالعام 1998، وبلغ عددها العام 2000 ما يفوق 640 شركة.
تقدَّر قيمة الصادرات الهندية من صناعة البرمجياتوخدماتها فيالعام 2008 بنحو 50 مليار دولار، وتزود الهند العالم الصناعي بالآلاف منالمبرمجينكل عام، وهي إحدى الدول القادرة بفعل حجمها السكاني الكبير على سد احتياجاتالعالمالهائلة من المبرمجين، إذ أن حجم الطلب العالمي على المبرمجين يصل إلىمليوني مبرمجفي كل من الولايات المتحدة وفرنسا وألمانيا وبريطانيا إضافة إلى اليابان،وتستطيعالهند لوحدها أن توفر 60.000 مبرمج لهذه الدول كل عام.
لقد نجحت التجربة الهندية لأسباب عديدة من أبرزهاقُدرتها علىقراءة الواقع بدقة، من خلال مراكز بحث علمي متخصصة أسهمت في وضع خطط وبرامجلنهوضالدولة والمجتمع، وتحويل نقاط الضعف إلى نقاط قوة تساعد على النجاحوالتفوق، وهو مادفع «آرت دي جيوس» الرئيس والمدير التنفيذي لشركة «سينوبسيس» الأميركيةللاعتقادبأن الهند ستكون أحد أهم الأسواق المستقبلية الضخمة والمؤثرة بصورة كبيرةعلىالغرب، فيما شدد الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي على أهمية إشراك الهند فيالنقاشاتالدائرة حول إعادة تأسيس النظام المالي العالمي، واعتبارها شريكا أساسيا لايمكنالاستغناء عنه.
لا شك أن العالم العربي لايزال بعيدا عن حقل المنافسة،ولم يلتفتحتى الآن إلى أهمية مراجعة حساباته وسط التحديات العالمية الجديدة، فيمايبرز عدماكتراث حكوماته بمسألة النهضة، وغياب مؤسساته الأهلية والمدنية عن تحملالمسؤولية،وانشغال نخبه السياسية بصراعات المصالح الخاصة، ونخبه التجارية بالاستثمارفي كلشيء عدا الإنسان، ونخبه الدينية بالخلافات المذهبية وملاحقة المخالفينوإقصائهم منالساحة، ونخبه الثقافية بالجدليات النظرية البعيدة عن الواقع، وكأن ثمةتواطؤاًعربيا بين الحكومات والنخب على مواجهة المجتمعات ووأد مشروع نهضتها.