أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)
المبحث الأول: المناشىء الفكرية والواقعية للجدليات
ربما أدرك السيد الشهيد الصدر قبل غيره إشكالية المنهج في الثقافة والفكر الإسلاميين منذ اللحظات التكوينية الأولى، وتعامل مع هذا الإدراك تعامل المتعاطي مع الإشكالية. وربما أدرك أيضاً آثار ومعطيات الهوّة التي فصلت بين المعرفة الإبداعية والواقع الذي يشكّل حاضنة لهذه المعرفة، وباعثاً عليها، ومحلاًّ ممّا ستقع عليه آثارها.
إن هذا التشخيص بطبيعة الحال لا يقلِّل من الثراء العظيم الذي امتاز به النتاج الإسلامي للمعرفة في كل المجالات([1])، إلاّ أنه ممّا يشار إليه بيقين أن القرن الخامس الهجري كان قرن حصاد التراكم العلمي للتراث الفكري الهائل، الذي بدأ مع بواكير تفسير النصّ الإسلامي، وتكوُّن الفقه والأصول وعلم الكلام والفلسفة والأدب والعلوم التطبيقية الصِّرْفة. كما يشار إلى أن نتاج القرن الخامس فيه قدرة ذاتية على الامتداد نحو احتواء المستجدّات لقرنٍ قادم بعد ذلك التاريخ. ومثال ذلك: ما يطلق عليه ـ مثلاً ـ في مجال الفقه بالفقه الافتراضي، ففيه خصخصة الهيمنة على المستقبل المنظور من جانب خضوع الواقع للمعرفة الإسلامية، وبقاء حركة الإنسان والمجتمع والمدنية تحت سيطرة النصّ أو تفسير النصّ. ولعل ذلك الحصاد وإنْ بدا عليه تناقص هذه الخصيصة تناقصاً تدريجياً، إلاّ أنّه بقي محافظاً على سمة الإبداع المعرفي حتّى القرن الثامن الهجري. ولعل أدلّ برهان على ذلك إنتاج ابن خلدون في المقدمة، والشاطبي في الموافقات. وبسبب ثلاثة عوامل سالبة، هي: القرار الرسمي بإيقاف الاجتهاد، وتحريم النظر الفلسفي وتداول المعرفة الفلسفية، وتحريم اعتماد المنطق بلا بدائل معرفية من داخل المجال الإسلامي، أدَّت إلى تناقص الوهج العلمي والاستشراف المستقبلي الذي كانت تتّسم به ثقافة القرن الخامس، حتّى بدا واضحاً أنّ معرفيات القرن التاسع الهجري انحسرت إلى مهامّ تحليل وتفكيك إشكاليات الواقع المعاش آنذاك، ورسم حلول لها، دون الامتداد في أفق التفكير إلى ما بعد ذلك القرن. وأظنّ أنّ القرن العاشر شهد اتّساعاً في الهوّة بين الواقع المعاش والمعرفة المنتجة؛ بسبب انكفاء تلك المعرفة على الذات، وتأثّرها بنواتج الغزو المغولي وسياسات الدويلات، والتخلي عن البعد العالمي الرسالي في المهام الاستراتيجية التي تفكر بها سياسة المسلمين، وتخطط لها العقول المعرفية للمسلمين([2]).
فقد توالت على «فقدان القدرة الاستباقية للمعرفة لاحتواء الواقع المستقبلي» خصيصة أكثر سلبية، هي عدم احتواء الواقع الفعلي المعاش، ولذلك صار للواقع الفعلي مسارٌ، ولمسارات المعرفة وتراكماتها مسار آخر.
هنا انفصل الواقع تماماً عن المعرفة المنظِّمة له، والمخطِّطة لمستقبله، وأصبح خارج سيطرة التنظير الحقوقي والفكري. فكانت ـ مثلاً ـ اقتصاديات ذلك القرن (العاشر) تتطوّر خارج السيطرة، وتفرض نفسها عند التعارض الصريح، ليأتي الفقهاء مصحِّحين لمسار، لا مخطِّطين له، كما كانوا سابقاً. فظهر منهج الرميم، وهو منهج اضطراري؛ لرتق ما ظهر فيه من سلوكيات فقدت الشرعية في المنظومة الحقوقية.
وربما أدرك الإمام الشهيد ـ من خلال اطّلاعه الدقيق والعميق على تطوّر هذه الإشكالية، من خلال رصد العلاقة بين المنهج الفكري والواقع الاجتماعي ـ أن هذا المشهد قد تجذَّر، واستحكمت القطيعة بين التنظير والتطبيق، وصارت هذه القطيعة أمراً واقعاً، على مدى ثلاثة أو أربعة قرون. وفي القرن الثالث عشر الهجري ارتطم الفكر الإسلامي بالفكر الغربي، الوافد مع حملات السيطرة والاستعمار، وتحوّلت أجزاء العالم الإسلامي إلى نفوذ المركَّب (سياسي ـ ثقافي ـ أيديولوجي ـ اقتصادي)، مزوّداً بآليات منهجية، وتقنيات تطبيقية، ومعرفة غير مفكَّر بها في ثقافتنا. وبالتفاعل بين هذه السِّمات والخصائص التي رافقت عملية الاشتباك بين الثقافتين مطلع القرن العشرين وجد الناس في عالمنا الإسلامي أنفسهم على اتجاهات أربعة:
الأول: مَنْ تولَّدت لديه القناعة بأن التراث الفكري الإسلامي عاجزٌ تماماً عن المنازلة، وتزويد الصراع التحرُّري الإسلامي من النفوذ الغربي بأيديولوجية التحرير والاستقلال، وتكوين الدولة الحديثة المدنية، والرؤيا الثقافية الرصينة، والاقتصاد التنموي المؤدّي إلى مجتمع الرفاهية.
الثاني: مَنْ وجد أن الأصل في مقاومة الغزو الفكري الغربي وما ارتبط به من سياسات واقتصاد هو إعادة العقل الإسلامي إلى تراثه الأصيل، واعتماد هذا التراث ـ على كلّ ما فيه ـ لاهوتاً للتحرير والتحرُّر، فترتَّب عليه أنه رفض كل ما جاء به الغرب، فكراً وفلسفة وتقنيات ومنهج، واستخدم الدين ـ بكلّ ما يملك من قدرة تعبوية ـ للمواجهة.
الثالث: وهو الاتّجاه الذي أدرك أن التراث الفكري كما هي حاله لا يكفي للمواجهة إزاء المهمّات الاستراتيجية للأمة مطلع القرن العشرين، وهي «التحرُّر من هيمنة الأجنبي، وبناء الدولة المدنية الحديثة، وتكوين اقتصاديات تنموية عادلة في توزيعها، تسعى إلى مجتمع الرفاهية، وبنية ثقافية حركية متجدّدة». لذلك سقط في عملية التوفيق غير المنسجم، ممّا أوجد رؤية مشوّهة لا يمكن اعتبارها موقفاً إسلامياً، ولا موقفاً شمولياً أوروبياً.
الرابع: اتّجاه عمد إلى إعادة النظر في التراث، وفرز الشرائح الفكرية الثلاث، وهي: شريحة الأفكار التي ليس لها مجال حيوي فعلي؛ والأفكار التي ولدتها حالات العجز، فكانت من جهة التصنيف أفكاراً معطّلة للمشروع النهضوي؛ والأفكار الناشطة التي يمكن إعادة ترتيب مضامينها، وتجديد خطابها، وهيكلتها بما يتناسب مع التقدّم المعرفي والعلمي؛ لكي تصلح مشروعاً إسلامياً منفتحاً على الثقافات والإنجازات الإنسانية، على أن تكون هي معيار القبول والردّ. وهذا الاتجاه يقضي باكتشاف منهج معياريّ للفرز، ورؤيا نقدية، وآليّة لإعادة ترتيب المضامين الفكرية، وتشكيل الخطاب.
ومن مصاديق تلك المستلزمات الفكرية تطبيق منهج الاستقراء، وهو تجميع الأحكام الجزئية، وتنظيم مشتركاتها؛ وصولاً إلى حكم كلّي، ثم تجميع الأحكام الكلية؛ وصولاً إلى هيكل النظام في ذلك المجال، وأخيراً استكمال النظرية، مثل: النظرية الاقتصادية الإسلامية، أو النظرية الاجتماعية الإسلامية، أو فقه الدولة، إلخ.
المبحث الثاني: إشكالية الجدليّات
بيد أن الراصد لهذا الاتجاه، الذي بدأ على يد مدرسة الأفغاني في طورها الأول، ومدرسة النائيني، يرى أنّ معوّقات فكرية جابهت هذا الاتجاه، ممّا أوجد إشكاليات فكرية لم يتخطّاها البحث في خضم هذا الاتّجاه، ومنها:
1ـ تشخيص طبيعة العلاقة بين الإنسان والموارد الطبيعية في الصراع أو التكامل.
2ـ حقوق الإنسان المستمرّة المنتقّلة إلى الأجيال في المواطَنة والثروة والبيئة.
3ـ منطقة ما سَكَتَ عنه النصّ، أو قصور فهم النصّ، أو قصور النصّ ذاته.
4ـ اكتشاف المصطلح المفهومي المنتزَع من رحم الثقافة الإسلامية، بعد أن غمرنا المصطلح الغربي الناشئ عن ثقافة لها سياقها التاريخي المختلف عن سياق ثقافتنا، ممّا يولّد خلطاً مفهومياً مؤثِّراً على نَسَق الأفكار.
5ـ إشكاليات تحديد المرجعية الفكرية والحضارية للخطاب الإسلامي المعاصر.
6ـ مكانة القِيَم النبيلة في مجال القانون والاقتصاد.
7ـ تعدُّد البنى الفوقية في الفكر الإسلامي المعاصر وإشكاليّة الاتصال والانفصال.
إن هذه الجدليات السبعة أوجدت حلقة فاصلة بين المعرفة التراثية والخطاب المعاصر، لم تجد لها حلاًّ إلاّ عند الإمام الشهيد الصدر، في عموم مؤلَّفاته وجهده الفكري. وسأعرض لحلولها إجمالاً.
مقاربات السيد الصدر لتفكيك الجدليّات
1ـ جدلية العلاقة بين الإنسان والموارد
تحكم الفكر الإنساني الوضعي نظرية الصراع والغالب بين الإنسان والطبيعة. وقد استحكمت هذه النظرية على العقل البشري منذ عصور اليونان. فالإنسان عنصر في معادلة الصراع مع الطبيعة والموارد الكونية، بل والظواهر الكونية الأخرى. ومن المفيد الإشارة إلى أن قاعدة الصراع هذه انتقلت إلى ما بين الإنسان والإنسان، وبين الثقافات والأديان والحضارات. وهذه النظرية أقرب إلى التناول الإنساني الأوّل لهذه المشكلة.
وتقف هذه النظرية وراء الكثير من المشكلات التاريخية والمعاصرة، والحروب والنزاعات، والعلاقة مع الطبيعة، وأسلوب الإفادة من مواردها.
وقد وصلت بعض شظاياها إلى الفكر الإسلامي، إلاّ أن السيد الصدر أعاد ترتيب العلاقة بين الإنسان والموارد على قاعدة التكامل، والربط بين التشريعي والتكويني على أساس فلسفة الاستخلاف، التي تلخّص المراد والمؤدّى بأن الإنسان كائنٌ مفكّر منتج مستَخلَف من الله تعالى، وأنّ الكون قد خُلِقَ من أجله، وهو مسخَّرٌ لمنافعه المشروعة، وأنّ وظيفته إعمار الأرض لرفاهية الإنسان. فبالقدر الذي يطبّق فيه المقولات الشرعية السلوكية يحقِّق انسجاماً في حركته مع حركة أجزاء الكون، وعلى أساس تكامل قوانين الخلق التكوينية مع قوانين الخلق التشريعية، وبذلك يؤسِّس للعلاقة بين الإنسان والبيئة مناخ السلام والارتباط التنموي الشامل، ويختزل خيار الصراع والصدام. ومن السلام بين الإنسان والموارد ينضج السلام بين الإنسان والإنسان، وبين الثقافات، فيؤسِّس لحوار حضارات على أسس المنفعة الإنسانية الشاملة، لا المصالح المنحصرة في مجموعة دول أو مجموعة مجتمعات.
وهذا الأساس الفلسفي يعكس تأثيره على الفكر والثقافة، والعلاقات الاقتصادية المحلّية والإقليمية والدولية، وعلى الفكر السياسي المحلّي والدولي، ويحدِّد مذهبية التنمية الشاملة. ويقدّم السيد الصدر هذا الحلّ للإنسانية كافة، وليس للمسلمين فقط؛ فمن جهة يقدِّمه مشروعاً لحوار المسلمين مع الآخر؛ ومن جهة أخرى يخاطب الإنسان عموماً برؤيا تجمع بين القيم النبيلة والمنفعة المشروعة.
2ـ حقوق الأجيال واستمرارية وتوارث الإنجاز المدني
إذا كان الفكر الوضعي يمنح الإنسان الفعلي ـ في أيّ حقبة زمنية ـ حقّاً مطلقاً في الإفادة من الثروات، بقدر ما يستطيع، وبقدر ما تتيحه له المعرفة السائدة في عصره، فإنّ السيد الشهيد انتهى إلى أنّ الثروة والبيئة مكوّنات تشترك فيها الإنسانية بأجيالها كافّة؛ استناداً إلى تحبيس خراج الأرض العامرة المفتوحة، وحديث الشركة، وملكية المعادن الباطنة، إلخ.
وعليه فلا يحقّ لجيلٍ ما أن يستنزف الثروة كاملة؛ ليفقر الأجيال القادمة. صحيحٌ أنّ المحدِّد للاستثمار محدِّد موضوعي (نسبة المعرفة التقنية للإنتاج)، إلاّ أن السيد الصدر أضاف له محدِّداً فكرياً، مستنداً إلى وقف الأراضي العامرة بشريّاً أو طبيعياً للناس كافّة، أو للمسلمين في عصورهم كافّة.
ممّا يجعل الموقف إزاء الفرض أن لو امتلك المسلمون كلّ تقنيات الإنتاج المتقدّمة، واستطاعوا استخراج النفط كلّه وبيعه، فإنّ هناك محدِّداً فكرياً يمنع من ذلك؛ مراعاة لحقّ الله المنتقل فعلياً إلى حقٍّ للأجيال. ولهذا صلة واضحة بمشكلة تلوث البيئة، عطفاً على قاعدة التصالح والتكامل بين الإنسان والطبيعة. فالعالم اليوم يشكو من خطر العوادم الصناعية الفائضة على قدرة البيئة على الاستيعاب، ممّا يؤثِّر على مجمل المفردات البيولوجية.
وبذلك يؤسِّس هذا التفكيك لحقٍّ إنساني في العيش في بيئة نظيفة، ويجعل هذه البيئة مشتركاً إنسانياً، للجميع الحقّ في العيش فيها بشرط سلامتها، وعلى الجميع حمايتها من التلوّث؛ انطلاقاً من حقّ الأجيال المستمرّ والثابت والدائم في التكامل بين الجهد الإنساني والحاضنة البيئية للإنسان.
ومن الواضح ــ تأسيساً على ما تقدّم ــ أن المشروع الحضاري الذي يطرحه الشهيد الصدر في الجدلية الأولى والثانية مشروعٌ عقلانيٌّ يجد قبولاً من المسلم وغير المسلم.
كما أنّه من الواضح أن الفكر الغربي ـ رغم تقنياته ـ لم يتمكَّن حتى الآن من طرح مثل هذه الأفكار. لذلك يمكننا القول: إنها نقاط قوّة رصينة في خضمّ التجاذب والسجال الفكري بين حضارة المشروع الإسلامي للإنسان وحضارة الغرب ومشروعه الليبرالي الموجَّه من خلال العَوْلمة للإنسان أيضاً.
3ـ سكوت النصّ، وقصور فهم النصّ، وقصور النصّ
بَدْءاً ليس في الأصول النصّية للإسلام ـ القرآن والسنّة بمعناها الشامل لأقوال الأئمّة^ ـ نقصٌ في النصّ؛ لقوله تعالى: ﴿الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ…﴾، لكن ــ على أصل الإباحة ــ هناك مناطق ومفردات ومساحات سَكَتَ عنها النصّ، وهناك قصورٌ؛ بسبب تدرّج المعرفة ومراتب العلم، عن فهم كلّ المراد من النصّ. وإذا كانت المدارس الفقهية كلّها تجتمع على أن النصوص متناهية، والواقع لا متناهٍ، فلا بُدَّ من جعل النصّ في موازاة تجدُّد الوقائع والأحداث، فتوسيع المناط بعد تحقيقه، أو تنقيح المناط وحده، غير كافٍ لمثل هذه الإشكالية. وحيث إن القياس من الظنّ غير الكافي لتأسيس الحكم على مستنبط العلّة منه، وإن الاستحسان مختلف في حجّيته، فإن علاج الإمام الشهيد كان توسيع صلاحية المجتهد؛ بالاستناد إلى كلّيات الشريعة ومقاصدها، وتحكيم المصلحة الضرورية القطعية الكلّية في ملء منطقة الفراغ التشريعي، سواء في ما سكت عنه النصّ أو ما قصر عنه فهم النصّ؛ «استناداً إلى أن الإسلام لا يقدّم أحكامه بوصفها علاجاً مؤقّتاً أو تنظيماً مرحلياً يجتازه التاريخ… إنما يقدّمها بوصفها النظرية الصالحة لجميع العصور»([3]). فكيف يكتشف العنصر المتحرِّك، ويحتوي الجانب المتطوِّر من حياة الإنسان، ومنه ما يطلق عليه تحجير المباح؟ فمبدأ الإحياء ــ مثلاً ــ في العصور القديمة([4]) محدَّد موضوعياً بالقدرة التقنية، ومع تعاظمها فإنّ المبدأ هذا قد يخوِّل الإنسان المُزَوَّد بالقدرة التقنية الإخلال بتوازن الثروة، وبذلك يزعزع العدالة الاجتماعية، ويتعارض مع تصوُّر الإسلام للعدل. وهنا تبرز منطقة الفراغ التي تركها المُشرِّع للمجتهدين في معالجة مثل هذه الحالات، بحيث يمكن ملؤها بحسب الظروف([5]).
ولا يمكن ـ بل لا يتصوّر ـ أن القول بمنطقة الفراغ يستلزم نقصاً في التشريع، أو إهمالاً من الشريعة لبعض الوقائع والأحداث، فالشرع هو الذي أوجد منطقة الفراغ، وهو الذي أجاز للمجتهدين ملأها بحسب نوع التطوّر وحسب الظروف([6]) ؛ لقوله تعالى: ﴿أَطِيعُوا اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنْكُمْ﴾.
ومنطقة الفراغ ليست مطلقة، بل محدَّدة. فكلُّ فعلٍ مباح تشريعياً يجوز لولي الأمر إعطاؤه صفة ثانوية بالمنع منه، أو الأمر به، فإذا منعه أصبح حراماً، واذا أمر به أصبح واجباً.
ومن نظرية الفراغ تتفرَّع رؤية الإمام الصدر للصادر عن المعصوم، وتقسيمه إلى نوعين: الأول: ما كان نصّاً مطلقاً؛ بوصفه مبلِّغاً عن الله؛ والثاني: بصفته وليّ الأمر، وما صدر منه هَدَف تدبير وقته([7]).
4ـ إشكاليّات اكتشاف المصطلح المعاصر ونحته
يخضع إنتاج المصطلح المفهومي المعاصر لضغوط فكرية ثلاثة: الأول: استثمار الفكر الغربي للقطيعة المعرفية بين التراث الفكري والواقع المعاصر، وتصدير المصطلح الغربي للمفاهيم، بحيث يستعمل هذا المصطلح بلا وعي للحاضنة البيئية التي أنتجته، ممّا يشوّه الوعي المعاصر للمشكلة الاقتصادية وحلولها مثلاً. والثاني: حاجة الفكر المعاصر لاستحداث المصطلح، حاجة ضرورة لا يمكن الإعراض عنها. والثالث: محاولة أسلمة المصطلح المتداول.
ويمكننا هنا أن نتلمَّس أن الشريحة المتنازلة عن التراث استسلمت للمصطلح الغربي، رغم ما فيه من جذور ثقافية لبيئة مختلفة عن صيرورة المفاهيم في بيئتنا. وإن الشريحة الملتزمة تماماً بالتراث ظلّت دون استخدام المصطلح، رغم أنه ترميز فكري مدمج يحتاجه الخطاب المعاصر. وإن الشريحة الثالثة حاولت أن تؤسلم المصطلح الغربي.
أما السيد الصدر، وهو من المدرسة الرابعة، فقد تولّى ودعا إلى اكتشاف المصطلح ونحته من خلال صيرورة تراثية منفتحة على فكر الآخر، مثل: مبدأ الملكية المزدوجة؛ ومبدأ الحرّية الاقتصادية المحدودة؛ والتوزيع الأساس (توزيع مصادر الإنتاج)، وهو مختلف تماماً عن توزيع الدخل في الفكر الاقتصادي الوضعي([8])؛ ومفهوم الحاجة الاقتصادية([9]).
5ـ المرجعية الحضاريّة للفكر والخطاب الإسلامي المعاصر
لا خلاف في أن النصّ المعصوم (الكتاب والسنّة) هو المرجع الأساس للفكر والحضارة، إنما وقع الخلاف في دور العقل وجوداً وعدماً، والمساحة الموكلة إلى العقل، ومدى مشروعية التطبيقات التاريخية، كأصلَيْن تابعين للدولة.
أما بالنسبة إلى دور العقل فإن السيد الشهيد منح المعالجة الفكرية للإشكاليات المعاصرة حقّاً محدَّداً لاستخدام العقلانية. وجاء التحديد بأن يتقيَّد منهج العقلانية بشرط عدم معارضته النصّ معارضة تامّة وواضحة. فمتى كانت دلالة النصّ قطعية لا يسوغ لمنتج عقلي أن ينسخ دلالةً قطعية للنصّ، لكنْ يمكنه أن يتحرّك في نطاق الدلالة الظنية، وله أن يمارس دوره في سكوت النصّ، وإدراك موضوع الحكم، إلى غير ذلك من المهمّات([10]).
أمّا التطبيقات التاريخية فقد ظهر في كتابات السيد الشهيد أنه يعتمدها على خلفية إقرار المعصوم لها من جهة، ومن جهة أخرى فإنه استند إلى أنّ الإسلام لم يكن نظريّة فكريّة فحَسْب، إنّما دخل في عالم التطبيق، وأوجد علاقات على المستويات كافّة. لذلك فإن عملية اكتشاف النظريّة العامّة المنظِّمة لأيّ مجالٍ حياتي تحتاج إلى دراسة على الصعيد التطبيقي بالقَدَر الذي ندرسه على الصعيد النظري؛ لأن التطبيق يحدِّد ملامح النظريّة وخصائصها العلمية.
إلا أنه يرى أن الرؤيا الشاملة التي تنتج عن النصوص التشريعية مقدَّمة على حجّية التطبيقات التاريخية([11])؛ لأن التطبيق نصٌّ تشريعي في ظرف معين قد لا يستطيع أن يعكس المضمون الضخم لذلك النصّ، ولا يحيط بمغزاه الاجتماعي كاملاً، فيختلف إلهام التطبيق ومعطياته مع التصوّر النظري للنصوص. ومردّ ذلك خداع التطبيق لحواسّ المُمارِس الاكتشافية. ويمثِّل السيد الشهيد لهذا التفكيك بقوله: «قد يوحي التطبيق بأن الاقتصاد الإسلامي اقتصادٌ رأسمالي»([12])، كما ذهب إلى ذلك عدد من المفكِّرين([13]). ويخلص السيد الشهيد إلى القول: إن النظريّة لم يبرز وجهها كلّه من خلال التطبيق([14]).
ومن جهة أخرى دعا السيد الشهيد إلى ضرورة ربط النصّ بظروفه وشروطه، وصرَّح بأن تجريده منها تمديدٌ للدليل دون مبرِّر موضوعي([15]).
ويضرب لذلك مثلاً من جنس التقرير، الذي هو جزءٌ من السنّة، إضافة إلى القول والفعل، أو ما يطلق عليه بإجازة الشرع للعرف العامّ، وهو السيرة العقلائية. وقد وضع السيد الشهيد لمثل هذه شروطاً ثلاثة:
1ـ أن يكون الإقرار في عصر التشريع.
2ـ أن يتمّ التأكّد من عدم صدور النهي من الشرع، فلا يكفي عدم العلم بصدوره.
3ـ يجب الأخذ بجميع الصفات والشروط الموضوعية المتوفِّرة والمحيطة بذلك الإقرار([16]).
بهذين اللحاظين تظهر لنا جدليّة الواقع والنظرية، وتشابكات التطبيق مع الاستدلال. ومن الغريب أن السيد الشهيد لم يتعرّض إلى تصنيف التطبيقات حَسْب حِقَبها الزمنية، وإن كان له في ذلك أكثر من مسوِّغ.
لذلك يمكن القول: إن مرجعيات الفكر الحضاري الإسلامي عند السيد الشهيد هي: النصّ، الاجتهاد الصحيح، التطبيقات التاريخية بالشروط التي وضعها. على أن السيد الشهيد لو كان في مقام التفصيل لأفاض في هذه المرجعيات، إلاّ أنها جاءت مفردة في ثنايا خلفيّات طرق الاكتشاف للمذهب الاقتصادي الإسلامي.
6ـ مكانة القِيَم النبيلة في مجالَيْ القانون والاقتصاد
من سِمات المعرفة الغربية في تخصُّصاتها كافّة أنها تعزل «القِيَم النبيلة والأخلاق» عن القانون، وعن الاقتصاد، وترى أن تداخلها في هذه المعرفة يسبِّب خلطاً بين حزم القاعدة القانونية أو الاقتصادية وبين العمل الإنساني الذي قد يتجاوز هذه القواعد وتأثيرها؛ لأنها مبادئ سامية من صنع الضمير. ويرَوْن أن مخالفة هذه القواعد (الأخلاقية) لا يرتِّب القانون عليها مسؤولية. فصدق الوعد وتجنُّب الخداع من جنس القِيَم الأخلاقية، وليس من جنس القانون([17]).
إلاّ أن التطورات الأخيرة حوَّلت بعض هذه المفاهيم إلى قواعد قانونية، مثل: وجوب معاملة جرحى الحرب، الذي أقرَّتها اتفاقية جنيف المعدَّلة 1949م؛ إلاّ أنه ليس هناك معيارٌ لما يسمح بدخوله منها في القانون ممّا لم يمنح إلاّ سلطة تقديرية للمشرِّع، أساسها الضرورة وحاجة المجتمع([18]). إلاّ أنه في فقه الشريعة الإسلامية نجد تمازجاً واضحاً بين أحكام العقيدة والمضامين الأخلاقية، وكذلك مع أحكام الفروع الفقهية. ومن الصعب تفكيك هذا المركَّب؛ لأن الخطاب الشرعي يخاطب الإنسان كوحدة واحدة، لا يفصل بين العقل وضميره، ونواميس العدل والهاجس الفطري الدافع للاحتكام إلى القِيَم الفضيلة([19]).
ونجد عند السيد الشهيد الصدر& مبحثاً مهمّاً في كتابه (اقتصادنا) معنوناً بـ «التفسير الخلقي للمِلْكية في الإسلام». وأراد بالأخلاق التصوّرات المعنوية التي رسمها الإسلام عن المِلْكية، ودورها وأهدافها، لتصبح قوى موجِّهة للسلوك، ومؤثِّرة في تصرّفات الأفراد([20]). وللمذهب الاقتصادي الإسلامي صفتان، هما: الواقعية؛ والأخلاقية([21]). ويرى السيد الشهيد أن تفصيلات التفسير الخلقي مُسْتَلٌّ من فلسفة الاستخلاف. فالخلافة تضفي طابع الوكالة، وتجعل المالك أميناً على الثروة، ووكيلاً عن الله. ولذلك يكون هذا التصور قوة موجِّهة للسلوك، وقيداً يمنع من تجاوز الحدود المرسومة. وهذا التفسير أعمّ من كونه وجهة نظرٍ مذهبية، وهذا ليس تفسيراً اقتصادياً، إنما هو تفسيرٌ قِيَميٌّ، يحدّ الانعكاسات النفسية، ويطوِّر مشاعر التضامن بين الناس. ويقف هذا التفسير وراء الأعمال الخيِّرة، والبرّ الذي ليس له تفسير اقتصادي (معاوَضي)، ويتكيَّف الإنسان المسلم معها نفسيّاً وروحيّاً.
كما أن عامل القِيَم الأخلاقية يوسِّع من مفهوم النظرة الغائبة للمِلْكية إلى الزمن الآخر (زمن الآخرة).
فإذا تصفَّحنا أبواب الفقه سنجد أن القِيَم الأخلاقية الاحترازية دخلت في شروط الصحّة، بل في شروط الانعقاد، مثل: الوفاء بالعقود، ومعلومية العِوَضين في عقود المعاوَضة، وغير ذلك من الشواهد الكثيرة.
وبهذا يكون السيد الشهيد قد استلهم هذه الأسس من أصول النصّ الإسلامي وتراكمات تفسيراته، ليوظِّفها في مجال اكتشاف أركان النظرية المعرفيّة، والاقتصادية، وفي تفسيره للسنن الكونيّة لنشوء الحضارات وسقوطها.
7ـ إشكالية البنى الفوقيّة
البناء التحتي لكلّ التصوّرات الإسلامية هو القرآن الكريم، ثم السنّة النبويّة، بمعناها الشامل لدخول روايات المعصومين فيها، قَوْلاً وفِعْلاً وتقريراً. وكلّ ما عدا هذه الأصول هي بنى فوقية، مرتَّبة بحسب قوّة اكتشاف الموقف الجزئي أو الموقف الكلّي للنظرية العامّة لمجالٍ من المجالات.
فهل الاقتصاد الإسلامي ينتزع من رحم الأحكام الفقهية، فيكون الاقتصاد ناشئاً عن القانون، أم أن أحكام القانون وقواعده تحدِّد طبيعة العلاقات الاقتصادية؟
نلحظ أن السيد الشهيد اختار التفريق بين علم الاقتصاد والمذهب الاقتصادي. فهو يرى أن علم الاقتصاد مجموعة قوانين الفاعلية الاقتصادية؛ أمّا المذهب فهو الأطر الأيديولوجية الموجّهة للفعاليات الأربعة: الإنتاج، والتبادل، والتوزيع، والاستهلاك، فيما يتعلَّق العلم الاقتصادي بتحسين الإنتاج وتطوير وسائله. أمّا لماذا وماذا ننتج؟ فهذه مفاصل المذهب الاقتصادي. وقواعد علم الاقتصاد لا تتفاوت فيه الأمم مهما اختلفت، بينما المذهب هو الاحتكام إلى مبادئ ومفاهيم فكريّة معينة.
ويرفض السيد الشهيد أن يكون (العلم الاقتصادي) منفصلاً تمام الانفصال عن المذهب الاقتصادي، ويرى أن ذلك ينطوي على خطرٍ بالغ. ويرى أن العلم والمذهب مختلفان في طريقة البحث، وفي الأهداف، وليس الاختلاف في الموضوع والمجال. ويضرب لذلك مثلاً، وهو أن التخطيط المركزي مجموعة حقائق علمية وإحصائية يمكن أن تندمج معها مبادئ المذهب الاقتصادي، بل يعتبر التخطيط الاقتصادي فكرة مذهبية([22]).
وعن مكوّنات قواعد المذهب يتساءل: هل المذهب الاقتصادي في الإسلام منتزَع من قواعد القانون؟ فيشير أولاً إلى أنّه لا تطابق بين الفكر الاقتصادي والقواعد القانونية في أوروبا الغربية؛ لاختلاف دولها في تشريعاتها القانونية، واتفاقها في الرؤية الرأسمالية للاقتصاد.
لذلك يرى السيد الشهيد أنه من الخطأ الجسيم أن يقدِّم باحث مجموعة أحكام فقهية بوصفها مذهباً اقتصادياً، كما يصنع بعض الكتّاب. ويعترف السيد الشهيد بوجود الصلة بينهما، بوصفهما جزءَيْن من بناءٍ نظريّ كامل، ويدرك الروابط التي تشدّ أحدهما إلى الآخر، إلاّ أنّه يقول: «فالمذهب الاقتصادي بنظريّاته وقواعده يشكِّل قاعدة لبناء فوقي من القانون، ويعدّ عاملاً في تحديد اتّجاهه العامّ. وكون المذهب قاعدة نظرية للقانون لا ينفي اعتبار المذهب بناءً علويّاً لقاعدة يرتكز عليها، بحيث يضمّ طوابق متعدِّدة يرتكز بعضها فوق بعض.
فالمذهب والقانون طابقان، والقانون هو الطابق العلوي المرتكز على المذهب. ففي أوروبا الرأسمالية ولد مذهب سلطان الإرادة في نظرية الالتزام من المبدأ المذهبي الرأسمالي «حرّية المنتِج والمستهلِك». وكذلك الحال في حرية التملُّك، ممّا أجاز للغربيين حقّ ملكيّة المعامل.
وفي نهاية البحث يحدِّد السيد الشهيد أن مَنْ لم يُتَحْ له الاطّلاع المباشر على المذهب الاقتصادي يمكنه أن يرجع إلى قانونه المدني، لا بوصفه المذهب الاقتصادي، بل بوصفه البناء العلويّ للمذهب.
ومنهج السيد الصدر في اكتشاف الأُطُر العامة للمذهب الاقتصادي على أساس الأبنية الفوقية يتدرَّج وفق الخطوات التالية:
أـ وضع النظرية العامّة للمذهب الاقتصادي، وجعلها أساساً لبحوث ثانوية وأبنية علوية، وذلك هو التدرُّج الطبيعي، أي من الأساس إلى التفريعات.
والملاحَظ أنّ السيد الشهيد قد اكتشف النظرية الاقتصادية، كما هو واضح في كتابه (اقتصادنا)، من المباحث الفقهية المتناثِرة هنا وهناك، مستخدماً ممارسته في الاستقراء.
لكنّه بعد الاكتشاف جعل الأسس الفلسفية والقواعد الكبرى المكوِّنة للنظرية أساساً للقوانين.
وفي ظنّي أن ذلك الاكتشاف قد ألقى المسؤولية المعرفية على مَنْ بعده لتوظيف القوانين وفق الرؤيا الاقتصادية التي نحتها في كتابه (اقتصادنا) ([23])، بالإفادة من البناء الفوقي (الفقه)، وصولاً إلى البناء التحتي (الرؤية الاقتصادية). وفي ذلك يقول السيد الشهيد&: «وبهذا يتعين على عملية الاكتشاف أن تسلك طريقاً معاكساً للطريق الذي سلكته عملية التكوين…، فتنطلق من جمع الآثار وتنسيقها إلى الظفر بصورةٍ محدَّدة للمذهب الاقتصادي، بَدَلاً من الانطلاق من وضع المذهب إلى تفريع الآثار»([24]).
وبهذا أُجبر السيد الشهيد على تعصيف الإبداع، ومخالفة الروّاد للمذهبين الرأسمالي والاشتراكي، بل وحتّى دارسي هذين المذهبين. وما ينطبق على القانون المدني ينطبق على النظام المالي؛ لأن الأخير أيضاً من الأبنية العلوية، «فمن مظاهر العلم أن إيرادات الدولة قد اختلفت وظيفتها تبعاً لنوع الأفكار الاقتصادية المذهبية»([25]).
لأجل ذلك كلِّه يقرِّر السيد الشهيد أن الأحكام الفقهية لا تدخل كلُّها في صميم المذهب، إنما هي طريق للاكتشاف([26]).
المبحث الثالث: منفردات الرؤى الاقتصادية
1ـ يحدِّد السيد الشهيد السبب في المشكلة الاقتصادية، متخطّياً التفسير التقليدي عند الباحثين الإسلاميين إلى عوامل اقتصادية فعلية، وهي: تدنّي العوامل المحفِّزة على استثمار الثروة؛ وسوء التوزيع. وهذان العاملان ــ وهما مركَّب العلة في المشكلة الاقتصادية ــ ناتجان عن امتثال الحكم الشرعي في مجالات الإنتاج والملكيّة والتبادل والتوزيع ونَمَط الاستهلاك.
مركِّزاً على أهمية إدراك التوافق والتكامل بين القوانين الشرعية والقوانين التكوينية([27]) يرى السيد الشهيد أنّ الموارد كافيةٌ إمكاناً، وليست كافيةً فعلاً، إلاّ بتضافر العمل كمُكَمِّل لإنتاج السِّلَع، المؤدّية إلى الكفاية الاقتصادية. ويقرُّ السيد الشهيد أن تطوّر الحاجات؛ بسبب تعاظم المدنيات، مدعاةٌ إلى تطوّر الإنتاج، وبنفس القدر في الحدّ الأدنى. وهو هنا يشير ـ منفرداً ـ إلى أن زيادة الإنتاج والغنى والرفاهية غير المتناسبة مع حجم الحاجات ونوعها مدعاةٌ إلى التفسُّخ الاجتماعي، وتحقّق إمكان اتجاه القوى الإنتاجية ومعطياتها نحو العدوان. فالشحّة النسبية للموارد (السلع) حافزٌ لتعظيم العمل نوعاً وكمّاً.
2ـ نظرية المِلْكيّة المزدوجة: اكتشف السيد الصدر أن المذهب الاقتصادي الإسلامي يقرِّر الأشكال المختلفة للمِلْكيّة في وقتٍ واحد.
فهو يؤمن بالمِلْكية الخاصة، والعامّة، ومِلْكيّة الدولة. ويخصِّص لكلِّ واحد من هذه الأشكال الثلاثة للمِلْكيّة قطاعاً خاصّاً تعمل فيه، ولا يعتبر شيئاً منها شذوذاً، أو استثناءً، أو علاجاً مؤقَّتاً اقتضته الظروف([28]).
وبذلك تصحّ الاستنتاجات التي وردت عند المودودي (رأسمالية الفكر الإسلامي)، وعند السباعي (اشتراكية الفكر الإسلامي). وهذا التنوّع لا يعني أن المكتشفين للاقتصاد الإسلامي مزجوا بين المذهبين، إنما ذلك تصميم إسلامي أصيل، قائم على أسس وقواعد فكرية معينة، وموضوع ضمن إطار خاصّ من القِيَم والمفاهيم. ثم يقول: وليس أدلّ على صحة الموقف الإسلامي من واقع التجربتين؛ لأنهما اضطرتا إلى الاعتراف بالشكل الآخر من المِلْكيّة، الذي يتعارض مع القاعدة العامة فيهما. وقد برهن الواقع على خطأ الفكرة القائلة بالشكل الواحد للمِلْكيّة.
3ـ الإسلام لا ينظِّم الوجه الخارجي للمجتمع، إنما ينفذ إلى أعماقه الروحية والفكرية؛ ليوفِّق بين المحتوى الداخلي وما يرسمه من مخطَّط اقتصادي واجتماعي، ويمزج التخطيط والإنتاج بالعامل النفسي والدافع الذاتي.
4ـ لذلك يقرِّر السيد الصدر أنّ من الخطأ أنْ يُدرَس الاقتصاد الإسلامي مجزّأً، إنما يُدرَس ضمن المنظومة العامّة للإسلام، ولا يُدرَس منفصلاً عن النظام الاجتماعي والسياسي والروحي، إنّما يجب أن يُدرَس ضمن تراكيب: العقيدة، والمفاهيم، والعواطف.
خاتمة ونتائج
لقد ظهر من خلال البحث مجموعة من النتائج:
1ـ ظهر من خلال دراسة فكر السيد الشهيد الصدر أنّه على إدراك تامّ بعدم وجود منهج علمي وموضوعي في دراسات التحديث للفكر الإسلامي.
فعالجها بإيجاد نظريّة منهج لدراساته.
2ـ كان السيد الشهيد على إدراك كامل للهوّة المعرفية والقطيعة بين الحاضر وعصر الإبداع الفكري للمسلمين. وقد احتاج منه ردم هذه الهوّة الكثير من التأمُّل في البحث المعمَّق والحاضر في دلالات النصّ.
3ـ ومن ذلك إدراكه& ضياع القدرة الاستشرافية للمعرفة الإسلامية بعد القرن الرابع الهجري.
4ـ أدرك السيد الشهيد عدم نضج منهج الشرائح الأربعة التي تعاطَتْ موضوع (المشروع النهضوي المعاصر)، فتخطّاها جميعاً.
5ـ شخَّص السيد الشهيد في إنتاجه الفكري أوّلاً: وجود إشكاليّات جدليّة سبعة، فتناولها بالتحليل والتفكيك، وإعادة ترتيب البنية المعرفية.
6ـ كانت لدى السيد الشهيد في دراساته بعامّة، والاقتصاد بخاصّة، انفرادات اعتبرت حلولاً لما كان عصيّاً على الباحثين قبله.
بذلك يتشكَّل السيد محمد باقر الصدر نقطة تحوُّل في طريقة التفكير، وأسلوب المعرفة، والتأسيس للمنهج والمشروع النهضوي من خلال التجذُّر والتجديد.
الهوامش:
(*) أستاذٌ جامعي، وباحثٌ في الفقه الإسلامي، وعميد كلّية العلوم الإسلامية في كربلاء. له مؤلَّفاتٌ فكرية وفقهية متنوِّعة. من العراق.
([1]) د. علي سامي النشار، مناهج البحث عند مفكِّري الإسلام.
([2]) برنارد لويس، الإسلام والحداثة.
([8]) المصدر السابق: 293، 348.
([9]) د. عبد الأمير زاهد، الحاجة الاقتصادية، مجلة دراسات اقتصادية؛ اقتصادنا: 396.
([10]) د. عبد الأمير زاهد، جدليّة النصّ والعقل، مجلة دراسات فلسفية.
([13]) أبو الأعلى المودودي، مسألة مِلْكيّة الأرض في الإسلام.
([17]) عصام العطية، القانون الدولي العام: 18؛ حامد سلطان، القانون الدولي: 18.
([18]) محمد سامي عبد الحميد، أصول القاعدة القانونية: 19.
([19]) عبد الأمير زاهد، المدخل إلى القانون الدولي الإسلامي: 53.
([22]) المصدر السابق: 382 ــ 383.
([23]) يدرس نصّ السيد الشهيد جيّداً (اقتصادنا: 390).
([25]) للتفاصيل انظر: اقتصادنا: 393.
([27]) لقوله تعالى: ﴿وَضَرَبَ اللهُ مَثَلاً قَرْيَةً كَانَتْ آمِنَةً مُّطْمَئِنَّةً يَأْتِيهَا رِزْقُهَا رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكَانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللهِ فَأَذَاقَهَا اللهُ لِبَاسَ الْجُوعِ وَالْخَوْفِ بِمَا كَانُواْ يَصْنَعُونَ﴾ (النحل: 112).