لعلي لا أبالغ لو قلت بأن محاكم التفتيش التي أطلقها البابا جرينوار التاسع في بدايات القرن الثالث عشر الميلادي وراح ضحيتها الآلاف من العلماء والمفكرين بتهمة «الهرطقة» موجودة في تاريخنا الإسلامي، بل نستطيع أن نقول بأنها لا تزال موجودة حتى في عصرنا الحاضر، ولكن بعناوين أخرى، وبجلادين من نوع آخر، وبوسائل إقصائية وتنكيليه مختلفة تناسب وضعية هذا الزمن، وإلا فالفكرة في أساسها موجودة – وهي محاسبة الآخرين على عقائدهم وآرائهم – وإن كانت تختلف في درجتها وكيفيتها وتفاصيلها عن تلك الموجودة في تاريخ المسيحية.
فلا يُكابر البعض ولا يتفاخر بقوله بأنه لا يوجد عندنا محاكم للتفتيش على غرار ما في تاريخ الديانة المسيحية، لأن هذه مكرمة وهمية، فمحاكم التفتيش – لو دققنا جيداً – موجودة عندنا، ولكن بعناوين ومسميات أخرى، ويوجد في تاريخ الديانتين «المسيحية والإسلامية» جلادين وضحايا لأمثال هذه المحاكم، وما حملات التسقيط والتشكيك في النوايا والمعتقدات التي واجهها ولا زال يواجهها الكثير من العلماء والمفكرين المسلمين إلا أحد تداعياتها، فالكثير من العلماء والمفكرين مُورس في حقهم التسقيط والإقصاء، لأنهم جاءوا لمجتمعاتهم بما لم تعتاد عليه، وهذه النتيجة تبدو طبيعية جداً، فكل صاحب دعوة تجديدية تخالف المعهود والمألوف الاجتماعي لابد وأن يمارس في حقه التسقيط والتشويه والتشهير والإقصاء، وذلك لكي يقطع عليه الطريق ولا يستطيع بعدها من التأثير على الآخرين.
وهذا ليس مقتصراً على العلماء والقيادات التجديدية في زماننا هذا أو في ذلك الزمان، بل إنه يمتد إلى عصر الأنبياء والأئمة ، فهم أيضاً لاقوا ما لاقوه من الأذى، وتعرضوا للعديد من حملات التسقيط والتشويه، فالأنبياء ومنهم نبينا محمد اتهموا بالسحر والكذب والكهانة والجنون وغيرها من الاتهامات التي كانت تستهدفهم لتشويه صورتهم ليبتعد الناس عنهم ولا يتأثروا بهم، وكذلك نجد أن الأئمة قد اتهموا بالعديد من التهم بغرض تشويه صورتهم، فلقد اتهم الإمام علي بن أبي طالب بأنه لا يصلي، وأتهم الإمام الحسن بأنه مزواج، وأتهم الإمام الحسين بأنه خارجي، وهذه التهم ليست ببعيدة عن التهم التي أتهم بها العديد من العلماء والمصلحين الذين تعرضوا لحملات الإسقاط والتشويه.
والتسقيط فن لا يجيده كل الناس، فهو يحتاج لمهارات وقدرات من نوع خاص، وهي لا تتوفر إلا لمن باع نفسه للشيطان، ولهذا نجد من يُجيدون مثل هذا الفن لا يكتفون بممارسته فقط، بل يقومون بشرعنته – أي التسقيط – وبإلباسه لباساً شرعياً، كقول أحدهم عن الحسين : «الحسين خرج عن حده فقتل بسيف جده» أو كما يفعل البعض من تتبع عثرات من يريد إسقاطه والكذب عليه، وتحريفه لكلامه عن مواضعه، وتحميله أكثر مما يحتمل، وإساءة الظن به واتهامه، والتشكيك في نواياه، وممارسة الغيبة والنميمة وغيرها من أساليب الانحلال الأخلاقي التي تستخدم عادة للتحريض والتسقيط… وبعد ذلك نجدهم يقومون بتبرير هذه الأعمال الشنيعة بقولهم: أن ما يقومون به هو دفاعاً عن الدين أو العقيدة أو أهل البيت ضد أهل الضلال والانحراف والباطل!!
والأنكى من ذلك أن يبرروا هذه الأمور ويدخلوها مدخل الوجوب الشرعي، فهم لا يكتفون بالقول بجوازها فقط، بل يصورونها وكأنها واجباً شرعياً سيؤثمون عليه لو تركوه، كقول أحدهم: أنه يمارس بعض هذه الأمور لأنه يراها من باب تكليفه الشرعي، فتجده يتهم الآخرين ويحرض عليهم وإذا سُأل: أجاب بأنه يرى ذلك تكليفاً شرعياً يجب عليه القيام به، ولا أدري كيف يجمع هؤلاء بين تصرفاتهم هذه، وبين الروايات الشريفة الواردة عن أهل البيت والتي تحذر من هذا الأمر، منها ما روي عن الإمام الصادق أنّه قال: «إذا اتّهم المؤمنُ أخاه انماثَ الإيمانُ من قلبه كما ينماث الملح في الماء» [1] .
نماذج معاصرة من علماء تعرضوا للإسقاط
هناك الكثير من العلماء الذين نالهم نصيبهم من المحاربة والإقصاء، وشنت عليهم حملات التسقيط والتشهير والتشويه، ولو أحببنا أن نستعرضهم بأجمعهم لما وسعنا ذلك، ولكننا سنذكر باختصار جملة منهم – من العلماء المعاصرين – الذين تعرضوا لمثل هذه الحملات.
السيد محسن الأمين «عدو الحسين :
لقد قام السيد محسن الأمين بالدعوة لإصلاح العزاء الذي يقام لسيد الشهداء الإمام الحسين ، لأنه كان يرى بأن فيه خلل في عدة نواحي منها، ما يتلوه الذاكرون من الأخبار المكذوبة والأغلاط الشائنة وبعض الأعمال التي تجري في المجالس…، كما انتقد السيد جرح الرؤوس بالمدى والسيوف «التطبير» ولبس الأكفان وضرب الطبول والنفخ في البوقات وغير ذلك من الأعمال، ونتيجة لرأيه هذا اتهم بالكفر والزندقة، وقيل عنه: بأنه عدو للحسين ، وغيرها من التهم التي ألصقت به، ولقد نظم أحدهم أبياتاً من الشعر – وهو من بعض المحسوبين على العلماء – تدعو للتهجم عليه وتتهمه بالزندقة، قائلاً فيها:
يا راكباً أما مررت بجلّق *** فابصق بوجه أمينها المتزندقِ[2]
السيد روح الله الخميني «كافر ونجس»:
واجه السيد الخميني – رحمه الله – حملات التسقيط والتشويه، لأنه يهتم بالفلسفة والعرفان، ولأنه خالف الأئمة في القيام بتأسيس دولة إسلامية في ظل غياب الإمام المهدي «عجل الله فرجه الشريف» – طبعاً كما يرى مناوئوه من أصحاب المنهج التقليدي – لدرجة وصل الأمر ببعضهم إلى تكفيره والحكم بنجاسته وبنجاسة أبنه السيد مصطفى تبعاً له، ولقد واجه السيد – رحمه الله – هذا التيار ووصف هؤلاء في بعض خطاباته بالأفاعي الرقطاء وغيرها من النعوت[3] .
السيد الشهيد محمد باقر الصدر «عميل للبعث وعاطفي لا يصلح للمرجعية»:
وكذلك نرى السيد الشهيد الصدر الأول يواجه العديد من حملات الإسقاط، وكل ذلك لأنه طرح مرجعيته وهو في سن صغير في قبالة شخصية علمية كبيرة ومعروفة وهو السيد أبو القاسم الخوئي – رحمه الله – وكذلك لأنه أتى بالعديد من محاولات التجديد في الحوزة العلمية، «في مناهجها وعلومها»، مما أدى إلى اتهامه بالعمالة لحزب البعث، كما قيل عنه أنه عاطفي ولا يصلح للمرجعية أو لقيادة الأمة، مما أدى لتعرضه للأذى والاضطهاد لا من قبل السلطة المجرمة فحسب، بل ومن قبل بعض الأوساط العلميّة والحوزويّة كما يقول الشيخ محمد رضا النعماني في كتابه القيم سنوات المحنة وأيام الحصار[4] .
السيد الشهيد محمد محمد صادق الصدر «عميل للبعث ومجنون»:
ويتكرر المشهد الذي جرى مع السيد الشهيد الصدر الأول مع الشهيد الصدر الثاني – رحمه الله – فهو الآخر دعا للإصلاح وتكلم عن وجود حوزة صامتة وحوزة ناطقة كما كان يعبر، ودعا لإقامة صلاة الجمعة في تلك الفترة العصيبة من تاريخ العراق، بل وأقامها فعلاً في مسجد الكوفة رغم كل الظروف والتحديات الموجودة في تلك المرحلة الحساسة، وضحى بحياته من أجل ذلك، إلا ان حملات التسقيط كانت تلاحقه كما كانت تلاحقه زبانية البعث، والغريب أنه اتهم بالعمالة لحزب البعث، وشاع عنه هذا الخبر وصدقه الكثير من الناس، ورغم أنه – رحمه الله – قد تصدى لمواجهة الظالمين والبعثيين بكل قوة وشجاعة إلا أنه وبدلاً من أن يوصف بالشجاعة أتهمه بعضهم بالعمالة والجنون[5] .
السيد محمد بن السيد مهدي الشيرازي «غير مجتهد»:
كذلك نجد أن السيد محمد الشيرازي – رحمه الله – قد عانى ما عانى من الظلم ومحاولات التسقيط، ولقد أتهم بعدة اتهامات منها: أنه غير مجتهد، وأن بعض مؤلفاته لم يكتبها هو بل كتبها آخرون له، وأن أغلب تلك المؤلفات تفتقر إلى العمق وتمتاز بالسطحية، وأنه مرجعية سياسية وذات طابع ثورية واندفاعي فيجب الحذر منها[6] .
السيد محمد حسين فضل الله ضال مضل وعدو للزهراء »:
أما الحديث عن السيد محمد حسين فضل الله – رحمه الله – فلا يسعنا الحديث عن جميع الاتهامات ومحاولات التشويه والإسقاط التي تعرض لها، لأنها كثيرة كثيرة، وكبيرة كبيرة، بدءاً بالتشكيك بعلمه واجتهاده، وانتهاءً إلى اتهامه بالانحراف والضلال والخروج عن المذهب، وصولاً إلى ما هو أكبر من ذلك، فلقد شنت عليه حملات كبيرة جداً بهدف إسقاطه، فكتبت ضده العديد من الكتب، ووزعت ضده الكثير من المنشورات، وحُرض عليه في الكثير من الخطب، وصدرت بحقه عدة فتاوى تدينه بالضلال والانحراف.
ملاحظات هامة:
إن من يدقق في أسماء العلماء الذين ذكرناهم آنفاً؛ ويتأمل في سيرهم جيداً يلحظ بأنهم يشتركون مع بعضهم البعض في العديد من الخصائص والسمات، فكلهم كانوا يؤمنون بالعقلانية وبالحركية في الدعوة الإسلامية، فهم ضد الجمود والخمول والسكون، ولذلك لم يقتصروا على الفتاوى والمرجعية التقليدية فحسب، بل كانت لهم تضحيات كبيرة، ورؤى ومواقف سياسية صلبة، ونشاطات وأدوار متعددة وكثيرة أحدثت آثاراً لا تزال واضحة وملموسة في أكثر من جانب ومجال.
كما يُلاحظ كذلك بأن من وقف ضدهم كانت لهم أيضاً سمات وخصائص مشتركة، وربما تكون السمة الأبرز فيهم هي أنهم تقليديين وجامدين بامتياز، فلو تساءلنا ما هي ملامح وصفات وعقليات الذين أتهموا السيد محسن الأمين بالزندقة والكفر؟! لوجدنا أنها نفس الخصائص والصفات التي يحملها من أتهموا غيره من العلماء بالانحراف والضلال وغيرها من التهم، فهم على الرغم من كونهم شخصيات متعددة، وعاشوا في فترات زمنية مختلفة، إلا أنهم يشتركون في العديد من الخصائص والسمات، كما أنهم قد يشتركون كذلك في نفس الدوافع والأهداف، فالدوافع التي حركت أولئك هي تقريباً نفس الدوافع التي حركت هؤلاء.
مهما يكن الأمر، فلا يخفى على كل ذي عقل واع ما للتسقيط من آثار سلبية خطيرة ومدمرة تهدد وحدة الكيان الاجتماعي، فالتسقيط ظاهرة أقل ما يُمكن أن يقال بشأنها أنها ظاهرة خطيرة جداً، خصوصاً إذا ما عرفنا أنها لا تستهدف في العادة إلا الشخصيات والرموز البارزة في المجتمع، وللأسف أن الرموز والشخصيات البارزة كرجال الدين مثلاً هم من أكثر الناس ممارسة للتسقيط، فهم كثيراً ما يلجئون إلى تسقيط العلماء ورجال الدين الآخرين الذي لا يتفقون معهم في الآراء والتوجهات.. فيا للعجب!
ومن المناسب هنا أن أذكر هذه الوصية المروية عن الإمام علي بن موسى الرضا ، فلعلها تلقى آذاناً صاغية عند الذين يمارسون التسقيط، فقد روي عن الإمام الرضا أنه أوصى عبد العظيم بن عبد الله الحسني بقوله: «يَا عَبْدَ الْعَظِيمِ أَبْلِغْ عَنِّي أَوْلِيَائِيَ [السَّلَامَ] وَقُلْ لَهُمْ لَا يَجْعَلُوا لِلشَّيْطَانِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ سَبِيلًا وَ مُرْهُمْ: بِالصِّدْقِ فِي الْحَدِيثِ، وَأَدَاءِ الْأَمَانَةِ وَمُرْهُمْ بِالسُّكُوتِ وَتَرْكِ الْجِدَالِ فِيمَا لَا يَعْنِيهِمْ، وَإِقْبَالِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ وَالْمُزَاوَرَةِ فَإِنَّ ذَلِكَ قُرْبَةٌ إِلَيَّ وَلا يَشْغَلُوا أَنْفُسَهُمْ بِتَمْزِيقِ بَعْضِهِمْ بَعْضاً فَإِنِّي آلَيْتُ عَلَى نَفْسِي أَنَّهُ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ وَأَسْخَطَ وَلِيّاً مِنْ أَوْلِيَائِي دَعَوْتُ اللَّهَ لِيُعَذِّبَهُ فِي الدُّنْيَا أَشَدَّ الْعَذَابِ وَكَانَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ، وَعَرِّفْهُمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ غَفَرَ لِمُحْسِنِهِمْ وَتَجَاوَزَ عَنْ مُسِيئِهِمْ «إِلَّا مَنْ أَشْرَكَ بِهِ أَوْ آذَى وَلِيّاً مِنْ أَوْلِيَائِي» أَوْ أَضْمَرَ لَهُ سُوءاً فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ لَهُ حَتَّى يَرْجِعَ عَنْهُ فَإِنْ رَجَعَ عَنْهُ وَ إِلَّا نُزِعَ رُوحُ الْإِيمَانِ عَنْ قَلْبِهِ وَخَرَجَ عَنْ وَلَايَتِي وَلَمْ يَكُنْ لَهُ نُصِيبٌ فِي وَلَايَتِنَا وَ أَعُوذُ بِاللَّهِ مِنْ ذَلِكَ» [7] .
ويبقى السؤال: تسقيط العلماء.. لمصلحة من؟! فإذا عرفنا أن ذلك ليس من مصلحتنا، فإني أترك الإجابة للقارئ العزيز في تحديد الجهات المستفيدة من هذه الظاهرة الخطيرة.
____________________________________________________
[1] راجع كتاب الكافي ج2، ص 361.
[2] لمزيد من التفاصيل راجع كتاب أعيان الشيعة الجزء الأخير للسيد محسن الأمين رحمه الله.
[3] راجع خطابات السيد الخميني في صحيفة الإمام.
[4] للمزيد من التفاصيل راجع كتاب سنوات المحنة وأيام الحصار للشيخ محمد رضا النعماني، وكذلك كتاب الشهيد محمد باقر الصدر بين دكتاتوريتين للأستاذ عادل رؤوف.
[5] للمزيد من التفاصيل راجع كتاب مرجعية الميدان للأستاذ عادل رؤوف، وكتاب اغتيار شعب للأستاذ فائق الشيخ علي، وكتاب رجل الفكر والميدان لمجموعة من الباحثين.
[6] للمزيد من التفاصيل راجع مقالة هكذا ظلمنا الإمام الشيرازي للأستاذ إبراهيم محمد البوشفيع.
[7] راجع كتاب الاختصاص للشيخ المفيد ص 247.
القطيف