ليس من شكّ بأنّ في أصل إقامة الملتقيات والمؤتمرات التي تتناول الوحدة الإسلاميّة فائدةً في التلاقي والتواصل والتلاقح الفكري، ولا سيّما أنّ ذلك يمثّل مجالاً يستشعر فيه الجميع الروح الإسلاميّة الجامعة.
وليس من شكّ بأنّ موضوع الوحدة الإسلاميّة ـ كقضيّة ـ هو موضوع شائك، والعمل فيه لا بدّ أن يُراكَم نظريّاً وعمليّاً للوصول شيئاً فشيئاً إلى بناء منهجيّة مطبّقة عمليّاً للوحدة الإسلاميّة؛ خصوصاً أنّنا نتحدّث عن تراكم أكثر من ألف عامٍ من التنافر المذهبي والعصبيّة التاريخية وتداخل العوامل السياسيّة بالدينية وغيرها من الأمور التي تكاد تختصر كلّ تاريخنا الإسلاميّ، بعد رسول الله (ص)، أو بعد مرحلة الخلافة الراشدة ـ على الأقلّ ـ.
سأقتصر في هذه المقالة على عدد من النقاط التي أحسبها ضروريّة للانتقال من الناحية النظريّة إلى الناحية العمليّة في مسألة الوحدة الإسلاميّة، وفيها جزءٌ من النقد الداخلي للمنهجيّة التي نتعاطى فيها في تفكيرنا الاجتهادي عموماً داخل كلّ مذهب، أو في إدارة اختلافاتنا بين الأفكار المختلفة أو المذاهب المتنوّعة؛ وهي ثلاث نقاط:
الأولى: المرجعيّة الفكريّة.
الثانية: الحرّية والاستقلاليّة الفكريّة.
الثالثة: الإيجابيّة الفكريّة.
المسلمون متّفقون على اعتبار القرآن الكريم المرجعيّة العقيديّة والفكريّة والفقهيّة التي يرجعون إليها، ويحتكمون إليها. والقرآن هو المتداول بين أيدي المسلمين، سنّة وشيعة وغيرهم، وليس ثمّة قرآن غير ذلك.
ومن الواضح أنّ القرآن أسّس للوحدة الإسلاميّة عبر عدد لا بأس به من الآيات، كقوله تعالى: (وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللّهِ جَمِيعاً وَلاَ تَفَرَّقُواْ)(1) ، وقوله تعـالى: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (2)، وقوله تعالى: (َإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللّــهِ وَالرَّســُولِ إِن كُنتـُمْ تُؤْمِنُـونَ بِاللّهِ وَالْيَـوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ) (3)، وما إلى ذلك، ممّا نتّفق عليه نظريّاً، ونتلوه في كلّ مناسبات الوحدة الإسلاميّة كشعارات عامّة، ولكنّ المشكلة هي في أمرين:
الأمر الأوّل: إلى أيّ مدى يحضر القرآن الكريم ضمن آليّات تفكيرنا العقيدي والفكري؟ وما الذي يُمكن أن ينتج من مسألة الانسجام بين القرآن والسنّة؛ لوضوح أنّ السنّة لا تخالف القرآن، وفي حديث الإمام جعفر الصادق (ع) قال: قال رسول الله (ص): إنّ على كلّ حقّ حقيقة، وعلى كلّ صوابٍ نوراً، فما وافق كتاب الله فخذوه، وما خالف كتاب الله فدعوه»(4).. وهذه المسألة مهمّة جدّاً؛ لأنّ معنى تأصيل الآليّات المتعلّقة بحاكميّة القرآن في العقيدة والمفاهيم يعني أنّ هناك هامشاً واسعاً لحركة المسلمين ـ على تنوّعهم واختلافهم ـ ينضبط فيه المسلمون متلبّسين في التفكير ضمن حدود هذا المصدر المعصوم الذي لا يناقش أحدٌ في مرجعيّته وأولويّته.
الأمر الثاني: إنّ معنى كون القرآن يمثّل المرجعيّة الفكريّة الحاكمة على كلّ نشاط الفكر الإسلامي، يعني أنّ من الضروري أن نتجاوز مرحلة العموميّات والشعارات، إلى اعتبار القرآن مرجعيّة تفصيليّة؛ لأنّ كلّ الأدبيّات التي ساهمت في تربية المسلمين من خلال القرآن، وكذلك من خلال السنّة ـ لأنّ هذا المجال ممّا لا نكاد نختلف عليه في هذا الجانب أيضاً ـ سنجدها حاضرةً في أي ّمشروع عمليّ للوحدة الإسلاميّة.
وعلى سبيل المثال ـ لا الحصر ـ سنجد عدم تربية المسلمين أنفسهم وعدم ضبط أدائهم في حدود قوله تعالى: (قُلْ هَاتُواْ بُرْهَانَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ)(5) ، سمح للكثيرين منّا بتجاوز حدود الحجج والبراهين في الاعتقاد والتفكير، حتى تبنّينا أفكاراً قد لا تكون أكثر من مشهورات لا أصل لها، وعندئذٍ نكون من ضمن من ذمّهم الله وأشار إليهم في قوله: (إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم مُّقْتَدُونَ)(6).. ومثالٌ آخر قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (7)، نجده شاهداً آخر على أنّ تجاوزه سمح ـ عبر تاريخ الصراع المذهبي ـ بقبول كثير من المنقولات والأكاذيب عن هذا الرمز أو ذاك لمجرّد الاختلاف معه مذهبيّاً، حتّى أصبحنا لا نرى في الإطار المذهبيّ الذي تنتمي إليه أيّ فضيلة لمن ينتمي للإطار الآخر، وأصبحت التُّهمة هي الأساس في التعاطي الإسلامي بين أتباع المذاهب.
لا بدّ لنا ـ بناء على مرجعيّة القرآن أيضاً ـ أن نتساءل: هل يُمكن اليوم أن نتقبّل فكرة إغلاق باب الاجتهاد الفكري والفقهي وحتّى العقيدي؟
إنّ مدلول إغـلاق باب الاجتهاد هو الحُكم المسبق بنهائيّة أي فكـرٍ في إطار مرحلة زمنيّة ما، أو في نتاج أشخاصٍ محدّدين، لهم بِنية تفكير وثقافة قد تختلف أو تتطوّر بفعل تطوّر الفكر والثقافة عبر الزمن.. وهذا أمرٌ غير مقبولٍ من الناحية الإنسانيّة؛ بل هو خلاف حركة العقل الذي يبدو أنّ الله خلقه متحفّزاً وفعّالاً حتى يكاد الإنسان لا يملك أن يدفع الفكرة التي تطرأ على عـقله مهما كانت متطرّفة نسبةً إلى بنيته أو ثوابته الاعتقاديّة أو الفكريّة.. وهذا الأمر قد يوحي بأنّنا أمام جمود في حركة التطوّر الفكري عبر الزمن، وهذا الذي قد أدّى بأتباع المذاهب الإسلاميّة، سواء كانت سنّية أو شيعيّة(8)، بالتحرّك وفق نظام الحواشي، حيث حكم ذلك النتاجَ الفكري في حدود النتاج الفكري للسلف بما أثّر على حيويّة الإبداع والاستقلاليّة في العقل الفكري أو الفقهي أو الأصولي، بما قد يكون مسؤولاً أيضاً ـ بشكل وبآخر ـ عن التعمّق في الدِّين بما يُشبه الغلوّ أحياناً.
لا بد من الدفع باتّجاه إلغاء ما يُسمّى بالحالة المذهبيّة الجامدة؛ لتحلّ محلّها الحالة الاجتهاديّة المتحرّكة:
أوّلاً: الاجتهاد يؤسّس لتصارع أفكار الأحياء، لا لتصارع الأحياء في إطار أفكار الأموات التي ربّما تكون موضع نقاش حتّى من أتباع المذهب ـ فيما لو فتح باب الاجتهاد حولها ـ.
ثانياً: الاجتهاد المعاصر من شأنه أن يستفيد من التحدّيات المعاصرة التي اختبرناها نحن، وأكّدت لنا أنّ المستهدف هو الجميع، وليس مذهباً بعينه(9)، وهذا يُعتبر عاملاً مساعداً لتمكيننا من تجاوز كثير من التعقيدات التي زخر بها تاريخنا الذي كان مذهبيّ الوجهة والصراع في غالبه؛ لأنّنا عندئذٍ سنكون أمّة الحاضر لا أمّة التاريخ.
ثالثاً: إعادة التأكيد على الثوابت والقيم التي ينبغي أن تحكم تفكير المسلم وحركته، يُمكنها أن تعيد بناء النظرة الإسلاميّة للتاريخ الإسلامي، بكل ما فيه، بما يخفّف من الحدّة التي تُصنّف فيها المواقف والأحداث نتيجة ازدياد منسوب العصبيّات، وسنجد أنّنا قادرون على تقويم أفضل للتاريخ ولشخصيّاته بما يعود بالنفع علينا في واقعنا المعاصر، وعدم تحوّل التاريخ إلى مادّة تقاتل. لأنّ دور التاريخ بالنسبة إلينا هو ما أشار الله إليه بقوله تعالى: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِّأُوْلِي الأَلْبَابِ)(10).
رابعاً: فتح باب الاجتهاد يُمكن أن يتيح الفرصة لنشوء فقه إسلامي غير مذهبي؛ لأنّ اتّفاق المسلمين على أكثر من ثمانين بالمئة من الفروع، يُمكن أن يؤسّس لتلاقح فكريّ في العشرين في المئة بما يُلغي الخصوصيّة المذهبيّة في تبنّي هذه الفكرة أو تلك.. وكم شهدنا في التاريخ، وفي الحاضر، أنّ ثمّة أموراً اقترب فيها الفكر أو الفقه السنّي من الشيعي والعكس صحيح.
نروي عن عليّ (ع) في معركة صفّين أنّه قام في أصحابه خطيباً وقد سمع بعضاً منهم يسبّ أهل الشام، والحالة حال حرب، ومنطق الحرب قد يبرّر للإنسان تجاوز كثير من الخطوط التي تبدو حمراء في حال السلم.. فقال (ع): إنّي أكره لكم أن تكونوا سبّابين؛ ولكن لو وصفتم أعمالهم وذكرتم حالهم كان أصوب في القول وأبلغ في العذر، وقلتم مكان سبّكم إياهم: اللهم احقن دماءنا ودماءهم وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتّى يعرف الحقّ من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به"(11)؛ ويُروى عنه: "والله ما دفعت الحرب يوماً إلا وأنا أطمع أن تلحق بي طائفة فتهتدي بي وتعشو إلى ضوئي، وذلك أحبّ إليّ من أن أقتلها على ضلالها وإن كانت تبوء بآثامها"(12).. وكأنّه(ع) يقول: إنّ المؤمن لا يُمكن أن تكون روحه تدميريّة، أو إلغائيّة، أو إقصائيّة، أو روحاً انتقائيّة، تنتقي من الأخلاق في حالٍ ما تستبعد في حال أخرى.. بل لا بدّ من الروح الرساليّة، التي همّها الحقّ والعدل، وهمّها الهدى حتى لم يراهم الإنسان ضالّين، وهذا ما يُمكن أن يؤسّس لروح إيجابيّة يشعر فيها الإنسان بأنّه غير معنيّ بأسلوب تسجيل النقاط الذي أدمنّاه في خطابنا المذهبيّ عبر التاريخ الإسلاميّ كلّه، ويبتعد عن أسلوب السبّ والشتم الذي مثّل تنفيساً عن عقدٍ مذهبيّة أثارتها العصبيّات عبر تاريخ المسلمين، ولكن بالأسلوب العلمي الذي يعتبر أنّ فكر الإنسان إنّما هو ما يُنتجه من وجهة نظره التي قد تنظر إلى المسألة من زاوية وتختفي عنها زوايا أخرى قد تختلف معها الصورة كلّياً لو انفتح عليها الفكر؛ وهذا ما يدفعنا أيضاً إلى تواضع العلم، وعدم الاستكبار المعرفي الذي يَعتبِر معه كلُّ إنسانٍ أو كلُّ فريق، مهما علا شأنه، أنّ ما عنده هو الحقّ كلّه، وما عند الآخرين هو الباطل كلّه؛ فقد يلتبس علينا الأمر في معنى محدوديّة الإنسان، ولذلك تُصبح مقولة السيّد فضل الله بأنّ الحقيقة بنت الحوار هي السيرورة الطبيعية لحالة الإخلاص الفكري والنفسي للحقيقة لدى الإنسان؛ لأنّ الحقيقة إنّما تتأكّد لدى الإنسان عندما ينظر الإنسان إليها بعينه وعبر عيون الآخرين الذين قد يضيئون على زوايا أخرى منها، أو يثيرون تساؤلات قد لا تكون خطرت على بال؛ والله من وراء القصد.
(*) من اوراق المؤتمر السادس للتقريب بين المذاهب الإسلامية،الذي عقد في دمشق بتاريخ 14/3/2010.
(8) صحيح أنّ النظريّة الشيعية تقول بفتح باب الاجتهاد، ولكنّ المسألة قد تتّصل أحياناً بالجمود الذي قد يحصل من الناحية التطبيقيّة عبر دخول الإنسان في نوعٍ من التقديس للرأي السائد، أو لمدرسة معيّنة، بما قد يغلق عمليّاً باب الاجتهاد وإن كانت النظريّة لا تغلقه.
(9) الاحتلالات المتنوّعة خير شاهد على ما نقول؛ فإنّ بلاد المسلمين المحتلّة لا يفرّق فيها بين كون الغالبيّة من المسلمين السنّة أو الشيعة، والحملات التي تستهدف حركات التحرّر لا تفرّق بين حركة ترتكز على فقه سنّي أو على فقه شيعي.
(11) نهج البلاغة، ج1، ص 186، الكلمة رقم 206، وقد سمع قوماً من أصحابه يسبّون أهل الشام أيّام حربهم بصفّين.
(12) المصدر نفسه: ج1، ص104، الكلمة رقم 55 وقد استبطأ أصحابه إذنه لهم في القتال بصفّين.