أحدث المقالات

توطئة لإجلاء ضرورة البحث

يمتاز التراث الشيعي بغنى ملحوظ من حيث كثرة التصنيفات في مختلف أنواع العلوم، قديماً وحديثاً، وقد دأب علماؤنا M على تحقيق هذا التراث، إلى أن خرجت إلينا الكثير من المصنّفات في أبهى الحلل من حيث التبويب والتحقيق.. وذلك في عصرٍ تطوّرت فيه وسائل التحقيق، فدخلت أجهزة الكمبيوتر إلى حوزاتنا العلمية، وآلات الطباعة الحديثة، كما أنشئت معاهد ومؤسّسات مختصّة في مجال التحقيق، وبذلت جهود جبّارة يستحقّ أصحابها الثناء والشكر.

لكن مع كلّ هذا الجهد، لابدّ من الاعتراف بوجود طائفة من الكتب ما زالت بحاجةٍ إلى إعادة النظر في محتوياتها، أو إعادة النظر فيما قد يرتّبه بعض العلماء على بعض ما فيها من أثرٍ له أهمية في علمٍ من العلوم.. صحيح أن بعض الكتب يتهيّب المرء عند الوقوف أمامها، إذ هي تمسّ روحه وقلبه قبل أن تمسّ عقله، كالكتب الحديثيّة والتفسيرات الروائية، أي ما روي عن المعصوم B، فلا يقدم المرء على رفض ـــ أو قبول ـــ ما فيها، فتترك على ما هي عليه.. لكن هذا وغيره لا يشكل مانعاً عن إخضاع كلّ ما ورد عنهم F للموازين والضوابط الصحيحة التي وصلتنا عن أهل البيت F، كروايات الترجيح عند التعارض المستقر، أو روايات العرض الصحيحة والمستفيضة، والتي تعبّر بلسان واحد تقريباً عن عرض ما يرد عنهم (على القرآن أو العقل القطعي، فما وافقها نأخذ به وإلا نضرب به عرض الجدار «فهو زخرف» أو «هذا شيء لم نقله» أو «الذي أتى به أولى به» على حسب تعبيرهم.

ولا يعني هذا أن علماءنا تهانوا مع هذا النوع من الكتب، بل أشاروا إلى ضعفٍ هنا وخلل هناك، لكن في طيّات بحوث أخرى عامّة، بالإضافة إلى أنه حتى ولو تمّ تحقيق هذه الكتب وما فيها، لا نرى المعالجة ــ بشكل عام ــ قد تمّت بنفس المستوى من الدّقة المتناهية والجريئة كما نراها في محاكمة روايات الأحكام الشرعية، فتراهم هناك يطرحون طائفةً من الروايات على حساب طائفةٍ أخرى من خلال موازين الأخذ والردّ التي وردت عن أهل البيت ( والتي أتقنوا استعمالها، فلا يكاد الفقيه يخرج من روايةٍ إلى أخرى إلا بعد أن يُشبعها دراسةً وتمحيصاً، سنداً ودلالة، وبعد أن يتجوّل طويلاً بين ثنايا ألفاظها؛ لعلّ هناك أمراً ما قد نخرها.

إنّ الروايات التي تتناول تفسير آياتٍ قرآنية أو تتحدّث عن أمور غيبية، لا تقلّ أهميةً عن روايات الأحكام الشرعية، إن لم نقل أكثر، إذ إنها تكوّن بمجموعها صورةً من النوع اللاصق بجنبات القلب والروح، فتؤثر في نسج شخصيّة المسلم الداخلية، ويظهر أثرها الخارجي في طريقة فهمه للقرآن أو تعامله مع الآخرين، أفلا يجدر بنا أن نوليها جانباً أكبر من الاهتمام؛ لهذا كلّه، رأيت أن أقدّم دراسةً تتناول أحد الكتب المشهورة وهو (تفسير القميّ)، مع ظنّي الأكيد أنها غير كافية ووافية بالمطلوب، إلا أنها خطوة من خطوات رسم المنهج لمحاولات لاحقة إن شاء الله تعالى.

ما هو تفسير القمّي؟

تفسير القمّي من أقدم التفاسير الشيعية التي وصلت إلينا، فكان مصدراً مهماً لكثيرٍ من التفاسير التي تعتمد على الروايات في تفسير الآيات، كالبرهان والصافي ومجمع البيان.. كما يمتاز هذا التفسير بأن المنسوب إليه كان في زمن الإمام العسكريB وعاصر السفيرين العمرييّن أثناء الغيبة الصغرى للإمام المهدي (عج)، بالإضافة إلى سمةٍ هامّة يمتاز بها، وهي ذكر الكثير من فضائل أهل البيت ( من خلال القرآن.. وإن نغفل فلن نغفل عن دعوى وجود قيمة أخرى له، ألا وهي قيمته الرجالية؛ حيث ادّعى أكثر من واحدٍ، ـ كصاحب الوسائل ووافقه مؤخراً السيد الخوئي والشيخ الداوري (مع التفصيل) ـ أن الرجال الواقعين في اسناد تفسير على بن إبراهيم بمقتضى المقدّمة، هم ثقات، وببركة هذا التوثيق يتمّ دخول جمّ غفير من الرجال المجهولي الحال إلى عالم الموثقين، فتعمّ الفائدة باعتبار الروايات التي وقعوا في سندها، وهذه الدعوى من المباحث الأساسية التي سنُخضعها لبعض المناقشات مع مبحثين آخرين، وأطمع من تسجيل بعض الملاحظات أن تلحظ بدورها وبعين الإنصاف من قبل العلماء، فان أطاحت بها فنعم الإطاحة، و إن قبلت نكون قد بنينا جميعا سدّاً منيعاً أمام كلّ ما قد ينسب إليهم من روايات لم تصدر عنهم(.

تعريف بشخصيّة علي بن إبراهيم القمّي

قبل الدخول في هذه الدراسة، لا بأس بترجمة مختصرة للمنسوب إليه هذا التفسير؛ فالمعروف أن (تفسير القمي) هو لعلي بن إبراهيم بن هاشم القميّ، وقد أجمع الرجاليون على ذكره بألفاظ المدح والتعديل، قال عنه النجاشي: «علي بن إبراهيم بن هاشم القمّي، أبو الحسن القمي، ثقّة في الحديث، ثبت، معتمد، صحيح المذهب، سمع فأكثر، وصنف كتباً وأضرّ في وسط عمره، وله كتاب التفسير، كتاب الناسخ والمنسوخ، كتاب قرب الإسناد..» ([1])، وقريباً من ذلك قال غيره من أصحاب التراجم، فعن إعلام الورى ـ على ما نقله المحشي في مقدمة تفسير القمي ـ : «أنه من أجلّ رواة أصحابنا، كان في عصر الإمام العسكري B، وعاش إلى سنة 307هـ، وقد أكثر ثقة الإسلام محمد بن يعقوب الكليني ) الرواية عنه في الكافي..»([2]).

وأكثر ما يرويه علي بن إبراهيم هو عن أبيه إبراهيم بن هاشم، كما هو دأبه في هذا التفسير وغيره من كتبه، وصحيح أنه لا يوجد توثيق صريح لأبيه، ولكن قد يستفاد ذلك من خلال ما حكاه الشيخ الطوسي([3]) والنجاشي([4]) وغيرهما أنه أوّل من نشر أحاديث الكوفيين بقم، وقد عدّه المامقاني صاحب التنقيح أنه «شيخٌ من مشايخ الإجازة، فقيه، محدّث..» ([5])، ولسنا بصدد التفصيل في حال الأب.

وعلى أية حال، فسوف نركّز البحث في تفسير القمّي ضمن محاور ثلاثة، هي:

المحور الأول: مدى صحّة نسبة التفسير الموجود إلى القميّ نفسه

لا نقصد بهذا العنوان أن ننكر أو نشك بأن لعليّ بن إبراهيم كتاباً باسم التفسير، فهذا ممّا لا شك فيه؛ إذ إن النجاشي والطوسي قد نصّا على وجود التفسير المذكور([6])، وذكرا إليه طريقاً صحيحاً.. لكنّ ما يدعو للشك هو التفسير المتداول اليوم، فهل هو نفس تفسير القميّ، أم أنه مركّب من تفسيرين من خلال بعض القرائن التي تدلّ على ذلك؟

أوّل إشكال بدويّ على اعتبار صحّة نسبة الكتاب إلى القمي هو جهالة الراوي للتفسير، فالرواي هو أبو الفضل العباس بن محمد بن القاسم بن حمزة بن الإمام موسى الكاظم B، وهو الذي صدّر التفسير بقوله: «حدثنا أبو الفضل.. قال: حدّثنا علي بن إبراهيم..»([7])، وأبو الفضل هذا مجهولُ الحال، غير مذكورٍ في كتب الرجال؛ فيسقط الكتاب عن الاعتبار، وبالتالي لا نجزم بصحّة نسبة ما بأيدينا إلى علي بن إبراهيم؛ لجهالة الراوي، بل جهالة من أملى عليه أبو الفضل، بقرينة: «حدّثنا أبو الفضل..».

وقد حاول السيد طيّب الجزائري أن يرفع الجهالة بقوله: «.. إلا أنّ ما يدلّ على علوّ شأنه وسمو مكانه، كونه من أولاد الإمام موسى بن جعفر B ومنتهياً إليه بثلاث وسائط فقط ـ إلى أن قال ـ : وممّا يرفع غبار الريب عن اعتبار الراوي ركونُ الأصحاب إلى هذا الكتاب وعملهم به بلا ارتياب، فلو كان فيه ضعفٌ لما ركنوا إليه..»([8]).

لكن يرد عليه:

1 ــ من الواضح أن الانتساب إلى الإمام B حتى مع عدم الواسطة ليس دليلاً على الوثاقة، فهذا جعفر ابن الإمام الهادي B قد لقب بجعفر الكذاب.

2 ــ إنّ ركون الأصحاب إلى الكتاب، مع ما فيه كدليل مستقلّ، قد يكون لتفسيره الموجود آنذاك، لا لهذا التفسير الذي بين أيدينا، والذي إليه توجّه الملاحظات كما نبّهنا عليه سابقاً، ثم إن الركون من الأصحاب قد يكون للوثوق بكثيرٍ مما تضمّنه من روايات توافق معتقداتنا الصحيحة عن أهل البيت (، لا سيما أن المبنى المشهور عند المتقدّمين هو الوثوق لا الوثاقة.

إنّ مشكلة جهالة الراوي للكتاب، طرحها أيضاً الشيخ المعاصر باقر الإيرواني، لكنّه أجاب عنها بقوله: «وفيه: أن الشيخ الطوسي في فهرسته يذكر طريقاً صحيحاً إلى جميع كتب علي بن إبراهيم، والتي منها تفسيره، وينصّ في ذلك الطريق إلى القمي نفسه، ومع افتراض أنّ القمي نفسه قد أجاز الشيخ الطوسي بالوسائط في نقل تفسيره، فلا تضرّ بعدها جهالة أبي الفضل»([9]).

ولكن قد ينقاش:

أولاً: إن هذا الافتراض يتمّ لو كان القمي قد أعطى الواسطةَ الأولى كتابَه، وقال له: أجيزك أن تنقل هذا الكتاب، وهكذا نكون قد حصلنا على ما في النسخة الأصلية، أو يكون قد قرأ عليه التفسير فأجازه بنقله؛ وهذا بعيد؛ لكثرة مؤلّفات علي بن إبراهيم، والإجازة لم تكن للتفسير بل لجميع كتبه بما فيها التفسير كما ذكر الشيخ الطوسي.

ثانياً: ما المقصود بـ «لا تضرّ بعدها جهالة أبي الفضل»، ألا يعني هذا كما هو الظاهر أن أبا الفضل لا يقع طرفاً في هذا الطريق الذي ذكره الشيخ الطوسي، مع أننا نلاحظ أن أبا الفضل ما زال طرفاً من خلال وجوده في كلّ النسخ التي بأيدينا، فهو الذي يقول: «حدّثنا علي بن إبراهيم..»، ممّا يبعّد من احتمال أن يكون الكتاب قد وصلنا من طريقٍ آخر، بل هناك قرائن كثيرة موجودة في الوسائل والبحار تدلّ على أن النسخة الموجودة لديهما هي نفس النسخة الموجودة لدينا بتوسّط أبي الفضل، فكثيراً ما يرد في الوسائل: «علي بن إبراهيم في تفسيره، عن أبي الجارود..»([10]).

هذا، ويذكر الشيخ محمد سند([11]) شواهد كثيرة من الوسائل والبحار، تفيد أن نسخة صاحب الوسائل لتفسير القمي، وكذلك النسخة التي عند العلامة المجلسي، وأيضاّ النسخة التي عند صاحب تفسير البرهان، هي النسخة عينها التي بأيدينا بتوسّط أبي الفضل، وقد أراد أن يثبت بذلك تواتر النسخة الواصلة، وأنها هي المجازة من قبل علي بن إبراهيم، وخصوصاً أن سلسلة الإجازات التي يذكرها صاحب الوسائل والمجلسي وغيرهما إلى غير أصحاب الكتب الأربعة هي ــ من وجهة نظر الشيخ سند ــ من الطرق الاصطلاحية، وليست عبارةً عن صورة إجازات تبرّكية، كما أكّد ذلك في بحث سابقٍ له في الكتاب عينه ([12])، دافعاً ما اعترض به السيد البروجردي من أن غير الكتب الأربعة لا يمكن الاعتماد على الروايات الواردة في نسخه منفردةً.. ليخلُص إلى القول بأن سلسلة الإجازات هي طرق مناولة.

وللمناقشة فيما توصّل إليه مجال، غير أننا نحتاج إلى بحث مستقل، ويكفي أن نقول: إنه بناءً على ما ذهب إليه من أن النسخة الواصلة إلينا هي نفس نسخة العباس، والطرف الذي نعرف كيف استجاز علي بن إبراهيم في أغلب سلسلة الإجازات هو الحسن بن حمزة الطبري، ونسخته هي النسخة المنتشرة للعباس (أبي الفضل) نزيل طبرستان، معقل الدولة الزيدية آنذاك، والتي قامت بترويج النسخة لتضمّنها تفسير الجارودي (وفي هذا ما فيه..) كما استظهر المحقق آغا بزرك الطهراني في ذريعته، أقول: إنّ علي بن إبراهيم قد أجاز الحسن بن حمزة الطبري عبر المراسلة، فهو الذي يقول: «كتب إليّ علي بن إبراهيم بإجازة سائر أحاديثه وكتبه..»، كما ذكر النجاشي والطوسي ذلك في ترجمة علي بن إبراهيم، وعليه فكيف يمكن أن يكون هذا النوع من الإجازات مناولةً؟! وللمناقشة مجالٌ كما ذكرنا، وليس هنا محلّها.

ثالثاً: ما ذكره غيرُ واحدٍ من الأعلام، من أنّ الفحص والتأمل في تفسير القمي يفضيان إلى القول بأنه عبارة عن خليطٍ من تفسيرين أو أكثر، فبعضه للقمّي وبعضه الآخر لغيره، بل عبارة الآغا بزرك الطهراني توحي بأنه مقتنع بهذا التصرّف من الراوي؛ فقد قال: «.. ولخلوّ تفسيره (القمي) هذا عن روايات سائر الأئمة ( قد عمد تلميذه الآتي ذكره (يقصد أبا الفضل)، والرواي لهذا التفسير عنه إلى إدخال بعض روايات الإمام الباقرB التي أملاها على أبي الجارود في أثناء هذا التفسير، وبعض روايات أخر عن سائر مشايخه ممّا يتعلّق بتفسير الآية ويناسب ذكرها في ذيل تفسير الآية، ولم يكن موجوداً في تفسير علي بن إبراهيم؛ فأدرجها في أثناء روايات هذا التفسير؛ تتميماً له تكثيراً لنفعه، وذلك التصرّف، وقع منه من أوائل سورة آل عمران إلى آخر القرآن»([13]).

وقد ذكر السيد جعفر مرتضى ذلك ــ وهو في معرض الردّ على الأحاديث التي صرّحت أو يُفهم منها تحريف بعض الآيات القرآنية ــ بقوله: «.. وأما بالنسبة لأحاديث تفسير القمي، فهو وإن حاول بعض الأعلام (يقصد السيد الخوئي S) أن يستدلّ لوثاقة جميع رواته، إلا أن كثيرين من العلماء لم يقبلوا ذلك منه، وناقشوا أدلّته وردّوها.. لا سيّما.. وأن هذا التفسير قد خلط ما روي عن القميّ بما روي عن أبي الجارود الضعيف الرواية، بالإضافة إلى علل أخرى موجودة فيه»([14]).

هذا، وقد ردّ الشيخ الإيرواني أيضاً استفادة التوثيق العام من المقدّمة بإيرادٍ عام وهو: «إنّ النسخة الأصليّة للكتاب للمذكور ليست بأيدينا، والمطبوع المتداول لا نجزم بكونه بكامله تفسير القمي وغيره ـ وبعد أن ذكر القرائن قال ـ : ومعه فيحصل علمٌ إجمالي بكونه خليطاً من تفسير القمي وغيره، وحيث لا يمكن التمييز؛ فيسقط جميعه عن الاعتبار»([15]).

وقال أيضاً في موضعٍ آخر: «إن القمي وإن كان له كتاب باسم التفسير ولا يمكن التشكيك في ذلك؛ باعتبار أن النجاشي والطوسي قد نصّا على وجود التفسير المذكور وذكروا إليه طريقاً صحيحاً.. ولكنّنا نشكّك في كون التفسير المتداول اليوم هو نفس تفسير القمي، ونحتمل عدم كونه للقمي رأساً، ولا أقل بعضه للقمّي والبعض الآخر قد دسّ فيه..» ثم ذكر ما يؤكّد ذلك من القرائن([16]).

وهذا ما توصّل إليه الشيخ الداوري، مع فارق أنه قال بإمكانية التمييز بين تفسير القمي وغيره، وقدّم بعض الضوابط لذلك، نذكرها لاحقاً، وما نريده الآن هو إيراده على ما ذهب إليه السيد الخوئي S ــ من أن التفسير كلّه لعلي بن إبراهيم، وأنّ الطريق من جهة العلامة المجلسي وصاحب الوسائل ثابتة ــ بقوله: «ففيه ما ذكرناه سابقاً من أن الرجوع إلى الكتاب والتأمل في القرائن يفضيان إلى القناعة التامّة بأن الكتاب مركّب من تفسيرين، لا أنه تفسير واحد»([17]).

الشواهد والقرائن على كون التفسير الموجود خليطاً من تفسيرين أحدهما للقمّي

أما القرائن الموجودة في الكتاب، والتي يُحكم من خلالها ـ مع التأمل ـ بأن التفسير الحالي عبارة عن خليط من تفسيرين على الأقل، أحدهما للقمي، هذه القرائن ذكر بعضها الشيخ الإيرواني والشيخ الداوري، وأهمّها ما يلي:

القرينة الأولى: ورد في التفسير بعض التعابير التي لا تتناسب وكون المفسّر واحداً، بل تدلّ على الخروج من تفسيرٍ إلى آخر، فكثيراً ما يرد هذا التعبير: «رجع إلى تفسير علي بن إبراهيم» أو «رجع إلى رواية علي بن إبراهيم» أو «رجع الحديث إلى علي بن إبراهيم» أو «في رواية علي بن إبراهيم»([18]).

فلو كان التفسير لعلي بن إبراهيم، فهل خرج عنه حتى يعود إليه على حسب تعبير الشيخ الداوري([19])، بل كما هو الظاهر هناك خروج عن تفسير القمي ودخول في تفسير آخر، كتفسير أبي الجارود، ومما يدلّ على ذلك أن هذه التعابير لم ترد بعد كلام ليس له علاقة بتفسير الآيات؛ ليقال: إنه ربما خرج علي بن إبراهيم بنحو الاستطراد إلى موضوع آخر لا يتعلّق بالتفسير ثم عاد إلى التفسير، بل كانت ترد بعد تفسير آية، وفي «رواية أبي الجارود» ونحو ذلك، وقد ذكر هذه القرينة أيضاً الشيخ الداوري([20]).

القرينة الثانية: قد ذكرنا سابقاً، ما قاله صاحب الذريعة من أنّ أول تغيير حصل لأسلوب الرواية هكذا «فإنّه حدثني أبي عن..» أو «قال علي بن إبراهيم حدثني أبي عن»، فإذا به يتغيّر عند تفسير الآية 49 من سورة آل عمران، وبهذه الصورة: «حدّثنا أحمد بن محمد الهمداني، قال: حدثني جعفر بن عبد الله، قال: حدّثنا كثير بن عياش، عن زياد بن المنذر أبي الجارود، عن أبي جعفر محمد بن علي B»، وروى بهذا السند أيضاً في الصفحة 102، 148، من المجلد الأول، وفي بقية الموارد اكتفى بذكر أبي الجارود؛ اختصاراً كما هو الظاهر، فأكثرَ من قول «وفي رواية أبي الجارود»، وإذا أضفنا إلى ذلك أنّ الشيخ الطوسي والنجاشي ذكرا أن لأبي الجارود تفسيراً، إلا أنه غير موجود، وهذا السند الآنف الذكر هو الطريق المشهور إلى تفسير أبي الجارود؛ فقد روى الشيخ الطوسي ـ وكذا النجاشي ـ تفسيره عنه بسندهما إلى أحمد بن محمد الهمداني([21]).. شكّل ذلك قرينةً على أنّ ما هو الموجود في تفسير القمي برواية أحمد بن محمد الهمداني ما هو إلا من تفسير أبي الجارود.

القرينة الثالثة: كثرة النقل عن أحمد بن محمد، وهو المعروف ـ بحسب الظاهر ـ بابن عقدة الراوي عن الكليني، مع أن الكليني في الكافي يروي عن علي بن إبراهيم كثيراً، فكيف يمكن أن يروي علي بن إبراهيم عن تلميذه، هذا ما قاله الشيخ الداوري([22]).

لكن قد يناقش بأن القرينة الثانية تكفّلت بيان حال أحمد بن محمد، وأنه يقع في الطريق المشهور إلى تفسير أبي الجارود، فلا موجب للإعادة، ثم يبدو أنه حصل اشتباه في الأمر؛ إذ إن الكليني هو من يروي عن أحمد بن محمد لا العكس بحدود تتبعي، فهو من مشايخ الكليني كما ذكر السيد الخوئي في المعجم([23])، فمثلاً روى عنه في الكافي (ج 5 ك 3 ــ باب 19، في ذيل الحديث السابع)، ثم لو فرضنا أنه يروي عن الكليني، فمن الممكن أن يروي عنه علي بن إبراهيم؛ إذا إن موت ابن عقدة كان في سنة 333 هـ كما ذكر النجاشي في ترجمته([24])، أي بعد موت علي بن إبراهيم بـ 26 سنة؛ فهما من الطبقة عينها، وليس من مانع أن يحدّث علي بن إبراهيم عن ابن عقدة؛ وعليه فالقرينة غير تامة([25]).

القرينة الرابعة: ذكر الشيخ الداوري أيضاً أن من القرائن وجود الواسطة بين علي بن إبراهيم وبين أبيه، فقد ذكر في أحد الطرق شخصان إلى إبراهيم بن هاشم؛ فلو كان لعلي بن إبراهيم فلا حاجة إلى الواسطة([26]).

وهذه القرينة كسابقتها غير تامّة؛ إذ من الممكن جداً ألا يكون حاضراً عند الحديث أو يكون صغيراً، وكذلك الأمر عند كتابة تفسيره، فمن المحتمل جداً ألا يسأل أباه مباشرةً عن الحديث الذي روي له لكونه متوفياً مثلاً.

وهناك قرائن أخرى، كوجود بعض الأسانيد الطويلة التي يستبعد أن تكون من علي بن إبراهيم، بل هي من نفس الراوي للتفسير، إضافةً إلى ما سأذكره في المحور الثالث من هذه الدراسة، ويصلح أن يكون مؤيداً لما بحثناه هنا في المحور الأوّل.

وأعتقد أن القرينة الأولى ـ مؤيّدةً بالقرينة الثانية ـ كافيتان لإثبات أن الكتاب خليطٌ من تفسيرين: أحدهما للقمي، والآخر لأبي الجارود، بالإضافة إلى روايات أخرى في التفسير بطرقٍ أخرى، ذكرها الراوي لتفسير علي بن إبراهيم.

محاولات للتمييز بين تفسير القمي وتفسير أبي الجارود المختلِطَين

والسؤال الذي يطرح نفسه في نهاية هذا المبحث، وبعد هذه النتيجة: كيف نستطيع التمييز بين تفسير القمّي وغيره؟

اعتبر الشيخ مسلم الداوري أنه يمكننا ذلك بملاحظة السند؛ فإن ورد فيه حدّثنا أو أخبرنا ـ وكان السند طويلاً ـ فهو من الجامع للتفسيرين، وإن ورد حدثني أبي أو كان سنده مختصراً فهو من تفسير علي بن إبراهيم، بالإضافة إلى ما ذكر من القرائن التي تنفع في التمييز بينهما([27]).

وما ذكره جيّدٌ في الجملة، إلا في بعض الموارد المحصورة؛ فإنه قد يشتبه على الناظر التمييز بينهما.. كما في قوله: «أخبرنا حسن بن علي، عن أبيه، عن الحسين بن سعيد، عن محمد بن سنان، عن أبي خالد القمّاط، عن أبي بصير، عن أبي جعفر B..» فقد يتوهّم؛ لطول السند، أنها ليست عن علي بن إبراهيم، مع أنه من المحتمل جداً أن تكون عنه، خصوصاً أنه عقّب بعد تفسير عدّة آيات، وفي الصفحة نفسها بقوله: «فإنه حدّثني أبي عن صفوان عن ابن مسكان..»([28])، إضافةً إلى أنه لو نظرنا في السند السابق، فمن الممكن أن يكون الحسن بن علي هو الحسن بن علي بن مهزيار الذي يروي عن أبيه، كما أن أباه ممن يروي عن الحسين بن سعيد، وقد وردت عنه روايةٌ في تفسير القمي عند قوله تعالى في سورة هود: >لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي إلى رُكْنٍ شَدِيدٍ<. قال: «أخبرنا الحسن بن علي بن مهزيار، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن بعض أصحابه، عن أبي عبد الله B..» ([29]).

لكن كما قلنا، إن هذا محصور ـ بحسب التتبّع ـ في موارد قليلة.. وعليه يبقى ما ذكره الشيخ الداوري كضابطة عامة للتمييز قوياً.

المحور الثاني: حول نسبة المقدّمة إلى علي بن إبراهيم

توصّلنا في المحور الأول إلى أن تفسير القمّي له ولغيره، والسؤال الآن: هل مقدّمة هذا التفسير للقمّي أم أنها لأبي الفضل؟

والذي يهمّنا تحقيقه هو: هل العبارة المذكورة في المقدّمة ــ والتي استدلّ بها على وثاقة من يقع في أسناد علي بن إبراهيم ــ هي لأبي الفضل التلميذ أم للقمّي؟ وهنا تكمن أهمية هذا المبحث، فإن قلنا بأنّها ـ أي المقدّمة ـ للقمي استأنفنا بحثاً جديداً عبر المحور الثالث والأخير الذي يلي هذا المحور، وهو حول إمكانية استفادة التوثيق من العبارة أو لا، وأما إن قلنا بأنها ليست له، فسيفقد المبحث التالي قيمته المطلوبة، وكان ما نتوخّاه منه حينئذٍ لغواً، إلا من بعض الملاحظات التي لا تخلو من فائدة.

تتميز مقدّمة تفسير القمي بطولها، فهي أكثر من 25 صفحة، تبدأ بذكر الله وحمده وأهمية القرآن الكريم وما قاله الرسول 2 في أهل بيته، عدل القرآن والثقل الأصغر، إلى أن يدخل في بيان ما في القرآن من ناسخ ومنسوخ ومحكم ومتشابه و.. بل ذكر أيضاً ما فيه من الردّ على الملحدين والثنوية والجهمية وعبدة النيران وغيرهم، مع ذكر الآيات القرآنية الدالّة على كل نوع، وقد ورد أثناء سرد المقدّمة عبارةٌ، استُدلّ بها على وثاقة كلّ الرجال الواقعين في أسناد التفسير المذكور، وهذه العبارة هي: «ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم وأوجب ولايتهم ولا يقبل عملٌ إلا بهم..»([30]).

هذا، ولكن يلاحظ أنه بعد عدّة أسطر، ورد ما نصّه: «قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الهاشمي القمي: فالقرآن منه ناسخ ومنه منسوخ..»، مما يولّد احتمالاً معقولاً، وهو أن الكلام من أوله ــ بما فيه العبارة التي يراد الاستشهاد بها والتي وردت قبل ذلك ــ لم يكن لعلي بن إبراهيم، ومعه كيف يمكن الاستدلال بالعبارة المذكورة آنفاً، ونحن لا نجزم بكونها للقمي، خصوصاً أن جملة: «قال أبو الحسن علي بن إبراهيم..» أو ما يشبهها لم ترد سابقاً؛ ليقال: إنه أتى بها لاحقاً لتأكيد أن الكلام مازال له، كما قد يفعل ذلك أحياناً.. وعليه يكون متّجهاً القول بأن المقدمة ـ كالتفسير ـ خليط من كلامين: أحدهما للراوي وهو من حين الشروع بها، والآخر للقمّي، وهو ما بعد «قال أبو الحسن علي بن إبراهيم».

وقد أورد الشيخ الإيرواني على هذا الاحتمال ـ بعد أن ذكره ــ قائلا: «وفيه: إن الجملة السابقة التي يراد الاستشهاد بها قد نقلها صاحب الوسائل في وسائله، وهو له طريق صحيح إلى الشيخ الطوسي، وبالتالي إلى القمّي نفسه، فيثبت بذلك أن القميّ قد ذكر الجملة السابقة وأوصلها إلى صاحب الوسائل من خلال الشيخ الطوسي»([31]).

ويرد عليه:

1 ـــ بالنقض، إذ ينقض عليه بأن صاحب الوسائل أيضاً نقل أحاديث كثيرة في وسائله من تفسير القمي، وبناء على ما أورده يثبت أيضاً أن القميّ قد ذكر هذه الأحاديث بما فيها عن أبي الجارود وأوصلها إلى صاحب الوسائل من خلال الشيخ الطوسي، مع أنه ـ أي الشيخ الإيرواني ـ توصّل إلى القول بأن التفسير عبارة عن خليط من تفسيرين، فإن قال: إن القرائن دلّت على ذلك، يقال له: لم لا تقول: إن القرينة دلّت على ذلك هنا أيضاّ، وهي عبارة «قال أبو الحسن علي بن إبراهيم..» الواقعة في أثناء سرد المقدمة ولم تذكر سابقاً.

2 ــ بالحلّ؛ فقد أوردنا سابقاً في المحور الأول ونعيد: إن أبا الفضل ما زال موجوداً في كلّ النسخ التي بأيدينا؛ ممّا يبعّد من احتمال أن يكون الكتاب قد وصلنا من طريقٍ آخر، بل ذكرنا أن هناك ما يدلّ على أن النسخة الواصلة إلى صاحب الوسائل هي نفس النسخة التي بأيدينا، وبما أننا انتهينا إلى النتيجة التي انتهى إليها الشيخ الداوري من أنّ التفسير المذكور خليطٌ من تفسيرين وأنه يمكن التمييز بينهما، فليكن التمييز فيما نحن فيه بهذا الحدّ الفاصل بين ما قبل «قال أبو الحسن علي بن إبراهيم» وما بعده.

ولا أدري! لماذا لم يعالج الشيخ الداوري مسألة نسبة المقدّمة إلى القميّ كما عالج نسبة الكتاب إليه؟ اللهم إلا أن يقال: إنه ذكر في الحاشية ـــ وقد يكون للمقرِّر ـــ ما نصّه: «قد وقع الترديد من بعضهم في نسبة مقدّمة التفسير لعلي بن إبراهيم القمي، كما نقل بعض الأجلاء أن السيد الأستاذ (الخوئي)P قبل تصنيفه للمعجم كان على هذا، والصحيح أنها له؛ وذلك لوجود أجزاء من المقدّمة في كلمات القدماء منسوبةً إلى علي بن إبراهيم، فلا وجه للإشكال..»([32]).

غير أن الجواب في الحاشية مقتضب ولا يكفي؛ إذ لم يذكر ما هي الأجزاء التي ذكرها القدماء؟ ثم من هم؟ وأين ذكروا ذلك؟ إذ لعلّها ما بعد قوله: «قال أبو الحسن..»، ثم لو سلّمنا أنهم ذكروا ما في أول المقدمة، بل نفس العبارة التي يراد الاستشهاد بها على التوثيق، فهل هذا يعني أنه لا وجه للإشكال كما ذكر المحشّي، خصوصاً على ما بنى عليه الشيخ الداوري من أن تفسير القمي عبارة عن خليط من تفسيرين؛ إذ ينقض عليه بما نقضناه على الشيخ الإيرواني، بل النقض عليه أوضح؛ لأنه يقول بالتمييز.

وتوضيح ذلك: ألسنا قد نقضنا على الشيخ الإيرواني بوجود أحاديث من تفسير القمي، ومنها عن أبي الجارود في الوسائل، وبناء على ما أورده من أن لصاحب الوسائل طريقاً صحيحاً إلى الشيخ الطوسي وبالتالي إلى القمي نفسه، تكون هذه الأحاديث للقمي، مع أنّ هذا يناقض ما توصّل إليه من كون الكتاب خليطاً من تفسير القمّي وغيره، ولكن بإمكانه أن يجيب: صحيح أنني قلت بذلك، ولكن قلت بعدم إمكانية التمييز، فليكن ما رواه صاحب الوسائل من الموارد هي التي نثبتها للقمّي وإن كانت برواية أبي الجارود، وباقي الموارد هي من الخليط الذي لا يمكن تمييزه([33])، هذا بينما نقضنا على الشيخ الداوري لا يمكّنه من قول ذلك؛ لأنه قال بإمكانية التمييز، وبعض ما يرويه صاحب الوسائل من تفسير القمي يقع رجال سند هذه الروايات في القسم الثاني الذي ميّزه الشيخ الداوري عن رجال القسم الأول التابع برأيه لتفسير القمي([34]).

وممّا تقدّم ظهر أنه لا دليل تام على كون العبارة المذكورة في المقدمة هي لعلي بن إبراهيم، بل حتى لو رفعنا جهالة الراوي وقلنا بوثاقته ـ كما هو محتمل ـ فإنّ ذلك لا يقدّم شيئاً للمستدل، كما قد يُتوهم، بل على العكس؛ إذ اعتماداً على أمانته في النقل ستبدو عبارة «قال أبو الحسن علي بن إبراهيم القمي» قرينةً صارفة لما قبلها من الكلام عن أن يكون للقمي نفسه، فمقتضى أمانة الراوي أن يستهلّ بها المقدمة لا أن يؤخرها دون سببٍ ظاهر، وخصوصاً أنه عوّدنا من خلال التفسير المذكور أن يأتي بها أو بما يشبهها للتمييز بين ما ينقله عن علي بن إبراهيم وبين ما ينقله عن غيره، إلا في بعض الموارد التي قد تكون حصلت منه سهواً، والعصمة لأهلها.

ومما يؤيد ذلك أنه أتى باسمه الكامل المعروف له أثناء سرد المقدمة، ولم يكتف بذكر الكنية والاسم بل نسبه إلى العائلة والبلد أيضاً؛ فقال: «قال أبو الحسن علي بن إبراهيم الهاشمي القمي»، مما قد يوحي بأنه شرع بعدها بالنقل عن القمي بعد أن عرّفه باسمه الكامل.

لكن، كيف نوفق بين ما توصّلنا إليه وبين ما نقله القدماء من تفسير القمي ولو عبر الإجازات ــ مع فرض أنها طرق اصطلاحية ــ من خلال صاحب الوسائل الذي له طريق صحيح إلى الشيخ الطوسي وبالتالي إلى القمي، وصاحب الوسائل كثيراً ما ينقل عنه كما ذكرنا سابقاً وبهذه الصيغة أحياناً: «علي بن إبراهيم في تفسيره، وفي رواية أبي الجارود..» الذي يتوهم كما هو الظاهر أنه للقمي أيضاً.

إنني أحتمل للتوفيق احتمالاً قوياً، وهو أن الراوي لمّا كان قد أورد في التفسير المقدار الأكبر عن علي بن إبراهيم، وقام بعملية التمييز ــ وإن كانت مشوّشة أحياناً ــ عمّا أورده عن غيره في أثناء التفسير تتميماً للفائدة مثلاً ــ كما يرى صاحب الذريعة ــ كان من الطبيعي أن يطلق على اسم التفسير (تفسير القمي)؛ لاشتماله الكامل على كل ما جاء في رواية علي بن إبراهيم من التفسير، من أول القرآن إلى آخره، واشتهر الكتاب بهذا الاسم، ونقل العلماء عنه، ممّا أدّى إلى الاشتباه لاحقاً بين تفسير القمي (الكتاب)، وتفسير القمي (المضمون) إن صحّ التعبير، والإجازة الواردة عن القمي لسائر أحاديثه وكتبه بما فيها التفسير، تعني ما حدّث هو به من تفسير للقرآن في (تفسير القمي) الكتاب؛ وعليه فلا منافاة بين هذا وما توصّلنا إليه من أن في التفسير المشهور ما لم يحدّث هو به للقرائن التي ذكرناها في المحور الأول، ومن الطبيعي أن تكون الإجازة لما رواه هو من تفسيره لا ما رواه غيره.

إنّ الاحتمال الأقوى ــ بمقتضى أمانة الراوي وللقرينة الآنفة الذكر ـ هو أنّ العبارة التي استدلّ بها على التوثيق هي من كلام الراوي، وبالتالي تكون المقدمة ـ كالكتاب ـ عبارة عن خليط من كلامين، مع إمكانية التمييز التي لا تخفى على الناظر المتأمّل، ولكن مع ذلك فإن احتمال كون المقدمة للقمي ما زال ممكناً وإن كان ضعيفاً بحسب الظاهر، ولكي تكتمل الدراسة من جميع جوانبها، سنبني ـ تنـزّلاً ـ على كون المقدمة للقمي، لنعالج إمكانية الاستدلال بالعبارة التي وردت فيها على وثاقة رجال علي بن إبراهيم القمي، وذلك في المحور التالي.

المحور الثالث: التوثيق العام لرجال تفسير القمي، قراءة نقديّة

ذكرنا سابقاً ونعيد، أنه قد وردت في المقدّمة العبارةُ التالية: «ونحن ذاكرون ومخبرون بما ينتهي إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا عن الذين فرض الله طاعتهم وأوجب ولايتهم..»، وقد بنينا ـ تنـزّلاً ـ على أنها للقمي، فهل يمكن الاستفادة منها في توثيق جميع أفراد سند روايات تفسير القمي، أو لا؟

فللتوثيق ـ على فرض تماميته ـ أهميةٌ بالغة كما لا يخفى؛ إذ سيدخل أكثر من (115) رواياً إلى عالم الموثقين بعد أن كانوا من المجاهيل، هذا بناءً على ما ذهب إليه الشيخ الداوري من توثيق خصوص القسم الأول، وإلا فبناءً على ما ذهب إليه السيد الخوئي سيتضاعف عدد الرواة الذين سيوثقوا، وبالتالي ستصحّح روايات كثيرة من روايات الأحكام الشرعية؛ لدخول جمعٍ من هؤلاء في أسانيدها، ولهذا كان من الضروري إعادة النظر مرةً أخرى في هذا التوثيق، فإن حصلنا على ما يزيل الشك من أنفسنا، كان ذلك زيادةً في الخير، وإن لم نحصل على هذا الاطمئنان، نكون قد استفدنا أيضاً من التنبيه على الموارد التي قد لا تكون صادرةً عن أئمتنا (؛ لنتوقف في نسبتها إليهم على الأقل.

ذهب الحرّ العاملي، وتبعه السيد الخوئي، وكذلك الشيخ الداوري ـ ضمن الشروط التي وضعها الأخير وسنذكرها لاحقاً ـ إلى القول بوثاقة الرواة الواقعين في أسانيد هذا التفسير، أو على الأقل ـ كما ذهب إليه الشيخ الداوري ـ وثاقة خصوص رجال القسم الأول، وقد وافقناه فيما سبق على هذا التقسيم، وعليه سيكون محور البحث حول هذا القسم الذي هو القدر المشترك بين ما وثقه السيد الخوئي وما وثقه الشيخ الداوري.

أما تقريب الاستدلال على التوثيق المذكور من العبارة السابقة، فهو أنهم اعتبروا هذه الجملة شهادةً من علي بن إبراهيم بأنه يذكر ما ينتهي إلى المعصومين عن طريق الثقات؛ فتكون الروايات الموجودة صحيحةً ورواتها ثقاتاً.

قال صاحب الوسائل في الفائدة السادسة من خاتمة كتابه: «وقد شهد علي بن إبراهيم أيضاً بثبوت أحاديث تفسيره، وأنها مروية عن الثقات عن الأئمة E»([35]).

وعلّق السيد الخوئي ـ على ما استفاده صاحب الوسائل من العبارة ـ قائلاً: «إن ما استفاده S في محلّه؛ فإن علي بن إبراهيم يريد بما ذكره إثبات صحّة تفسيره، وأنّ رواياته ثابتة وصادرة من المعصومين (، وأنها انتهت إليه بوساطة المشايخ والثقات من الشيعة، وعلى ذلك فلا موجب لتخصيص التوثيق بمشايخه الذين يروي عنهم علي بن إبراهيم بلا واسطة كما زعم بعضهم..»([36]).

أمّا الشيخ الداوري، فقد ذهب إلى ذلك أيضاّ وبخصوص رجال القسم الأول، إلا أنه أضاف شيئاً جديداً؛ إذ اعتبر أنّ الحكم بوثاقة الرواة يتوقف على ثلاثة شروط، استفادها من العبارة المتقدمة:

الشرط الأول: أن يكون الراوي منّا، أي لا يكون من أهل السنّة؛ لقوله: «ثقاتنا».

الشرط الثاني: أن تكون الرواية متصلة؛ لقوله: «ينتهي إلينا ورواه مشايخنا وثقاتنا»، فتخرج الرواية المقطوعة والمرسلة.

الشرط الثالث: أن تنتهي الرواية إلى المعصوم B؛ لقوله: «عن الذين فرض الله طاعتهم..»؛ فيخرج ما كان منتهياً إلى ابن عباس وغيره([37]).

وما ذكره > جيّد للخروج عن الإشكالات التي قد تُطرح على هذا التوثيق، كوجود رجال من أهل السنّة، وروايات مقطوعة ومرسلة، وروايات عن ابن عباس وغيره، ومع ذلك فقد يقبل الشرط الأول إذا قبلنا أن المقصود بثقاتنا هم الرواة الواقعين في الأسانيد، لا خصوص مشايخه أو أي احتمال آخر سنبيّنه فيما بعد، وكذلك الشرط الثالث سواء استفدناه من العبارة أم لا، لأن ما يهمّنا بحثه هو ما يقع في الروايات المنتهية إلى المعصوم B، وأما الشرط الثاني فإنه يمكن المناقشة فيه، إذ إنه بالنظرة الأولى والعرفية إلى العبارة، ومن دون دقة وتحليل.. لا يفهم منها ذلك، فقوله: «ما ينتهي إلينا ورواه مشايخنا»، أي ما يصلنا عن المعصومين ( عن طريق مشايخنا وثقاتنا بغضّ النظر عن كيفية وصوله، أهو بنحو الاتصال، أم القطع والإرسال.

وعلى كل حال، ما يهمّنا تحقيقه الآن هو: هل كلمة «ثقاتنا» ظاهرة في الرواة الواقعين في الأسانيد، أم أن هناك ظهوراً آخر بنفس القوّة بل قد يوجد احتمالٌ آخر يصعد إلى مستوى الظهور الأقوى بمعونة بعض القرائن، فالاحتمالات المعقولة للمراد من «ثقاتنا» ثلاثة ـ من غير حصر ـ وهي:

1 ـ أن يكون المقصود الرواة الواقعين في الأسانيد، كما استظهر ذلك صاحب الوسائل والسيد الخوئي.

2 ـ أن يكون المقصود خصوص مشايخه؛ بقرينة العطف المباشر لثقاتنا على «مشايخنا».

3 ـ أن يكون المقصود هو أن أغلب الرجال الواقعين في أسانيده ثقات، فيصحّ أن يعبر «ثقاتنا» للأعمّ الأغلب.

وقد يكون هناك احتمالات أخرى نستبعدها؛ لعدم شمول النظرة الأولى والبدويّة لها.

هذا، وقد يُشكل على احتمال أن المراد من ثقاتنا خصوص مشايخه أو غير ذلك بما تقدّم عن السيد الخوئي، بأن علي بن إبراهيم يريد بما ذكره إثبات صحّة تفسيره، ولهذا بنى على الاحتمال الأول.

قرائن وشواهد على عدم كون القمّي بصدد توثيق تفسيره

ولكن يرد عليه أن هناك عيّنات من التفسير، بمثابة قرائن صارفة عن أن يكون بصدد توثيق تفسيره، بل وتبعّد من أن يكون المقصود هو الاحتمال الأول، أي ما ذهب إليه وغيره من الأعلام إلى التوثيق العام، بالإضافة إلى قرائن أخرى مضعّفة للاحتمال الأول، وأبرز هذه القرائن:

القرينة الأولى: ورد في التفسير مجموعة من الروايات التي إن دلّت على شيء فإنما تدل على أن القمي ليس بصدد توثيق جميع رواة كتابه، ففي ج 1 ـ ص 43 «حدثني أبي رفعه..» وص 99 «حدثني محمد بن يحيى البغدادي رفع الحديث إلى أمير المؤمنين B…» وص 152 و290 «حدثني أبي عن بعض رجاله رفعه إلى أمير المؤمنين B»، وص 211 «حدثني أبي عن أبيه عن بعض أصحابنا عن أبي عبد الله B..»، وفي ص 214 «حدثني أبي عن الحسين بن سعيد عن بعض رجاله عن أبي عبد الله B..» إلى كثير من الموارد التي لا يمكن فيها التوثيق لعدم تشخّص رواة السند، وقد ذكر هذه القرينة أيضاً الشيخ الإيرواني، وأضاف أيضاً: بل في بعض الموارد ورد اسم من لا يمكن أن يكون من الثقات كيحيى بن أكثم مثلاً، كما في ج1 ـ ص 356([38])، ويحيى بن أكثم هو من رجال القسم الأول، وكذلك كلّ ما ذكرتُه من الموارد السابقة.

وهذه القرينة قوية كما لا يخفى؛ إلا أنه بإمكان الشيخ الداوري أن يردّها للشرط الثاني من شروطه، وكما عرفنا يتوقف الحكم بوثاقة الرواة عنده على هذه الشروط، وذكرنا سابقاً الشرط الآنف الذكر وهو أن تكون الرواية متصلة، وأوردنا عليه، فإن قبل الإيراد كانت القرينة تامّة وإلا فلا ترد على مثل ما تبنّاه.

القرينة الثانية: ورد في التفسير عدّة روايات تؤكّد وقوع التحريف في القرآن، ولا نقصد الروايات التي يمكن حمل ما جاء فيها على التفسير المزجي أو غير ذلك، بل نقصد الروايات التي صرّحت بذلك، وكأنموذج أذكر ما ورد في تفسير قوله تعالى: >كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ<: «وحدثني أبي عن ابن أبي عمير عن ابن سنان، قال: قرأت عند أبي عبد الله B >كنتم خير أمّة أخرجت للناس< فقال أبو عبد الله: >خير أمّة< يقتلون أمير المؤمنين والحسن والحسين (؟ فقال القارئ: جعلت فداك: كيف نزلت؟ قال: نزلت «كنتم خير أئمة أخرجت للناس»؛ ألا ترى مدح الله لهم: >تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله..([39])، وقد يكون من هذا القبيل ايضاً ما أورده عند تفسير قوله تعالى: >وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا< يعني أئمة وسطاً أي
عدلاً وواسطة بين الرسول والناس.. ـ إلى أن قال ـ : وإنما نزلت وكذلك جعناكم أئمة وسطاً.

وأظنّ أنه لا حاجة إلى التعليق، فدعوى التحريف واضحة، ولكن السؤال الذي يطرح نفسه بعد التحقيقات القيّمة من علمائنا المتقدمين والمتأخرين بأن القرآن لم تنله يد التحريف بزيادةٍ أو نقيصة، وخصوصاً على ما حقّقه السيد الخوئي في بيانه وقدّم
الأدلة القوية المتينة على ذلك، أقول السؤال هو: كيف نفسّر وقوع مثل هذه النماذج في تفسيره؟!

والجواب: إما أن القمي كان يعتقد بوقوع مثل هذا النوع من التحريف، كما كان يعتقده بعض علمائنا، ولكن هذا يبرز احتمالاً جديداً لكلمة «ثقاتنا»، وهو أن لعلي بن إبراهيم مبنى اجتهادياً خاصاً في عمليّة التوثيق، خصوصاً أن المبنى الموجود عند المتقدمين هو الوثوق لا الوثاقة، فمثل هذه الاعتقادات لها تأثير كبير في كيفية التوثيق كما هو واضح، وبالتالي سوف لن نطمئن لتوثيقاته، خصوصاً مثل السيد الخوئي الذي وصل إلى النتيجة التالية في كتابه القيّم (البيان في تفسير القرآن)؛ إذ قال: «وممّا ذكرناه، قد تبيّن للقارئ أن حديث تحريف القرآن حديث خرافةٍ وخيال، لا يقول به، إلا من ضعف عقله، أو من لم يتأمل في أطرافه حقّ التأمل، أو من ألجأه إليه الحبّ للقول به والحبّ يعمي ويصمّ، وأما العاقل المنصف المتدبّر فلا يشك في بطلانه وخرافته»([40]).

وعليه، كيف يطمئن السيد الخوئي إلى توثيقات القمي لو بنينا أنه ممّن يعتقد بوقوع التحريف، ولكن مما يبعّد هذا الاحتمال ما قاله أصحاب التراجم في حقه، من أنّه من أجلّ الأصحاب وصحيح المذهب وغير ذلك.

والاحتمال الثاني أن القمي لا يعتقد بذلك، وهنا يرد على السيد الخوئي، أن القمي لو كان بصدد توثيق تفسيره، لكان عليه أن يعلّق على الرواية برواية معارضة أو أي شيء آخر لكونه لا يعتقد بوقوع التحريف، فنستنتج من ذلك أنه ليس بصدد توثيق تفسيره، بل يذكر ما ورد من التفسير بغضّ النظر عن صحّته.

ويبقى هناك احتمالٌ آخر، وهو أن أمثال هذه الروايات من الموضوعة دسّاً في كتاب علي بن إبراهيم مع سندها؛ لأنه من الملاحظ أن السند حسن أو صحيح بحسب الظاهر، وهذا لا يعني سقوط الكتاب عن الاعتبار، لأنه إن وجد مثل هذا الدسّ إلا أنّه مما يمكن تمييزه، وسنذكر نماذج يحتمل فيها الدسّ في القرينة الثالثة.

نعم هذا الاحتمال لا ينفع في إثبات القرينية، فقد يُتمسّك به ولا يضرّ مادام يمكن تمييز هذه النماذج، إلا أن هذا الاحتمال يبعّده وجود موارد كثيرة من هذه النماذج في التفسير.

القرينة الثالثة: وهي بالحقيقة مجموعة قرائن عبر نماذج متنوعة جمعتُها في هذه القرينة، لمخالفتها ما عليه المذهب الإمامي؛ ولاشتراكها في نفس الاحتمالات الموجّهة إليها، بل والتي وجّهت إلى القرينة الثانية أيضاّ، وإنما أفردت القرينة الثانية فجعلتها قرينةً مستقلّة؛ لأهمية موضوع التحريف من جهة، ولقول بعض العلماء بوقوع التحريف اليسير في بعض الآيات الراجعة إلى أهل البيت ( من جهة أخرى، غير معتبرين ذلك تحريفاً.

أما النماذج التي سنذكرها في هذه القرينة فهي:

1 ـ ورد في أوائل سورة النور وبعد تفسير >إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِالله وَالْيَوْمِ الآخِرِ< بإقامة الحدّ عليهما ـ أي الزانية والزاني ـ ذكر ومن دون سبب ظاهر على أول السطر ما نصّه: «وكانت آية الرجم نزلت: الشيخ والشيخة إذا زنيا فارجموهما البتة، فإنهما قضيا الشهوة نكالاً من الله والله عليم حكيم»([41]).

ولم يعلّق عليها، بل دخل مباشرةً في رواية أبي الجارود؛ لتفسير >وليشهد عذابهما<، والغريب أن المحشّي لم يعلّق عليها، مع تعليقاته الكثيرة، ويبدو أنها خرجت عن نظره وإلا لما تركها، والسؤال: هل كان مقصود علي بن إبراهيم أن يورد مضمون ما جاءت به إحدى الروايات الصحيحة سنداً، وهي صحيحة سليمان بن خالد؟([42])

والمعروف أن هذه الرواية وغيرها ردّت من قبل علمائنا وحُملت على التقية، وأظنّ أنّ هذا الحمل ليس في محلّه، فصحيح أن القائل بوجود آية الرجم هو عمر بن الخطاب كما نُسب إليه، بل هذا هو المعروف والموجود في صحيح البخاري من خطبةٍ لعمر تذكر ذلك([43])، وبهذا المضمون في سنن الترمذي ([44]).

غير أن الصحابة ردّوا قول عمر، ولم يقبل أحدٌ منه ذلك، وكان القرآن بين المسلمين وليس فيه مثل هذه الزيادات، فممّن التقية؟!! إذ لا موجب لذلك.

ثم إنّ الرواية الموجودة في الوسائل وكذلك غيرها المروية عن عبد الله بن سنان ليس فيها هذه الزيادة: «نكالاً من الله والله عليم حكيم»، إذاً ما المقصود من ذكر هذه العبارة؟ هل الاعتقاد بها والعياذ بالله؟! أم أن هناك رواية ذكر القمي سندها وسقط السند سهواً، وعلى هذا الفرض يرد ما أوردناه في القرينة الثانية، إذ يتبين من خلال عدم تعليقه عليها، أنه ليس بصدد توثيق تفسيره كما ادّعى السيد الخوئي، بل هو يورد في تفسيره ما ورد عن الإمام B بغض النظر عن صحّة النسبة كما قلنا سابقاً.

مع ذلك، يبقى هناك احتمال ـ وهو الأقوى ـ أن العبارة الآنفة الذكر دسّت في هذا المكان من تفسير الآيات التي تتعلّق بحدّ الزنا، وقد خلت عما قد يرتبط بها، سواء تقدّم عنها أو تأخر، وقد ظنّ الواضع ـ إن تمّ الفرض ـ أنها في المكان المناسب، ولكنها بقيت واقفةً لتقول: أنا هنا.

2 ـ ورد في التفسير ما يدلّ على عدم عصمة الملائكة، ولا أقصد قصّة هاروت وماروت المعروفة في الروايات، إذ لعلّ هناك بعض التوجيه لها، كأن يقال صدر منهما المعصية بعد أن صارا من البشر، ولكن أقصد ـ كمثال ـ ما ورد في تفسير قوله تعالى: >وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَّبِيًّا وَرَفَعْنَاهُ مَكَانًا عَلِيًّا< قال: «فإنه حدثني ابن أبي عمير عمّن حدّثه، عن أبي عبدالله B قال: إن الله تبارك وتعالى غضب على ملكٍ من الملائكة، فقطع جناحه وألقاه في جزيرةٍ من جزائر البحر…»، وساق القصّة في كيفية لقائه بإدريس B وكيف رضي الله عنه بدعائه له فردّ جناحه، ثم طلب إدريس من الملك أن يرفعه إلى السماء لينظر إلى ملك الموت، فرفعه حيث التقى به في السماء الرابعة فحرّك ملك الموت رأسه تعجباً إذ كان مأموراً بقبض روحه في هذا المكان…»([45]).

والشاهد في هذه القصة هو غضب الله على هذا المَلَك ولا يكون إلا عن معصيةٍ ارتكبها تتناسب وقطع جناحه وإلقائه في جزيرةٍ من جزائر البحر، فإنه بناء على عصمة الملائكة ترد نفس الاحتمالات السابقة ولا نعيد، أما احتمال كون بعض الملائكة غير معصومين، فيردّه قوله تعالى: >وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُّكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُم بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ< ( الأنبياء: 19 ـ 20)، وقوله تعالى: >وَلِلّهِ يَسْجُدُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ مِن دَآبَّةٍ وَالْمَلآئِكَةُ وَهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ يخَافُونَ رَبَّهُم مِّن فَوْقِهِمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ< ( النحل: 49 ـ 50)، وغيرهما من الآيات والأحاديث، بالإضافة إلى ما عليه المذهب، فقد ذكر العلامة المجلسي في بحار الأنوار ([46]) باباً مفصّلاً عن عصمة الملائكة، وقال أيضاً في موضع آخر: «إعلم أنه أجمعت الفرقة المحقّة وأكثر المخالفين على عصمة الملائكة صلوات الله عليهم أجمعين من صغائر الذنوب وكبائرها»([47]).

3 ـ ورد في التفسير أيضاً ـ وفي أكثر من مورد ـ ما يدلّ على عدم عصمة الأنبياء(، المخالف لما عليه المذهب من عصمتهم؛ ولأهمية هذا المعتقد في مذهبنا، لا بد من الإشارة والتنبيه إلى أبرز هذه الموارد، وهي ما يلي:

أ ـ ورد في التفسير «حدثني أبي عن أبي عمير عن هشام عن الصادق B: إن داوودB لما جعله الله عزوجل..»، ثم ذكر قصة داوود وكيف افتتن بامرأة أوريا حين نظر إليها وهي تغتسل، وكيف قدّم أوريا بين يدي التابوت ليقتله، فقتل وتزوّج بامرأته وولدت له سليمان([48]).

وقد أغنانا المحشّي عن الرد على مثل هذا الحديث، ومع هذا فإن حمله على التقية بعيد؛ إذ التقية لا تصل إلى حدّ يُلصَق بنبي ذنوباً كالقتل وغير ذلك، ويؤيّده ما ورد في (عيون أخبار الرضا) بإسناده إلى أبي الصلت عن الرضا B: أن الرضا B عند سؤاله عن هذه القصّة، ضرب على جبهته وقال: إنا لله وإنا إليه راجعون، لقد نسبتم نبياً من أنبياء الله إلى التهاون بصلاته حين خرج في أثر الطير، ثم بالفاحشة، ثم بالقتل!!

ب ـ جاء في التفسير قال الصادق B: «جعل الله عزو جل ملك سليمان في خاتمه؛ فكان إذا لبسه حضرته الجن والإنس والشياطين وجميع الطير والوحش وأطاعوه، فيقعد على كرسيه، وبعث الله عزوجل رياحاً تحمل الكرسي بجميع ما عليه من الشياطين والطير والإنس والدواب والخيل، فتمرّ بها في الهواء إلى موضع يريده سليمان B، وكان يصلّي الغداة بالشام ويصلّي الظهر بفارس، وكان يأمر الشياطين أن تحمل الحجارة من فارس يبيعونها بالشام، فلما مسح أعناق الخيل وسوقها بالسيف سلبه الله ملكه، وكان إذا دخل الخلاء دفع خاتمه إلى بعض من يخدمه، فجاء شيطان فخدع خادمه وأخذ منه الخاتم، ولبسه فخرّت عليه الشياطين والجنّ والإنس والطير والوحش، وخرج سليمان في طلب الخاتم فلم يجده، فهرب ومرّ على ساحل البحر، وأنكرت بنو إسرائيل الشيطان الذي تصوّر في صورة سليمان وصاروا إلى أمه، وقالوا لها: أتذكرين من سليمان شيئاً؟ فقالت: كان أبرّ الناس بي وهو اليوم يبغضني، وصاروا إلى جواريه ونسائه، وقالوا: أتذكرن من سليمان شيئاً؟ قلن: كان لم يكن يأتينا في الحيض، فلما خاف الشيطان أن يفطنوا به ألقى الخاتم في البحر..»([49]).

وأظنّ أن هذه الرواية ليست بحاجة إلى التعليق؛ فهي قصّة تسيء إلى قداسة نبينا سليمان B، ولا تكلّف القارئ الكريم كثير عناء في إثبات كونها موضوعة، وقد اعتبرها السيد الطباطبائي وأمثالها في ميزانه «مما لعبت بها أيدي الوضع»([50]).

ج ـ قوله في تفسير >ولقد همّت به…<: «فقالت امرأة العزيز وغلقت الأبواب، فلما همّا رأى يوسف صورة يعقوب في ناحية البيت عاضّاً على إصبعيه، يقول: يا يوسف! أنت في السماء مكتوب في النبيين، وتريد أن تكتب في الأرض من الزناة؟ فعلم أنه قد أخطأ وتعدّى..»([51]).

من خلال ما عرضناه من موارد يتضح لنا أن أيدي الوضع قد امتدّت إلى رواياتنا ولعبت بها، وهذا مؤيّد للمناقشة القصيرة التي ناقشنا فيها الشيخ محمّد سند في المحور الأول لدى دعواه تواتر النسخة الواصلة إلينا وأنها هي المجازة مناولةً ـ لا تبركاً ـ من علي بن إبراهيم، ووجه المؤيّديّة يكمن في هذا التساؤل: هل من المعقول أن تأتينا هذه النماذج الآنفة الذكر مناولةً بعد فرض تواتر النسخة الواصلة إلينا وأنها هي نفس النسخة الواصلة إلى صاحب البحار وصاحب الوسائل؟!

وهذا التساؤل قد يولّد تساؤلاً جديداً معاكساً وهو: لنفرض أن الإجازة تبرّكيّة ونسخة أبي الفضل ـ مع فرض تواترها ـ انتشرت في حياة علي بن إبراهيم، السؤال: كيف يمكن حصول الدسّ ولا يلتفت صاحب الكتاب إلى وجوده مع فرض كونه حيّاً؟!!

وقد يجاب:

1 ـ لا يهم كيف حصل الدسّ، بل المهم أنه قد حصل وليست هذه الدراسة لبيان هذه الأمور.

2 ـ هناك احتمالات كثيرة لحصول الدسّ؛ كوجود علي بن إبراهيم في بغداد، بينما كان انتشار النسخة في طبرستان ـ وهي المنطقة المعروفة اليوم باسم مازندران الواقعة في شمال إيران ـ، وهذا البعد الشاسع كفيل بإمكانية حصول الدسّ، هذا وقد ذكر النجاشي كما تقدّم في ترجمته لعلي بن إبراهيم ما نصّه: «.. وأضرّ في وسط عمره..» ومن المعلوم أن كلمة «أضرّ» لعدم تعدّيها إلى مفعول، تعني أنه أصبح ضريراً كما في المنجد([52])، والمتعرّض لتفسير القرآن عادةً يبدأ في سنّ متقدمة بعد نضوجه العلمي، وإذا أضفنا إلى ذلك إملاء القمي على تلميذه أبي الفضل نطمئن إلى أنه ـ أي القمي ـ كان ضريراً عند كتابة تفسيره، فمن المحتمل جدّاً أن يحصل الدسّ في كتابه دون أن يراه ويعلم به، إلى غير ذلك من الاحتمالات التي ليست من هموم دراستنا.

المهم أن يقال ما قيل في النماذج السابقة وأهمّها غير احتمال الوضع والدس، أنه لو كان علي بن إبراهيم بصدد توثيق تفسيره لكان عليه أن يردّها أو يعلّق عليها.. وأما احتمال أنه أوردها في الكتاب تقيّةً فيردّه انتشار الكتاب في طبرستان معقل الدّولة الزيدية، وكذلك وجود روايات كثيرة في تفسيره فيها من الطعن على بعض رموز الطرف الآخر بما لا يتناسب مع احتمال التقية منه.. وقد فصّلنا بقية الاحتمالات فيما سبق من النماذج.

4 ـ هناك موارد في التفسير تتعارض وما اكتشفه العلم من حقائق علميّة عن أسرار الطبيعة والكون، كحقيقة البرق والرعد، وكيفية حصول الكسوف والخسوف، وحجم الكواكب بالنسبة إلى الأرض وغير ذلك، ولا أقصد تلك الموارد التي تتعارض والنظريات العلمية التي لم تصل بعدُ إلى مستوى الحقيقة العلمية، إذ إنني ألتزم بما ذكره الشيخ محمد زراقط، وهو في معرض اقتراح بعض الضوابط للاستفادة من العلوم الأخرى بقوله: «1 ـ أن تكون القضية المطروحة في العلم قضيّةً يقينية تمثل حقيقة علميّة مقطوعاً بها، لا أن تكون مجرّد نظريّة..»([53]).

وكأنموذج نذكر ما جاء في التفسير من روايةٍ طويلة، رجال سندها من القسم الأول، وهي عن علي بن الحسين B أنه قال: «إن من الأوقات التي قدّرها الله للناس مما يحتاجون إليه البحر الذي خلق الله بين السماء والأرض، وإن الله قدّر فيه مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب، ثم قدّر ذلك كلّه على الفلك، ثم وكلّ بالفلك ملكاً معه سبعون ألف ملك، يديرون الفلك، فإذا دارت الشمس والقمر والنجوم والكواكب معه نزلت في منازلها التي قدّرها الله فيها ليومها وليلتها، وإذا كثرت ذنوب العباد وأراد الله أن يستعتبهم بآيةٍ من آياته، أمر الملك الموكّل بالفلك أن يزيل الفلك الذي عليه مجاري الشمس والقمر والنجوم والكواكب، فيأمر الملك أولئك السبعين ألف ملك أن يزيلوا الفلك عن مجاريه، قال: فيزيلون فتصير الشمس في البحر الذي يجري فيه الفلك، فيطمس حرّها ويغيّر لونها، فإذا أراد الله أن يعظّم الآية طمست الشمس في البحر على ما يحبّ الله أن يخوّف خلقه بالآية، فذلك عند شدّة انكساف الشمس، وكذلك يفعل بالقمر، فإذا أراد الله أن يخرجهما ويردّهما إلى مجراهما، أمر الملك الموكّل بالفلك أن يردّ الشمس إلى مجراها، فيردّ الملك الفلك إلى مجراه؛ فتخرج من الماء وهي كدرة، والقمر مثل ذلك»([54]).

الظاهر من الرواية أن سبب الكسوف والخسوف هو طمس الشمس أو القمر في البحر الموجود بين السماء والأرض.. وقد حاول المحشّي على هذه الرواية أن يوجّهها بأنه من المحتمل أن يكون ما ذكر في الرواية بمثابة جزء العلة والجزء الآخر هو ما كشفته الحقيقة العلمية من أن الكسوف عبارة عن حيلولة القمر بين الشمس والأرض، والخسوف هو حيلولة الأرض بين الشمس والقمر.. إلا أن هذا الكلام لا يتمّ؛ للقطع الحاصل عند العلماء من أن سبب الكسوف والخسوف هو ما ذكر لا غير، والدليل أننا نستطيع أن نهيّء كسوفاً اصطناعياً من هذا القبيل في مختبراتنا الأرضية من دون حاجة إلى أي علّة أخرى.. وليس هنا محلّ إثبات هذه الحقيقة العلمية.. ثم نحن وإن كنا نوافق على مبدأ عدم رفض أي رواية لمجرّد الاستبعاد.. ولكن أيضاً علينا أن نأخذ بعين الاعتبار ما أوصانا به أئمتنا ( من عرض ما يرد عنهم على القرآن والعقل القطعي، وإلاّ لم يكن لما أوصوا به من الروايات الصحيحة مصداقاً في الخارج؛ إذ يمكننا ـ حتى في البديهيات إذا ورد ما يعارضها ـ أن نؤوّله.. وعليه نرجّح عدم صدور مثل هذه الرواية.

وأيضاً ما رواه الراوي بعد ذلك عن أمير المؤمنين B في حديثٍ جاء فيه: «الأرض مسيرة خمسمائة عام، الخراب منها مسيرة أربعمائة عام، والعمران منها مسيرة مائة عام، والشمس ستون فرسخاً في ستين فرسخاً، والقمر أربعون فرسخاً في أربعين فرسخاً، بطونهما يضيئان لأهل السماء، وظهورهما يضيئان لأهل الأرض، والكواكب كأعظم جبل على الأرض..»([55]).

ما له علاقة ببحثنا هو أن نقول: إن إمثال هذه الروايات إمّا قد دسّت في التفسير وهذا بعيد؛ إذ ليس هناك مبرّرات موضوعية للدسّ ما دامت هي مسألة علميّة لا علاقة لها بعقيدة أو خصوصيات مذهب وغير ذلك، وإما أن نقول بكذب بعض رواتها، وهنا كيف يمكن الأخذ بإطلاق هذه التوثيقات العامّة لكلّ الرواة الموجودين في الكتاب، فلا بد من دراسة الروايات المماثلة لهذا النموذج دلالةً وسنداً، دلالةً للتأكد من مخالفتها لحقيقة علمية، وسنداً لتشخيص الكاذب في حال تمّت الدلالة على أن المضمون مخالفٌ لما هو قطعي.

ونستنتج من مجموع هذه النماذج المتنوّعة أن القرينة تامّة في عدم الأخذ بهذا التوثيق، إلا إذا بنينا على أحد الاحتمالات، وهو احتمال الدسّ في الكتاب، فمع تشخّص هذا الدسّ كما ذكرنا، يبقى التوثيق على حاله عند المدّعي، لكنّ هذا الاحتمال وإن كنّا استقربناه في بعض النماذج، إلا أنّنا استبعدناه في نماذج أخرى.

القرينة الرابعة: تضعيف الشيخ أو النجاشي لبعض الرواة الواقعين في أسناد التفسير المذكور، يدلّ على أن القمي لا يقصد توثيق جميع من ورد في تفسيره، وقد ذكر هذه القرينة الشيخ الإيرواني، ولكنه أورد عليها قائلاً: «وفيه: لعلّ من ضعّف هو ثقة في نظر القمي، فيكون المورد من موارد التعارض بين التعديل والجرح، ولا يكون التضعيف قرينةً على أن القمّي لا يريد توثيق كلّ من ورد في تفسيره، أجل لو كان الضعف مسلّماً لدى الجميع وواضحاً أمكن أن يجعل ما ذكر قرينةً ولكن أين وجود مثل ذلك؟!»([56]).

وما ذكره > جيّد في الجملة، إلا أنه إذا نظرنا من زاوية أخرى سيبدو لنا الأمر مختلفاً؛ فبعد دراسة طويلة ومفصّلة لكل الأسانيد الواقعة في تفسير القمي، وما قيل في ترجمة الرجال الواقعين في أسناده ـ وسنتناول كما تقدم سابقاً، خصوص رجال القسم الأول الذي هو القدر المتيقن من تفسير القمّي ـ تبين أنه يوجد (243) راوياً تقريباً ـ بعد حذف المشترك ـ منهم (119) راوياً من مجهولي الحال، ولم يرد لأكثرهم ذكرٌ في المجاميع الرجالية، والباقون ذكروا ولكن بلا توثيق أو تضعيف، ومنهم (104) من الثقات بحسب الظاهر، وهناك 20 راوياً ممّن ضعّفوا من قبل النجاشي أو الشيخ وغيرهما.. فتكون النسبة التقريبية هي %42 من الثقّات تقريباً، و% 8 من المضعّفين، و%50 من المجهولين.

هذه النسب هي من مجموع الرواة بمن فيهم المجهولي الحال، وبما أنه في الواقع يوجد بين المجهولين الثقات والضّعاف بنسب متفاوته تبعاً للنسبة الاحتمالية التي نحصل عليها من مجموع الموثقين والمضعّفين، فلا بدّ إذاً من معرفة هذه النسبة، لنطبّقها على عدد المجهولين لنرى ما هو العدد المحتمل للثقات، وما هو العدد المحتمل للضّعاف؟

إن مجموع عدد الموثقين والمضعّفين هو (104 + 20 ) أي 124، منهم (104) ثقات و (20) ضعاف، وعليه تكون النسبة الإحتمالية هي %83.87 أي تقريباً %84 من الثقات و %16 من الضّعاف.

ثم لا يخفى أن هذه النسبة قد دخلت فيها كل العوامل الكيفيّة، سواء من جانب الثقات كأمثال زرارة ومحمد بن مسلم، أو من جانب المضعّفين كالمفضّل بن صالح أبي جميلة، وذلك لتشخّص كل الرواة الذين أخذت النسبة منهم.

ويبقى أن نشير إلى أن المضعّفين جُلّهم ممن ضعّفهم النجاشي، وفيهم من وردت في ترجمتهم ألفاظ تنمّ عن اشتهارهم بالضعف من قبيل: «ممن ضعّفه الأصحاب ـ ضعيفٌ جداً ـ كذاب ـ يضع الأحاديث و..» أمثال المفضّل بن صالح أبي جميلة، وأحمد بن الحسين، وسليمان الدليمي، وعلي بن حسّان الهاشمي، وعمرو بن شمر، وبكر بن صالح، وعلي بن أبي حمزة، الذي قال عنه ابن فضّال في روايةٍ صحيحة: كذّاب متهم.

إن نسبة %16 من الضّعاف هي نسبة لا يهملها الذهن البشري ويطرحها، بل يأخذ بها، وإن كانت قليلةً نسبة إلى عدد الثقات، إذ تبعاً لهذه النسبة، من المحتمل أن يكون هناك (6*119) ÷100=04،19 أي (19) راوياً من الضّعاف، مردّدين بين (119) من المجاهيل، ومع هذا العلم الإجمالي بوجود هذا العدد المعتدّ به عقلائياً، كيف نطمئن إلى وثاقة كلّ الرواة الواقعين في الأسانيد المذكورة؟

وأخيراً، أظنّ أن هذا المقدار من القرائن كاف لعدم الأخذ بالتوثيق العام الذي بنى عليه بعض الأعلام، كما أن نسبة الثقات التي ذكرناها في القرينة الأخيرة هي نسبةٌ عالية تجعلنا نميل نوعاً ما إلى الاحتمال الثاني الذي احتملناه في مراد علي بن إبراهيم من كلمة «ثقاتنا»، وهو بما أن أغلب رجاله من الثقات، فيصحّ التعبير بثقاتنا للأعمّ الاغلب.

نتائج وخلاصات

وفي نهاية المطاف، نذكر النتائج التي توصّلنا إليها:

النتيجة الأولى: إن كتاب تفسير القمي خليطٌ من تفسيرين، بالإضافة إلى بعض الروايات الأخرى، لكن يمكن تمييز تفسير القمي من بين المجموع، كما يمكن تمييز الروايات التي تفوح منها رائحة الوضع من خلال عرضها على ما عليه المذهب من عصمة الملائكة والأنبياء(.

النتيجة الثانية: إن مقدّمة تفسير القمي ـ كالكتاب نفسه ـ خليطٌ من كلامين بحسب الظاهر، الأول من حين الشروع بها إلى عبارة: «قال أبو الحسن على بن إبراهيم..»، والآخر لعلي بن إبراهيم وهو الذي ما بعد العبارة المذكورة.

النتيجة الثالثة: إنّ التوثيق العامّ لجميع رواة علي بن إبراهيم لا يمكن قبوله؛ للقرائن التي ذكرناها.

*     *     *

الهوامش



([1]) رجال النجاشي: 183، منشورات مكتبة الداوري.

([2]) تفسير القمي: 8، مقدّمة المحشي السيد طيّب الجزائري، منشورات مكتبة الهدى، الطبعة الثانية عن طبعة بيروت.

([3]) الطوسي، الفهرست: 19، (النسخة التي بذيلها نضد الإيضاح لعلم الهدى).

([4]) رجال النجاشي: 12.

([5]) المامقاني، تنقيح المقال 2: 260.

([6]) الفهرست: 209؛ ورجال النجاشي: 183.

([7]) تفسير القمي 1: 27.

([8]) المصدر نفسه: 16، مقدّمة المحشّي.

([9]) الشيخ الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: 173.

([10]) كما في الوسائل، ج22، كتاب الطلاق، باب 9 من أبواب مقدّماته وشرائطه، ح7.

([11]) محمد سند، بحوث في مباني علم الرجال: 212 ـ 216.

([12]) المصدر نفسه: 201 ـ 203.

([13]) آغا بزرك الطهراني، الذريعة إلى تصانيف الشيعة 4: 302، دار الأضواء.

([14]) جعفر مرتضى، حقائق هامّة حول القرآن الكريم: 33، الطبعة الأولى.

([15]) الإيرواني، دروس تمهيدية في القواعد الرجالية: 34 ــ 35.

([16]) المصدر نفسه: 174 ــ 175.

([17]) الشيخ مسلم الداوري، أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق: 165، الطبعة الأولى.

([18]) يمكن مراجعة هذه التعابير في تفسير القمي 1: 271، 272، 292، 294، 299، 313، 389 و..

([19]) أصول علم الرجال: 164.

([20]) دروس تمهيدية: 174 ــ 175.

([21]) رجال النجاشي: 121؛ والفهرست: 147.

([22]) أصول علم الرجال: 164.

([23]) الخوئي، معجم رجال الحديث 2: 276، الطبعة الرابعة.

([24]) رجال النجاشي: 69.

([25]) نشير إلى خطأ مطبعي أو اشتباه حصل في كتاب دروس تمهيدية في علم الرجال للشيخ الإيرواني؛ إذ إنه ذكر في ص 33 أن علي بن إبراهيم توفي سنة 217 هــ و تكرّر الاشتباه في ص 172، والصحيح أنه توفي سنة 307 هـ، كما ذكر صاحب الذريعة 4: 302.

([26]) أصول علم الرجال: 164.

([27]) المصدر نفسه: 165.

([28]) تفسير القمي 1: 221.

([29]) المصدر نفسه: 335.

([30]) المصدر نفسه: 5، مقدمة الكتاب.

([31]) دروس تمهيدية: 173 ــ 174.

([32]) أصول علم الرجال: 163، الحاشية رقم: 1.

([33]) ومع ذلك يبقى الإشكال وارداً؛ إذ إن الموارد كثيرة ومتفرّقة في جميع أبواب الوسائل، ممّا يجعلنا نطمئن إلى ما ذهب إليه الشيخ السند من أن النسخة التي عند صاحب الوسائل هي النسخة التي بأيدينا، وهي أيضاً التي لا يجزم الشيخ الإيرواني بكونها بكاملها للقمي.

([34]) كمثال على ذلك ما رواه الحر العاملي في وسائل الشيعة ج15، باب 12 من أبواب جهاد العدو، ح 4؛ ففي سنده من هو في القسم الثاني من الرجال كالحسن بن العباس بن الجريش، وأيضاً ما رواه في ج 21، كتاب النكاح، باب 1 من أبواب المتعة، ح 18؛ فرجال سنده يدخلون أيضاً في القسم الثاني، كأحمد بن إدريس ومالك بن عبد الله بن أسلم.

([35]) الحر العاملي، وسائل الشيعة 30: 202، الفائدة السادسة، طبعة مؤسسة آل البيت.

([36]) معجم رجال الحديث 1: 49.

([37]) أصول علم الرجال: 163.

([38]) دروس تمهيدية: 174 ـ 175.

([39]) تفسير القمي 1: 110، و 1: 63، و 2: 289.

([40]) الخوئي، البيان في تفسير القرآن: 257، ج30 من موسوعة الإمام الخوئي.

([41]) تفسير القمي 2: 95.

([42]) وسائل الشيعة، ج 28، باب 1 من أبواب حدّ الزنا، ح 18.

([43]) صحيح البخاري 8: 209، دار إحياء التراث العربي، عن ابن عباس ذكر خطبةً لعمر قال فيها: «فكان ممّا أنزل الله آية الرجم قفرأناها وعقلناها.. ».

([44]) سنن الترمذي 4: 38، ح 1432.

([45]) تفسير القمي 2: 51.

([46]) بحار الأنوار 59: 265، كتاب السماء والعالم.

([47]) المصدر نفسه 11: 124، طبعة إيران، دار الكتب الإسلامية.

([48]) تفسير القمي 2: 229.

([49]) المصدر نفسه: 236 ـ 237.

([50]) الطباطبائي، الميزان 17: 207.

([51]) تفسير القمي 1: 342.

([52]) المنجد ـ مادّة (ض ر ر).

([53]) محمد حسن زراقط، الفقه والعلوم الأخرى، مجلة أصداء، عدد 3: 80.

([54]) تفسير القمي 2: 14 ـ 15.

([55]) المصدر نفسه: 17.

([56]) الإيرواني، دروس تمهيدية: 174.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً