أحدث المقالات

بحث في إشكالية النظرية والتطبيق

د. خالد إبراهيم المحجوبي(*)

مقدمة

هذا الموضوع تتجاذبه ساحات معرفية عديدة؛ فهو متصل من جهة بالفكر السياسي؛ ومن جهة ثانية بالفكر الديني؛ ومن جهة ثالثة بالفكر الاجتماعي؛ ومن جهة رابعة بعلم النفس.

أما ارتباطه بالفكر السياسي فمن زاوية بحثه في موضوع التســلط والسلطة من حيث التأثير في المواطنين والشعوب عامة.

وأما ارتباطه بالفكر الاجتماعي فمن زاوية علاقته بالمجتمع ومكوناته، وتأثُّرها بمظاهر التدين وممارسة الدين، وما يحويه ذلك من سلطة في المجتمع مؤثِّرة في تكونه ونشوء بعض ظواهره الاجتماعية.

وأما ارتباطه بعلم النفس فلتواصله مع النوازع والدوافع والمؤثِّرات النفسية للمتدينين، وللمتواصلين مع التجربة الدينية، وتأثيرها في النفس الإنسانية.

 وأما ارتباطه بالفكر الديني فمن زاوية طرقه لمبحث السلطة الدينية، والتسلط التديني، مما يقود لبحث علاقة واتصالية وجدلية التدين والدين، اعتماداً على أن التدين هو الممارسة البشرية للدين، الذي هو موضوع إلهيٌّ، بكرٌ، صافٍ نقيٌّ، وقع في سياق التواصل مع الفعل البشري، خلال التطبيق العملي له في عالم الناس المكلفين؛ فنشأت ثنائية متصلة ومنفصلة بين الدين والتدين. أما وجه اتصالها فهو كون التدين تطبيقاً للدين؛ وأما وجه الانفصال فهو من جهة سوء التطبيق الذي وصل إلى درجة وضع دين موازٍ للدين الأصلي، الذي صار ظلاً بعد أن كان هو الجسم؛ فوصلت كثيرٌ من المجتمعات إلى مرحلة صارت فيها الديانة الأصلية مجرد ديانة ظلّ.

لقد تولد من كل دين ديانات موازية، قَبَسَتْ عناصر محدودة معدودة من الديانة الأصلية، وزادت عليها؛ حتى كونت ديانة موازية؛ فصار لكل مجتمع متدين ديانة أصل وديانة ظلّ. ويعمل أصوليو كلّ ديانة على العودة إلى ديانة الأصل، مقابل تمسك الأغلبية بديانة الظلّ. ولعل هذا الكلام واجدٌ تصديقاً وتوكيداً قوله تعالى: {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَن سَبِيلِ اللهِ}، و{وَمَا يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللهِ إلاّ وَهُم مُّشْرِكُونَ} و{وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}.

هذا الحال ليس من لواصق دين ما دون غيره، بل هو منسحب على الأديان كلها؛ ففي المسيحية ظهرت ديانات ـ تسمى بالفرق ـ تحت أسماء البروتستاتية والكاثوليكية والأرثوذكسية؛ وفي اليهودية نحو ذلك؛ وفي الإسلام ظهرت أشباه ديانات، نسميها الفرق الإسلامية، وأهمها: فرقة أهل السنة، وفرقة الشيعة، وفرقة البهائية. وقد اشتد البأس بينها برغم كثرة مشتركاتها.

وستقوم أفكار هذا البحث على أساس من محاولة التعاطي والتجاوب مع كثير من السؤالات الملحّة والمهمة، مما لا يجوز ترك إجابته. فهي سؤالات تستدعي إجابات موضوعية من شأنها تجلية الغموض، وفك الالتباس المحدق بالعلاقة بين الدين والتدين من جهة، وبين والسلطة والتسلط من جهة أخرى، وهي: أيمكن نزع الكساء الديني عن النـزوع التسلطي؟ هل للدين سلطة؟ وما هو نوعها؟ وماهي حدودها؟ وماهي طبيعتها؟ وما هو جدواها؟ التسلُّط باسم الدين، من سلطة الدين أم سلطة التدين؟ هل من جسور تواصلية بين التسلُّط والدين؟ الدين سلطة أم تسلُّط؟ وهل السلطة ذاتية تفرض نفسها بالتراضي والتسلُّط فرض جبري لها؟ ما هي دوافع التسلط الدين؟ وماهي مظاهره؟ وما هي آثاره؟ وما هي سبل وآلات علاجه؟

مصطلحات البحث

الدين

أعني به هنا التشريع الإلهي في صفائه ووضوحه، وسأطلق عليه أحياناً اسم (الدين الأصل).

التدين

عنيت به هنا الممارسة البشرية والتطبيق العملي للدين، بحسب فهوم واجتهادات أتباعه. وسأطلق عليه اسم (الدين الظلّ).

 سلطة الدين

التأثير الذي يحدثه الدين بنصوصه ومعانيه في المكلفين، مما يجد له قابلية اتّباعية تسليمية من طرفهم.

 تسلط التدين

 التأثير الذي يحدثه بعضُ رجال الدين وعلماؤه في الناس ضمن سياق تبليغه وإيصاله إليهم، على نحو يختلط فيه الصواب بالخطأ،والهدى بالضلال، مما لا يعصم الإنسان عن الوجوب فيه؛ لكونه غير معصوم.

التسلط الديني

مقاربة لغوية

يؤوب التسلط والسلطان جذرياً إلى الثلاثي (س ل ط)، وهو جذر لم يتفق العرب على تحديد جنسه، ولا حصر تصاريفه.

 زعم (الفراء) أن العرب تؤنث السلطان فتقول: قضت به عليك السلطان. أما البصريون فالتذكير عندهم أفصح، وبه جاء القرآن، والتأنيث عندهم جائز؛ لأنه بمعنى الحجة، وعن محمد بن زيد قال: سلطان جمع سليط، مثل: رغيف ورغفان، فتذكيره على معنى الجمع، وتأنيثه على معنى الجماعة، والسلطان ما يدفع به الإنسان عن نفسه أمراً يستوجب به عقوبة([1]).

 وقد تتبعت استعمالات القرآن المجيد لهذا الأصل اللغوي فوجدته قد استعمل من تصريفاته ثلاثة هي: يسلط ــ سلطان ــ سلطهم.

وقد جاءت كلها وسط تسع وثلاثين آية قرآنية، وقد ذهب أقطاب التفسير القرآني إلى أن السلطان في القرآن يعنى الحجة، فقد أورد ابن كثير بسند صحيح عنده قول عكرمة،وابن عباس، قال: «كل سلطان في القرآن حجة»([2])، وعزا هذا الرأي لمجاهد، وسعيد بن جبير، والضحاك، والسدي، والنضر بن عربي، ومحمد بن كعب القرضي.

لكن تتبع الآيات تلك يرجح خطأ هذا القول المطلق، حيث توزعت دلالة السلطان إلى ثلاثة معانٍ، حسب ما تبناه علم التفسير القرآني نفسه. وتلك المعاني هي:

الحجة: وهو المعنى الأكثر وروداً في الاستعمال القرآني، «وإنما سميت الحجة سلطاناً لأن صاحبها يتسلط بها تسلط صاحب القدرة بيده»([3]).

2ــ الدليل: وهو أيضاً يأتي بمعنى الحجة أحياناً.

القوة والغلبة: فقد ورد في القرآن هذا المعنى لكلمة السلطان، فقال تعالى: { لا تَنفُذُونَ إلاّ بِسُلْطَانٍ} وقال ابن القيِّم: «القدرة داخلة في مسمى السلطان»([4]).

يفيد (التفعُّل) في الاستعمال الفصيح معنى الممارسة والإظهار، أي الممارسة الظاهرة للشيء بغض النظر عن كونه حسناً أو سيئاً، ومن ذلك مثلاً: التذمر، التسلط، التشهد، التعبد، التجبر، الترفق، التزين، التزلف.

 ويأتي مصطلح التسلُّط من هذا الباب، فالتسلُّط هو ممارسة السلطة.

والملحوظ أن هذا المصطلح حمل مع كثرة استعماله دلالة حصرته في جانب سيّئ السمعة، مقروناً بالظلم والقسوة، ضمن حقل دلالي واحد.

وهذا الذي أصاب كلمة التسلُّط هو عارض من عوارض الدلالة اللغوية يسمى بتضييق الدلالة، ونحن لا ننكر وجوده في لغتنا، بيْد أن ذلك لن يحجزنا عن أن نستعمل اللفظ بحسب دلالته الأصلية،أي حسب الوضع اللغوي الأصيل.

ومن هنا نقول: إن التسلُّط يعني ممارسة سلطة ما على طرف ما، من غير أن تقضي تلك الممارسة ظلماً أو قسوة أو ضرراً، بل قد تقترن في أحايين كثيرة بمنافع ومصالح تلحق الطرف الخاضع لتلك السلطة، والمشمول بذلك التسلُّط.

ومن هذا الباب يسوغ لنا أن نســتعمل باطمئنان تعبــير (التسلُّط الديني) أو (التسلُّط الإلهي) في وصف ممارسة الله تعالى لسلطته على عباده من خلال التكاليف الدينية بما تشمله من التزام باعتقادات معينة، وعبادات محددة. ويسوغ لي من ثم أن أؤكِّد أن كلمة السلطة لا تحمل في ذاتها حمولة قيمية (خيراً أو شراً، نفعاً أو ضراً)، بل تجيء تلك الحمولة القيمة حسب توجيه وتوظيف تلك السلطة، وما يترتب على ذلك من آثار.

والسلطة تكون في تمظهرها التأثيري على وجهين:

الأول: تكون فيه سلطة عملية محسوسة، كسلطة ا لأب على ولده، والحاكم على رعيته.

الثاني: معنوية روحية، كسلطة الحُبّ على المحب([5])، وسلطة الاحترام والهيبة، وسلطة الإعجاب (الكاريزما). إن تحقق هذا النوع من السلطة يقتضي حدوث اتّباع تسليمي من طرف المتسلَّط عليه لصالح المتسلِّط.

وفي هذا المقام لا يمكننا تجاوز الإشارة إلى أن الدين في وجوده الأرضي لم يبقَ على صفائه العلوي ونقائه الأصلي، بل إنه تكدر بكدورات من وضع البشر، من قبيل: البدع السلوكية والاعتقادية، وهو أمر واقع أفضى إلى زعزعة النظرة المطمئنة إلى الديني، وأوجب تقسيمه إلى ضربين اثنين:

1ـ تسلط ديني شرعي، وهو نافع ومقبول وأصيل، وهو المبني على سلطة دينية نقية ضمنت وثوق مرجعها الاشتراعي، حيث يكون مصدر الإلزام التوجيه وارداً عن المشرِّع بلا شك في مورده. ومن ذلك: مقتضيات الآيات القرآنية الحاملة لتكليفات وتوجيهات قطعية.

وبالنظر لقوة تأثير وشيوع الحمولة السلبية لمصطلح التسلط سأترك قرنه بالدين، وسأستعمل تركيب (سلطة الدين)، لا (تسلط الدين)، وسأقرن ــ في التعبير اللغوي ــ التسلط بالتدين، الذي هو ممارسة بشرية للدين.

2ــ تسلط ديني غير شرعي، وهو ضار ومرفوض ودخيل، وكل شيء يوجه غيره ويؤثر فيه فهو متسلِّط ذو سلطان، فالشهوة سلطان، والغضب سلطان، والحب سلطان، والحاكم والحق سلطان.

«إذاً مفهوم سلطة النص مرتبط بكهنوت المؤسسة، وبأشكالها الوظيفية، أكثر من ارتباطه بالنص ذاته»([6]).

وهنا ينتقل النص من مجال السلطة بكهنوت المؤسسة إلى مجال التسلط بوسيلة تعتمد قنوات مغرضة.

وأقول: كما تحدث عملية مزاوجة بين دين الظل ودين الأصل فإنها تقع كذلك بين نص الظل ونص الأصل، أعني بالنص هنا الرسالة المباشرة من المشرِّع إلى المكلفين، التي تكون عادة مكتوبة مدونة ضمن كتاب سماوي، ففي الثنائية المزاوجة بين النصين تجري للنص الأصلي عملية تحجير «لتحل مكانه نصوص أخرى، تأخذ قداسته، ودوره الاجتماعي…، ودوره الوظيفي»([7]). وحينها تصير السلطة الدينية ذات مرجعية مزدوجة، متكونة من مستوى علوي مقدس ومستوى سفلي غير مقدس. والمستوى الأول يمثله توجيهات وتكليفات المشرِّع؛ أما المستوى الثاني فيمثله ما يكتبه فقهاء الدين، أو يقوله المتدينون.

المستوى الأول هو صورة الدين (يمثل الدين)؛ والمستوى الثاني هو صورة التدين (يمثل التدين).

وبرغم الفرق الشاسع بينهما على مستوى القدسية والأهمية فإنهما يشتركان في كونها مصدرين مؤثرين في الناس تأثيراً تسلطياً، بمعنى أن لكل منها أثره الإلزامي المهيب المؤثر. وهنا أُفضِّل إلصاق صفة السلطة بالأول، وصفة التسلُّط بالثاني، فالدين ذو سلطة مؤثرة، والتدين كذلك ذو سلطة مؤثرة، مرجع تأثيرها وهيبتها كونها عائدة إلى الدين، ومنبثقة عنه، بغضّ النظر عن مدى وفاء ذلك التدين بحقوق الدين الأصلي في فضائه الإلهي النقي الأصيل.

 فالتدين إذاً له سلطته المؤكدة، سواء كان وفياً صادقاً نزيهاً قويماً أم كان عائلاً شائهاً منحرفاً سقيماً، ففي كلا الحالين لا يفقد التدين سلطته، بل إنه ـ ويا للعجب ــ يكون أكثر تأثيراً وأبلغ سلطاناً في حالته الثانية، أي حالة الانحراف والعدول عن صفاء الدين الأصل، كما هو الحال في التطرف والغلو الذي يلقى له أتباعاً بغزارة غريبة، وكذا في انتشار التصوف العبثي المنحرف، بدلاً من التصوف النقي القويم. كل ذلك يكثر أتباعه، ويشتد تأثيره وسلطانه، ويبقى الحق وأهله قلة مهيضة، وحقاً إن الإنسان لظلوم كفّار، وقتل الإنسان ما أكفره([8]).

شواهد سلطة الدين

 إن سلطة الدين على الناس أمر محقَّق لا مرية فيه، وعلى ذلك شواهد، أهمها:

1ــ التأثير المحقق في جماهير الناس تأثيراً يلابس السلوك، فيتوجه بتكليفات الدين طلباً ومنعاً، ويخامر العقول، فتتبنى عقائده ومقرراته. كل ذلك في اتّباعية تسليمية عجيبة، تؤكّد قوة السلطة الماكثة في الدين. إنها قوة غير اعتيادية، تصل بالإنسان إلى مراحل تسليمية غير محدودة، ليس أعلاها أن يضحي بنفسه، فيسلم روحه في سبيل دينه.

2ــ الولوع والحرص على توظيف الدين بين جهاتٍ فاقدةٍ للسلطة المؤثرة، كالأحزاب السياسية، والأفراد، والحكومات. ذلك الاعتماد على استحضار واستخدام الدين للتأثير في الناس مؤكِّدٌ قاطع على الثقل البالغ للحمولة التأثيرية السلطوية الكامنة في الدين؟ فلو لم يكفِ مصدراً لسلطة مؤثرة لما اعتُمد عليه، ولا وظَّفه المغرضون العاملون على اجتذاب الناس والتأثير فيهم.

إن تسلُّط التدين ظاهرة أوجدها أفراد محددون، وهم رجال الدين: المشائخ، الفقهاء، الحاخامات،الإكليروس.

وفي المثال الإسلامي نجده معتمداً على مصادر للإمداد التسلطي، وهي النصوص المؤسسة من قرآن وأحاديث، حيث يعتمد عليها وتوظف وتكره على مطاوعة مقاصدهم وأوطارهم، فبدونها يفقد التسلط التديني شرعيته، وشعبيته، وقوته، حيث لا يمكن لرجل الدين الفقيه، والشيخ، والإمام، والعالم ـ أن يخاطب الناس ويؤثِّر فيهم بصفته الشـخصية ــ فلان بن فلان ـ، بل إن تأثيره فيهم يحدث بما يوظِّفه من نصوص، ومعارف دينية حاملة لسلطة الدين الأصلي، المضمونِ تأثيره في جماهير المكلّفين، والعوام بأجْمَعِهم.

آثار التسلط التديني

وسع تسلط التدين مفهوم السلطة ونفوذها، فقد أكسب الدين سلطة تسلطية لم يفرضها المشرِّع الأصلي، فصار من مقررات التسلط التديني مثلاً: تطبيق الإكراه في الدين، ووضع عقابات وتحريجات على حرية المعتقد، وعلى حرية الممارسة الشعائرية، وتحريف بعض تفاصيل العلاقة بين المسلمين وغير المسلمين. وفي كل هذا فعل تشويهي للسلطة الدينية النقية التي بلَّغناها نبينا محمد عليه الصلاة والسلام.

تم زاد التدين توسيع نفود السلطة الدينية حين أسبغها على النظام السياسي وآيات الحكم؛ فصار للحاكم ــ الملك، والسلطان، والأمير، والخليفة ــ سلطة دينية تحت مظلة الشريعة؛ وهنا تم التداخل بين الدين والسياسة، بين المطلق والمحدود؛ فظهر الحكومات (الثيوقراطية)، وسادت قروناً طويلة من عمر الإسلام، حتى وصلت إلى مرحلة عارضتها فيها توجهات أخرى، أفضت إلى ظهور النـزعة التفاصلية، أي فصل الدين عن الدولة، وسلب السلطة والنفوذ الديني من أيدي السلطة السياسية المدنية. إن سلطة الدين لم تكن أكثر من سلطة ذاتية، تأثيرها تلقائي، يأتي بتجاوب ودّي غير جبري من طرف الناس. ولن أبالغ لو قلت هنا: إن سلطة الدين هي سلطة كاريزما.

سلطة الناس بين توجيه الدين وتوجُّه التدين

في المجتمعات الإسلامية لم يحدث توافق بين توجيه الدين وتوجُّه التدين في موضوع سلطة الناس، فحدث خلاف في تحديد القدر السلطوي الممنوح للشعب؛ وكان من نتائج ذلك ظهور أنموذج الشعب المقهور، المستلب الذي ضاع نصيبه من السلطة التي منحها له الدين. لقد ضاع نصيبه بفعل نهب مباشر من طرف حكومات متسلطة، أساسها مرجعية التدين، لا مرجعية الدين.

ففي الدين الأصل ونصوصه المؤسِّسة تم منح الناس قدراً مناسباً غير مطلق من السلطة، متناسباً مع تكريمه الذي أعلنه الله تعالى في قوله: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي البَرِّ وَالبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً} (الإسراء: 70).

هذا التكريم الإلهي استوجب أن يكون للناس حق في تقرير مصائرهم في حياتهم، بعيداً عن قيود التسلط، وعن كَبْت الحكام، وعن جبروت الملوك، ذلك الجبروت الذي أقره التدين المبتدع، ووضع له أساسات نصية ليظهر في صورة شرعية منتسبة إلى الدين الأصل. في حين أكّد الدين الأصلي الأصيل منحه الناس حقوقهم كاملة، على المستوى السلوكي، والعقائدي. ومن ذلك:

1ـــ منحه حق الملكية الخاصة، وحرية التصرف في الممتلكات.

2ــ حق الاعتقاد الحر، ضمن إطار المسؤولية الخاصة، المبنية على أساس الأهلية التكليفية.

3ــ حق المشاركة المنضبطة والمحددة في الحكم وسياسة الدولة، واختيار البدائل المناسبة للحياة القويمة.

أما في جهة التدين فقد وقع التسلط على كثير من حقوق الناس، ومن ذلك:

1ــ سلبهم الحق في حرية الاعتقاد، ووضع قيود وشروط على الإيمان عقيدة وممارسة.

2ــ سلبهم الحق في الممارسة السياسية، والاختيار المصيري، وحقهم في الشورى، حيث تم اختيار النظام الملكي المطلق ليكون مثلاً للأنموذج الإسلامي للحكم، تحت دعاوى العودة للخلافة، والحفاظ على وحدة الأمة الإسلامية، لكن الذي حدث هو صيرورة الناس وممتلكاتهم جميعاً مِلكاً مشاعاً للحاكم وذريته، يتوارثونه أباً عن جد، وولداً عن أب، ضمن نظام حكم جبري عضوض، لم يعرفه المسلمون قبل انقلاب معاوية على سيدنا علي.

3ــ صار المسلم مستلباً، لا حرية له في سلوكه، ولا في عقيدته، ولا في شعائره. وقد حدث كل هذا حين حِيل بينه وبين حقيقة وصفاء وأصالة وسماحة الدين.

إشكالية النظرية والتطبيق

وظيفة الدين الأصلية هي الإرشاد والهداية، لكن حدث له تطور وظيفي إثر تطور نوعي أصابه، حيث لم يعد الدين مقتصراً على توجيهات الرب والرسول، وإنما صار حاوياً لعنصر آخر، وهو ما أدخله رجال الدين (شيوخ، قساوسة، ورهبان، وحاخامات…) فيه، فلم يسلم أي دين سماوي من إدخالات وإضافات وضعت بإزاء التشاريع الأصلية للإله والرسول.

 وهنا لا يمكننا أن ندعي عصمة دين الإسلام وتشاريعه عن استيعاب كثير من تلك الإضافات البشرية، برغم تسليمنا بعصمة القرآن عن التحريف، فبرغم ذلك وجد المشوّهون مطية أخرى هي الأحاديث النبوية؛ فاتخذوها نفقاً يدخلون خلاله إضافات للدين، وقد ظهرت بوضوح في بعض الاجتهادات الفقهية، وبعض الآراء العقدية الفاقدة في أصلها لشرعية الانتماء للدين الإسلامي الحنيف، وبرغم جهود كثير من العلماء المخلصين في تنقية هذا الدين فإن الشوائب لا تزال عالقة به، والإضافات حالّة بساحته، عَلِمها من عَلِمها وجَهلِها من جهلها.

إني حين أذكر التسلط الديني بالمعنى السائد للتسلط فأنا أعني مباشرة حمولته البشرية التي أضيفت إليه، فصارت مصدراً أساسياً من مصادر الكبت والاضطهاد، مكتسبة لبوساً دينياً، وهي منه عراء.

إن كثيراً من مظاهر التسلط الديني هي في واقعها تسلط بشري، وقع به التمويه والتدليس، ليظهر في مسوح شرعية، بجهود فقهاء السلطان، الذين كانت جنايتهم الأولى على الدين، ثم على الناس والجماهير، تلك الجماهير التي وقع عليها الحمل الثقيل، وصارت في موقف المضطهد والمقهور قهراً مصدره الظاهري التسلط الديني، ومصدره الخفي التسلط البشري الماثل في إرادة وإكراهات الحاكم المستبد.

 حين أتكلم عن الدين أعني النظرية والمثال؛ وحين أذكر التدين أعني الممارسة والتنفيذ، لذلك فثنائية الدين والتدين في هذا البحث هي ذاتها ثنائية النظرية والممارسة.

ولا يخفى عنا أن العلاقة بين كل نظرية وتطبيقها الواقعي لا تنفك عن لوازم أهمها: الخلل الفهمي؛ ثم الخلل التطبيقي.

وهذا أمر لا تستثنى منه النظريات السياسية والاقتصادية([9])، فضلاً عن الأديان، برغم عدم كونها نظريات بشرية، ففي الأديان تصاب التعاليم والشرائع بتحريفات وتشويهات بالغة بمجرد انتقالها من فضائها الإلهي إلى فضائها الإنساني، فقد أثبت الإنسان عجزه عن الوفاء بمقتضيات المثالية الدينية، وهذا أمر غير غريب؛ لأن دنس البشري لا يرتقي لقدس الإلهي، ولنا من الأمثلة ما لا يمكن غَمْطه ونُكرانه، ففي اليهودية تم الاعتداء على التعاليم التوْراتية الأصلية؛ فظهرت في نسخة شوهاء مدنسة، احتواها التلمود، والمشناة، والجمارا، والكتب الدينية الأخرى لليهود بطوائفهم المتباينة.

وفي المسيحية زُوِّرت تعاليم الإنجيل؛ حتى صارت إلى ديانة بشرية، حوت من فلسفة البشر أكثر من تعاليم وتشاريع الإله، وصارت نسبتها إلى (بولس) أصح من نسبتها لله تعالى.

أما في الإسلام فقد وقع حفظ القرآن؛ فلم يحرَّف، لكن ذلك لم يمنع الوصول المريب إلى النص المرجعي الثاني، وهو الأحاديث النبوية، فقد طالتها أيادي الوضّاعين والمدلِّسين؛ فأسهموا بفاعلية شديدة في اصطناع عقائد جديدة طارئة على الدين الأصلي النقي؛ فظهر للإسلام تشكُّلات، وصارت له صور غير موحدة، برغم اشتراكها في كثير من الأسس والعناصر المشتركة؛ فظهر الإسلام الشيعي، والإسلام السني، والإسلام الباطني، والإسلام الصوفي.

كل هذه الصور هي تطبيقات عملية لتلك النظرية الأصلية، وكلها مجتمعة هي التي أسميتها هنا بالتدين. ومن ثَمَّ فالتدين ليس هو الدين،إنما هو محتوٍ لعناصر دينية معدودة إلى جانب عناصر أخرى مبتدعة منسوبة للدين.

ولن يكون صادقاً كل من يدعي أن التدين بهذا المعنى هو مطابق للدين، أو أنه انعكاس وفيٌّ له. كذلك سأكون عائلاً وغالياً لو قلت: إن التدين هو ضدٌ وعكسٌ للدين. والدقة توجب عليَّ أن أقول: إن التدين ليس انعكاساً للدين، كما أنه ليس عكساً له. «إن الإسلامَ، قرآناً وسنةً، شيءٌ، وفهم البشر وتطبيقهم شيء آخر، سواء في سلوكهم الفردي أو الجماعي أم في مواقفهم السياسية والثقافية؛ لأن التطبيق يدخل في باب الاجتهاد، ويحتمل الاقتراب أو الابتعاد عن الصواب»([10]).

إن الفصل بين الأصل والتطبيق واجب عند التقييم والنقد، لكن ذلك لا يقتضي نفي وجود وشائج بين الطرفين تربطهما؛ إذ إن التطبيق مهما كان منحرفاً فهو قائم على محاولة تمثيل الأصل وتجسيده. ثم تأتي عوامل الغرضية، أو الجهل،أو سوء الفهم؛ لتؤدي دورها في انحراف التطبيق المتصل بالأصل قبل كل شيء.

ومن هنا قال منير شفيق: «وإذا كان من الصحيح القول: إن النص شيء، والتطبيق شيء آخر، إلا أن بينهما رابطة عضوية في الآن ذاته كذلك، أما الفصل بينهما، كأن يوضع التطبيق في وادٍ والنص في وادٍ، ولاعلاقة للأول بالثاني؛ فهذا يعني رؤية العلاقة فيما بينهما رؤية جزئية مسطحة، بدلاً من رؤيتها مركبة»([11]).

ومما سلف بيانه يسوغ لنا وصف علاقة الدين بالتدين بأنها متواصلة متفاصلة في حين واحد، وأن تسلط الثاني قائم على سلطة الأول. وقد شكل واقع التفاصل مرتكزاً ارتقى عليه كثير من العلمانيين للطعن في سلامة الأصل، ووصمه بالنقص والانحراف، في عملية خلط جاهل مغرض بين الدين وبين التدين.

الخاتمة

أختم هذا البحث الموجز الذي ركزت فيه النظر على ثنائية مشكلة، هي ثنائية الدين والتدين، في سياق تواصلهما وارتجاعهما وانحكامهـما بظروف ومقتضيات ثنائية أخرى، هي ثنائية النظرية والتطبيق.

 وعملنا في سرعةٍ على فك احتمالات الخلط والتداخل بين كل من التدين والدين من جهة، وبين السلطة والتسلط من جهة أخرى. وكان مما سنح أثناء بحثنا هذا نتائج، أهمها:

1ــ إن الدين موضوع إلهي مقدس، وإن له سلطة مكينة على الناس.

2ـ إن التدين ليس هو الدين، إنما هو التطبيق البشري للدين، أو لنَقُلْ: هو الدين في فضائه البشري، وبرغم ذلك فقد وجدت له قوة تأثيرية في الناس أسميتها بالتسلط التديني.

3ـ استغل التدينُ الدينَ وسلطته على الناس وقبولهم لها في أغراض خرجت عن مقاصد المشرع والمبلغ لذلك الدين.

4ــ كان من صور جناية التسلط التديني تشويه صورة الدين الأصل، وإحلال صورة أخرى هي صورة الدين الظلّ، مما كان له مآلات أضرت بالإنسان في تواصله مع الدين.

5ــ سلطة الدين مصدر من مصادر حيوية الحياة لبشرية، وتسلط التدين مصدر من مصادر تثبيط تلك الحيوية.

6ـ يلتقي الدين والتدين في علاقة اتصالية وانفصالية في وقت واحد، لكن من جهتين؛ أما وجه الاتصال فهو كون التدين تطبيقاً للدين؛ وأما وجه الانفصال فهو من جهة سوء التطبيق الذي وصل في بعض الحالات إلى درجة وضع دين موازٍ للدين الأصلي، الذي صار ظلاًّ بعد أن كان هو الجسم؛ فوصلت كثيرٌ من المجتمعات إلى مرحلة صارت فيها الديانة الأصلية مجرد ديانة ظلّ.

الهوامش

(*) أستاذ في جامعة الجبل الغربي، من ليبيا.

([1]) الجامع لأحكام القرآن (تفسير القرطبي)، انظر: تفسير الآية 35 من سورة الروم.

([2]) تفسير ابن كثير للآية 144 من سورة النساء.

([3]) ابن قيم الجوزية، إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1: 98. الباب الثاني عشر في علاج مرض القلب.

([4]) إغاثة اللهفان من مصائد الشيطان 1: 98.

([5]) في هذا السياق قال ابن القيم: «الجمال سلطان على القلوب، وإذا بدا راع القلوب بسلطانه، كما يروعها الملك ونحوه ممن له سلطان على الأبدان، فسلطان الجمال والمحبة على القلوب، وسلطان الملوك على الأبدان» (روضة المحبين ونزهة المشتاقين: 35، الباب الثاني).

([6]) عبد الهادي عبد الرحمن، سلطة النص قراءات في توظيف النص الديني: 8.

([7]) المصدر نفسه: 9.

([8]) جعل الله من سنته في خلقه أن أتباع الحق هم الأقل، وأتباع الباطل هم الكثيرون، والقرآن والحديث يطفحان بشواهد توكّد هذه السنة، ومن ذلك مثلاً: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ…»؛ {وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ}؛ {وَإِن تُطِعْ أَكْثَرَ مَن فِي الأَرْضِ يُضِلُّوكَ}.

([9]) مثلاً: النظرية الماركسية وتطبيقاتها، والرأسمالية وتطبيقاتها، والإسلام وتطبيقاته، وكذا المسيحية، في كل هذه الأمثلة تبرز إشكالية المثالي والواقعي، أو النظرية والممارسة.

([10]) منير شفيق بين النهوض والسقوط: 53، الناشر للطباعة والنشر، ط3، 1992.

([11]) المصدر نفسه: 54.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً