مقارنةٌ بين مدرستي الإصفهاني والنائيني
د. الشيخ حسن آقا نظري(*)
تمهيد ــــــ
الاختلاف الجوهري بين مدرسة المحقق الإصفهاني& من جانب ومدرسة المحقق النائيني& من جانب آخر حول تفسير كيفية صدور الفعل الاختياري والعناصر الموجدة له في النفس يؤثِّر في منهج التحقيق في العلوم الإنسانية. حيث تستند الأفعال الاختيارية في المدرسة الأولى إلى العلة التي هي صفة من صفات النفس بعنوان الإرادة، وتستند في المدرسة الثانية إلى الدليل الذي يسمّى بعنصر الاختيار وترجيحاته.
1ـ تفسير الفعل الاختياري من منظار مدرسة المحقِّق الإصفهاني& ــــــ
المشهور بين الفلاسفة أن الأفعال الاختيارية بأنواعها المختلفة مسبوقة بالإرادة، وأنها إذا بلغت في حدّها التام تغير علة تامة لها. وتبعهم في ذلك جماعة من الأصوليين المتأخرين، منهم: المحقق الخراساني، حيث صرّح بأنه «لا يكاد يكون غير الصفات المعروفة. والإرادة هناك صفة أخرى قائمة بها هي الطلب، فلا محيص عن اتّحاد الارادة والطلب، وأن يكون ذلك الشوق المؤكّد المستتبع لتحريك العضلات في إرادة فعله بالمباشرة»([1]). ونتيجة ذلك أن الإرادة إذا بلغت حدَّها التام وجب صدور الفعل من الفاعل في الخارج، واستحال تخلُّفه عنه، لاستحالة تخلف المعلول عن العلة التامة. واعترف بهذا التفسير المحقق الإصفهاني& حيث عبَّر بقوله: «إن الإرادة ما لم تبلغ حدّاً يستحيل تخلف المراد عنها لا يمكن وجود الفعل؛ لأن معناه صدور المعلول بلا علّة تامة. وإذا بلغت ذلك الحدّ امتنع تخلّفه عنها، وإلاّ لزم تخلُّف المعلول عن علّته التامّة»([2]). وعلى هذا كانت الإرادة علة تامة للفعل، بقاعدة أن الممكن ما لم يجب وجوده بالغير لم يوجد. وعلى هذا إذا بلغت إرادة الإنسان حدَّها التامّ تصير علّة لتحريك العضلات نحو الفعل، فيوجد الفعل.
2ـ تفسير الفعل الاختياري من منظار المحقّق النائيني ــــــ
مدرسة المحقق النائيني& أصرّت على أن الاختيار فعل نفساني وراء الفعل الخارجي، ويعبر عنه تارةً بالمشيئة؛ وأخرى بإعمال القدرة؛ وثالثة بالاختيار. وقيامه بالنفس قيام الفعل بالفاعل، لا قيام الصفة بالموصوف، والحال بالمحلّ. فالفعل الخارجي مرتبط بالاختيار وإعمال القدرة من النفس، وهذا الفعل النفساني ليس معلولاً للإرادة، بل هو فعل النفس، وتحت سلطانها وقدرتها مباشرة، كانت هناك إرادة أم لم تكن. ولذلك كان بإمكان النفس بعد الإرادة أن تقوم بإعمال قدرتها نحو الفعل في الخارج، وأن لا تقوم بإعمالها، فليست بعدها مقهورةً ومضطرّة إلى التحرُّك. ولا فرق في سلطنة النفس على الفعل بين وجود الإرادة فيها وعدم وجودها؛ فإنها إنْ شاءت الفعل فعلت، وإنْ لم تشأ لم تفعل، سواء أكانت إرادة فيها أم لا. وعلى هذا فكلا الفعلين اختياري؛ أما فعل النفس فهو بالذات، لا باختيار آخر، وإلاّ لزم التسلسل؛ وأما الفعل الخارجي فهو اختياري بالاختيار. وعلى هذا يصدر الفعل من الإنسان بالاختيار الذي أوجدته النفس، فلهذا يكون خارجاً عن قاعدة الشيء ما لم يجب لم يوجد. وبعبارة أخرى: إن قوانين العلّية لا تشمل الأفعال الاختيارية للإنسان، فالإنسان حين يلتفت إلى عملٍ ما، كالصلاة، وتنقدح في نفسه الإرادة الجدّية الكاملة لا يحصل وجوب وضرورة للصلاة، بمعنى يخرجها عن قدرة الإنسان. فالنفس حتّى بعد الإرادة يبقى بإمكانها أن تتحرك نحو الصلاة أو لا تتحرك. وحين تصدر منها الصلاة قد صدر ـ في الحقيقة ـ من النفس بعدما تمّت عندها الإرادة عملان طوليان: أحدهما: فعل خارجي، وهو الصلاة؛ والآخر: فعل نفساني قائمٌ بصقع النفس، وهو أسبق رتبة من الفعل الخارجي، وهو تأثير النفس وإعمالها للقدرة. فالفعل يوجد بإعمال القدرة والاختيار. وهذا الفعل النفساني ـ وهو إعمال القدرة والتحرك والتأثير ـ نسبته إلى النفس نسبة الفعل إلى الفاعل، لا نسبة العرض إلى محلّه، كالإرادة. وهذه الحملة والتحرّك التي هي فعلٌ نفساني ليست معلولة للإرادة، وفقاً لقوانين العلّية، بل النفس بعد الإرادة يبقى بإمكانها أن تتحرّك نحو الفعل وأن لا تتحرَّك. وإذا لاحظنا هذين الفعلين نرى أنهما اختياريّان؛ أما فعلها الأول، وهو توجّه النفس وتأثيرها، فهو أمر اختياري؛ إذ لم يتحتَّم ولم يصبح وجوده ضرورياً بالإرادة حتّى يلزم خروجه من الاختيار؛ وأما فعلها الثاني، وهو الفعل الخارجي، كالصلاة، فهو وإن أصبح ضرورياً بعد الاختيار، لكنّ هذه الضرورة لا تنافي الاختيار؛ لأنها ضرورةٌ نشأت من الاختيار؛ إذ نشأت من الفعل الأول الذي هو عن اختيار النفس وإعمالها لقدرتها، والضرورة في طول الاختيار لا تنافي الاختيار([3]). وعلى هذا التفسير يورد الإشكال على ما طرحه المحقق الإصفهاني& حول الفعل الاختياري.
3ـ مناقشة المحقّق النائيني لما اختاره المحقّق الإصفهاني& ــــــ
إن الإرادة لا يمكن أن تكون علّة تامة للفعل الاختياري؛ إذ فرضها علة تامة له يستلزم عدم كون العضلات منقادة للنفس في حركاتها، مع أن النفس تامّة التأثير وجداناً في العضلات، ولا مزاحم لها في سلطانها، وتأثير النفس في عضلاتها هو اختيارها. فالاختيار مرتبة أخرى بعد الإرادة، وهو مناط اختيارية الأفعال، وهو فعل النفس وعليتها وتأثيرها، وحيث إنه عين الاختيار فلا يحتاج إلى أمرٍ آخر يكون به الاختيار فعلاً اختيارياً. وما يمكن أن يتوهم أن الفعل الاختياري ممكن وحادث، فيحتاج إلى علّة تامة، بحيث يكون ترتُّبه عليها ترتُّباً قهرياً، نظير: ترتُّب العمل على الإرادة قهراً، يدفَع بالفرق الجوهري بين الفعل الاختياري وغيره من الممكنات؛ فإن الفعل الاختياري لا يحتاج إلاّ إلى الفاعل، مع وجود المرجِّحات لاختيارها، من دون حاجة إلى علّةٍ تامة، بخلاف ما عداه؛ فإنه موقوفٌ على العلّة التامة([4]).
4ـ أجوبة المحقّق الإصفهاني على إشكال المحقّق النائيني ــــــ
إن الالتزام بما يسمّى عنصر الاختيار إما لأجل استناد حركة العضلات إلى النفس، حتى تكون النفس فاعلاً ومؤثِّراً، بخلاف استنادها إلى صفة النفس التي تسمّى بالإرادة، فإن المؤثِّر فيها تلك الصفة، لا النفس؛ وإما لأجل أن الإرادة، حيث إنها صفة قهرية منتهية إلى الإرادة الأزلية، توجب كون الفعل المترتّب عليها قهرياً غير اختياري. فلا بُدَّ من فرض فعل نفساني، وهو عين الاختيار، لئلاّ يكون الفعل من جهة الصفة القهرية قهراً.
فإنْ كان الأول ففيه: إن العلة الفاعلية لحركات العضلات هي النفس بواسطة اتّحادها مع القوى، والعلم والإرادة والقدرة مصحِّحات وشرائط لفاعلية النفس. والفعل مستند إلى النفس، وهي العلة الفاعلية، دون شرائط الفاعلية، فإن المقتضَى (بالفتح) يستند إلى المقتضي (بالكسر)، دون الشرائط، وإن كان له ترتُّب على المقتضي وشرائطه. فمن هذه الحيثية لا حاجة إلى فعل نفساني يكون محقِّقاً للاستناد.
وإنْ كان الثاني ففيه: إن الأمر المسمّى بالاختيار إنْ كان عين تأثير النفس في حركة العضلات وفاعليتها لها فلا محالة لا مطابق له في النفس، ليكون أمراً ما وراء الإرادة؛ إذ ما له مطابق بالذات ذات العلة والمعلول، وذات الفاعل والمفعول. وحيثية العلية والتأثير والفاعلية انتزاعية، ولا يعقل أن يكون لها مطابق؛ فالأمور الانتزاعية لا واقع موضوعيّاً لها. وإنْ كان أمراً قائماً بالنفس فقيامه لها قيام الكيف بالمتكيف، فحاله حال الإرادة، ولا فرق بين ترتُّب حركة العضلات على الاختيار أو الإرادة، فكلّ ما هو محذور ترتّب حركة العضلات على صفة الإرادة واردٌ على ترتُّب الحركات على الصفة المسمّاة بالاختيار؛ فإنها أيضاً صفة تحصل في النفس بمبادئها قهراً، فالفعل المترتِّب عليها كذلك.
وإنْ كان قيامه بها قيام الفعل بالفاعل، لا قيام الكيف بالمتكيف، ففيه: أوّلاً: إن النفس بما هي، مع قطع النظر عن قواها الباطنة والظاهرة، لا فعل لها. وفاعلية النفس لموجودات عالم النفس التي مرَّت سابقاً هو إيجادها النوري العقلاني في مرتبة القوة العاقلة، أو الوجود الفرضي في مرتبة الواهمة، أو الوجود الخيالي في مرتبة المتخيلة. كما أن استناد الإبصار والإسماع إليها أيضاً بلحاظ أن هذه القوى الظاهرة من درجات تنزُّل النفس إليها. ومن الواضح أن الإيجاد النوري المناسب لإحدى القوى المذكورة أجنبيّ عن الاختيار الذي جعل أمراً آخر ممّا لا بُدَّ منه في كلّ فعل اختياري، بداهة أنّ النفس بعد حصول الشوق الأكيد ليس لها إلاّ هيجان بالقبض والبسط في مرتبة القوّة العضلانية.
وثانياً: إن هذا الفعل النفساني المسمّى بالاختيار إذا حصل في النفس فإنْ ترتّب عليه حركة العضلات، بحيث لا تنفك الحركة عنه، كان حال الحركة. وهذا الفعل النفساني حال الفعل، وصفة الإرادة. فما المانع عن كون الصفة علة تامة دون الفعل النفساني، وكونه وجوباً بالاختيار مثل كونه وجوباً بالإرادة؟
وثالثاً: إن الاختيار الذي هو فعل نفساني إنْ كان لا ينفكّ عن الصفات الموجودة في النفس، من العلم والقدرة والإرادة، فيكون فعلاً قهرياً؛ لكون مبادئه قهرية لا اختيارية؛ وإنْ كان ينفكّ عنها، وإن تلك الصفات مرجِّحات، فهي بضميمة النفس الموجودة في جميع الأحوال علّة ناقصة، ولا يوجد المعلول إلاّ بعلّته التامة([5]).
5ـ مناقشات السيد الخوئي لأجوبة المحقِّق الإصفهاني ــــــ
إن ما أفاده المحقّق الإصفهاني من الأجوبة عن إشكال المحقّق النائيني يتلخَّص في النقاط التالية:
الأولى: إن النفس تتّحد مع كافّة قواها الباطنة والظاهرة. ولذا قد اشتهر في الألسنة أن النفس في وحدتها كلّ القوى. فبطبيعة الحال إن الأفعال التي تصدر من هذه القوى تصدر حقيقة منها؛ لفرض أنها من شؤونها، ومن مراتب وجودها، ومنقادة لها تمام الانقياد، فلا يصدر منها فعلٌ إلاّ بأمرها.
الثانية: إنه لا فعل للنفس بالمباشرة، وإنما الفعل يصدر منها بواسطة هذه القوى. ومن المعلوم أنّ شيئاً من الأفعال الصادرة منها ليس بصفة الاختيار.
الثالثة: إن النفس في وحدتها لا تؤثِّر في شيءٍ من الأفعال الخارجية، وإنّما تؤثر فيها بعد حصول الإرادة والشوق الأكيد، حيث يحصل لها بعده هيجان بالقبض والبسط في مرتبة القوة العضلانية، فتكون الإرادة الجزء الأخير من العلّة التامة.
ويناقش في النقطة الثانية والثالثة.
أمّا النقطة الثانية فيرِدُ عليها: إن للنفس أفعالاً تصدر منها باختيارها وسلطنتها مباشرة، أي من دون توسيط إحدى قواها الباطنة والظاهرة، ومنها: البناء القلبي، فإن لها أن تبني على شيءٍ وأن لا تبني عليه. وليس البناء فعلاً يصدر من قوّةٍ من قواها، كما هو ظاهر. ومنها: قصد الإقامة عشرة أيام، فإنّ لها أن تقصد في موضع عشرة أيام، ولها أن لا تقصد، فهو تحت يدها وسلطنتها، مع قطع النظر عن وجود كافة قواها. وبعبارة أخرى: إن الأفعال التي تصدر من النفس بواسطة تلك القوى جميعاً مسبوقة بإعمال قدرتها واختيارها، ولا فرق من هذه الناحية بين الأفعال الخارجية التي تصدر منها بالقوّة العضلانية وبين الأفعال الداخلية التي تصدر منها بإحدى تلك القوى. فما أفاده& من أن أفعال تلك القوى أجنبية عن الاختيار مبنيّ على جعل الاختيار في عرض تلك الأفعال، ولذلك قال: ما هو فاعله والمؤثّر فيه. ولكنْ قد عرفتَ بشكل واضح أن تلك الأفعال في طول الاختيار، وفاعله هو النفس. فالنتيجة أن الاختيار يمتاز عن هذه الأفعال من جهتين:
الأولى: إن الاختيار يصدر من النفس بالذات، لا بواسطة اختيار آخر، وإلاّ لذهب إلى ما لا نهاية له، وتلك الأفعال تصدر منها بواسطته، لا بالذات.
الثانية: إن الاختيار لم يصدر منها بواسطة شيءٍ من قواها، دون تلك الأفعال، حيث إنها تصدر منها بواسطة هذه القوى([6]).
وأما النقطة الثالثة فإن النفس لها السلطنة على مملكة البدن وقواه الباطنة والظاهرة، وتلك القوى بكافّة أنواعها تحت تصرّفها واختيارها. وعليه فبطبيعة الحال تنقاد حركة العضلات لها، وهي مؤثِّرة فيها تمام التأثير، من غير مزاحم لها في ذلك. ولو كانت الإرادة علّة تامّة لحركة العضلات، ومؤثِّرة فيها تمام التأثير، لم تكن للنفس تلك السلطنة، ولكانت عاجزة عن التأثير فيها، مع فرض وجودها. وهو خاطئٌ؛ لأن الصفات التي توجد في أفق النفس غير منحصرة بصفة الإرادة، بل لها صفات أخرى، كصفة الخوف ونحوها. هذا من ناحية.
ومن ناحيةٍ أخرى إن صفة الخوف إذا حصلت في النفس تترتَّب عليها آثار قهراً، وبغير اختيار وانقياد للنفس، كارتعاش البدن، واصفرار الوجه، ونحوهما. ومن المعلوم أن تلك الأفعال خارجةٌ عن الاختيار؛ حيث كان ترتُّبها عليها كترتُّب المعلول على العلة التامة. فلو كانت الإرادة أيضاً علّة تامّة لوجود الأفعال فإذن ما هي نقطة الفرق بين الأفعال المترتبة على صفة الإرادة والأفعال المترتّبة على صفة الخوف؟ إذ على ضوء هذه النظريّة هما في إطارٍ واحد، فلا فرق بينهما إلا بالتسمية فحَسْب، من دون واقع موضوعي لها أصلاً([7]).
إلى هنا نحصل على هذه النتيجة، وهي أن الاختلاف بين الأعلام يتركَّز في أن المحقّق الإصفهاني& يصرِّح بأن الاختيار ـ الذي هو فعل نفساني ـ إنْ كان لا ينفك عن الصفات الموجودة في النفس، من العلم والقدرة والإرادة، فيكون فعلاً قهرياً؛ لكون مبادئه قهريّة، لا اختيارية؛ وإنْ كان ينفكّ عنها، وأن تلك الصفات مرجِّحات، فهي بضميمة النفس الموجودة في جميع الأحوال علّة ناقصة، ولا يوجد المعلول إلاّ بعلّته التامّة. وتوهُّم الفرق بين الفعل الاختياري وغيره من حيث كفاية وجود المرجِّح في الأول دون الثاني من الغرائب([8]).
ومناقشة السيد الخوئي& تبتني على أن ما أفاده& مبنيّ على عموم قاعدة أن الشيء ما لم يجب لم يوجد للأفعال الاختيارية أيضاً، وأنه لا فرق بينها وبين المعاليل الطبيعية. هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى إن الإرادة، وكذا غيرها من الصفات النفسانية، لا تصلح أن تكون علّة تامة لوجود الفعل في الخارج. ومن ناحية ثالثة إن الصفات الموجودة في النفس، كالعلم والقدرة والإرادة وما شاكلها، ليست من مبادئ وجود الاختيار وتحقُّقه في النفس؛ كي يوجد فيها قهراً عند وجود هذه الصفات، بل هو مباين لها، حيث إنه فعل النفس وتحت سلطانها. وهذا بخلاف تلك الصفات، فإنها أمورٌ خارجة عن إطار اختيار النفس وسلطانها. وعلى ضوء هذه النواحي يظهر أن ما أفاده&، من أن الاختيار على تقدير انفكاكه عن النفس مع هذه الصفات علة ناقصة، لا تامّة، مع أن المعلول لا يوجد إلاّ بوجود علّته التامّة، خاطئ جدّاً؛ والسبب في ذلك: أولاً: ما تقدَّم من أن الاختيار ذاتي للنفس، فلا يعقل انفكاكه عنها، وليس حاله من هذه الناحية حال سائر الأفعال الاختيارية. وثانياً: إن الفعل لا يفتقر في وجوده إلى وجود علّة تامّة له، بل هو يحتاج إلى وجود فاعل، والمفروض أن النفس فاعلٌ له، فإذن لا معنى لما أفاده& من أن الفعل ممكن، وكلّ ممكن يحتاج إلى علّة تامّة([9]).
6ـ حلّ المشكلة من منظار الشهيد الصدر ــــــ
نطرح مفهوماً ثالثاً في مقابل مفهومي الوجوب والإمكان، وهو مفهوم السلطنة. وهذا الوجه هو الذي يبطل به البرهان على الجبر، كما نوضِّح ذلك في عدّة نقاط:
الأولى: إن قاعدة (الشيء ما لم يجب لم يوجد) لو كانت قاعدةً قام عليها البرهان فلا معنى للالتزام بالتخصيص؛ اذ ما يقوم عليه البرهان العقلي لا يقبل التخصيص والتقييد. ولكنّ الصحيح أنها ليست قاعده مبرهنة، بل هي قاعدة وجدانية من المدركات الأوّلية للعقل، وإنْ كان قد يبرهن على ذلك بأن الحادث لو وجد بلا علّة ووجوبٍ للزم ترجيح أحد المتساويين على الآخر بلا مرجِّح، وهو محالٌ. لكنّك ترى أن استحالة الترجيح أو الترجُّح بلا مرجِّح هي عبارة أخرى عن أن المعلول لا يوجد بلا علّة. إذن فلا بُدَّ من الرجوع في هذه القاعدة إلى الفطرة السليمة، مع التخلُّص من تشويش الاصطلاحات والألفاظ، لنرى ما هو مدى حكم الفطرة والوجدان بهذه القاعدة، فننتقل إلى النقطة الثانية.
الثانية: إن الفطرة السليمة تحكم بأن مجرد الإمكان الذاتي لا يكفي للوجود. وهنا أمران، إذا وجد أحدهما رأى العقل أنه يكفي لتصحيح الوجود:
أحدهما: الوجوب بالغير، فإنه يكفي لخروجه عن تساوي الطرفين، ويصحِّح الوجود.
والثاني: السلطنة. فلو وجد ذاتٌ في العالم يملك السلطنة رأى العقل بفطرته السليمة أنّ هذه السلطنة تكفي للوجود. وتوضيح ذلك: إن السلطنة تشترك مع الإمكان في شيء، ومع الوجوب في شيء، وتمتاز عن كلٍّ منهما في شيء. فهي تشترك مع الإمكان في أن نسبتها إلى الوجود والعدم متساوية، لكنّها تختلف عن الإمكان في أن الإمكان لا يكفي لتحقّق أحد الطرفين، بل يحتاج تحقُّقه إلى مؤنة زائدة، وأما السلطنة فيستحيل فرض الحاجة معها إلى ضمّ شيءٍ آخر إليها؛ لأجل تحقّق أحد الطرفين؛ إذ بذلك تخرج السلطنة عن كونها سلطنة، وهو خلفٌ، بينما في الإمكان لا يلزم من فرض الحاجة إلى ضمِّ ضميمة خلف مفهوم الإمكان. إذن فالسلطنة لو وجدت فلا بُدَّ من الالتزام بكفايتها.
وهي تشترك مع الوجوب في الكفاية لوجود شيء بلا حاجة إلى ضمّ ضميمة. وتمتاز عنه بأن صدور الفعل من الوجوب ضروريّ، لكن صدوره عن السلطنة ليس ضرورياً؛ إذ لو كان ضرورياً لكان خلف السطنة، وفرق بين حالة (له أن يفعل) وحالة (عليه أن يفعل). وقد فرضنا أننا وجدنا مصداقاً للسلطنة، وأن له أن يفعل، وينتزع الفعل من السلطنة ـ باعتبار وجدانها لهذه النكات ـ مفهوم الاختيار، لا من الوجوب، ولا من الصدقة.
وقد تحصَّل أن المطلوب في هذه النقطة الثانية أنه لو كانت هناك سلطنة في العالم لكانت مساوقة للاختيار، وكفت في صدور الفعل.
الثالثة: وجود هذه السلطنة في الإنسان. لا شكَّ أن السلطنة في وجود الإنسان لا برهان عليها، بل ينحصر الأمر في إثبات ذلك بالشرع أو بالوجدان، بأن يقال مثلاً: إنّنا ندرك مباشرة بالوجدان ثبوت السلطنة فينا، وإننا حين يتمّ الشوق الأكيد في أنفسنا نحو عملٍ لا نقدم عليه قهراً، ولا يدفعنا إليه أحد، بل نقدم عليه بالسلطنة، بناء على دعوى أن حالة السلطنة من الأمور الموجودة لدى النفس بالعلم الحضوري، من قبيل: حالة الجوع أو العطش أو حالة الحبّ أو البغض. وعلى هذا كما أن حالة الحب أو البغض إثباتها لا يحتاج إلى البرهان، بل إنها أمر وجداني لا غبار فيه، كذلك السطنة في وجود الإنسان بالنسبة إلى الأفعال الاختيارية([10]).
نتيجة البحث ــــــ
الاختلاف الجوهري في المدرستين في مسألة كيفية صدور الفعل الاختياري من النفس.
وهذا الاختلاف يتركَّز في أن هذا الفعل يستند إلى العلة التي تسمّى بالإرادة، بما أنها صفة من صفات النفس، كالخوف، أو أنه يستند إلى عنصر الاختيار، الذي هو فعلٌ ذاتي من النفس، يصدر عنها بلا وساطة قوّة من قواها.
وهذا الاختلاف يؤثِّر في منهج التحقيق في العلوم الإنسانية، حيث إذا كانت الإرادة علّة تامة في صدور الأفعال الاختيارية، على رأي المحقّق الخراساني& والمحقق الإصفهاني&، فلا فرق جوهري بين منهج تحقيق العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، حيث يستنتج الفرضية من المعلومات السابقة المرتبطة بالمشكلة، ثم تطرح على ساحة التجربة؛ فإنْ أيَّدتها القرائن التجريبية فيحكم بأنّها نظرية علمية قابلة للاعتماد عليها؛ وإنْ أبطلتها التجربة فلا تقبل على أنّها نظرية علمية، بلا فرق بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية. ولكنْ إذا قلنا بأن الاختيار هو العنصر الأساس لصدور الأفعال، كما هو مبنى مدرسة المحقِّق النائيني&، فهو يتأثَّر بالترجيحات العقلية والفكرية، وعلى هذا تصدر الأفعال عن دليل، لا عن علّة خارجية. ومن هذه النقطة ينطلق الفرق الأساسي بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية، من جهة منهج التحقيق، حيث إنّه في القسم الأول لا بُدَّ من تحقيق دليل الأفعال الاختيارية، والعوامل التي صارت مرجِّحة لعنصر الاختيار، ولكنْ في القسم الثاني لا بُدَّ من التفحُّص عن العلة الخارجية.
وعلى ضوء هذا الاختلاف يمكننا أن نقول: إن الحوادث في ساحة العلاقات الاجتماعية تابعة للقاعدة والدليل، ولكنّ الحوادث الطبيعية في العلوم الطبيعية تابعة للقانون العيني الحاكم عليها.
الهوامش
(*) أستاذٌ في الحوزة والجامعة، وعضو الهيئة العلميّة لمركز بحوث الحوزة والجامعة.
([1]) كفاية الأصول: 67، مؤسّسة آل البيت^، قم، ربيع الأول، 1409هـ.
([2]) نهاية الدراية 1: 169، مطبعة الطباطبايي، قم، بلا تا.
([3]) السيد الخوئي، أجود التقريرات (تقرير بحث المحقّق النائيني) 1: 139 ـ 135، مؤسّسة صاحب الأمر، قم، 1419هـ.
([5]) نهاية الدراية 1: 9 ـ 168.
([6]) الشيخ الفيّاض، محاضرات في أصول الفقه (تقرير بحث السيد الخوئي) 2: 62، مكتبة الداوري، قم، 1384هـ.
([7]) محاضرات في أصول الفقه 2: 54.
([9]) محاضرات في أصول الفقه 2: 66.
([10]) السيد كاظم الحسيني الحائري، مباحث الأصول (تقريراً لأبحاث الشهيد السيد محمد باقر الصدر&)، الجزء الثاني من القسم الأول: 2 ـ 81، دار البشير، قم، 1430هـ.