أ. مشتاق بن موسى اللواتي
مقدّمة
من الأمور التي تستحق التدقيق والبحث هو: تركيبة الجيش الرسمي الذي قاتل الإمام الحسين(ع)، ومكوناته الاجتماعية وميوله الفكرية وأهوائه السياسية.
لقد أبهمت مصادر التاريخ هذه الناحية ولم تلق ضوءاً كافياً عليها واكتفت بالتصريح والتلميح بأن الجيش كان من أهل الكوفة وممن كاتبوا الحسين وبايعوا رسوله مسلم بن عقيل ثم غدروا به وخذلوه وأسلموه للسلطة الغاشمة.
ولمعرفة هذه القضية يتطلب البحث في ثنايا الحوادث والتنقيب في الأخبار الواردة حول الكوفة والقبائل والفئات التي استوطنته وانتماءاتهم ودراسة التطورات الإدارية والتحولات الاجتماعية التي حدثت فيها، وأخيرا طريقة تشكيل الجيش وتجهيز المقاتلين الذين أرسلوا لقتال الحسين.
وفي هذه المقالة، نحاول تسليط الضوء على المجتمع الكوفي ومكوناته الاجتماعية والفكرية والسياسية في العصر الأموي ألأول، إبان ما يعرف بحكم الفرع السفياني.
وفي هذا الصد نشير إلى المعطيات التاريخية الآتية:
1ـ التمازج والتنوُّع السكّاني في الكوفة
تأسّست الكوفة زمن الخليفة عمر كمعسكر للأجناد وكانت تعرف بكوفة الجند. وأقبلت إليها القبائل من جنوب الجزيرة العربية وشمالها وأطرافها واستوطنت فيها، كما هاجر إليها جمع من الصحابة.
والمجتمع الكوفي كان يتألف من تركيبة سكانية متمازجة متنوعة، فكان فيهم العربي والفارسي والنبطي بالإضافة إلى العبيد. وكانت القبائل التي استوطنت الكوفة من اليمانية والعدنانية وهم من عرب الجنوب والشمال، بالإضافة إلى بني بكر وكنانة وجديلة وعبد القيس وتغلب وثقيف.
و كانت فيها إلى جانب القرشيين والحضريين، عناصر شديدة البداوة. وكان فيها الأنباط والسريانية، بالإضافة إلى فئات من اليهود والنصارى.
ويذكر بعض الكتاب أن الكوفة كانت بها قبائل المرتدين التي اتجهت إليها من مناطق الجزيرة العربية خلال نشاط الفتوحات. وأن الفئات التي سكنت الكوفة قد حوت قبائل الأعراب، الذين كان نصيبهم من معرفة الإسلام نزراً يسيراً، وقبائل المرتدين، إضافة إلى القبائل الأصلية العراقية من نصارى العرب.
وقد شكل المرتدون ـ حسب هذا الكاتب ـ مع طوائف من الناقمين على الإسلام والمسلمين خطراً كبيراً حيث كانوا يلبسون لباس الغيرة على الإسلام.
ويظهر لنا أنها محاولة تهدف إلى اختزال الوقائع ورسم مقدمات معينة، ليسهل إلقاء تبعات بعض الحوادث السياسية الكبرى من قبيل الفتنة الكبرى وتداعياتها اللاحقة، عليها وعلى عناصر دخيلة متسللة إلى جسم الأمة، حسب التفسير الرسمي.
مع أن الخليفة عمر ـ حسب الطبري ـ لما تولى الخلافة أذن لأهل الردة في الغزو وندبهم، فأقبلوا سراعاً من كل أوب فرمى بهم الشام والعراق. فقد اشتركوا في جيوش المسلمين التي توجهت للعراق والشام واستقروا في مناطقهما بعد ذلك، ولم يكن ذلك مختصاً بالكوفة.
وكان ممَّنْ ذهب الى الكوفة شخصيات لعبت أدواراً مشبوهة مثل الأشعث بن قيس الكندي وشبث بن ربعي التميمي، كما كان فيهم من عرف بالاستقامة والاخلاص من الصحابة مثل عدي بن حاتم الطائي وحجر بن عدي الكندي.
وإذا كانت الفئات التي وصفت بالمرتدة، لم تتح لها الظروف في أن تستوعب الإسلام لحداثة إسلامها وعدم مرافقتها النبي(ص) فترة كافية، فإن ذلك ينطبق أيضاً على مسلمة الفتح والطائف وغيرهم.
والواقع التاريخي يشهد أن معظم الفئات التي أذعنت ودخلت الإسلام بعد الحديبية وعام الوفود وفتح مكة كانت حديثة عهد بالإسلام.
وحسب الجابري، إن إسلام القبائل كالأعراب و«المنافقين» ومن أسلم من قريش يوم الفتح وهم «الطلقاء» وإسلام ثقيف، كان إسلاماً سياسياً أكثر منه إسلاماً عقائدياً.
على أن جمعاً من الباحثين يرى أن ما عرف بحركات الردة، لم تكن ـ في الغالب ـ ردة دينية عن الإسلام وأصوله وأركانه وأحكامه بل كانت ردة سياسية مدفوعة بدوافع عصبية قبلية واقتصادية وسياسية وطموحات شخصية للزعماء.
ثم أن حركات الارتداد كانت واسعة عمت أنحاء متعددة من الجزيرة العربية، وحسب رواية سيف بن عمر، ارتدت العرب عوام وخواص، وكفرت الأرض وتضرمت وارتدت من كل قبيلة عامة أو خاصة إلا قريشاً وثقيفاً. وبينما يستثني سيف ـ حسب ميوله السياسية الرسمية ـ قريشا وثقيفا، فإن مؤرخين آخرين يخالفونه في ذلك.
يروي ابن هشام(218) أن أكثر أهل مكة همّوا بالرجوع عن الإسلام وأرادوا ذلك، حتى خاف عتاب بن أسيد، عامل النبي، وتوارى فيها. ويروي ابن عبد البرّ(463) أن ثقيفا هموا بالردة حين ارتدت العرب، فقال لهم عثمان بن أبي العاص عامل النبي: يا معشر ثقيف، كنتم آخر الناس إسلاما، فلا تكونوا أول الناس ردة، فكان ذلك سبب إمساكها عن الردة.
ويرى الجابري، أن سبب عدم ارتداد قبيلتي قريش وثقيف، يعود إلى أن الأمور بعد فتح مكة كانت تتطور في اتجاه تنامي هيمنة قريش بزعامة غير معلنة لبني أمية وحلفائهم كبني مخزوم وثقيف.
و قد أضافت لهم حروب الردة، القوة العسكرية لأن القواد الذين قمعوا حركة الردة كانوا منهم، وهم نفس القواد الذين قادوا حركة الفتح في العراق والشام وفارس ومصر وأفريقيا.
فالردة في الغالب لم تكن دينية وأنها عمت أنحاء الجزيرة العربية وقد قضي عليها بالقوة، وأن قبائلها شاركت في جيوش المسلمين زمن الخليفة عمر واستقر كثير منها في العراق والشام.
2ـ من سكّان الكوفة «حمراء ديلم»
ذكر البلاذري، أن القائد الفارسي رستم يوم القادسية كان معه أربعة آلاف يسمون «جند شاهنشاه» فاستأمنوا أن ينزلوا حيث أحبوا ويفرض لهم العطاء فأعطوا ذلك، وحالفوا زهرة بن حوية السعدي من تميم. وفرض لهم سعد ألف ألف وكان لهم نقيب يقال له ديلم فقيل: «حمراء ديلم». والعرب تسمي العجم الحمراء، وأسلموا وشهدوا فتح المدائن وجلولاء. ونزلوا الكوفة مع المسلمين. وكانوا يشكلون ثقلا سكانياً مهماً، فحسب فلهوزن، إن الموالي كانوا يؤلفون أكثر من نصف سكان الكوفة وبأيديهم الحرف والمهن والتجارة. ويرى جرجي زيدان أن عدد الموالي تزايد في العصر الأموي زيادة عظيمة. وكان منهم المحاربون، وكانوا يخرجون مع القبائل في الحروب.
وفي عهد الإمام عليّ كانت نسبة الموالي الأحرار ممن يخرجون إلى الحرب كنسبة واحد إلى خمسة، ثم تكاثر عددهم في العصر الأموي حتى فاق عدد الأحرار. وكانت غالبية الشرطة في الكوفة والبصرة زمن ولاية زياد من الأعاجم الحمراء.
وليس من البعيد اشتراك فئة منهم في الجيش الذي قاتل الحسين لأنهم أبناء القوات الخاصة في العهد الكسروي. وهو نفس الجيش الذي كان معدا لمحاربة الديلم في دستبي، وقوامه (4000) مقاتل، وكان الوالي على العراقين عبيد الله بن زياد أوكل أمره إلى عمر بن سعد بن أبي وقاص. وبعد أن قمع ابن زياد حركة مسلم بن عقيل تغيرت أولوياته، فأمره بالذهاب بنفس الجيش إلى قتال الحسين.
و يرد في الروايات اسم بكير بن حمران الأحمري الذي اشترك في قتال مسلم بن عقيل وهو الذي تولى قتله ورميه من أعلى القصر. وفي نهاية أحداث يوم عاشوراء يذكر الطبري أن عمر بن سعد أمر حميد بن بكير الأحمري فأذن في الناس بالرحيل إلى الكوفة. وهذا يؤشر على وجود عناصر منهم في الجيش.
3ـ الانتماء الفكري والسياسي والمناطقي
يذكر الدكتور فروخ أن الخليفة عمر لما تولى الخلافة وجد أن النزاع على الخلافة لم يهدأ فأراد أن يعيد الهدوء إلى المدينة فأخرج شيعة بني هاشم منها وأسكنهم الكوفة وأخرج خصومهم وأسكنهم البصرة. وهذا يعني أن وجود أنصار الإمام علي بالكوفة أقدم من فترة توليه الخلافة ونقل مقر الحكم إليها.
و حسب ماسنيون لم تكن انتماءات جميع القبائل العربية بالكوفة علوية شيعية. لقد توزعت إنتماءاتها بين الشيعة وبين التيارات «المذهبية» أو الفكرية الأخرى، وهو ما تقتضيه طبائع الأمور. وبعضها كانت ضد الشيعة ومخاصمة لهم مثل تميم وأسد وبكر وبجيلة، واستثنى من أسد أهل الغاضرية. كما كانت فيها قبائل شيعية مثل خزاعة وعبد القيس ومذحج وكندة وهمدان.
و هذا التصنيف لا ينفي وجود شخصيات أو فئات فرعية لها اتجاهات مختلفة عن الحالة الجمعية القبلية. بل لا يبعد وجود فئات موالية للسلطة في القبائل المحسوبة على الشيعة، نتيجة للتغييرات الممنهجة التي أجريت في الكوفة في بعض الفترات.
وعلى الرغم من هذا التقسيم لانتماءات القبائل، فإننا نجد بين أصحاب الحسين من كان ينتمي إلى عرب الشمال وإن كان أكثرهم من عرب الجنوب. وهذا يكشف عن حقيقة أن هذه الثلة لم تكن مواقفها تنطلق من قيم قبلية وعشائرية.
4ـ التغييرات المنهجية في ديموغرافيا الكوفة
لمعرفة انتماءات أهل الكوفة الفكرية والسياسية والاجتماعية، يلزم الأخذ في الاعتبار التغييرات العميقة التي حدثت فيها، بالأخص، إبان الحكم الأموي منذ سنة أربعين للهجرة وحتى سنة ستين للهجرة، أي خلال عقدين من الزمان، وعلى أثر السياسات التي اتبعتها الدولة الأموية في الكوفة.
يذكر الباحث الراوي، أن الحكم الأموي تعامل مع أهل الكوفة كأعداء يجب معاقبتهم وإنقاص أعطياتهم. ولا رَيْب أنها كانت تستهدف الفئات المعارضة له. وبالفعل روى الطبري، إن تعليمات السلطة في الشام لوالي الكوفة المغيرة بن شعبة، قضت أن لا يتردد في التعييب على أصحاب علي وإقصائهم، وترك الاستماع منهم وتهميشهم وإبعادهم والتضييق عليهم في أرزاقهم. بل حسب المدائني أن التعليمات الشامية قضت أن يُمحوا من الديوان ويسقط عطاؤهم وينكل بهم وتهدم دورهم. وقامت السلطة بتغيير البنية الاجتماعية والتركيبة الديمغرافية والقبلية في الكوفة وأعادت ترتيب خارطة التوازنات السياسية والفكرية فيها. يذكر الطبري بوضوح، بأن معاوية حين أجمع عليه أهل العراق بعد الإمام علي، كان يُخرج من الكوفة المستغرب في أمر علي وينزل داره المستغرب في أمر نفسه من أهل الشام وأهل البصرة وأهل الجزيرة وهم الذين يقال لهم النواقل
وهذا النص التاريخي يشير إلى تنفيذ عمليات تهجير قسري لآلاف العوائل لانتماءاتها الفكرية والسياسية المعارضة وتوطين فئات قبلية أخرى موالية للسلطة وإحلالها محلها.
وقد اتبعت سياسات التهجير الجماعي القسري في أقاليم العراق المهمة لإحداث التغيير في البنية الديمغرافية والقبلية ولإعادة ترسيم موازين القوى الفكرية والسياسية والقبلية لصالح السلطة.
وفي السياق ذاته، ولإعادة تشكيل وتموضع الولاءات القبلية ولتفريغ الأقاليم الفاعلة من التيارات التي تتوجس منها السلطة، قام زياد بن أبيه، والي الكوفة زمن معاوية بتنفيذ أكبر حملة للتهجير القسري شملت خمسين ألف عائلة، هجرها من البصرة والكوفة إلى خراسان. ذكر الطبري في حوادث سنة 45 بعث زياد (الوالي على العراق)، الربيع الحارثي إلى خراسان في خمسين ألفاً، من البصرة خمسة وعشرين ألفاً، ومن الكوفة خمسة وعشرين ألفاً، وعين على أهل البصرة الربيع وعلى أهل الكوفة عبد الله بن أبي عقيل. وحسب البلاذري حوّل زهاء خمسين ألفاً بعيالاتهم. ويرى بروكلمان إنه أنزل خمسين ألفا من الكوفيين وأسرهم، وكانوا أعظم الثوار تشيعا، وكذا عدداً كبيراً من البدو في خراسان. ويرى فروخ أن السلطة حسبت أنها بذلك أمنت خطرهم على السياسة العامة.
وكان زياد يرمي من ذلك، تفريغ الكوفة من المعارضين السياسيين وممن ليسوا على نهج السلطة الرسمية ليعيد ترتيب هيكلية القوى السياسية والفكرية وجعلها تميل لصالح السلطة.
وأرجع الكاتب صكبان التهجير إلى رغبة السلطة في تخفيف حدة التوترات السياسية في العراق أو تشجيع التعريب في خراسان! وهو تفسير غريب، إذ كيف يعرِب خراسان على حساب تفريغ الأقاليم العراقية من العناصر العربية!
وفي جميع الأحوال، فإنه لا بُدَّ من أخذ هذه التحولات العميقة التي تعرض لها المجتمع الكوفي في الحسبان عند دراسة الوضع الديمغرافي أو عند البحث في انتماءات القبائل في الكوفة سنة ستين للهجرة وما بعدها للتعرف على حقيقة الفئات التي اشتركت في قتال الحسين.
ومن ناحية التنظيم القبلي في الكوفة، فعند إنشائها كقاعدة للأجناد، قسمت القبائل لهذه الغاية إلى نظام الأسباع. وكان يعين على كل فئة رئيس أو زعيم لتسهيل عملية النفير العام وتنظيم توزيع الغنائم والعطاءات. ولما تولى زياد على الكوفة زمن معاوية غير نظام الأسباع إلى نظام الأرباع، أي قسم القبائل إلى أربعة فئات ودمج بعضها في الأخرى وعين على كلّ ربع زعيماً موالياً للسلطة ليتحكم على ولاءات القبائل ويراقب تحركاتها.
و نقل لنا الطبري، إن رؤساء الأرباع عند خروج عمر بن سعد لقتال الحسين، كانوا: عبد الله بن زهير الأزدي على أهل المدينة، وعبد الرحمن الجعفي على مذحج وأسد، وقيس بن الأشعث على ربيعة وكندة والحر الرياحي اليربوعي على تميم وهمدان، واشترك كلهم في مقتل الحسين إلاّ الحرّ فإنه عدل إلى الحسين فقتل معه.
وهذه المعلومات التاريخية تبين لنا بجلاء أن الكوفة في تركيبتها السكانية واتجاهاتها الفكرية وميولها السياسية وتشكيلاتها القبلية مرت بتغييرات منهجية وتحولات عميقة.
فالكوفة عند تأسيسها، لم تعد نفس الكوفة في عهد الخليفة عثمان، كما أنها لم تكن نفسها في عهد الإمام علي، وهي مختلفة كثيرا عن الكوفة إبان الدولة الأموية.
5ـ تنوُّع مشارب الذين كاتبوا الحسين(ع)
إن الذين كاتبوا الحسين كانوا من مختلف التيارات والمكونات الكوفية، وفيهم من زعماء الشيعة أمثال: الصحابي سليمان بن صرد الخزاعي والمسيب بن نجبة ورفاعة بن شداد وحبيب بن مظاهر. ولم يشترك أحد منهم في الجيش الأموي، بل أن بعضهم قاتل واستشهد مع الحسين مثل حبيب بن مظاهر، وكان على ميسرته. وكان منهم أيضا سعيد الحنفي وعابس بن شبيب الشاكري ومسلم بن عوسجة وأبو ثمامة الصيداوي، والتحق بهم كل من نافع بن هلال الجملي ومجمع بن عبد الله العائذي وعمرو الصيداوي ومولاه سعد واستشهدوا مع الحسين.
كما كتب إليه زعماء كانوا يعدون من الأشراف والوجهاء المقربين من السلطة. وكان بعضهم معروفاً بالتذبذب والانتهازية، مثل: شبث بن ربعي اليربوعي وحجار بن أبجر العجلي ويزيد بن الحارث الشيباني وعزرة بن قيس الأحمسي وعمرو بن الحجاج الزبيدي ومحمد بن عمير التميمي. وكان هؤلاء من قادة الجيش الأموي الذي قاتل الحسين. كما أن ابني الأشعث بن قيس الكندي وهما: محمد وعبد الرحمن كانا من القادة المقربين من السلطة وكان الأول قائد الحملة العسكرية التي قاتلت رسول الحسين مسلم بن عقيل، كما اشترك هو وأخوه في قتال الحسين. ويشير فلهوزن أن حجار بن أبجر كان بكرياً من أصل مسيحي وأن شبث بن ربعي كان من الحرورية. وكان شبث متقلباً في مواقفه يتنقل من معسكر إلى آخر مضاد. فقد أعان على قتل عثمان وكان من أصحاب علي ثم صار من الخوارج وكان يقول أنا أول من حرر الحرورية، ثم تاب ثم حضر قتل الحسين وأعان عليه.
وهؤلاء حاجهم الحسين يوم عاشوراء قال: يا شبث بن ربعي ويا حجار بن أبجر ويا قيس بن الأشعث ويا يزيد بن الحارث ألم تكتبوا إلي أن قد أينعت الثمار واخضرّ الجناب… فأقبل! قالوا لم نفعل، فقال: سبحان الله، بلى والله لقد فعلتم.
6ـ حضور المحكمة في المجتمع الكوفي
هناك تيار «المحكمة» الذي كان متواجداً في أقاليم العراق كالبصرة والكوفة ضمن التقسيمات القبلية السائدة آنذاك. وهم الذين انشقوا عن معسكر الإمام علي بعد واقعة التحكيم وشكلوا جماعة منفصلة. وكانوا موجودين بالكوفة وقادوا حركات مسلحة ضد السلطة الأموية منذ زمن معاوية انطلاقاً من الكوفة.
وقد سبق أن ذكرنا أن شبث بن ربعي كان قائد الرجالة في جيش السلطة في واقعة كربلاء، وكان قبل ذلك من الحرورية.
واشترك شبث بن ربعي والقعقاع بن شوس ومحمد بن الأشعث في قتال رسول الحسين مسلم بن عقيل وقاتلوا قتالاً شديداً.
وكان منهم عبد الله بن عقبة الغنوي، وهو ممن اشترك في حركة المستورد زمن معاوية ثم عفى عنه المغيرة بن شعبة. وقاتل في كربلاء مع جيش السلطة وقتل أبا بكر بن الحسن السبط.
وكان سعد بن عبيدة الأسلمي الكوفي مع قائد الجيش عمر بن سعد في كربلاء، وقد روى أنه كان مستنقعا معه في الماء حين جاءته الأوامر بمناجزة الحسين. قال أبو حاتم الرازي كان يرى رأي الخوارج ثم تركه.
وروى الشجري(477) في أماليه بسنده عن فضيل بن الزبير(148) وعن يحيى بن أم طويل وعبد الله بن شريك عن زيد بن علي بن الحسين، أسماء من قتل مع الحسين مع انتماءتهم القبلية، فذكر من بين من استشهد مع الحسين، سعد بن الحارث وأخوه الحتوف بن الحارث وكانا من المحكمة، فلما سمعا أصوات النساء والصبيان من آل رسول الله حكما (هتفا لا حكم إلاّ لله) وحملا بأسيافهما فقاتلا مع الحسين حتى قتلا.
و هذه الرواية تفيد بوجود عناصر من المحكمة في الجيش الأموي، وأن هذين تأثرا بما رأياه من حال النساء والصبيان فانحازا إلى الحسين واستشهدا معه.
وروى ابن طاووس عن حميد بن مسلم قال رأيت امرأة من بني بكر بن وائل كانت مع زوجها في أصحاب عمر بن سعد، فلما رأت القوم قد اقتحموا على نساء الحسين في فسطاطهن وهم يسلبونهن، أخذت سيفا وأقبلت نحو الفسطاط وقالت: يا آل بكر بن وائل أتسلب بنات رسول الله؟ لا حكم إلا لله، يا لثارات رسول الله، فأخذها زوجها فردها إلى رحله. وحسب هذه الرواية، فإن هذه المرأة لم تقوَ على تحمل المشهد ونادت بشعار المحكمة بشكل عفوي.
إن هذه الروايات ـإن صحت ـ تؤيد الرأي الذي يذهب إلى وجود عناصر منهم في الجيش الأموي.
والموقفان الأخيران يعبران عن حالة عفوية فطرية تدل على أن هؤلاء لم يتأثروا بأي اتجاه فكري مضاد لأهل البيت.
ولم يتبين لنا من المصادر السابقة دوافعهم واتجاههم الفكري والسياسي آنذاك.
ويختلف الباحثون في قضية اشتراك «الخوارج» في الجيش الذي قاتل الحسين، فيؤكد القرشي على اشتراكهم في الجيش الأموي ولكنه لم يسند رأيه إلى أي خبر أو مصدر تاريخي، إنما استند إلى اتجاههم الفكري ومواقفهم السياسية العامة وهو لا يكفي للجزم بذلك.
وفي المقابل يرجح الريشهري أنهم لم ينحازوا إلى أي من الجانبين في واقعة كربلاء لأنهم كانوا في صراع مع السلطة الأموية.
7ـ السلطة وأنصارها في الكوفة
كان في الكوفة تيار السلطة ورجالها، ومن هؤلاء من كتب إلى حاكم الشام يزيد بن معاوية يخبره بحركة مسلم بن عقيل، مثل عبد الله بن مسلم الحضرمي حليف بي أمية وعمارة بن عقبة وعمر بن سعد بن أبي وقاص، وقد عبر عنهم يزيد في كتابه إلى ابن زياد بأنهم شيعته.
وفيها فئات كانت تعرف بالعثمانية ـ وهي من تيار السلطة ـ وكانت تعادي الإمام علياً وتناوئه. ويذكر الطبري وغيره من المؤرخين أن السلطة الأموية كانت تنتهج سياسة النيل من الإمام علي وأبنائه وأتباعه والترحم على عثمان وأنصاره وأوليائه. وقد أفرد ابن أبي الحديد فصلا ممَّن وصفهم بالمنحرفين عن علي وممن كان يقع فيه وينال منه، وعد منهم جماعة منهم النعمان بن بشير والي الأمويين على الكوفة وسمرة بن جندب الذي كان على شرطة زياد ثم شرطة ابنه عبيد الله وكان يحرض الناس إلى قتال الحسين. وحسب البلاذري أن النعمان بن بشير كان عثمانياً مجاهراً ببغض عليّ وكان سيئ الرأي فيه. ويذكر البلاذري أن بشر بن شوط العثماني اشترك في قتل عبد الرحمن بن عقيل في كربلاء.
وكان من رجالة شمر الذين قاتلو الحسين في آخر ساعة، القاسم (القشعم) بن عمرو الجعفي، وذكر البلاذري أنه كان ممَّنْ اعتزل علياً. وعده الخزرجي عثمانياً.
والباحث في الوثائق السياسية المتعلقة بواقعة كربلاء يجد أن رجال السلطة وعمالها كانوا يركزون على هذا الوتر لتسويغ تصرفاتهم وتحفيز حلفائهم على تنفيذ خططهم. ويبدو أنه أحد المبادئ التي أقاموا عليها شرعيتهم.
فقد كتب ابن زياد إلى عمر بن سعد، أما بعد فحل بين الحسين وأصحابه وبين الماء، ولا يذوقوا منه قطرة كما صنع بالتقي الزكي المظلوم أمير المؤمنين عثمان.
وفي جدال بين زهير بن القين وهو أحد أصحاب الحسين وكان على ميمنته، وبين أحد قادة جيش السلطة وهو عزرة بن قيس الأحمسي، قال له: ما كنت عندنا من شيعة أهل هذا البيت، إنما كنت عثمانياً! وفي مشادة كلامية أخرى بين أحد أصحاب الحسين وهو برير بن خضير الهمداني، وبين يزيد بن معقل، قال الأخير لبرير: هل تذكر وأنا أماشيك في بني لوذان وأنت تقول: إن عثمان كان على نفسه مسرفا وإن معاوية ضال مضل، وإن إمام الهدى والحق علي بن أبي طالب؟ فقال برير: أشهد أن هذا رأيي وقولي، فقال له: إني أشهد أنك من الضالين. وكان نافع بن هلال البجلي يقول: أنا الجملي، أنا على دين علي، فخرج إليه مزاحم بن حريث فقال: أنا على دين عثمان. ولما وصل خبر مقتل الإمام الحسين إلى المدينة وسمع الناس واعية نساء بني هاشم في دورهن على الحسين، كان عامل السلطة عمرو بن سعيد يضحك ويقول: واعية بواعية عثمان. هذه بعض الشواهد على وجود تيار سلطوي يتبنى رؤية السلطة ويردد شعاراتها للتأثير على الرأي العام.
خلاصةٌ
ومن ذلك يتبين أن الكوفة، منذ إنشائها وحتى الفترة موضوع البحث، حدثت بها تحولات ديمغرافية واجتماعية وفكرية وإدارية وسياسية عميقة.
وكان يقطنها خليط من القبائل والفئات والتيارات، ولم يكن أهلها ينتمون إلى اتجاه فكري وسياسي واحد.
وأن تركيبة الجيش الرسمي الذي قاتل الإمام الحسين وأهل بيته وأنصاره لم يكن من فئة اجتماعية وفكرية وسياسية معينة.
أهم المصادر والمراجع
1ـ باقر القرشي، حياة الامام الحسين، مؤسسة الوفاء، الطبعة الثانية، سنة 1984م.
2ـ ثابت إسماعيل الراوي، العراق في العصر الأموي، الطبعة الثانية، سنة 1970م، مطابع النعمان، النجف الأشرف.
3 ـ أبو جعفر الطبري، تاريخ الطبري، تحقيق محمد أبو الفضل إبراهيم، دار التراث، بيروت.
4 ـ عمر فروخ، تاريخ صدر الإسلام والدولة الأموية، دار العلم للملايين، الطبعة السادسة، سنة 1983م.
5ـمحمد حسن آل ياسين، نصوص الردة في تاريخ الطبري، المكتب العالمي، الطبعة الرابعة، سنة 1983م، بيروت.
6ـ أحمد بن يحيى البلاذري، فتوح البلدان، المحقق عبدالله الطباع، مؤسسة المعارف، بيروت.
7ـ أحمد بن يحيى البلاذري، جمل من أنساب الأشراف، تحقيق سهيل زكار ورياض زركلي، دار الفكر، بيروت.
8ـ لويس ماسنيون، خطط الكوفة وشرح خريطتها، ترجمة وتعليق تي بن محمد الضبي، الطبعة الأولى، دار الوراق، سنة 2009م، بغداد.
9ـ عبد الحميد ابن أبي الحديد المعتزلي، شرح نهج البلاغة، تحقيق محمد أبو الفضل، دار الفكر، الطبعة الثانية، سنة 1967م، بيروت.
10ـ ابن حجر العسقلاني، تهذيب التهذيب، دار صادر دائرة المعارف في الهند، حيدر آباد، سنة 1325هـ.
([1]) قسمٌ من بحثٍ موسَّع حول طبيعة الجيش الرسميّ الذي قاتل الإمام الحسين.