أعدّ الحوار وأجراه: إيمان شمس الدين
1ـ الإصلاح ـ التجديد ـ الإحياء، كلها مصطلحات تبنّت مشروع الفكر الديني وموضوعاته الحيوية التي تمسّ عمق وواقع الحياة الإنسانية على الأرض. كيف بدأت مسيرة هذه المصطلحات بمدلولاتها نظرياً وعملانياً؟ وهل المطالبات هذه كانت تنظر للتجديد أو الإصلاح في الدين أو في قراءتنا له؟ وقد تنوّعت ردود الفعل تجاه هذه الخطابات والمشاريع الإصلاحية ـ إن اخترنا مصطلح الإصلاح ـ بين مؤيّد بإفراط ورافض بتفريط. من وجهة نظركم كيف أثرت ردود الفعل هذه على عملية التطوير والتغيير في راهن الأمة الإسلامية؟
أغلب الذين طرحوا مشروع الإصلاح في الفكر الإسلامي إنما كانوا يقصدون إصلاح فهومنا وقراءاتنا للمصادر الدينية، أي الكتاب والسنة، فلا يقصد هؤلاء تغيير واقع الدين الثابت أو ما كان ثابتاً من واقع الدين ممتدّاً في الزمان والمكان، وإنما الحديث عن كيفية فهمنا لهذا الدين، وكيفية تفاعلنا مع قيمه ومبادئه، وكيفية تحريك هذه المبادئ والقيم الثابتة في ظلّ العالم المتغير، أي كيفية ربط الثابت بالمتغير، وعدم بلوغ الثبات حدّ الإفراط مما يؤدّي إلى تجميد الحياة المتحوّلة، كما وعدم بلوغ التحوّل حدّ الإفراط بحيث يطيح بكل الثوابت ويجعل القيم والمرجعيات المعرفية للنفس البشرية عرضةً للاهتزاز والصيرورة.
من الطبيعي أن تنطلق حركة الإصلاح؛ لأنّ الأمة كانت في واقع متردٍّ وكانت كلّ المؤشرات تشير إلى تراجعنا على المستوى الثقافي والفكري والاجتماعي والسياسي والحضاري أيضاً، الغرب كان يتقدّم وما يزال ونحن ظللنا نتراجع قروناً وقروناً رغم وجود دول إسلامية كبيرة كالدولة العثمانية، وفي هذا السياق جاءت فكرة إصلاح المسلمين وقراءتهم للإسلام ونظمهم الفكرية؛ لأنّ هناك مشكلة في مكان ما؛ فالذي ينطلق من فكرة الإصلاح يعتقد بأنّ سبب تدهور الحال الإسلامية ليس هو الخارج فقط وإنما هو الداخل أيضاً، ولولا أنّ الداخل يعاني من نقص وخلل ما كان يمكن للخارج أن تكون له هذه القدرة والنفوذ على الداخل، ومن الطبيعي في ظلّ هذا السياق الذي أحاط عملية الإصلاح الديني منذ القرن التاسع عشر.. أن تتعدّد المواقف إزاءه بين مؤيد ومعارض.
وقد لعب تجاذب السلب والإيجاب من الإصلاح الديني دوراً في تطوير الإصلاح نفسه، وفي الوقت عينه إصابته بانتكاسات، والسبب في ذلك أنّ ردود الأفعال السلبية على حركة الإصلاح لم تكن بناءةً دائماً، فلم يكن الخائفون من الإصلاح ليتعاملوا معه من واقع إرادة الترشيد، وإنما في كثير من الأحيان من واقع الرفض والإلغاء؛ لأنّ المعارضين كانوا في الغالب تيارات تواجه الآخر بمقولة الاجتثاث، فتريد أن تلغي وجوده، وهذا ما أدّى إلى صعوبة إثبات الإصلاح الديني نفسه بوصفه مقولة شرعية، فظللنا عقوداً من الزمن نحاول أن نشرعن الإصلاح في الأمة، وحتى ساعتنا هذه لم يقتنع كثيرون بضرورة الإصلاح ولا حتى بشرعيته، فنحن نتصارع منذ قرن ونصف منذ رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني حول شرعية أمر يفترض أنّ شرعيته باتت وراء ظهورنا.
هذا النوع من ردود الأفعال السلبية ـ وليست هذه كلّ ردود الأفعال ـ أدّى أيضاً إلى شيء من ردود الأفعال السلبية المضادّة داخل التيارات الإصلاحية، فلم يكن الإصلاح في بداياته يحمل عناصر سلبية كثيرة، لكنّ طبيعة ردود الأفعال السلبية للغاية واستخدام أساليب القمع والترهيب والإقصاء والنفي والتجهيل في حقّه أدّى إلى ولادة تيارات متطرّفة فيه، وهذا أمر طبيعي أن تولد في ظلّ حالة القمع معارضة سلبية لا تقوم على أسس الحوار السليم، ورويداً رويداً ومع وجود مقوّمات ظهور هذه المعارضة ـ أعني بذلك مثل التيارات الماركسية التي كانت تستطيع أن تغذي أيّ حركة معارضة للدين ـ بدت على المشروع الإصلاحي معالم تطرّف ونتوء، وقد شاهدنا أنّ حالة التطرف هذه أدّت إلى فشل مشروع النهضة الدستورية في بدايات القرن العشرين.
2 ـ كيف أثر تداخل السياسي بالفكري والخلط بينهما مؤخراً على مسيرة المشاريع الإصلاحية؟
لا شك أن الفكرة تحتاج إلى قوّة السياسة بمعناها العام، لكنّ المشكلة أن ارتباط الفكري بالسياسي أخذ أشكالاً متعدّدة، ففي الوقت الذي كان عاملاً من عوامل النهوض والتقدّم كارتباط الفكري بالسياسي في مشاريع أمثال السيد موسى الصدر والأستاذ حسن البنّا والسيد محمد باقر الصدر والسيد الخميني وأمثالهم، حيث كانت السياسة وسيلة لإنفاذ المشاريع الإصلاحية في الأمة، إلا أننا شاهدنا شيئاً فشيئاً أنّ العنصر السياسي بدأ يترك تأثيرات سلبية على الفهم الإصلاحي؛ والسبب في ذلك يعود إلى أنك تارةً تريد أن تسود المفاهيم والقيم الدينية عالم السياسة وأخرى تريد أن تجعل من السياسة عاملاً لفرض الكثير من التحولات حتى في الرؤية الإصلاحية للدين؛ فعندما أقول: إنني أريد أن أديّن السياسة فيجب أن أنتبه إلى أن لا أجرّ ـ من حيث لا أشعر ـ إلى تسييس الدين، فالفرق بين ديننة السياسة وتسييس الدين دقيق جداً. والذي حدث مع بعض حركات الإصلاح الديني أنها عندما كانت تحقّق بعض المنجزات على مستوى امتلاك بعض مواقع النفوذ السلطوي في الحياة الإسلامية كانت تقوم لأجل مصلحة السلطة وبقائها ـ وهي منجز شرعي إيجابي ـ بإجراء تغييرات وأحياناً تلاعب في الصورة المنحوتة للرؤية الدينية عموماً، لمصلحة هذا الواقع السياسي. هذا الأمر ازداد صعوبة وترسّخاً في ذهنية الحركة الإصلاحية الإسلامية عموماً، فبدل أن تكون العلاقة بين السياسي والديني هي علاقة خدمة الآلة ـ أي السياسة ـ للمعرفة وللقيم، أي الدين والفكر، صارت العلاقة جدلية، بل يمكن أن نقول: إنها صارت أكثر من جدلية، أي صار الدين وقيمه ومقولاته في كثير من الأحيان رهينةً للوضع السياسي والمصلحة السياسية، وهذا ما أفقد الثقة بالمشروع الإصلاحي، وأطاح بتلك الصورة الرمزية المقدّسة له.
3 ـ الشهيد محمد باقر الصدر والشهيد مرتضى مطهري ومحمد إقبال والأفغاني ومحمد عبده وغيرهم أسماء لامعة في فضاء المشاريع النهضوية والمطالبة بالتغيير والإصلاح. إلى أيّ مدى استطاع هؤلاء فعلياً وعملانياً أن يغيّروا؟ وهل كان لأصواتهم صدى فعالاً كما يجب أم بقيت كلماتهم كنظريات في طيات الكتب حالها حال الكثير من النظريات التي تنهض بواقعنا؟ وما هي الأسباب الحقيقية وراء تعطيل أو عدم تفعيل هذه النظريات وعدم تبنيها بالطريقة المطلوبة؟
من الجليّ أنّ المشاريع النهضوية والرؤى اللامعة التي طرحها هؤلاء العظماء لعبت دوراً كبيراً في تغيير واقع أمتنا، رغم كلّ الأوضاع السلبية التي تعيشها الأمة، فبالتأكيد هناك مقولات كرّست اليوم بفضلهم بوصفها مسلّمات لم تكن كذلك من قبل، وصار أمرها خلف ظهورنا، وبتنا نضع أرجلنا عليها وننطلق منها إلى مرحلة أعلى، ولا شك أيضاً في أنّ النشاط السياسي الذي لعبه أكثر هؤلاء الذين تقدّمت أسماؤهم لعب دوراً أيضاً في القدرة على وضع المقولات النظرية والفكرية والإصلاحية موضع التنفيذ. لكنّ المشكلة الأساسية فيما أظنّ تكمن في أنّ حركة الإصلاح عندما حقّقت بعض المنجزات على أرض الواقع، فصارت لها أحزابها السياسية وحضورها في المجالس النيابية والبلدية، وفي أجهزة الدولة، أو غدت هي المالكة للدولة برمّتها، وتعاظم نفوذها الاجتماعي والمالي والاقتصادي والروحي، وتحوّلت إلى قوة كبيرة لها مؤسّساتها المدنية وغير المدنية.. عندما حدث هذا الوضع بدأت تعاني من تأرجح بين أن تتقدّم خطوةً نحو الأمام في إكمال المشاريع الإصلاحية وأن تحافظ على الخطوات التي تقدّمت بها.
هذه نقطة مهمة جداً، مثلاً أنت تستطيع أن تبذل جهداً كبيراً في أن تحصّل مقداراً من المال بعد أن لم يكن عندك شيء، ثم بعد أن تحصل عليه تضعف عندك الرغبة في المخاطرة؛ لأنّ المخاطرة حينها تعني أحد أمرين: إما أنك سوف تزداد ربحاً وتتضاعف الأموال التي بين يديك وهذا عامل محفّز للتقدّم إلى الأمام، أو أنّك ستخسر الذي صار بين يديك، وهذا عامل مثبّط يدفعك إلى الوقوف في مكانك.. في العادة وتحت تأثير ذهنيّة أنّ دفع المفسدة أولى من جلب المصلحة، يتمّ الإحجام ـ وخاصّة كلّما ارتفع حجم المنجزات السابقة ـ عن القيام بخطوات إصلاحيّة إضافيّة ما دامت المحافظة على المنجزات هدفاً منشوداً، وهذا ما يخلق حالةً من الترنّح، لا بل يصبح أيّ مشروع استمرار في الإصلاح الديني دون إذن مرفوضاً من قبل الإصلاحيين السابقين أنفسهم، وسيتحوّل هؤلاء إلى التيار التقليدي في الأمة؛ لأنهم لن يقبلوا بأن تقوم أيّ مشاريع تغيير وإصلاح من دون إذنهم، إما لأنّ ذلك يلحق الضرر بهم فيتبعون نظام المصالح والمفاسد أو لأنّه يعرّيهم!! وهذا ما أدى إلى ما نراه اليوم من تغييب متعمّد لبعض أفكار هؤلاء الرموز الإصلاحيين الذين جاؤوا في سؤالك؛ لأن إعادة استحضار الكثير من مقولاتهم يحمّل الحركة الإصلاحية مسؤوليات كبيرة ويدفعها للمزيد من الخطوات، الأمر الذي قد لا تكون مستعدّةً له في وضعها الراهن الذي جعلت نفسها فيه؛ لذلك يفضّل في المرحلة الحالية عدم تسليط الضوء على هذه الجوانب المغيّبة التي تستدعي مزيداً من خطوات التقدّم نحو الأمام.
أضف إلى ذلك، أنّ الكثير من النظريات الإصلاحية التي طرحت غلب عليها الطابع الكلياني في حديثها عن المبادئ؛ لأنّ الصراع حينها كان حول المبادئ، فلم تكن قد وضعت خطط ميدانية وتفصيلية وتطبيقية، لهذا نجد غياباً في بعض الأحيان لتطبيق نفس المبادئ الجديدة التي طرحت، مثل ما حصل مع نظريات: المنطق الاستقرائي، والتفسير الموضوعي، وحقيقة معارضة الحديث للقرآن، ونظرية الزمان والمكان وغيرها.
4 ـ من النظريات الهامة والتي لو تمّ تسليط الضوء عليها بشكل فعّال لنهض الواقع الفكري والفقهي بشكل كبير هي نظرية الأسس المنطقية للاستقراء التي طورها الشهيد محمد باقر الصدر كثيراً، لماذا إلى الآن لم يتم الحفر في هذه النظرية وتطويرها والعمل بها خاصة في مجالي الفكر الديني والفقهي؟
يجب أن نعي جيداً بأنّ العلوم الدينية عند المسلمين، بما فيها العلوم النقليّة، بنيت منذ مئات السنين على المنطق الأرسطي، فلا يمكن بيوم أو يومين هدم كلّ هذه البناءات التحتية لإعادة وضع بناء جديد لهذا الصرح الهائل المشيّد. هذا ببساطة كلّ ما حدث، فقد اشتدّ نفوذ المنطق الأرسطي وهيمنة العقل اليوناني حتى في العلوم النقلية كالفقه والأصول، لاسيما في الفكر الشيعي في القرون الهجرية الثلاثة الأخيرة، أي بعد انهيار الحركة الإخبارية، وفي وضع من هذا النوع يغدو من الصعب جداً إحداث زحزحة حقيقية في النظم، ولذلك لم نجد تفاعلاً يذكر أصلاً مع نظرية السيد الشهيد.
يضاف إليه أنّ مثل هذه النظرية ينظر إليها بعين الريبة؛ لأنّ المنطق الأرسطي يعتبر أن الاستقراء بالشكل الذي طرحه الصدر ليس علماً ولا ينتج يقيناً، فرغم اعتراف المنطق الأرسطي بالاستقراء لكنّه رأى أنّه لا ينتج علماً إلا في ظلّ وضع خاص يتحوّل فيه إلى قياس ضمن عملية معقّدة، لهذا يتم التعاطي بشيء من التحفظ مع الاستقراء بالصورة التي طرحها السيد الصدر؛ لأنّ اليقين بالمنطق الأرسطي هو إثبات شيء لشيء، وهذه قضية موجبة، واستحالة سلب ذلك الشيء عنه، وهذه هي القضية السالبة، فعندما لا تكون القضية السالبة موجودة فإنك لن تحصل على يقين، ولم يتمكّن الشهيد في نظريته الاستقرائية أن يؤسّس القضية السالبة التي تعني الاستحالة، وهذا ما سيبقي هذه النظرية بمثابة ثغرة يمكنها هدم بناءات اليقين في الفكر الإسلامي لتفسح المجال لتيارات الشك، وهذه مشكلة إضافية تواجه هذه النظرية في مناخ عقلي يوناني.
العنصر الآخر الذي جعل هذه النظرية مع الأسف الشديد لا تلقى رواجاً هو جيل تلامذة السيد الصدر أنفسهم، فلم يقم أغلب هؤلاء بشيء يُذكر في هذا الإطار سوى بضعة دروس هنا وهناك أو بضعة إشارات، وكثير منها يخضع لمنطق التبجيل والمدح السائد في دراساتنا التراثية، فلم يقم أحد بإكمال المشروع أو حتى تطبيقه تطبيقاً جاداً وفعالاً في العلوم الإسلامية، ولعلّ التطبيقات التي قام بها الصدر قد تكون أكثر من التطبيقات التي قام بها أبناء مدرسته الفكرية.
5 ـ بين قراءة النص وفهمه نظرية كبيرة قائمة على قدم وساق بين مختلف الكيانات الحوزوية والثقافية وظهرت الكثير من النظريات حول هذا الموضوع وبعضها تأثر بشكل كبير بما طرح في الغرب حول النص وفهمه. كيف تقرؤون هذه النظريات؟ وهل فعلياً هناك فجوة أو اختلاف بين حقيقة المراد من النص وواقع فهمه من قارئه؟ وكيف يمكن معالجة هذا الموضوع الحيوي الذي يمسّ واقع المسلم وحياته؟ وكيف يمكننا الخروج من واقعنا المستلب من قبل المتأثرين بالثقافة الغربية ونظرياتهم من جهة ومن قبل التقليديين الذين يقدّسون التراث بكل آفاته؟
في الحقيقة، هذا الموضوع موضوع إشكالي على المستوى النفسي، فعندما أفكّك بين الواقع وفهمه، الموضوع والذات، بين الأنا والهُوَ الخارجي.. فأنا أفسح المجال من جهة لتعدّد القراءات وزوايا النظر، كما أفسح من جهة ثانية المجال لاحتمال خطئي، لكنّ نظريّة الفصل بين الشيء وتصوّره تبعد عنّي مجال ملامسة الموضوع الخارجي نفسه، هذه هي المشكلة الأساسية في قراءة الناقدين لهذا المشروع؛ فهم يعتقدون بأنك عندما تفصل بين ما توصّلت إليه في ذهنك وبين الواقع الخارجي، فهذا معناه أنّك تُفقد العقل الإنساني كلّ ضمانات امتلاك الواقع، والذي يحصل على المستوى الإيماني هنا أنّ فقدان الضمانات يضعف روح الاندفاع والحماسة في المؤمن للتماهي مع المقولات الإلهية، ما دام لا ضمان في أن تكون مقولات إلهية حقيقيّة، فهي بالتأكيد فهومنا عن المقولات الإلهية، إذاً فعلى ماذا يضحّي؟! على شيء لا تعلم نسبته إلى الإله أو القرآن؟! على شيء هو أقرب إلى الذات منه إلى الواقع الموضوعي الخارجي؛ لأنني أقول: هذا فهمي للقرآن وليس هذا هو القرآن.
هذه هي المشكلة الأساسية في هذا الموضوع على المستويات الدينية، فإذا استطعنا أن نحلّ عقدها فسوف نحقق المصالحة بين الدين وأهمّ قيم ما بعد الحداثة، ومدخل الحلّ في تقديري يقوم على جماع المعالجتين: النفسية والمعرفيّة، وذلك عبر تعديلنا لمفهوم اليقين باستبدال اليقين الأرسطي باليقين الموضوعي، نستطيع أن ندّعي بأننا نملك علماً يضيء لنا الواقع الخارجي، ورغم أنّ هذه الإضاءة لا تطابق الواقع الخارجي بالضرورة؛ لأنّها تظلّ تحتمل الخطأ، إلا أنّها من النوع الذي لا يلقي في النفس تذبذباً، والسبب هو ترويض العقل على أن لا يبالي عمليّاً بهذا القدر من احتمال الخلاف، أي عندما يكون ضئيلاً جداً، فعندما تحقّق لي المعالجة المعرفية الموضوعية احتمالاً عالياً في إصابة الواقع، يأتي دور العنصر النفسي، الذي يسمّيه الصدر بالتوالد الذاتي، أنا أؤيّد د. عبد الكريم سروش في أنّ السيد الصدر وضع نظرية نفسية، لكن لا أعترف بأنّ هذه النظرية النفسية لا تكفي في المجال الديني، والسبب أنّنا نتعامل هنا مع العقل من موقع إمكاناته بهدف المعرفة للتوظيف والخير، لا المعرفة لأجل المعرفة، ولأنّ مفكّرنا المسلم ما زال مسكوناً بهاجس المعرفة لذاتها لم يتمكّن من هضم العنصر النفسي المشار إليه، إنّ نظرية اليقين الموضوعي هذه تجعل علاقتي بطريقة عمل الذهن وتصويب حركته وتجويد أدائه والرضا عنه بذلك لا فقط بإصابته الواقع، أكثر من علاقتي بتماهيه من الموضوع الخارجي، وهذا ما يمكنه معالجة ظاهرة القلق الموجود عند التيارات المدرسية في ما يتعلق بقضايا اليقين بالأمور الدينية، وبالأخص في المجالات التي يكفي فيها براءة الذمّة والعذر أمام المولى كما في كثير من القضايا الدينية، فنحن نستعين هنا لوضع مدخل لحلّ هذا المعضل بجهود العقل النظري والعملي معاً.
6 ـ هل هناك فجوة بين النصوص الحديثية والنصوص القرآنية في كيفية فهم النص وكيف يمكن إعادة قراءة نصّ الحديث في ضوء الفهم القرآني؟ وهل سيؤثر ذلك على راهن المسلمين وواقعهم الحياتي العملي؟
لا توجد فجوة بين فهم النصوص الحديثية والنصوص القرآنية، فإنّ هذه النصوص بصرف النظر عن مصدرها، جاءت لمخاطبة البشر متنزلةً لمستويات عقولهم، فالنصوص الحديثية والقرآنية يفترض أنّها تتّبع ـ من حيث المبدأ ـ آليات واحدة، لكنّ فهم النص الحديثي في ضوء النص القرآني أو فهم النص القرآني في ضوء النص الحديثي هو الذي يؤدّي إلى اختلاف النتائج. الحالة السائدة اليوم هي أنّ فهم النص القرآني يكون في ضوء النصوص الحديثية، وهذا هو الغالب عند المسلمين من حيث شعروا أو لم يشعروا، أمّا إذا عدّلنا الصورة وقلنا بأنّ فهم النصوص الحديثية يكون في ضوء القرآن الكريم، كما دلّت على ذلك أخبار عرض الحديث على الكتاب، فهذا معناه أن قيمة الحديث لا يكتسبها قبل عرضه على الكتاب؛ ليكون هو الذي يمنح الحديث حجيّته، من هنا نؤسّس لمبدأ مرجعية القرآن في نقد متن الحديث، فلا يصبح الحديث صحيحاً من مجرّد صحّة سنده كما يخيّل لبعضنا في أنّه يحتج بصحّة السند، بل لابد من إثبات صحّة متنه قبل تصحيحه، وأحد الطرق اللازمة لذلك هو عرضه على القرآن، وهذا معناه أنّ القرآن هو الذي يؤسّس للفهم الديني، وهذا ما يساعد على استبعاد كثير من النصوص الحديثية المقلقة إمّا من ناحية تعارضها فيما بينها لكثرة الأحاديث المتعارضة، أو من ناحية عدم انسجامها مع الأصول العامة في الإسلام، وبكلمة واحدة يمكنني القول: إن الكثير من عناصر القلق الموجودة في الأحاديث المبثوثة بين المسلمين ستصبح أقلّ وفقاً لهذه المعيارية القرآنية التي حصلنا عليها، وسندخل في عمليّة صهر لكل متناثر الحديث في البوتقة التي وضعها القرآن الكريم، وسنصبح أقرب لعقل النظرية منّا لعقل التفاصيل غير القارّة؛ نظراً لما يمتاز به القرآن من قواعد عامّة وكليّة.
7 ـ الإصلاح في مناهج الدراسات الحوزوية والذي طالب به الكثيرون، هل هناك فعلياً حراك عملي في هذا الاتجاه أم ما زالت المناهج التقليدية لها الفاعلية الكبرى واليد الطولى؟ وكيف يؤثر ذلك على مشروع إصلاح الفكر الديني برمّته؟
شهد إصلاح مناهج التعليم في الحوزات الدينية حركةً نشطة خلال العقود الأربعة الأخيرة، ولا شك أنّ هناك منجزات كبيرة جداً قد تحقّقت على المستوى الإداري والتنظيمي، لكن مع ذلك ما زلنا نشهد بعض المشاكل القديمة العالقة أو المستجدّة التي تعدّ إفرازاً لمشروع التجديد نفسه، فمثلاً هناك قلق من محاولات تتجه نحو تسطيح المعرفة الدينية، وهذه إشارة أثارها كثير من الناقدين على حركة إصلاح مناهج التربية والتعليم في الأزهر، حيث قالوا بأنّ مشاريع الإصلاح هذه سطّحت المعرفة الدينية وصار خريجو الأزهر بمستوى متردّ من الثقافة الإسلامية والدينية عموماً، يبدو لي أنّ هذه الخشية تسري اليوم إلى بعض المنجزات في تجديد مناهج التعليم عند الشيعة، فالمناهج الجديدة ينتابها الكثير من التقلّب، بحكم مرورها بفترة انتقالية، وهناك تبسيط مبالغ به أحياناً يسيطر على الكتاب الدراسي، وهذا ما يفتح ثغرة لمعارضي التجديد تسمح لهم بشنّ أعنف الهجمات الموثقة هذه المرّة ضدّ هذا المشروع.
المشكلة الثانية أنّ قضية الإصلاح تأخذ في الغالب طابعاً شكلانياً، فغاية الغايات إجراء بعض التعديلات الإدارية والتنظيمية، أو تغيير أساليب العرض والبيان، أما تغييرات جذرية أو حقيقية فنحن حتى الآن لم نجد شيئاً يُذكر من ذلك، ففي علم أصول الفقه مثلاً لم نجد سوى رغبة في إعادة كتابة تلك الأبحاث الأصولية القديمة في شيء من اللغة الواضحة والمنظمة بطريقة حديثة، أمّا القيام بتجديد جذري فلم يحصل، مثلاً لم تدخل إلى الآن إطلاقاً الدراسات الهرمنوطيقية المعاصرة التي تعنى بفهم النصوص، مع ضرورتها العالية كونها تمسّ الأغراض الرئيسة للبحث الأصولي، كذلك الحال في دمج النظريات الاجتهادية الجديدة خلال العقود الأخيرة في الأبحاث الفقهية والأصوليّة، إنّ التطوير في الفكر الاجتهادي يظلّ ـ مع الأسف ـ خارج إطار الدرس الرسمي في الحوزات، فلا تتناوله الكتب الدرسية ولا أبحاث الخارج في العادة، وهذا ما يشي بأنّه سيظلّ متحركاً في مدار مركزه الأفكار الأشدّ تقليديةً، وربما يمكن الاعتذار لذلك بضرورة الانتهاء من المرحلة الأولى للولوج في مرحلة ثانية.
8 ـ هناك آفات واضحة في الخطابات الدينية وفي خطاب المنابر الدينية باتت هاجساً مضراً بواقع المسلمين فمن الخطابات المذهبية إلى الخطابات الطائفية. كيف يمكن أن تؤثر هذه الخطابات الواسعة الانتشار على مشروع الوحدة وما هي العلاجات الناجعة لإعادة بناء خطاب إسلامي عالمي معتدل؟
إذا أردنا تشبيه هذه المشكلة، فانا أشبّهها بما كان يعرف في القرون الإسلامية الأولى بظاهرة القصّاصين، مركز المشكلة أنّ شرائح كبيرة من شعوبنا تسيطر عليها الذهنية الشفوية، والعقل الشفوي يتأثر بالخطاب الشفوي، وهذا الخطاب يعتمد بدرجة كبيرة جداً على القصّة، أي على الخيال، هذا معناه أنّنا ما دامت الذهنية شفويةً فحتى لو استخدمنا القلم سنبقى نتحرّك في مدار المؤثرات الخيالية، وفي هذه الدائرة من الطبيعي جداً أن لا نولّد معرفة حقيقية صارمة، وإنما ثقافة شعبية، ولاسيما عندما نحتكر المعرفة الحقيقيّة في ضمن دوائر مغلقة ونحظر تداولها إلا لفئة محدودة جداً، زعماً منّا أنّنا بذلك نحافظ على الحقيقة نفسها، هذه هي بالضبط ظاهرة القصّاصين التي حاربها بعض العلماء المسلمين من قبل، وهذا ما يجعل المنبر الشفوي الخيالي أكبر تأثيراً في مجتمعاتنا العربية من رجال الفكر والمعرفة الذين لا يملكون ثقافة شفوية، وإنما ثقافة تدوينية، والثقافات التدوينية هي التي تؤسّس لبناء حضارات.
أحد الحلول الهامّة في هذا الصدد الإعداد على المستوى المنبري، ولاسيما المنبر الحسيني، لمدارس جديدة لبناء كادر يستطيع غزو المنابر بشكل أو بآخر، ويكون ملمّاً بالأساسيات الفكرية لرؤية حركة الإصلاح التغيير في الأمة، علّه يمكن بذلك إيجاد نقلة في الأمّة من الشفويّة إلى التدوينية، إلى جانب إفساح المجال بل والسعي لتداول قضايا الفكر الديني خارج المؤسّسة الدينية؛ لأنّ هذا من شانه أن يعمّم الثقافة التدوينية العلمية.
النقطة الأخرى هي أنّه من الضروري وضع الخطباء المنبريين في حجمهم الطبيعي، وذلك عبر تحريض العلماء والمفكّرين والمجتهدين لنقدهم أمام الملأ وبصورة واضحة، إذ السكوت عنهم هو الذي جعلهم يتصوّرون أنّهم قادرين على قول ما يريدون ولو من غير دليل معتبر في مدارس الاجتهاد الإسلامي العريقة، لقد أخذ هؤلاء موقعاً أكبر من حجمهم الطبيعي بسبب سكوت العلماء في هذا المجلس وذاك عن تصويب حركتهم بطريقة بنّاءة لا تستهدف تشويههم ولا التنقيص من شأنهم، ومن الطبيعي أنّنا نتحدث عهنا عن الحالة الغالبة وإلا ففي الخطباء أنفسهم علماء ومفكرون بارزون والحمد لله.
9 ـ هل فعلياً لدينا أزمة ثقافة أم أزمة مثقف أم كليهما؟ وكيف يمكننا إعادة بناء صياغاتنا الثقافية لحاضرنا حتى نستطيع الولوج الجدّي في إعادة الوجود للحضارة الإسلامية، إذ إنّ الثقافة هي القاعدة الأساسية لأيّ منطلق حضاري فإن انطلقت الحضارة من أسس ثقافية سليمة أصبح بعد ذلك أحدهما يرفد الآخر؟
أعتقد أن لدينا في الفترة الراهنة أزمة ثقافة ومثقف معاً، ولا يمكن الخروج من هذه الأزمة في ظلّ الواقع الراهن، لديّ شيء من التشاؤم العقلي؛ لأنّ الثقافة لا يمكن بترها عن السياقات المحيطة، فما دام هناك استبداد في العالم الإسلامي سياسيّاً واجتماعيّاً وحتى أسريّاً، وما دامت حياتنا قائمة على عدم المشاركة واللاتعددية، في ظلّ كوننا الحلقة الأضعف في العالم، فمن الطبيعي أن يعجز المثقف عن فعل شيء، فالمثقف اليوم يشعر بالكثير من الإحباط، وأنّه لم يعد يملك دوره، وأنّه غير قادر على تحريك ربما عشر معشار الجماهير المسلمة؛ وهذا ما يدعوه إلى الخوف والانزواء وترك المشاريع التغييرية الكبرى، ويولّد مثقفاً مقاولاً، يبحث عن مصالحه الشخصية ويتنازل عن كل تلك القضايا الكبرى التي بات يشعر أنها بلا فائدة ما دام المناخ السياسي والاجتماعي والديني بهذا الشكل الصارم في قمعه وبطشه وظلمه.
هذا الإحباط العقلي لا يفترض أن يقود إلى يأس نفسي، فعلى المثقف أن يعمل في كل الظروف، من هنا ضرورة التداعي لتشكيل جبهة موحّدة لمتنوّري العالم الإسلامي، والانتقال من مرحلة الخطابات المنفردة إلى مرحلة الخطاب الواحد القادر على إيجاد تغييرات ما في حياتنا الإسلامية.
10 ـ هناك أزمة ثقة أو فجوة بين العالم والمثقف مما نتج عنه أزمة حضارة حقيقية هل هناك من معالجات حقيقية لهذه الأزمة خاصة أننا ننظر للمثقف الحقيقي على أنه الجسر أو القنطرة التي تصل بين الناس والعلماء؟
تفسيري لظاهرة الفجوة بين العالم والفقيه أو بين المثقف والفقيه يرجع إلى قضيّة السلطة بالدرجة الأولى والرغبة بالإمساك بها، أعني بالسلطة المعنى الأعم من المفهوم السياسي، فالفقيه يعتقد بأنّ المثقف يلهث خلف السلطة ليمسك قرار الأمّة والجماهير التي يمسكها هذا العالم، والمثقف يعتقد بأنّ هناك احتكاراً للمجتمعات المتديّنة من جانب الفقيه؛ ولذلك نجد المثقف ينتقد فكرة المرجعية والتقليد وولاية الفقيه، وفي الجانب الآخر نجد الفقيه ناقداً للاجتهاد خارج إطار المؤسّسة الدينية. هذا النوع من الخلاف على شكل من أشكال السلطة ـ وليس من الضروري أن يكون بالمعنى السلبي غير الأخلاقي للكلمة ـ هذا الخلاف هو الذي يؤدّي الى تعقّد الأمور، والحل الوحيد بنظري هو أن يقوم كل طرف بالتنازل عن قدر بسيط من رؤاه السلطوية في سبيل إيجاد نوع من المشاركة التي يستطيع من خلالها الطرفان معاً أن يشتركا في اتخاذ القرارات والنفوذ الجماهيري، وهذا ما يحتاج إلى الكثير من الدراسات الميدانية في تفاصيل وآليات صيغة المشاركة بين المثقف والفقيه في إدارة الأوضاع.
11 ـ نحن في محرم وما زلنا نرزح تحت وطأة مسألة حادثة الطف مما ساهم في تصغير حجم الحدث من العالمية إلى المذهبية لتغييب غاياته ومقاصده عن واقع الإنسان بما هو إنسان، ولذلك هناك طريق حافل بالمطالبات لتجديد أو إصلاح أو إعادة بلورة رؤية حقيقية حول الشعائر الحسينية تنسجم مع راهننا وتستطيع أن تملك خطاباً عالمياً إنسانياً يتناسب والغايات التي لأجلها استشهد الإمام الحسين %. كيف تنظرون لهذه المطالبات وهل فعلياً بدأت تخطو عملياً على واقع الأرض؟
من وجهة نظري أنا أؤيد كلّ أشكال المطالبة بإجراء تغييرات وإصلاحات في الشعائر الحسينية والسيرة الحسينية والمنبر الحسيني، لكن بشرط أن لا تؤدّي هذه الإصلاحات إلى إلغاء الجانب العاطفي في التفاعل مع القضية الحسينية؛ لأنّ الذي نفهمه من نصوص أهل البيت سلام الله تعالى عليهم هو الرغبة في بقاء هذا الجانب العاطفي، كما أنّ استمرار الشعائر التي من هذا النوع يكون من خلال البعد العاطفي أكثر من البعد الفكري، إذاً فنحن الآن بحاجة إلى وضع أساسين لتفاعلنا مع القضية العاشورائية: أساس العاطفة المتمثل في البكاء والحزن ومظاهرهما، وأساس العقل المتمثل في الفهم العقلاني للحدث وتوظيفه في إطار الممكن لما فيه المصلحة العامّة بهدف جعله جسراً ومعبراً للنهوض بأمتنا والتأسيس لثقافة النهضة والثورة والراديكالية حينما يحتاج الأمر إلى ثورة ونهضة وراديكالية. وعندما ندمج الفكر بالعاطفة نستطيع أن نحرك العاطفة في إطار القضايا الفكرية الصحيحة، بدل تحريك الفكر بمنهج تأويلي إرضاءً للعاطفة الشعبية، كما نستطيع تحريك الفكر في إطار احترام العاطفة وتقديرها وعدم التعالي عليها أو تسفيهها وتخطّيها، حينئذ يصبح اتّباعنا للإمام الحسين أو تأسّينا به في أن نجاهد كما جاهد، وبدل أن ندمي أجسادنا بأيدينا نقاتل ليدمي العدوّ جسدنا وبهذا يكون الاقتداء الحقيقي والتماهي.
12 ـ هل نحتاج إلى نقد للقراءة التاريخية وهل نستطيع أن نعيد قراءة التاريخ على أساس مقاصدي بمعنى أن ندرس مقاصد الحركات التاريخية من قبل المعصومين حتى نصنع حاضراً على أساس مقاصدية الحراك لنخرجه من دائرة القراءة المذهبية إلى دائرة القراءة الإنسانية؟
المؤسف أن المناخ المدرسي للمؤسّسة الدينية لم يشهد كثيراً ما بتنا اليوم نسمّيه بالقراءة التاريخية للفكر والحدث معاً، فعندما نُدخل الوعي التاريخي للأمور إلى جانب أشكال الوعي الأخرى نستطيع تكوين صورة واقعيّة بعيداً عن الإسقاطات الأيديولوجية.
لكن مشكلة القراءة التاريخية هو الأنموذج الغربي لها، فالمستشرقون مثلاً ومعهم الكثير من التيارات المحدثة يستخدمون المنهج الوضعي في قراءة التاريخ، وهذا المنهج يقصي في العادة أيّ عامل ديني ما فوق تاريخي في تفسير أيّ حدث، وعندما تكون القراءة التاريخية قائمة على الفلسفة الوضعية فمن شأنها حينئذ أن تفتّت كل المقولات الدينية.
لكن نحن بإمكاننا أن نتحدّث عن قراءة تاريخية تحافظ على كلّ عقلانية القراءة التاريخية آخذةً في الوقت نفسه العامل الديني بعين الاعتبار بوصفه عاملاً استطعنا في الدراسات الفكرية الأخرى أن نبرهن عليه وأن نثبته كحقيقة موضوعية؛ فالجمع بين القراءة التاريخية وبين الأساس اللاوضعي لهذه القراءة أو فلنقل الدمج بين الأسس الوضعية واللاوضعية للفهم التاريخي للأحداث من شأنه أن يطلّ بنا على رؤية تتخذ شكلاً مقصدياً لفهم التاريخ الإسلامي بما يتناسب مع البعد العقلاني في فهم هذا التاريخ، ومع المقاصد الذي أرادها الدين من خلال الأحداث التي وقعت في هذا التاريخ الديني أو ذاك.