أحدث المقالات

مقاربة في ضوء الاجتهاد الأصولي الإسلامي

حوار مع: الشيخ محمد السند(*)

اللغة العربية ومقولة تطوّر اللغة

_ ثمة مقولة تحكي عن تطور اللغات البشرية بنحو يصل بعضها إلى حدّ التبدُّل، وربما تتقاطع فكرة «أصالة الثبات في اللغة» المطروحة في علم الأصول ـ والتي تستبطن وجود تطور واقعي في اللغة بنحوٍ ما ـ مع هذه المقولة…، فإلى أي مدى ترون انطباق هذه المقولة على اللغة العربية؟

^ التطور في اللغة بمعنى التغيّر تارة؛ وأخرى بمعنى تكامل علوم اللغة. أما التغيّر فهو يحدث تارة على صعيد المواد بنقلها إلى معان جديدة، وتوسعة، وما إلى ذلك؛ وأخرى نحتمله في التراكيب والهيئات البسيطة والمركبة. فأما الأول فقد كفت مؤونته كتب اللغة، حيث رصدت المعاني المستعملة، سواء على نحو الحقيقة أو غيرها في عهود صدور النص؛ وأما الثاني فهو وإن كان محتملاً إلا أن وقوعه نادرٌ. نعم، الأساليب الأدائية للمعاني، التي يعالجها علم البلاغة وفن المعاني والبيان والبديع ونحوها من العلوم الأدبية، حصل فيها تصاريف من التغيير، لكن المفروض في القارىء للنص العربي في المتون الدينية هو طيُّه لدراسة العلوم الأدبية، ومعايشة تلك الأساليب الأدائية في العصور الأولى للغة، كي يتكوّن لديه حصيلة إجمالية في ذائقته الأدبية. وسيتبين في الشق الآخر من التطور في اللغة الإحاطة بمثل هذه الشؤون. أما التكامل في علوم اللغة وتشعّب العلوم الأدبية وتخصصاتها، كفقه اللغة، وأنحاء الاشتقاق والنحت اللغوي، وتاريخ اللغة، وعلم النفس اللغوي، ورسوم الخطوط، وفنون الهجاء، وغيرها من التكثُّر الحاصل في علوم الأدب، فهو يخدم الوصول إلى حاقّ المعاني المتداولة في النصوص، حتى عادت المسابقات الأدبية في قراءة النص تتبارى في تحليل بيئة المتكلِّم واللافظ للنص من الناحية الاجتماعية والخلقية والنفسية والمدنية والسياسية والعلمية وغيرها من النواحي التي عاشها المتكلِّم، وكل ذلك ضمن أصول وضوابط تثري الثقافة الأدبية. وعلى أي تقدير فهذا الجانب من التطور في اللغة خادمٌ ومعينٌ لقراءة النص، ولا يتصادم مع الموازين التقليدية المقرَّرة في مباحث الألفاظ، سواءٌ في علم الأصول أو في علوم اللغة السابقة، بل توسّع في البنيان الهرمي لتلك الموازين. وعلى العموم فهذا الحديث ليس مخصوصاً بالنص الديني، بل يشمل كلّ نص لغوي تاريخي.

تأثير تطوّر اللغة على منهج فهم النصوص والدينية

_ وفقاً لمبدأ تطور اللغة هل يؤثِّر ذلك على عملية فهم النص القرآني بنحوٍ يتشكل لدينا فهم خاص مختلف عن الفهم الذي يحصل لدى السابقين ممّن كانوا أقرب إلى عصر النص؟ وبعبارة أخرى: هل أن قرب السابقين من عصر النص ـ الأمر الذي يجعلهم والنص ضمن إطار لغوي موحَّد ـ يؤثِّر على نشوء فهم مختلف عن فهم المتأخِّرين الذين خضعوا لأطر لغوية مختلفة نتيجة لتطوّر اللغة؟

^ لا ريب أن التطور المزبور في اللغة على التقدير الأول يورث معطيات سلبية في قراءة النص، لكن قد ذكرنا طرق تفادي ذلك الابتعاد عن الوصول إلى المعاني المرادة. وأما التطور في العلوم اللغوية فقد مرّ بنا أنه يوجب فهماً أعمق وأكثر شمولية لمعاني النص. لكن هذا الاختلاف لا يعني التقاطع بنحو التنافي والتضاد والتقابل مع الفهم السابق السائد للنص، بل في كثير من الموارد يكون من قبيل: الإجمال والتفصيل، أو الرؤية المبهمة والواضحة، أو البعيدة والقريبة، أو البذرة والشجرة، ونحو ذلك.

القراءة التاريخية للنص الديني

_ برزت في الفترة الأخرة عدّة محاولات لقراءة النص القرآني ـ والديني عموماً ـ قراءة تاريخية، يتمّ فيها قراءة النص مع ملاحظة أطره وظروفه التاريخية الخاصة. ويرى أصحاب هذا المنهج أنه يؤمِّن لهم مساحة أكبر للمناورة مع النص. فما هو مدى إمكانية الاستفادة من هذه المحاولات؟ وما هي مواقع الصحة والخطأ فيها؟

^ قد ذكرنا أن بروز مناهج وعلوم أدبية لغوية لقراءة النص اللغوي أمرٌ يشهد لعمق قراءة النص، والتوسع في معرفة بيئات المتكلم بذلك النص، إلى غير ذلك من التحليل والنقد للنص الأدبي، حتى أن الناقد الأدبي قد يصل إلى معاني لا يصل إليها غيره من النّقّاد والأدباء، فضلاً عن بقيّة أبناء اللغة، إلا أن كل ذلك يصبح سديداً اذا تمّ وفق موازين مقرَّرة،وقواعد مبرهنة مثبتة في علوم اللغة، أما القراءة للنص المبنية على أسس لمّا يثبت ويقرر صحتها في علوم اللغة فلا يمتلك صاحبها الدليل المقنع للوسط الأدبي وغيره من الأوساط العلمية. نعم، تظلّ قراءة محتملة خاضعة للنفي والإثبات والدراسة.

أما اتساع مساحة المناورة في البعد القانوني للمعاني في القراءة التاريخية وغيرها للنص فلابد من إعمال ضوابط البحث القانوني في ذلك، ولو على نطاق دراسة البرهنة على ضابطة إحداثية جديدة. والمهم المطلوب هو التقييم العلمي الموزون لهذه القراءات، لا الاسترسال لبريق (لكل جديد لذة)، ولا الانغلاق عن البحث فيها؛ لأن دأب الفكر البشري هو مواصلة السير والتنقيب. إنما المطلوب الدراسة التخصصية لجوانب هذه القراءات على مستوى المتخصِّصين، لا المشي العفوي مع المثقَّفين.

التمييز بين الكتاب والسنّة في الطابع التاريخي

_ يرى بعض الباحثين وجود فارق بين النص القرآني والنص الروائي، باعتبار أن النص القرآني نص ثابت ممتد بامتداد الزمان؛ وأما النص الروائي فهو خاضع ـ نتيجة كونه إجابة عن مجموعة تساؤلات جزئية ـ لأطر تاريخية معينة. وينجم عن هذا الفارق ـ في اعتقاده ـ انحسار دور النص الروائي إلى حدٍّ ما لصالح النص القرآني. برأيكم إلى أيّ مدى يمكن القبول بهذه التفرقة والتجاوب مع امتداداتها؟

^ ينقل عن السيد البروجردي& أن القرآن كمتن قانوني، والسنة النبوية كتبصرات ملحقة لذلك المتن القانوني، والسنة من الأئمة المعصومين^ كشرح لذلك المتن وتبصراته. وقد تقرّب هذه النسبة بين المواد المستفادة من القرآن الكريم والسنة النبوية أنها كالنسبة بين المواد الأولى في الدستور القانوني للدولة والمواد اللاحقة الأخرى في ذلك الدستور، والنسبة بين المواد القرآنية والنبوية مع السنة المعصومية هي النسبة بين المواد الدستورية والمواد القانونية للمجالس النيابية.

لكنّ هذه النسبة هي في الأحكام والتشريعات الصادرة من النبي’ والأئمة^، لا في أقوالهم والروايات عنهم، التي هي في صدد شرح وبيان تشريعات الفرائض الإلهية، كما هو الحال في بياناتهم عن مدارج تأويل وبطون القرآن، والتي لا تتناهى، فإنه لا يمكن الاقتصار على تنـزيل القرآن دون تأويلاته من الراسخين في العلم، ولا على ظهوره دون بطونه التي لاحدّ لها، والتي خوطب بها المطهَّرون خاصة. ومن ذلك يتبين خطأ هذه المقولة في جانبها الإطلاقي من كون مضامين الروايات أحكاماً تدبيرية جزئية لا امتداد زماني لها. وبالجمـلة كون الأحكام المستفادة من الرويات جزئية محدودة إنما يصدق في خصوص بعض الأحكام الصادرة عنهم صلوات الله عليهم، التي هي من قبيل المواد القانونية الوزارية في السياسات التدبيرية للحكم.

ولأجل كون معظم رواياتهم هي في بيان حقائق التأويل والتنـزيل القرآني كان اللازم في متشابه القرآن هو العرض على محكم سنة النبي’ وأهل بيته^. كما أن متشابه السنة يعرض على محكم الكتاب. نعم، هناك نظرية، بل علم جديد آخذ في التكوّن والنشوء، وهو علم أصول فقه القانون، وهو يغاير علم أصول فقه القانون، (علم أصول القراءة القانونية)، ويغاير علم القانون (الفقه)، ويغاير علم الحقوق، وعلم الفقه المقارن، وغيرها من العلوم القانونية. ولمّا يقرر هذا العلم كتخصُّص في الدراسات الأكاديمية، بل الكتب الموضوعة فيه لازالت بدائية، ككتاب أصول القانون، للدكتور السهنوري مع الدكتور أحمد حشمت، وجعلاه كمدخل لعلم القانون. وعلى أي تقدير فقد لفت انتباهي منذ حوالي خمس أو أربع سنين في محضر الدرس والبحث مع الإخوة الأفاضل ظاهرة متميزة لبعض المسائل في علم الأصول ـ وذلك قبل اطلاعي في بدايات العام المنصرم على كتاب (علم أصول القانون) ـ، وهي وجود عمومات فوقانية تختلف عن العمومات الدارجة المتعارفة، في أن تنـزُّلها لا يكون عفوياً بحسب تحقيق مصاديقها، بل لا بد من جعل تشريعي ينـزلها إلى المصاديق، وقد يحتاج إلى عدة جعول وتشريعات كي يكون في متناول العمل. وهذا نظير المادة الدستورية، فإنه لا يرخّص للمواطن، بل ولا لرؤساء القوة التنفيذية، أن يعملوا بها من دون تشريعات المجالس النيابية. وكذلك الحال في قوانين وتشريعات المجالس النيابية، فانه لايرخص للمواطن العمل بها أيضاً من دون تقنينات وتشريعات وزارية في القوة التنفيذية.

فيلاحظ أن المادة الدستورية كي تتنزل في متناول العمل لابد أن تمرّ بسلسلة من التقنينات العديدة المنزلة لها إلى المصداق الجزئي. هذا فضلاً عمّا بين المواد الدستورية من رتب طولية. وكذلك ما بين القوانين المصوّبة من المجالس النيابية من رتب أيضاً. وكذلك ما بين القوانين والتشريعات الوزارية. فهذه الخاصية الأولى يختلف بها هذا العموم عن العموم المتداول. والخاصية الثانية لهذا العموم ـ والذي يُسمّى الأصل القانوني ـ أنه لا يخصص ولا يقيّد، ولا يكون موروداً ولا محكوماً، كما هو الحال في عمومات المواد الدستورية بالنسبة إلى القوانين المصوبة من المجالس التشريعية النيابية. وكذلك حال قوانين المجالس بالنسبة إلى القوانين الوزارية.

نعم، قد يلحظ التخصيص والتقييد وغيرها من حالات النسبة بين الأحكام بين المواد الدستورية. هذا إن لم تكن في طول بعضها، من حيث أصولية القانون، وإلاّ فكذلك لا تلحظ نسب الأحكام بينها. وكذلك في قوانين المجالس، وقوانين الوزارات. وبعبارة أخرى: لابد أن تلحظ الرتبة العرضية بين العام والخاص، والمطلق والمقيد، والحاكم والمحكوم، والوارد والمورود، وأما المترتبان طولاً بحسب رتب أصول القانون والعموم الفوقاني بالمعنى الثاني فلا تلحظ تلك النسب، بل نسب أخرى. وفي هذه العجالة لا يمكن استقصاء كل خواص وآثار هذا العموم بالمعنى الثاني، أي الأصل القانوني، التي استقرأناها في المسائل الأصولية والفقهية.

إلا أنه موضوع لعلم جديد الظهور في العلوم القانونية. وقد عالجه الأصـوليون والفقهاء شتاتاً في ضمن مسائل علم الأصول والفقه. وهو ذو آثـار خطيرة جداً، ولا سيما في المستجدات من المواضيع العصرية.

علم أصول الفقه وقراءة النص بمعزل عن السياق المحيط

_ يتعامل علم الأصول في كثير من الأحيان مع النص كظاهرة منفصلة عن مصدرها وظرفها، في الوقت الذي ترى المدارس الهرمنوطيقية الحديثة في الغرب عدم إمكان فهم النص بعيداً عن ملاحظة ظروفه المحيطة وشخصية صاحبه… فما هو مدى إمكانية توظيف هذه التجربة الحديثة في عملية فهم النص الديني؟ وهل يمكن أن تكون هذه الخصوصيات عبارة أخرى عمّا هو متعارف في علم الأصول من القرائن الخارجية؟

^ مرّ بنا أن علوم الأدب واللغة في ظاهرة النقد الأدبي للنص اللغوي آخذة في منحى تحليل بيئة المتكلم في الجوانب العديدة لفهم معاني النص خلف المعنى الاستعمالي، ولكنها تنطلق من النص في هذا التحليل المتشعِّب، لا من خارجه. ولا يعترض بأن هذه المباريات في النقد الأدبي خارجة عن اللغة العرفية بين أبناء اللسان؛ وذلك لأن المدار على موازين وقواعد علوم اللغة المركوزة في ارتكاز أبناء عرف اللغة واللسان، وليس المدار على فهمهم وقدرة ذائقتهم في الوصول إلى خفايا المعاني، فإنه يردّ الثاني ما كان جارياً عند العرب ـ حتى في زمن الجاهلية ـ من ظاهرة النقد الأدبي، الذي كانوا يزاولونه في سوق عكاظ، من التباري في الشعر، ويحكِّمون في القضاء الأدبي ناقداً أديباً. وقد فازت عدة قصائد عرفت بالمعلَّقات. نعم، الكلام كلّه في إرساء ذلك على الموازين والقواعد المقرَّرة في علوم الأدب، ولو المتشعبة الحديثة منها.

 ويُضاف إلى ذلك التحليل القانوني الذي يجري في المؤدى المستحصل من النصوص بعد المراحل الأدبية اللغوية.

كما تجدر الإشارة إلى منهج السيد البروجردي& في الاستنباط من النص الديني مع دراسة الظروف الملابسة. والظاهر تأثُّره بأستاذه شيخ الشريعة الأصفهاني، الذي كان درسه في الفقه في حوزة النجف الأشرف بنحو الفقه المقارن، حيث يؤكد البروجردي على ضرورة دراسة سبب الصدور للرواية، كما هو الحال في سبب نزول الآية، والجو العلمي للمسألة التي تتناول الرواية بيان حكمها، واختلاف الأقوال للأندية المختلفة في المسألة في الرواية، كي يحصل الالتفات إلى كيفية معالجة النص الديني لذلك الاختلاف وتصحيحه للمسير القانوني. وبعبارة أخرى: إن معايشة الوسط القانوني للمسألة، وإن كان مائلاً عن جادّة الصواب وسبيل الحق، إلا أنه كفيل بالتعرف على المفاد الأصلي للنص الديني. وقد تقدم تأكيد السيد البروجردي& على جعل روايات أئمة أهل البيت^ ناظرة للقرآن والحديث النبوي، فإن الاستظهار من الروايات يختلف إذا جعلت بما هي ناظرة عن الاستظهار منها والدلالة لها إذا جعلت مستقلة منفكّة عن متن القرآن والحديث النبوي. ويشير البروجردي إلى أن العلامة المجلسي صاحب البحار قد انتهج هذا المنهج، ولذلك ترى أنه في كل أبواب البحار يبتدئ بعرض الآيات، ثم الأحاديث النبوية، ثم رواياتهم، وهو دالٌّ على تقيّده بهذا المنهج في قراءة النص.

والغاية من ذكر منهج النقد الأدبي الحديث ومنهج السيد البروجردي& هو دراسة ظروف النص والأجواء المحيطة المرتبطة بمفاد ذلك النص، شريطة تقنين عملية الدراسة، وضبطها ضمن معايير موزونة صحيحة علمياً ومبرهن عليها، لا بنحو سائب تحليلي ركامي، أو مبدَّد غير منتظم. ثم لا يخفى أن ما عليه الإمامية من جعل روايات الأئمة جميعاً بمثابة متكلم واحد يعي ما يصدر منه أولاً وآخراً منطلق من ملاحظة شخصية المتكلم لذلك النص. كما أنه ينبغي الوضع بعين الاعتبار أن دور الثابت والبديهي في قراءة النصوص أمر لا يغفل عنه، وإلا لكانت قراءة مبتورة، فإن الشريعة منظومة مجموعية، لا جمع شتات.

كيف يتخطّى الاجتهاد الإسلامي إشكالية ضياع القرائن؟

_ يعترف علماء الأصول بخفاء الكثير من القرائن المحيطة بالنصوص. وفي مقام علاجهم لهذه المشكلة يقتصر سعيهم على تقديم حلول عملية ـ منجزية ومعذرية ـ دون أن يتجاوزوا هذه المرحلة إلى مرحلة إيجاد حلٍّ حقيقيٍّ لهذه المشكلة، فما هي نظرتكم إلى هذا الأمر؟

^ لابد من الإلفات إلى أن علم أصول الفقه هو منطق العلوم الدينية؛ ومنطق المعرفة الدينية؛ لأنّ فيه ميزان الدليل، والتعريف للموضوعة والمفردة الدينية، ومن ثَمّ تجد تشاكلاً بينه وبين أبواب علم المنطق للعلوم العقلية، من حيث ينقسم إلى مبحث الحدّ والتعريف ومبحث الحجة والدليل. ومن ثَمّ ترى غالب الكتب في العلوم الدينية المختلفة تقدم مباحث لمسائلها تسمى بمبادىء تصديقية، تتضمن معالجة أصولية لقواعد تلك العلوم.

إن علم أصول الفقه، وإن كان بتلك الأهمية، إلاّ أنه يجب التيقُّظ إلى أن قراءة النص الديني وعملية الاستنباط والاستظهار لا تنحصر في المعالجة الأصولية للنص، بل ذلك بعض مراحل قراءة النص والاستنباط، فهناك مراحل أخرى عديدة: بعضها فقهية قانونية بحتة؛ وبعضها درائية ورجالية تتعلق بتوثيق النصّ؛ وبعضها أدبية؛ وبعضها استقرائية تتعلق بسبر الأقوال والآراء المختلفة حول مفاد النص، أو حول حكم المسألة التي تعرض النص لها؛ إلى غير ذلك من المراحل. ومن ثَمّ اختلفت مناهج ومدارس الفقهاء في طابع ولون قراءة النص والاستنباط، وأكملها الجامع بينها، كل مرحلة بحسبها. وعلى ذلك فالفحص عن القرائن للنص مرحلةٌ من تلك المراحل، وترتبط تارة بالجانب الدرائي (علم الحديث والدراية والإحاطة بالمصادر واختلافها وأبوابها)؛ وأخرى بخلفية المسألة من الجانب الفقهي القانوني، سواء من جهة اختلاف المدارس والجو العلمي لصدور الرواية وغير ذلك من الملابسات. وتجدر الإشارة إلى أن كتب شرح الحديث، كمرآة العقول، وملاذ الأخيار، وروضة المتقين، وبيانات الفيض في كتاب الوافي، وبيان المجلسي في كتاب البحار، في ذيل الحديث، وغيرها من الكتب في هذا المجال، متخصِّصةٌ لرصد مثل تلك القرائن.

وبالجملة فإن من نواقص قراءة النص وعملية الاستنباط الاقتصار على المعالجة الأصولية، مع اختزال المعالجات الأخرى في مراحل الاستنباط، بنحو تكون المواد مبتورة جافة.

ما هو الموقف من الدراسات الحديثة في قراءة النص؟

_ هل ترون أن هناك حاجة إلى الاستعانة بالتجارب الحديثة في مجال قراءة النص وفهمه أو أنكم ترون علم الأصول وافياً في هذا المجال؟

^ قد سبق أن الصحيح عدم الانغلاق على الجهود المتوفرة من الريادة العلمية التي أنجزها علماؤنا في علم أصول الفقه، بحيث لا تجد درجة علم أصول فقه القانون في الجامعات الأكاديمية في العالم كالدرجة التي عليها علم الأصول لدى الحوزات الشيعية؛ بشهادة المقارنة بين الكتب الموضوعة المقرَّرة من الجانبين، وشهادة واعتراف كثير من القانونيين في المعاهد الأجنبية، فإنّ هذا السبق وإن كان فخراً علمياً للنادي العلمي الشيعي إلا أن ذلك لا يعني الانكفاء على الذات، بل من الضروري الاطلاع والوقوف على بقية الذهنيات العلمية الأخرى، فإن أعلم الناس من جمع علوم الناس إلى علمه، وأعقل الناس من جمع عقول الناس إلى عقله، وهو التوصية من القرآن ﴿الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ، ومن الحديث النبوي وحديث المعصومين^، وهو شعار الحضارة والمدنية الحديثة، وهو حضارة المعلومات ووسائل الاتصال الخبرية.

إلاّ أن اللازم كما مرّ بنا هو منهجة هذه الآراء الحديثة، وضبطها، وتعييرها، ووزنها؛ لمعرفة الصائب منها من الخاطىء، ولتكون الضوابط مدلّلاً عليها بالحجة والبرهان، لا مجرد تداعي احتمالات هائمة من دون ترشيد مقنن، وإن كان للاحتمال المجرد قيمته، إلا أنّه لا يعني كون المحتمل منهجاً متبعاً ولما يدلَّل عليه ويقنَّن ويوزَن.

_ نشكركم على تخصيص هذا الوقت لهذا الحوار.

^ وأنا بدوري أشكركم لإتاحة هذه الفرصة لتداول هذه المحاور في الساحة الفكرية الراهنة.

_______________________________________________________

(*) أستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في النجف، صاحب مؤلَّفات عديدة، من البحرين. وقد أجرى الحوار: مهدي الأمين، علي عباس الموسوي، حيدر حب الله، زين العابدين شمس الدين.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً