حرية الدين والعقيدة في الإسلام
مطالعة فقهية
الشيخ محسن كديور(*)
ترجمة: علي الوردي
تمهيد
تعني حرية العقيدة والمذهب فيما تعني: امتلاك حق الاختيار بالتمسك بأي عقيدة أو مذهب، كما تعني: حرية إبراز العقيدة وبيانها، وممارسة الطقوس والشعائر المذهبية، وتعليم المبادئ الدينية للأطفال والناشئة، وتعني كذلك: حرية الدعوة والتبليغ وترويج التعاليم والقيم الدينية في المجتمع، وحرية إنشاء دور العبادة، كذلك تعني: حرية ترك الإيمان والخروج من الدين (الارتداد)، وترك الممارسات الدينية ونقدها، بشرط أن لا يؤدي ذلك إلى التعدّي على حقوق الآخرين ومصادرة حرياتهم والإخلال بالنظام والسلوك العام.
إنّ حرية المذهب والعقيدة إنما تتحقق في حال لم تتحول ديانة الشخص وعقيدته ـ أياً كانت ـ إلى جريمة من شأنها مصادرة حقوقه الفردية والاجتماعية في الحياة.
لقد اشتهر إسلامياً أنّ الناس على ثلاث طوائف: مسلمين وأهل الكتاب وكفار. وكل طائفة من هذه الطوائف الثلاث مقيدة بجملة من القيود تجاه الأُمور المذكورة ـ أي تجاه عناصر حرية العقيدة والمذهب ـ ومن ثَمَّ فإنّ كل طائفة لا تتمتع، بشكل أو بآخر، بحرية العقيدة والمذهب، بحسب المنظور الإسلامي طبعاً، ويمكن اكتشاف ذلك من خلال العودة إلى مجموعة من الآيات والأحاديث.
ومن وجهة نظر الكاتب فإنّّ حرية العقيدة والمذهب تتمتع بحسن عقلي، أي إنّ هذه الحرية ممدوحة وممضاة لدى العقلاء، والقرآن الكريم من خلال سبعة من غرر آياته الكريمة التي تتحدث عن طبيعة الدين القويم والعقيدة الصحيحة قد أقرّ الكثير من الديانات والعقائد المنتشرة هنا وهناك، وترك حرية اختيار العقيدة للناس، وتصدّى بشدة للإكراه في الدين، ولم يشرع عقوبة دنيوية لمن أساء في اختيار
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
(*) أستاذ جامعي وكاتب معروف، متخصّص في الفلسفة والفكر السياسي، من إيران.
العقيدة، بالرغم من أنه وعد المبطلين والمناهضين للحق بالعذاب الأخروي.
إنّ الأدلة التي تبيح إعدام المرتد ساقطة عن الاعتبار لثلاثة أسباب، وإنّ أحكام الذميين هي كأحكام الرقيق من الأحكام القرآنية التي تحكمها الظروف الزمنية.
وأما الجهاد فالمراد منه إزالة العقبات الكأداء المفروضة على المجتمعات غير الإسلامية لكي يتمكن الناس في تلك المجتمعات من ممارسة حرياتهم في اختيار الدين والعقيدة التي يشاؤون.
إذاً يمكننا من خلال التجديد في الاجتهاد، ومن خلال الاعتماد على المبادئ الأصيلة للكتاب والسنة، الوصول إلى حرية العقيدة والمذهب في الإسلام.
إنّ قبول التعددية والتنوُّع في العقائد والمذاهب من أبرز مقومات نظرية حوار الحضارات، وذلك أنّ الحضارات تمتلك ثقافات مختلفة، والثقافات المختلفة ناشئة من عقائد وديانات ومدارس مختلفة، إذن فحوار الحضارات لا يمكن تصوره بعيداً عن حرية العقيدة والمذهب.
إنّ الثقافة السائدة في إيران ـ والتي تتبنى وتدعو لحوار الحضارات ـ تستمد جذورها من الإسلام نفسه، في حين نجد أنّ الفهم الظاهري للإسلام ـ سواء السائد أم الرسمي ـ لا يعكس عن الإسلام صورة يتبنى من خلالها حرية العقيدة والمذهب.
من هنا جاءت هذه الدراسة التي نأمل من خلالها تقديم قراءة جديدة عن الإسلام باعتباره مؤسساً ومتبنياً وداعماً للتعددية الدينية وحرية العقيدة والمذهب.
ومن أجل الوصول إلى هذه القراءة لابد أولاً وقبل كل شيء من استعراض جملة من التساؤلات التي قد نستطيع من خلال الإجابة عليها تحديد موقف الإسلام من التعددية الدينية وحرية العقيدة والمذهب.
ما المراد من حرية العقيدة والمذهب؟ وما هو محل هذه الحرية من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان؟ ما هي الرؤية الإسلامية السائدة لموضوع حرية العقيدة والمذهب؟ وما الجدوى الدينية لهذه الرؤية؟ أي إلى ماذا تستند هذه الرؤية الإسلامية؟ وأساساً هل الحرية في العقيدة والمذهب ضرورية ومفيدة أم هي أمر عبثي يفضي إلى الفوضى؟
إنّ ما نفرضه في هذه المقالة هو أنّ الحرية في العقيدة والمذهب أمر إيجابي وضروري، والعثور عليه في الإسلام يتطلب مراعاة جملة من العناصر الدينية، كما يتطلب استنباطاً جديداً لمجموعة من الأحكام الفقهية.
ومشروعنا البسيط هذا يصب في ذات الاتجاه، وهو يتألف من عدة أقسام: أولها يتناول المصطلحات الرئيسية ويسلط الضوء عليها، وثانيها يتناول موضوع حرية العقيدة والمذهب من وجهة نظر إسلامية إلى جانب استعراض الأدلة المساقة لإثباته أو نفيه.
أما القسم الثالث فيكرس لإثبات إيجابية هذا الموضوع والفوائد المترتبة عليه.
والقسم الرابع نتفرغ فيه لمراجعة النصوص الإسلامية واستخراج الجذور الدينية لموضوع حرية العقيدة والمذهب، بالإضافة إلى نقد الفهم التقليدي السائد.
ونظراً لأهمية الموضوع وحساسيته فإننا مستعدون لاستقبال جميع النقود والمؤاخذات الموضوعية التي تؤخذ عليه.
توضيح المصطلحات وتفكيك المداخل
من جملة المفردات المستخدمة في هذا المقال: الحرية، والعقيدة، والمذهب، والإسلام، والفهم السائد، وإعلان حقوق الإنسان.
وبعد أن نسلط الضوء بشكل إجمالي عليها، نتناول موضوع حرية العقيدة والمذهب من زاوية الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الذي حدد تعريفاً لكل واحدة من هذه المفردات.
الحرية: وهي حق نظري وتطبيقي يمتلكه الإنسان في جميع المجالات إلاّ في حال أدى ذلك الحق إلى التطاول على حقوق الآخرين أو كان مخلاً بالنظم والأخلاق العامة.
المعتقد أو العقيدة: وهي مجموعة الاتجاهات والنظريات والآراء والمعتقدات والأفكار (الأيديولوجيات) التي تكوّن لدى المرء رؤيته للكون والمجتمع والتاريخ والإنسان والدين والثقافة، ويشمل ذلك كل عقيدة محترمة وصحيحة ومفيدة وراجحة بالنسبة للمعتقد بها. حتى لو كانت هذه العقيدة باطلة أو كاذبة أو مضرة أو منحرفة في رأي الآخرين.
المذهب أو الدين: وهو كل عقيدة تتمخض عن رؤية شاملة للإنسان والكون، ببعديه المادي والغيبي إلى جانب منظومة من التعاليم والقيم الأخلاقية والعبادات والطقوس التي يرى صاحب هذه الرؤية أنّ تمسكه بهذه التعاليم والعبادات ـ التي جاء بها الرسل والأنبياء ـ سيوصله إلى السعادة الدنيوية والأُخروية.
حرية المعتقد: وهي أن يكون للإنسان حق الانتماء لأي ديانة وعقيدة شاء، كما أنها تعني امتلاك الإنسان حرية التفكير والاعتقاد والتعبير والتعليم والترويج لعقيدته وممارستها مادامت هذه الممارسة لا تؤدي إلى التعدّي على حقوق الآخرين أو تكون مخلّة بالنظم والأخلاق العامة.
ونؤكد على أنّ حرية العقيدة لا يمكن لها أن تتحقق في حال أدت إلى مصادرة حق الآخر، سواء كان هذا الحق فردياً أم اجتماعياً، وليس مهماً طبيعة هذه العقيدة أو نوعيتها، وإنما المهم فيها عدم التعدّي على حقوق الآخرين.
حرية الدين والمذهب: وتعني امتلاك الإنسان حرية الانتماء والتمسك بأي دين أو مذهب شاء، وتشمل حرية الانتماء والتعبير والإعلان عن المذهب والترويج له وممارسة الشعائر والطقوس وتربية الأطفال عليها وتشييد دور العبادة، كما تعني هذه الحرية أن يكون المرء مختاراً في ترك المذهب والخروج من الدين (الارتداد) وترك ممارسة الشعائر والطقوس والتعاليم الدينية ونقدها والتصدي لها.
وكل ذلك متاح ومعني بهذه الحرية، إلاّ في حال أدى إلى التعدّي على حرية الآخرين أو كان مخلاً بالنظم والأخلاق العامة.
إذاً فحرية الدين والمذهب ـ أي دين كان ـ إنما تتحقق في حال لم تعد تجاوزاً أو تؤدي إلى مصادرة حقوق الآخرين الفردية والاجتماعية.
الإسلام: ويعني الإيمان بالله والمعاد وبنبوة محمد بن عبد الله’ وأنه خاتم المرسلين من قبل الله تعالى.
القرآن الكريم: وهو عبارة عن منظومة الوحي الإلهي الذي أنزله على نبيه محمد’.
سنة رسول الله’: وتعني قول النبي وفعله وتقريره.
والقرآن والسنة يشكلان المصدر الأساسي للتشريع الإسلامي ولدين الإسلام بصورة عامة.
التسنن والتشيع: وهما أبرز المذاهب الإسلامية وأشملها.
فالتشيع يعني اتخاذ تراث أهل البيت^ وتفسيرهم مصدراً دينياً ثالثاً يلي القرآن والسنة النبوية.
أما التسنن فلا يقر بعصمة شخص آخر غير النبي’، على الرغم من إقراره بسنة صحابة النبي والعمل بها.
الفهم السائد للإسلام: ويشمل كل ما فهم من الكتاب والسنة وانعكس في كتب الفقهاء والمتكلمين وعلى ألسنتهم، ومن ثم تحول إلى ثقافة إسلامية سائدة في أرجاء العالم الإسلامي، بحيث يشكل انطلاقة لعمل المسلمين وممارساتهم، ويمكن التعبير عنه بالفهم التقليدي للإسلام.
وأغلب الأحيان يكون هذا الفهم سائداً في المجتمعات التي تسيطر عليها الحكومات الإسلامية.
وقد واجه هذا الفهم في عصرنا الحاضر الكثير من النقود والمؤاخذات من قبل المتدينين الإصلاحيين، وقد قدم هؤلاء فهماً جديداً للكتاب والسنة (وسيرة أهل البيت^ في المذهب الشيعي).
مواثيق واتفاقيات حقوق الإنسان: وتشمل كل ما تم التوافق عليه وإقراره في المحافل الدولية من إعلانات ومواثيق وبروتوكولات تتعلق بحقوق الإنسان، (بحيث يحرز الميثاق موافقة كل الأعضاء من دول العالم أو الأكثرية المطلقة)، ويكون هذا الميثاق بمثابة معيار لرصد أداء الدول في تطبيق حقوق الإنسان على أراضيها.
ويمكن للدول الموقعة على الميثاق أو البروتوكول أن تضع شروطاً مقابل توقيعها أو توقع من دون أي شروط.
إن بين أبرز المواثيق والعهود الدولية لحقوق الإنسان والمتعلقة بحرية العقيدة والمذهب ما يلي:
المواد 2 و18 و19 و26 (البند 2 و3) و29 (البند 2) من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
و المواد 2 (البند 1) و18 و19 و20 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية([1]).
حرية العقيدة والمذهب في الفهم الإسلامي السائد
يقسم الناس بحسب دينهم وعقيدتهم إلى ثلاث طوائف: الطائفة الأولى: المسلمون، والثانية: اليهود والمسيحيون، والثالثة: سواهم من الديانات والمذاهب الأخرى.
وقد أقر الإسلام ـ أو الفهم الإسلامي السائد ـ لكل من هذه الطوائف جملة من الأحكام والمقررات، وسنستعرض هذه الأحكام معتمدين على أبرز المصادر الإسلامية، ومن ثم نتحول إلى بيان أدلتها التفصيلية.
1ـ المسلمون وحرية الاعتقاد
الحق الذي يمتلكه المسلمون في الإعلان عن دينهم ومعتقدهم وممارسة الشعائر الإسلامية بصورة فردية أو جماعية وتربية أبنائهم على الدين الإسلامي وترويجه والتبليغ له، وبناء المساجد مما لا اختلاف عليه.
كما للمسلمين الحق في نقد الأديان الأخرى وإظهار عيوبها وبيان أفضلية الدين الإسلامي عليها.
كما لا يحق لأي جهة أو فرد إكراه المسلم أو إجباره على ترك دينه ومعتقده أو منعه من ممارسة الشعائر الدينية.
وهذا كما قلنا مما لا اختلاف فيه ولا شبهة.
لكن هناك جملة من الأحكام، سنذكرها أدناه، لم تؤخذ فيها حرية العقيدة والمذهب بنظر الاعتبار، وهي:
أولاً: إنّ المسلم لا يمتلك حرية تغيير دينه، كأن يتحول إلى المسيحية أو البوذية أو يكون ملحداً على سبيل المثال.
والمسلم الذي ترك دينه تحت أيّة ذريعة سيحكم عليه بالارتداد، ومن ثَمَّ سيواجه أقسى العقوبات.
إنّ المسلم الذي ولد واختار الإسلام عند بلوغه، أي المولود على فطرة الإسلام، إذا ارتد فستترتب عليه الأحكام التالية:
1ـ لا يقبل منه الإسلام. 2ـ ويقتل إذا ظفر به. 3ـ وتبين منه زوجته بنفس الارتداد وتلزمها عدة الوفاة 4ـ ويصير ماله ميراثاً لورثته المسلمين.
أما المسلم الذي لم يولد على فطرة الإسلام، أي لم يكن أبواه أو أحدهما مسلمين، والذي اختار الإسلام بعد بلوغه، إذا ارتد يستتاب إلى ثلاثة أيام، فإن تاب قبلت توبته، وإن لم يتب في الثلاثة قتل، وبانت منه زوجته بمجرد الارتداد.
والمرأة المسلمة إن ارتدت، فأولاً: بانت عن زوجها في الحال من غير طلاق ولزمتها عدة الطلاق، وثانياً: تستتاب فإن تابت قبل منها وإن لم تتب حبست وأضرّ بها، وتستمر على هذه الحال حتى تتوب أو تموت.
فالنتيجة أنّ المسلم إن ارتد ولم يشأ العودة إلى الإسلام، فإن كان رجلاً قتل، وإن كان امرأةً حبست وأُضرّ بها([2]).
وثانياً: إنّ المسلم لا يمتلك الحرية في إنكار ما أجمع عليه علماء الإسلام ـ ولو على المستوى النظري فقط ـ فإنه لو أنكر أمراً يعد ضرورياً في ذلك الزمان، واعتبر إنكاره جحوداً بالرسالة وتكذيباً للنبي’ وإنقاصاً لشريعته، فهذا الشخص يعد مرتداً وتطبق عليه أحكام المرتد حتى لو ادعى أنه لا يزال على الإسلام([3]).
إنّ الفهم السائد لعلماء الإسلام من بعض النصوص الدينية يدفعهم لإصدار أحكام مماثلة للأحكام المتقدمة على غرار ما جرى على مرّ التاريخ، فالكثير والكثير اتهموا بالكفر وصدرت بحقهم أحكاما بالارتداد جرّاء مثل هذا الفهم السائد([4]).
وثالثاً: الصبي، إن كان أبواه أو أحدهما مسلماً وبلغ الحلم، فإنه ليس حراً في أن ينتحل غير الإسلام ديناً، ولو كان كذلك، أي دان بغير الإسلام، فتترتب عليه أحكام المرتد الملي التي تقضي بإستتابته فإن لم يتب، إن كان رجلاً قتل وإن كان امرأة حبست وأُضرّ بها حتى تتوب أو تموت([5]).
رابعاً: لا يمتلك المسلم الحرية في الإحجام عن الواجبات الدينية، كما لا يمتلك الحرية في الإتيان بالمحرمات، وإن تصرف على هذا النحو عالماً عامداً يعزر من قبل الحاكم الشرعي([6])، وأبرز مصاديق التعزير الجلد.
2ـ أهل الكتاب والحرية الدينية
المراد من أهل الكتاب كل من اليهود والنصارى والمجوس (الزردشتيون) بلا إشكال ولا خلاف، بل الصابئة أيضاً على الأظهر([7])، ولا يلحق بهم غيرهم من أصناف الكفار والمشركين([8]).
ويجب على المسلمين محاربة أهل الكتاب وتخييرهم بين أمرين: اعتناق الإسلام أو إعطاء الجزية عن يد وهم صاغرون، فإن التزموا بشروط الذميين صينت أنفسهم وأموالهم وأعراضهم.
ولا حد للجزية وإنما تقديرها إلى الوالي أو ولي الأمر بحسب ما يراه من المصالح والظروف، وعلى عاتقه أيضاً تطبيق معايير الذميين على النحو الذي يؤدي قدر الإمكان إلى إسلامهم.
وللذميين الحق في الإعلان عن دينهم والإبقاء على معابدهم بعد استجازة ولي الأمر، كما لهم الحق في ممارسة الطقوس والشعائر الدينية سواء كانت الممارسة فردية أم جماعية، وبإمكانهم تعليم عقيدتهم..
ويحق للذمي الخروج عن دينه واعتناق دين آخر (بشرط أن يكون هذا الدين الجديد مقراً من قبل الدين السابق الذي كان منتمياً له)، وباستطاعة الذمي الدخول إلى الإسلام في أي وقت شاء بعد الخروج عن دينه.
وهناك جملة من أحكام أهل الذمة تتنافى مع مبدأ الحرية، وهذه الأحكام هي:
أولاً: لا يحق لأهل الذمة تنشئة أولادهم على التدين بدينهم ـ سواء اليهودية أو النصرانية أو المجوسية أو نحوها ـ بأن يمنعوهم من الحضور في مجالس المسلمين ومراكز دعوتهم للدين والاختلاط مع أولادهم، بل عليهم تخلية سبيلهم في اختيار الطريقة، وبطبيعة الحال إنهم يختارون الطريقة الموافقة للفطرة، وهي الطريقة الإسلامية([9]).
ثانياً: لا يجوز لأهل الذمة إحداث الكنائس والبيع والصوامع وبيوت النيران في بلاد الإسلام([10]).
ثالثاً: ليس للكفار، ذميين كانوا أم غيرهم، تبليغ مذاهبهم الفاسدة في بلاد المسلمين وتضعيف الإسلام والإنقاص من شأنه([11]).
رابعاً: ـ ومن باب أولى ـ لا يحق للذميين نقد التعاليم والمبادئ الإسلامية أو الطعن فيها.
خامساً: لا يجوز لأهل الذمة التجاهر بما هو سائغ في شرعهم وليس بسائغ في شرع الإسلام([12]).
سادساً: لا يجوز للذمي الانتقال إلى دين سوى الإسلام أو النصرانية أو اليهودية أو المجوسية وإلاّ قتل([13]).
سابعاً: إذا أخلّ أهل الكتاب بشرائط الذمة بعد قبولها خرجوا من بلاد المسلمين ولم يجز لهم المكث فيها، وعندئذ هل على ولي الأمر ردهم إلى مأمنهم أو له قتلهم أو استرقاقهم؟ فيه قولان([14]).
3ـ الكفار
وهم غير المسلمين، سواء كانوا من أهل الكتاب ممن لم يقبل شروط أهل الذمة أو كانوا من الكفار المشركين، فهؤلاء يعدون كفاراً حربيين يجب دعوتهم إلى كلمة التوحيد والإسلام، فإن قبلوا وإلا وجب قتالهم وجهادهم إلى أن يسلموا أو يقتلوا([15]). وتسبى نساؤهم وأطفالهم وتسترق، وتكون أموالهم وأراضيهم غنائم للمسلمين([16]).
وعلى الرغم مما اشتهر بين فقهاء الشيعة من عدم جواز الجهاد الابتدائي في عصر الغيبة([17])، إلاّ أنّ عصرنا الحاضر شهد جدلية واسعة وآراء طرحها فقهاء معاصرون حول عدم سقوط وجوب الجهاد في عصر الغيبة وثبوته في الأعصار كافة لدى توفر شروطه وعدم إناطة ذلك بحضور المعصوم([18]).
والحاصل أنّ غير المسلم إن لم يكن ذمياً فهو لا يملك حق الحياة، ومن باب أولى ـ كما يقولون ـ فهو لا يملك أي حق من الحقوق الإنسانية الأخرى.
يترتب على ذلك أن أحكام الكفار لا تلتقي مع مبدأ الحرية وتتنافى معه بشكل تام.
وبالنظر لما تقدم من أحكام الطوائف الثلاث نستنتج أنّ الفهم السائد للإسلام إن حالفه النجاح في بسط نفوذه وتمسكه بزمام الأُمور، فإنّ حرية العقيدة والمذهب في ظل هذا الفهم سوف لن يبقى لها معنى وستغيب إلى الأبد.
و نظراً للمحاور السابقة فإنه ليس من الغريب أن لا يتمخض عن الفهم التقليدي السائد للإسلام مبدأ حرية الدين والعقيدة.
وسنلخص هنا أبرز الأدلة التي يستدل بها على الأحكام المتقدمة، وسنختار من بين كل طائفة من الأحكام حكماً واحداً ونستعرض أقوى دليل سيق للاستدلال عليه.
والأحكام الثلاثة التي سوف نختارها ونتعرض لأدلتها هي: قتل المرتد عن إسلام، وأخذ الجزية من أهل الكتاب، ومصادرة حق الحياة من الكافر غير الذمي.
أما حكم قتل المرتد عن إسلام فقد اعتمد فيه على مجموعة من الأحاديث.
فاستدل أهل السنة بالحديث النبوي القائل: >من بدل دينه فاقتلوه<([19]).
واستدل فقهاء الشيعة على قتل المرتد الفطري بموثوقة عمار الساباطي، قال: سمعت أبا عبد الله× يقول: >كل مسلم بين مسلمين ارتد عن الإسلام وجحد محمداً’ نبوته وكذبه، فإن دمه مباح لمن سمع ذلك منه، وامرأته بائنة منه يوم ارتد، ويقسم ماله على ورثته وتعتد امرأته عدة المتوفى عنها زوجها، وعلى الإمام أن يقتله ولا يستتيبه<([20]).
واستدلوا على حكم المرتد الملي بصحيحة علي بن جعفر الذي قال: سألته (أي أخاه أبا الحسن موسى بن جعفر×) عن مسلم تنصّر، قال: >يقتل ولا يستتاب<، قلت: فنصراني أسلم ثم ارتد، قال: >يستتاب، فإن رجع وإلاّ قتل<([21]).
وفي ما يتعلق بحكم المرأة إذا ارتدت استدلوا بصحيحة حماد عن الإمام الصادق× قوله: >لا تقتل وتستخدم خدمة شديدة وتمنع الطعام والشراب إلا ما يمسك نفسها، وتلبس خشن الثياب وتضرب على الصلوات<([22]).
وبالنسبة إلى مصادر أحكام أهل الذمة أو الذميين فأبرزها الآية القرآنية: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لاَيُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَلاَ بِاليَوْمِ الآخِرِ وَلاَيُحَرِّمُونَ مَاحَرَّمَ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَلاَ يَدِينُونَ دِينَ الحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الجِزْيَةَ عَن يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ}([23]) .
وأبرز مصادر أحكام الكافر غير الذمي مأخوذة من القرآن أيضاً، وهي هذه المجموعة من الآيات:
{وَقَاتِلُوا المُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً}([24]).
{فَإِذَا انسَلَخَ الأَشْهُرُ الحُرُمُ فَاقْتُلُوا المُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدتُّمُوهُمْ وَخُذُوهُمْ وَاحْصُرُوهُمْ وَاقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِن تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ}([25]).
{وَقَاتِلُوهُمْ حَتَّى لاَتَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلّهِ فَإِنِ انتَهَوْا فَإِنَّ اللّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ}([26]).
إذن لو دققنا في الأدلة التي تقدمت لوجدنا أنّ الفهم السائد والتقليدي للإسلام يمتلك مجموعة محكمة وقوية من الأدلة القرآنية والروائية، مما يجدر بنا أن نتوقف لمناقشتها، وهذا ما سيكون في القسم الرابع من هذه الدراسة.
الحرية العقائدية والدينية، أهميتها وإيجابياتها
بعد أن فرغنا من بحث المسألة من زاوية روائية وحديثية نتاولها في هذه المرحلة من ناحية عقلية لنستعرض وجهة النظر العقلية أو المنطلق العقلي الذي ينطلق منه المعترضون على حرية العقيدة والمذهب، ثم نمحص هذا المنطلق ونستعرض أهم ركائزه ونقاط الضعف فيه، ومن ثم ننقده لنصل في النهاية إلى إبراز ما تنطوي عليه حرية العقيدة والمذهب من إيجابيات ومصالح.
إنّ موضوع حرية العقيدة والمذهب ليس من المواضيع التعبدية الوقفية التي لا يمكن للعقل البشري أن يبت فيها أو أن يدرك المصالح المترتبة عليها، كما هو الحال في بعض العبادات كالصلاة، فقد لا يسع العقل البشري أن يدرك الحكمة من ثنائية بعض الصلوات ورباعية الأخرى، بل هو من المواضيع التي تشتمل على مساحة واسعة للنقاش، وإن كل شخص أبدى رأياً في هذا الموضوع ـ سواء كان إيجابياً أم سلبياً ـ فإن رأيه جاء بعد احتساب مقدار المصالح المترتبة على حرية العقيدة والمذهب أو المفاسد الناجمة عنها.
وهذا هو حال العلماء والفقهاء والمتكلمين، فإن الذي ناهض مبدأ حرية العقيدة والمذهب لم تكن مناهضته لها إلاّ بسبب ما أحصاه من المضار والمفاسد التي فاقت، بحسب رأيه، المصالح المترتبة عليها، وبخلافه الذي أيد ودعم هذا المبدأ فإنه إنما قام بذلك لرجحان كفة المصالح والفوائد المترتبة على هذه الحرية.
إذن فهذا الموضوع يعتبر موضوعاً مرناً ويمكن التعاطي معه معرفياً، وليس من المسلمات أو الثوابت العقلية التي لا تقبل الجدل، ولو كان ثابتاً عقلياً لنوقش في مرحلة الدراسات العقلية، المتقدمة على مرحلة الدراسات الروائية.
وبغض النظر عن عقلانية هذا الموضوع أو عدم عقلانيته، فإن مبدأ حرية العقيدة والمذهب يعتبر مبدأً متقدماً على الأديان وسابقاً لها، أي إنّه يأتي في مرحلة تسبق مرحلة اختيار الدين، إذ إن قبول هذا المبدأ هو الذي يمنح الحرية لاختيار الدين والعقيدة.
فالدين الذي يؤكد على أهمية التروي والفحص والاستدلال من أجل اعتناق العقيدة، ويمنع التقليد واتباع الآباء والأجداد، هل يعقل أنه لا يتبنى حرية العقيدة والمذهب؟
إذن من السذاجة أن نسبق نتائج الفحص والاستدلال لنقول بأنّ الناس أحرار في اختيار دين محدد من بين الأديان، ومما لا شك فيه أنهم سيختارون الإسلام!
فهذه مقولة متهافتة كما هو الظاهر منها؛ لأنّ الناس إن كانوا أحراراً فلا يسعنا إحراز النتائج مسبقاً، وإن كانوا مضطرين إلى اعتناق الإسلام فحينئذ لن يكونوا أحراراً.
ما هو الفرق يا تُرى بين الشخص الذي ولد في بيئة إسلامية وكان أبواه مسلمين فنشأ مسلماً، وبين المسيحي الذي ولد في بيئة مسيحية ولأبوين مسيحيين وانتهى به المطاف مسيحياً؟!
إن الاختيار الواعي للإنسان هو الذي يشكل محور الثواب والعقاب، بل هو محور العقائد والتدين بصورة عامة، ولو فرضنا أنّ هناك ديناً لا يعترف بحرية العقيدة والمذهب، إذاً كيف يتوقع وجود أناس أحرار ستمكّنهم حريتهم من اعتناقه، وبعد اعتناقه سيصادر حريتهم؟!
ومن المؤسف القول: إن هذا المبدأ، أي حرية الدين والعقيدة، لم ينل حتّى هذه اللحظة حظاً وافراً من البحث والدراسة من قبل العلماء والفقهاء، لذلك فإنّ جذوره الفقهية والكلامية لم تنقح وتحقق، وعليه لا تزال غير واضحة المعالم، وهذا الأمر قد أدّى إلى صدور فتاوى وأحكام فقهية قاصرة بعض الشيء ومخالفة لجملة من المبادئ الدينية العامة والأسس الكلامية، وذلك من قبيل: حكم المرتد وشروط الذمي ومصادرة حق الحياة من الكافر غير الذمي.
نظرة نقدية للأسس التي اعتمدها المناهضون لحرية العقيدة والمذهب
يمكننا أن نوجز أدناه بعض المنطلقات الفكرية والأسس العقلية للأحكام المناهضة لحرية العقيدة والمذهب:
أولاً: تكوين بيئة اجتماعية مغلقة، فقد ظن المناهضون لحرية العقيدة والمذهب أنّ بمقدورهم إنشاء مجتمع مغلق يمكن التحكم به من خلال إقصاء الآراء المخالفة التي من شأنها تلويث المجتمع ومن ثَمَّ عزله بحيث لا يكون بمقدوره التعرف والاطلاع على العقائد الفاسدة، فيكون بذلك مصاناً عن الانحراف.
ثانياً: اعتقدوا أنّ للعقوبات الصارمة دوراً إيجابياً في إصلاح المجتمع، وذلك أن الإنسان بطبيعته لا يرتدع عن الباطل إلاّ بالقوة والعنف، ولو ترك حراً لبادر إلى السيئات وأصبح عرضة لوساوس الشيطان. وإنما جعل القتل عقوبة للخارج عن الإسلام؛ كي يكون رادعاً لكل من تسول نفسه الارتداد عن الدين.
ويكفي أهل الكتاب إحساسهم بالذل والمهانة التي يعانيها الذمي كي يكفوا عن دينهم ويعتنقوا الإسلام.
وأمّا الكفار فلو خيروا بين القتل أو الإسلام فمما لاشك فيه أنهم سوف يختارون الإسلام.
وملخص القول: إنّ هذا هو السبيل الوحيد لبسط نفوذ الدين في أرجاء المعمورة كافة.
ثالثاً: هيمنة الإعلام على المجتمع، فإذا تعددت الآراء واختلفت وجهات النظر وتضاربت الأفكار فإنّ المجتمع في مثل هذا الوضع سيكون عرضة للفتنة ويسهل على الشيطان التلاعب بعقول الناس والتأثير عليها، الأمر الذي يفضي إلى انسلاخ الناس عن عقيدتهم وتركهم لدينهم.
إذاً فالسبيل الوحيد لصيانة المجتمع عن الانحراف، وبقائه محافظاً متمسكاً بدينه وعقيدته، هو تقويض أي مشروع إعلامي يستهدف المجتمع، وإلا فلا يوجد ضمان لبقاء الدين مهيمناً على الناس.
رابعاً: إنّ العقوبات الصارمة والأحكام الشديدة التي شرّعها الإسلام لمعتنقي الديانات الأُخرى ليست من خصوصياته أو مما انفرد به الإسلام وحده، فقد شهدت الألفية السابقة صراعات عنيفة بين الأديان والمذاهب، وهكذا هو حال الأديان فيما بينها على مدى التاريخ.
إذاً فليس من العيب أو القصور إصدار مثل هذه الأحكام تجاه أتباع الديانات الأخرى.
خامساً: وجود مهمة على عاتق المسلمين، وهي الدعوة للإسلام بالرغم من كونه إسلاماً ظاهرياً، فمن البديهي أنّ اعتناق الإسلام خوفاً من القتل أو هروباً من إعطاء الجزية لا يتلاءم مع الإسلام الحقيقي، ويبقى المسلم الذي اعتنق الإسلام لأحد هذه الأسباب مسلماً بالظاهر في أغلب الأحيان ولمّا يدخل الإيمان في قلبه.
ومن الصعب أن نتقبل فكرة تحول هذا المسلم إلى مسلم حقيقي مقتنع بالإسلام بعد أن صدرت بحقه مثل هذه الأحكام التي مرت بنا، وبعد أن رأى الموت مقبلاً عليه، لكنه نجا منه بأُعجوبة بعد أن أعلن إسلامه.
يبقى هنا سؤال قد يتصل ببحثنا بشكل أو بآخر، وهو: هل يا ترى يجوز لعلماء الدين أن يحكموا على باطن الناس كما جاز لهم أن يحكموا على ظاهرهم؟
من الطبيعي أن المنطلقات الفكرية الخمسة التي مرت بنا آنفاً لابد أن يصدر عنها مثل تلك الأحكام الشديدة ولا شك في ذلك، لكن المشكوك فيه أنّ هذه المنطلقات قد تكون أغفلت كثيراً من الأمور، وعليه لم ترتق لتكون منطلقات تامة تشكل أسساً رصينة لأحكام من هذا القبيل، ونحن إذ نتعرض لهذه المنطلقات الخمسة نشير إلى نقاط الضعف والإخفاقات التي منيت بها:
أولاً: إنّ التطور الهائل الذي تشهده حقول الاتصالات ووسائل الإعلام المرئية والمسموعة لم يُبقِ الباب موصداً أمام المجتمعات، كما أنه لا يسمح بوجود مجتمع مغلق ومنطوٍ على نفسه بأي حال من الأحوال، وسواء شئنا أم أبينا فإنّ الآراء والأفكار الدينية والعقائدية المختلفة أصبحت تداهم الأسماع من كل حدب وصوب ولا مناص للحؤول دون سماعها.
ثانياً: العنف والعقوبات الشديدة والرعب كلها أدوات قد تساعد على فرض الأديان والعقائد على مجتمع ما، لكنها بالتأكيد لا ترسخ الإيمان في القلب، وإنما تبقي عليه سطحياً على أُهبة الزوال بمجرد التخلص من الظرف الحالي.
والذي يبدو لي أنه بات من الضروري مراجعة منظومتنا الفكرية إزاء الإنسان وتجديد نظرتنا تجاهه، ولابد من الاعتماد عليه وتوطيد الثقة به، فإنه لو ترك حراً فإنه سيختار طريق الحق، لكن المهم عند الاختيار أن يشعر الفرد بالحرية والقناعة التامة.
ثالثاً: إنّ الأجواء العالمية السائدة والظرف الذي نعيشه اليوم يمنع قيام أي نوع من أنواع الحروب والنزاعات الطائفية أو المذهبية أو الدينية، ومثل هذه الأحكام القاسية ـ كأحكام الذمة والمرتد وما إلى ذلك ـ تسبب ردود فعل وسخط عام تجاه أي عقيدة تصدر عنها، ولا تكون بأي حال عاملاً مساعداً لتقبل تلك العقيدة.
رابعاً: إذا كانت مثل هذه الأحكام تؤدي إلى هروب الناس من الدين أو على الأقل تزلزل عقيدتهم وإيمانهم به، إذاً كيف نسمح لأنفسنا إصدار مثل هذه الأحكام في حين أنّ الهدف والغاية الأساسية التي تنشدها الأديان هي تغيير النفوس وتزكيتها ليقوى إيمانها ويشتد يقينها بالمبادئ الدينية؟!
قراءة نقدية عقلانية لنظرية منع الحريات الدينية
بعد هذا العرض النقدي المجمل للجذور الروائية أو البعد النقلي بصورة عامة التي انطلق منها مناهضو مبدأ حرية العقيدة والمذهب، نحاول هنا تسليط الضوء على البعد العقلي لهذه القضية، فنقول:
1ـ إنّ الدين والعقيدة من المسائل الاختيارية التي يمتلك المرء فيها حرية الاختيار بين القبول أو الرد، ولا يمكن للإنسان اختيار عقيدة ما إلاّ من بعد توفر مجموعة من الأسباب والمقدمات، فإذا ما توفرت تسنى له قبول العقيدة وإن لم تتوفر فإنّ العقيدة سوف لا تعني شيئاً بالنسبة له.
إنّ هذه الأسباب والمقدمات إن حصلت وقبل الشخص بموجبها العقيدة المحددة فإنّ ممارسة أي نوع من العنف والقسوة سوف لن تنفع في زعزعة إيمانه بعقيدته، كما أنّ العكس صحيح أيضاً، أي لو لم تحصل هذه الأسباب والمقدمات فلن يكون هناك إيمان بالعقيدة مهما بلغت حدة العنف والقسوة.
وغاية ما يمكن للعنف تحقيقه هو الاعتقاد الظاهري فحسب، دون الإيمان الباطني.
2ـ من الواضح والبديهي أنّ هناك تمايزاً واختلافاً بين الأديان والمعتقدات، وهي لا تتمتع بالقدر نفسه من الحقيقة، فبعضها أكثر قرباً من الحقيقة وبعضها أبعد وهكذا.
ومن البديهي أيضاً أنّ من جملة هذه الأديان ما هو باطل وليس من الحق في شيء، لكن في الوقت نفسه يجد هذا الدين الباطل أتباعاً ومعتنقين متمسكين به لا يحيدون عنه.
إذن يا ترى هل من سبيل إلى إصلاح هؤلاء من خلال تغيير دينهم وعقيدتهم؟
إنّ أفضل سبيل للإصلاح، وخصوصاً على مستوى الدين والعقيدة والمذهب، هو من خلال التحاور مع أتباع ذلك الدين وإقناعهم، لكن هذا الإقناع لا يمكن حصوله إلاّ في فضاء واسع من الحرية، فإن قبل هؤلاء بأُطروحتنا فذلك ما كنا نبغي، وإن رفضوا فليس علينا أكثر من ذلك، أي لا يجوز لنا أن نتعدى هذه المرحلة ونلجأ إلى استخدام القوة أو ممارسة العنف؛ فإنّ الدين والعقيدة إن صودرت بالقوة فستكون النتيجة اللجوء إلى عقيدة جديدة أُخرى أو ممارسة العقيدة الأولى في الخفاء.
وبصورة عامة فالعنف والرعب يؤدي إلى اختفاء العقيدة وضمورها، لكنه لا يجتثها أو يقضي عليها إطلاقاً، فمادام البشر يعتقد بوجود منفعة مترتبة على هذا الدين أو تلك العقيدة كمنحه السعادة أو تخفيف وطأة الحياة عليه أو إيصاله إلى غاية سامية، فمن المستحيل عليه الانسلاخ من هذا الدين أو تلك العقيدة.
والتاريخ يحدثنا أنّ كل عقيدة إنما تسنى لها البقاء والاستمرار بسبب ما كانت تدر على معتنقيها من منافع ومواهب سخية.
والبشر بطبيعتهم شديدو التمسك بدينهم وعقيدتهم، ومن العسير جداً مصادرة الدين منهم أو تبديله، وحتى لو تسنى للمرء تغيير دينه أو معتقده فلن يكون ذلك إلا عن رغبة منه لا عن إجبار أو قسر.
3ـ من ناحية أخرى فإن الدنيا دار تمحيص وامتحان للناس، وهم في هذا الامتحان أحرار يختارون دينهم من بين الأديان كيفما شاؤوا، ونتيجة اختيارهم سواء كان صحيحاً أم سقيماً ستتجلّى لهم في الآخرة ويرونها رؤيا العين.
وليس ثمة إكراه أو عنف في هذا الاختيار، إذ لو أكرهنا الناس على اتباع الحق (أو يكون مصيرهم الموت) لكان الله أولى منا بإكراههم ومصادرة حرياتهم، فيجبلهم على الطاعة المحضة كما هو حال الملائكة، ويرفع التضاد بين الحق والباطل عن عالم المادة ويجعله كعالم المجردات حقاً محضاً ليس للباطل فيه نصيب.
ولو فرضنا إمكان حدوث مثل هذا الأمر فيا ترى هل سيبقى معنى للحساب الأُخروي الذي يثاب فيه المطيع ويعاقب فيه العاصي؟!
4ـ التعددية الدينية والتنوع في المعتقدات والأديان أمر لا مناص منه، على الأقل هذا ما يعكسه تاريخ الفكر الإنساني، وفي مثل هذه التعددية والكثرة إن مورس العنف لمصادرة حرية العقيدة فسيؤدي ذلك إلى ظهور حالات الرياء والنفاق والازدواجية؛ لأنّ اتباع أي دين من الأديان إن لم يتسنَّ لهم إظهار عقيدتهم والمجاهرة بها وتم مواجهتم بالقتل والإعدام أو مصادرة حقوقهم الاجتماعية والإنسانية فسيضمرون دينهم الحقيقي ويتظاهرون بالدين الحاكم المتسلط.
إنّ الرياء آفة الإيمان، ولا يمكن بناء مجتمع ديني باللجوء إلى تكفير المنافقين وإبادتهم؛ لأنّ النفاق هو نتيجة طبيعية لمصادرة حرية العقيدة والدين.
5ـ هناك الكثير من العقائد والأديان تعدّ نفسها أكمل الأديان وأتمها وأفضلها وأشملها وخاتمها أيضاً، ولو انتهى المطاف إلى هنا لهان الأمر، لكن المشكلة تكمن في أنّ معتنقي هذه الديانات يؤمنون بكل هذه الكمالات التي يصف الدين بها نفسه ولا يشكون في صحة أي واحد منها.
ونحن لا نرتاب بأنّه سيأتي يوم يميز فيه الصادق من الكاذب وتتضح فيه حقيقة هذه الكمالات من زيفها، لكن في هذه الدنيا لا تزال الأديان ـ ومنذ قرون ـ تقيم البراهين وتسوق الأدلة لإثبات هذه الصفات الخيّرة لنفسها، ولكنها على ما يبدو لم تتوفق في إقناع الآخرين.
ولو تسنى لكل دين أن يدعي لنفسه الكمال والشمولية ويحظر باقي الأديان ويبقي حرية العقيدة والدين متاحة لأبنائه فحسب (من غير إمكانية تغيير دينهم) فسوف تكون النتيجة الحتمية لهذا السلوك تحجيم الطوائف والمذاهب وتأطيرها ضمن حدود ضيقة للغاية، وإبقاء الباب مشرعاً أمام الملحدين الذين يشكلون أكبر خطر على الدين والعقيدة.
إنّ التقوقع ضمن مجتمع مغلق يؤدي إلى فقدانه الحركة والنمو والتطور والازدهار، وإن كانت هناك حركة فستكون حركة موضعية لا تجدي نفعاً لذلك المجتمع.
إن أتباع مثل هذه الديانات المغلقة بمجرد أن يخرجوا إلى النور ويشعرون بقدر من الحرية عادةً ما تضطرب عقيدتهم أو يتركون دينهم نهائياً.
6ـ إن غياب حرية العقيدة عن أي دين من الأديان يؤدي إلى التحجر في الفهم السائد ويحول دون ظهور الحركات الإصلاحية والاجتهادية التي تنطلق من الذات، أي من المجتمع المتدين نفسه.
إنّ الحكم على شخص بالارتداد أو تكفيره واتهامه بالإلحاد هو إفراز طبيعي لمثل هذه المجتمعات التي ستفقد من جراء ذلك أبرز مفكريها ورجالاتها.
7 ـ لو حاول أتباع دين من الأديان مصادرة حرية أتباع الديانات الأُخرى (ولم يسمحوا حتى لأنفسهم التفكير في تغيير دينهم) فأدى ذلك إلى ردود أفعال في المناطق الأخرى التي تخرج عن نطاق سيطرة هؤلاء، وقوبلت هذه الممارسة بالمثل فصودرت حرية أتباع هذا الدين ومنعوا من إظهاره أو الجهر به في تلك المناطق، فيا ترى من سيتضرر من جراء ذلك؟ أليس أتباع ذلك الدين أنفسهم؟
8 ـ إنّ المضار والسلبيات المترتبة على مصادرة حرية العقيدة والمذهب تصل إلى درجة بحيث لا يمكن لأي عاقل إذا ما أدرك حجمها الإقرار بها.
وقد تصور العلماء الذين أفتوا ضد مبدأ الحرية أن ذلك سيسهم في الحفاظ على الدين وصيانة العقيدة بشكل أكبر، في حين أن هؤلاء العلماء لو عاشوا الأجواء ذاتها، أي التي تصادر فيها حريتهم الدينية، لسارعوا إلى سحب فتاواهم السابقة أو على الأقل إعادة النظر بها.
إنّ من أهم ما طرح على أنه من سلبيات حرية العقيدة والمذهب هو إمكانية تعرض الأطفال والناشئة للانحراف، لكن ذلك القلق يتلاشى إذا ما علمنا بأنّ التربية الدينية، وخصوصاً في مرحلتي الطفولة والمراهقة، تمتلك قواعد وأُصولاً لابد من مراعاتها، والوالدان ـ الأب والأم ـ يؤديان الدور الأبرز في تنشئة الطفل دينياً.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ الإعلام الديني في المجتمع الحرّ يتحرك وفق قوانين وضوابط، ولا يسمح لأي دين أو عقيدة بالتعدّي على حرية الآخرين أو الإخلال بالنظم والأمن والأخلاق العامة تحت ذريعة ممارسة الطقوس والشعائر الدينية.
9ـ إنّ العقيدة إذا كانت تمتلك جذوراً قوية ورصينة فهي لن تهاب الدخول في معمعة حرية العقائد والأديان، أي الفسحة الواسعة التي تطرح فيها عقائد وأديان مختلفة.
لكنها إن كانت سطحية ولا تمتلك جذوراً عميقة فستجدها تتهرب من مواجهة العقائد الأُخرى، وإن واجهتها فستلجأ إلى العنف والقمع.
10ـ هناك اتجاه يميز بين نوعين من الحرية: الأول هو حرية الفكر، والثاني هو حرية العقيدة، ويقرّ بحرية الفكر لطبيعتها العقلانية، ويمنع حرية العقيدة مبرراً ذلك بأنها، أي العقائد، غالباً ما تكون فوق مستوى العقل، ومن ثَمَّ لا يملك العقل مساحة كافية للحركة في دائرتها فهي ((في النهاية)) غير عقلانية([27]).
وهذا التبرير غير مقبول؛ لأنّ إعمال الفكر لا يحتاج إلى رخصة من أحد أو من مرجعية معينة، وعليه فليس لأحد منعه أو الوقوف بوجه العملية الفكرية حتى يمنّ هذا الاتجاه على المفكرين بأنّه أباح لهم حرية الفكر.
والخلاف يتمحور حول حرية إبراز العقيدة أولاً، وحرية ممارسة الطقوس والشعائر، أي العمل طبقاً لمبادئها ثانياً، وإذا كان هذا هو محور الخلاف فإنّ تصنيف الحرية إلى صنفين خارج عن موضوع بحثنا من الأساس ولا يمكن أن يكون حلاً للخلاف، ويا ترى هل هناك عقيدة تجد نفسها منحرفة أو على ضلال؟
إذن فالاتجاه الذي يصنف الحرية إلى صنفين إنما يريد بذلك مصادرة حرية العقيدة والدين ليس إلاّ.
والملخَّص من ذلك كله أن مبدأ حرية العقيدة والدين من المبادئ الحسنة ذاتاً والممدوحة بحسب العقلاء، فهو إذاً مبدأ إيجابي ومفيد وضروري في الوقت نفسه.
هل الأصل في الاعتقاد الحرية أم عدمها؟
نحاول في هذه المرحلة من الدراسة أولاً: استعراض الأدلة والجذور الدينية لمبدأ حرية العقيدة والمذهب في الإسلام، وثانياً: نقد الأدلة التي تمسك بها المعترضون على هذا المبدأ.
وقبل الخوض في هذين الأمرين نجد أنفسنا مضطرين للإجابة عن تساؤل مهم يستبق البحث، وهو:
هل الأصل في الدين (العقيدة) هو حرية العقيدة، وعدمها يحتاج إلى دليل، أم الأصل عدمها، وإثبات الحرية هو الذي يحتاج إلى دليل؟
الذي يبدو لنا بوضوح هو أنّ المراد من حرية العقيدة والمذهب هي الحرية الدنيوية، أي الحرية التي تتيح للإنسان الاختيار في الحياة الدنيا، وإذا كان كذلك فلو اختار الإنسان ديناً محدداً ـ كالإسلام على سبيل المثال ـ واعتقد بأنه سبيل النجاة والصراط القويم ففي مثل هذه الحالة هل يعتبر الاعتقاد بغيره من الأديان جريمة دنيوية يجب مقاضاته عليها؟
إذاً مرادنا من تأسيس الأصل هو الوصول إلى هذه النقطة، وهي: هل الأصل هو تجريم غير المسلم ومجازاته (سواء كان مرتداً أو ذمياً أو كافراً غير ذمي)، وبراءته هي التي تحتاج إلى دليل، أم عكس ذلك، أي أنّ الأصل هو براءة الجميع من العقوبة الدنيوية؟
الظاهر أنّ الأصل هو براءة الجميع من العقوبة الدنيوية، أما الحدود المذكورة، أي حد المرتد والذمي والكافر غير الذمي الذي يجب قتله، فكل هذه الحدود هي التي تحتاج إلى دليل.
ويجب التنويه إلى أنّ بحثنا هذا لا يتصل بالعقوبة الأُخروية ولا بالمعاصي المترتبة على الارتداد أو الذمة أو الكفر، فلا نقاش في كون هذه الحالات الثلاث إن ثبت لها أن الإسلام هو الحق وسواه هو الباطل، ومع ذلك أصروا على غيهم فإنهم عصاة غاوون ولا إشكال في ذلك، لكن ما نركز عليه بحثنا هنا هو دراسة الحدود والعقوبات الدنيوية التي تترتب على هذه الحالات؛ لأننا نعلم بأن المعاصي ليست كلها على نمط واحد تتطلب عقوبات دنيوية، فكثير منها لا يقام عليه الحد ولا يعزر مرتكبها.
فإذاً إن لم نعثر على دليل معتبر يجرّم هذه الأصناف الثلاثة ـ المرتد والذمي والكافر غير الذمي ـ فليس لنا الحق في إقامة الحد عليهم أو تعزيرهم، وإنما نتمسّك بالأصل الذي يقتضي براءتهم.
المستند القرآني في نظرية الحرية الدينية
نستعرض في هذه المرحلة أبرز الآيات القرآنية التي تناولت مبدأ حرية العقيدة وأثبتته، ونسلط الضوء عليها من خلال تصنيفها إلى سبع طوائف([28]).
المجموعة الأولى: الآيات التي تنهى عن الإكراه في الدين
أبرز الآيات في هذه المجموعة ثلاث:
1 ـ {لا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الغَيِّ فَمَن يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالعُرْوَةِ الوُثْقَى لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ}([29]).
تشتمل هذه الآية على عنصرين: الأول هو النفي؛ والثاني النهي، فهي تنفي في المرحلة الأولى وجود الإكراه والإجبار في الدين، وتنفي أنّ الله قد أجبر عباده على اعتناق الدين، وتنهى في المرحلة الثانية عن هذا السلوك، والسبب في ذلك أنّ الإيمان الذي يحصل عن إكراه لا قيمة له.
ويتمخض عن نفي الإكراه الذي نجده في هذه الآية تكريس لحرية الدين والعقيدة، وهذه الحرية تنقسم بدورها إلى قسمين: الأول حرية المرء في اعتناق الدين، والثاني حريته في الخروج من الدين أو تغييره.
أما تخيير الناس بين اعتناق دين محدد أو القتل فهو يعني مصادرة حريتهم وإكراههم على الدين.
ولو فرضنا أنّ الناس كانوا أحراراً واعتنقوا ديناً محدداً، لكنهم فقدوا حريتهم بعد اعتناقهم ذلك الدين، ففي مثل هذه الحالة سيكون بقاؤهم على هذا الدين عن إكراه، وخوفاً من الحد الذي سيقام بحقهم نتيجة الخروج من الدين والارتداد عنه.
ومع أنّ القرآن الكريم عبّر عن الإيمان بالله بالرشد والحق، بقوله: قد تبين الرشد من الغي، إلاّ أنه لم يجبر الناس أو يكرههم على التمسك به.
«من خلال إطلاق الآية الشريفة نعرف بأنّ القرآن المجيد لم يحصر حرية العقيدة وعدم الإكراه بالدين الإسلامي، وإنما جعلها لسائر الأديان، بل يمكننا أن ندعي أنه نظراً لعدم خصوصية المورد فإنّ الإكراه في الدين شامل لجميع الأديان والعقائد برمتها، فإنّ مثل هذه الحرية التي هي من خصائص وذاتيات النوع البشري لا يمكن لأحد وضعها كما لا يمكن مصادرتها»([30]).
وبخصوص شأن نزول الآية رُوي عن مجاهد أنها نزلت في رجل من الأنصار كان له غلام أسود يقال له: صبيح، وكان يكرهه على الإسلام، فنزلت الآية لتنهى المسلمين عن ذلك.
وقيل: نزلت في رجل من الأنصار يُدعى أبا الحصين، وكان له ابنان، فقدم تجّار الشام إلى المدينة يحملون الزيت، فلما أرادوا الرجوع من المدينة أتاهم ابنا أبي الحصين فدعوهما إلى النصرانية، فتنصرا ومضيا إلى الشام، فأخبر أبو الحصين رسول الله| فأنزل الله تعالى: {لا إكراه في الدين} ([31]).
إذن فما نشاهده من العقوبات والحدود التي تشمل القتل أو السجن المؤبد للمرتد والتخيير بين الإسلام والقتل للكفار كلها نماذج وعينات واضحة على الإكراه في الدين، ومثل هذه السلوكيات تتعارض مع الآية تعارضاً كلياً.
2 ـ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَميعاً أَفَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}([32]).
على الرغم من أنّ الإيمان بالله والآخرة حق لا ريب فيه، إلاّ أنّ الله سبحانه لم يشأ أن يؤمن من في الأرض كلهم جميعاً؛ لأنّ هذه المشيئة التكوينية لله تعالى تُفقد الإنسان اختياره، وإذا غاب الاختيار غاب معه التكليف فلا مجال حينئذ للثواب والعقاب الموعودين. فالإيمان إنما تكون له قيمة في حال حصوله مع الاختيار لا مع الإجبار، ومع الحرية لا مع الإكراه.
لقد كان رسول الله’ يتحسر على الذين لم يدخلوا الإسلام ويصر عليهم حتى يكونوا مسلمين، إلاّ أنّ الله سبحانه خاطبه بأنّ ربك الذي خلقك وخلقهم لم يشأ إكراههم على الدين، فكيف ترضى لنفسك إكراههم؟
وهذا الاستفهام يطرح على سبيل الاستنكار: {أفَأَنتَ تُكْرهُ النََّاسَ حَتََّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ}؟!
وبالطبع سوف يكون الجواب سلبياً.
ونحن نتساءل: إذا كان الإكراه على اعتناق الإسلام أمراً مرفوضاً، فكيف يمكن أن يكون الإكراه على الإبقاء على الإسلام ذاته ـ وعدم السماح بالعدول عنه ـ أمراً مقبولاً؟
إنّ الإسلام حق ولا شك في ذلك، إلاّ أنّ الله سبحانه لم يسمح لنا أن نجبر الناس على قبول هذا الحق ونكرههم عليه، إذن كيف يمكننا تخيير الناس بين الإسلام والقتل؟
إنّ بقاء المسلم على إسلامه وعدم ارتداده عنه حق ولا نرتاب في ذلك، لكن هل يحق لنا إكراه الناس على ذلك من خلال قتلهم أو حبسهم حتى الموت إذا شاؤوا تغيير دينهم؟
3 ـ {قَالَ ]نوح[ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِن كُنتُ عَلَي بَيِّنَةٍ مِن رَبِّي وآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِندِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنتُمْ لَهَا كَارِهُونَ}([33]) .
عندما عرض نوح على قومه الرسالة الإلهية التي بعث بها أعرضوا عنه وكذبوه. فحاجّهم وطلب منهم التفكر والتروي بما جاء به، فقد يكون تكذيبهم له إفرازاً طبيعياً لجهلهم بالرسالة التي يحملها، الأمر الذي حمله على دعوتهم للفكر والتأمل.
وهل يجوز للنبي إكراه قومه على قبول الحق إن رفضوا ذلك؟
استفهام استنكاري مفاده أنّ من الواضح أنه لا يجوز له ذلك.
فإن لم يكن الإكراه متاحاً للنبي فهل يجوز لخلفاء النبي وأصحابه إكراه الناس على تبني الإسلام، وفي حال أسلموا هل يجوز تهديدهم بالقتل أو الحبس المؤبد إن عدلوا عن الإسلام؟
يمكننا أن نستنتج من مجموع الآيات الثلاث المتقدمة قاعدة مفادها: حرمة إكراه أي شخص على تبني أي دين من الأديان، وهذه القاعدة تمثل أوضح تفسير لمبدأ حرية العقيدة والمذهب.
المجموعة الثانية: حرية الاختيار في الدنيا بين الهداية والضلالة
1 ـ {وَقُلِ الحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكُفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً}([34]) .
على الرغم من أننا لا نشك في هيمنة الدين الإسلامي على باقي الأديان، وعلى الرغم من أنّ القرآن يخيّر الناس في مواضع كثيرة بين الإيمان والكفر {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} إلاّ أنّ الله سبحانه اقتصر على الحساب الأخروي ولم يذكر الحساب الدنيوي.
وبهذا الصدد نقول: هل يجوز مؤاخذة المرء أو التعرض له جراء تدينه بدين معين أو تمسكه بعقيدة ما من العقائد؟
إذا جاز ذلك فلن يعود هناك معنى لقوله سبحانه: {فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر} وستفرغ الآية من محتواها كما هو واضح. إنما نقول: إنّ الآية الكريمة بصدد تكريس حرية العقيدة والدين في الدنيا، وأما سوء الاختيار فجزاؤه موكول إلى الآخرة، ولا يحق لأي مؤمن تجاوز هذا المبدأ الإلهي وتعنيف الناس وتهديدهم بحجة إدخالهم في دين الله.
2 ـ {قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الحَقُّ مِن رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنَا عَلَيْكُم بِوَكِيلٍ}([35]).
مما لا شك فيه أنّ القرآن لا يساوي بين الهدى والضلال، كما لا يساوي بين الإيمان والكفر، وحرية الإنسان في تحديد الخير والشر وتركه مختاراً هي السر في ترتب الثواب والعقاب، وأما لو كان الطريق واحداً والجميع مجبول على سلوكه ومن رام عن هذا الطريق بدلاً سوف يكون الموت حتفه، إذاً لن يبقى معنى للامتحان والابتلاء والاختبار الدنيوي كما لن يبقى معنى للثواب والعقاب الأُخروي.
والمعاد إنما يتمحور حول مبدأ حرية الدين والمذهب، فلو فقد هذا المبدأ أو صودر فحينئذ لن يبقى للمعاد أي مفهوم.
3 ـ {إِنَّا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ الكِتَابَ لِلنَّاسِ بِالحَقِّ فَمَنِ اهْتَدَى فَلِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَإِنَّمَا يَضِلُّ عَلَيْهَا وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِوَكِيلٍ}([36]).
مهمة القرآن الكريم هي بيان الحق للناس، وأمّا اتباعه أو عدم اتباعه فعائد لهم، فهم في الدنيا أحرار مخيرون بين لزوم الحق أو تركه، والذين أساؤوا الاختيار فحسابهم موكول إلى الآخرة، ولا يجوز لنا أن نمارس بحقهم أيّة ممارسة لم يرتضها الله سبحانه لرسوله، فإنّ سنة الله ورسوله اقتضت ترك الناس أحراراً في قبول الدين أو ردّه، واقتصرت على تذكيرهم بالحق وإرشادهم إليه، فإن أحسنوا الاختيار ولزموا الحق فستكون الآخرة خير مثوىً لهم.
4 ـ {إِنَّمَا أُمِرْتُ أَنْ أعْبُدَ رَبَّ هذِهِ البَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَهَا وَلَهُ كُلُّ شَيْءٍ وَأُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ المُسْلِمِينَ * وَأَنْ أَتْلُوَ القُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدَى فَإِنَّمَا يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَمَن ضَلَّ فَقُلْ إِنَّمَا أَنَا مِنَ المُنذِرِينَ * وَقُلِ الحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ فَتَعْرِفُونَهَا وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}([37]).
مهمة رسول الله’ هي إنذار الناس وتحذيرهم من عواقب الأديان والعقائد الفاسدة ومن الآثار السيئة الناجمة عنها وتلاوة القرآن عليهم وإرشادهم إلى الدين القويم والعقيدة الصائبة، فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فسيلقى في الآخرة جزاء عمله. والله سبحانه سميع بصير وليس بغافل عما يعملون.
وهذه الطائفة من الآيات التي استعرضناها تعد من الركائز المهمة التي يتكئ عليها مبدأ حرية العقيدة والمذهب، إذ إنها تمنح الإنسان فضاء واسعاً من الحرية يتمكن فيه من تحديد وجهته في الدنيا بين الخير والشر من دون أن يشعر بأنه مكره على أي منهما.
المجموعة الثالثة: النبوة تعني إبلاغ الحق دون الإكراه عليه
لقد حدد القرآن الكريم مهمة النبي’ العظمى تجاه الرسالة التي يحملها للناس، وهي تتمثل في حمل الرسالة، وتبليغها والإرشاد لها وهداية الناس نحوها، وليس مخولاً إكراه الناس على قبولها.
1 ـ {فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِم بِمُصَيْطِرٍ}([38]).
مهمة النبي’ إنما تتلخص في تبليغ الرسالة الحقة وتذكير الناس بالحق، فمن شاء قبل الحق، وبالطبع سيكون منتفعاً بكل المزايا والمنافع التي تتمخض عن الحق، ومن شاء رفض وسيتحمل عواقب رفضه للحق وانحرافه عن جادة الصواب. وهذه المزايا أو العواقب إنما تكون في الحياة الدنيا التي هي دار الامتحان، أما حقائقها، أي الآثار الحقيقية التي تترتب على اتباع الحق أو الباطل، فستظهر في الآخرة دون أدنى شك.
والنبي الذي يحمل مثل هذه المهمة الجسيمة والشاقة لا يمتلك صلاحية إكراه الناس على اعتناق الإسلام أو إجبارهم على البقاء عليه فيما لو كانوا مسلمين، فإذا كانت صلاحية النبي’ تنتهي عند هذا الحد، أي كونه غير مجازٍ في إكراه الناس أو إجبارهم على تقبل الرسالة، فهل يجوز لأصحابه مصادرة حرية الناس وإكراههم على الدين؟
2 ـ {نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ وَمَا أَنتَ عَلَيْهِم بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالقُرْآنِ مَن يَخَافُ وَعِيدِ}([39]).
3 ـ {وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلا مُبَشِّراً وَنَذِيراً * قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاّ مَن شَاءَ أَن يَتَّخِذَ إِلَى رَبِّهِ سَبِيلاً * وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيراً}([40]).
4 ـ {وَإِن مَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّمَا عَلَيْكَ البَلاغُ وَعَلَيْنَا الحِسَابُ}([41]).
5 ـ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ البَلاَغُ وَاللّهُ يَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا تَكْتُمُونَ}([42]).
فإذا كان رسول الله الذي يعد أعظم شخصية إسلامية لا يمتلك خياراً تجاه عقيدة الناس سوى كونه بشيراً ونذيراً فهل يحق للآخرين ممن هم دونه شأناً أن يختاروا طريقاً غير التبشير والإنذار ويصادروا حرية الناس في دينهم وعقيدتهم؟
وإذا كان حساب الناس على الله ـ في الآخرة ـ وإنذارهم وإبلاغهم الرسالة على رسول الله، فإن من يسحب هاتين المهمتين إلى الدنيا من خلال مصادرته حرية الناس في عقيدتهم ومحاسبتهم على دينهم إنما هو آخذٌ دور رب العالمين، وهو نوع من التطاول على الله، وهذا ما لا يسمح به الله سبحانه لأيّ بشر كان حتى رسول الله نفسه.
المجموعة الرابعة: عقوبة المرتد والتبعات السلبية المترتبة عليها
ليست قضية الإكراه في الدين وما يترتب عليها من حد المرتد وغيره من المسائل المعاصرة أو حديثة الظهور، وإنما تمتد جذورها إلى أمد ليس بالقريب، وقد تصدى لها القرآن الكريم من خلال استعراضه ثلاثة نماذج للارتداد:
1 ـ {قَالَ المَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَاشُعَيْبُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِن قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا قَالَ أَوَلَوْ كُنَّا كَارِهِينَ}([43]).
ففي هذه الآية يضع المستكبرون من قوم شعيب شعيباً والذين آمنوا معه على مفترق طريقين: إمّا إخراجهم من قريتهم وتبعيدهم وإما الرجوع عن دينهم وارتدادهم عنه.
فكان جواب شعيب×: أتكرهوننا على تغيير ديننا؟ وهل يمكن للإكراه أن يكون وسيلة لتغيير الدين؟ فليس لنا أن نبدل ديننا بالقوة والعنف والإكراه.
وقد أقر القرآن الكريم هذا المنطق الذي اختاره شعيب.
وربما يقال بأنّ الإكراه يكون مباحاً إذا استخدم لغرض التحول من العقيدة الباطلة إلى الحقة في حين ترتفع هذه الإباحة إذا كان التحول من العقيدة الحقّة إلى الباطلة كما هو الحال في قصة شعيب التي مرت قبل قليل.
لكن آية {لا إكراه في الدين} قد بددت هذا القول بعد أن عرفنا من خلال تحليلنا لها أنّ الإكراه في الدين غير مباح بشكل مطلق سواء كان التحول من الباطل إلى الحق أو العكس.
2 ـ {قَالُوا ]السحرة[ آمَنَّا بِرَبِّ العَالَمِينَ * رَبِّ مُوسَى وَهَارُونَ * قَالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذَا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي المَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْهَا أَهْلَهَا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ * لأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلاَفٍ ثُمَّ لأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ}([44])
بعد أن شاهد السحرة معجزة موسى كليم الله أُلقوا ساجدين وقالوا: آمنا برب العالمين، وتحولوا من الكفر إلى الإيمان بالله سبحانه، وبعبارة ثانية أنهم ارتدوا عن عقيدتهم. وقد أثار ذلك جنون فرعون واستغرابه، فكيف تسنّى لهؤلاء السحرة الارتداد عن عقيدتهم قبل أن يؤذن لهم؟
وقد اعتبر فرعون ظاهرة الارتداد هذه مؤامرة قام بها السحرة في المدينة ليخرجوا منها أهلها، فأعلن مباشرة عن العقوبة التي ستلحق بهم، وهي تقطيع أيديهم وأرجلهم من خلاف وصلبهم أجمعين.
لقد كان القتل هو جزاء المرتدين في حكومة فرعون، لكن القرآن الكريم نهى عن هذا السلوك وتصدى له بقوة .
ويمكن اعتبار الأطروحة القرآنية البديلة عن الإكراه في الدين هي حرية الدين والعقيدة.
3 ـ {وَقَالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسَى وَلْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخَافُ أَن يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَن يُظْهِرَ فِي الأَرْضِ الفَسَادَ}([45]).
كان قانون فرعون يقضي بإعدام كل من ارتد عن دينه وتحول من الكفر إلى الإيمان، وقد شمل هذا الحكم النبي موسى؛ لأنه كان يسعى لتبديل دين الناس، وبحسب فرعون: يظهر في الأرض الفساد.
والقرآن الكريم رد على هذا القانون الفرعوني المرغم، وترك الناس أحراراً في دينهم وعقيدتهم، فليس لأحد إكراههم على الإيمان بهذا الدين أو ذاك، فقد تبين الرشد من الغي.
ونتيجة ما تقدم أن القرآن الكريم يعترض على سلوك المستكبرين والفراعنة تجاه ظاهرة الارتداد ويتصدى له، وبالرغم من أنه يعتبر الإيمان بالله هو الحق وما سواه باطل إلا أنه يترك الناس أحراراً في الدنيا في اختيار دينهم وعقيدتهم.
المجموعة الخامسة: أساليب المواجهة الدينية والحكمة من الاختلاف
1 ـ {وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلاَ يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ * إِلاَّ مَن رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ}([46]).
إنّ الله سبحانه الذي خلق البشر ولم يجعلهم يفكرون بالطريقة ذاتها أو على نمط واحد، وبعبارة أخرى: إنّ هناك مصلحة إلهية وراء تعدد الأديان والمذاهب في الحياة الدنيا، وأما الضالون فموعدهم جهنم وحسابهم في الآخرة، ومحاولة تهميش الأديان وإقصائها في الدنيا أمر مخالف لنظرية القرآن وللرؤية الإسلامية.
2 ـ {وَقَالَتِ اليَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ اليَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الكِتَابَ كَذلِكَ قَالَ الَّذِينَ لاَ يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ فِيَما كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ}([47]).
ينتقد القرآن الكريم ظاهرة الصراع بين الأديان، ويؤجل الله سبحانه الحكم بينها إلى الآخرة وليس في الدنيا، فالناس في الدنيا أحرار يختارون أي دين شاؤوا، وما على الرسول إلاّ البلاغ المبين، لكن الاختيار يبقى عائداً إلى الناس أنفسهم، وبهذا يصح مبدأ الاختبار والامتحان.
3 ـ {قُلْ يَا أَيُّهَا الكَافِرُونَ * لاَ أَعْبُدُ مَا تَعْبُدُونَ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * وَلاَ أَنَا عَابِدٌ مَا عَبَدتُّمْ * وَلاَ أَنتُمْ عَابِدُونَ مَا أَعْبُدُ * لَكُمْ دِينُكُمْ وَلِيَ دِينِ}([48]).
تعد سورة >الكافرون< الوثيقة الأبرز من بين الوثائق القرآنية التي تؤيد مبدأ حرية العقيدة والمذهب، كما أنها تضع الآليات المناسبة لكيفية المواجهة بين الأديان والعقائد المختلفة.
المجموعة السادسة: رفع الحد عن المرتد في الدنيا
على الرغم من الصورة المظلمة التي يعكسها القرآن لعملية التحول من الإيمان إلى الكفر، وعلى الرغم من نهيه الشديد عنها، إلاّ أنه يحافظ على مبدئه الذي يقضي بتأجيل العقوبة إلى الآخرة، فهو يمنع إقامة أي نوع من الحدود تجاه المرتد في الحياة الدنيا كالقتل أو الحبس المؤبد.
والدليل على ذلك نستقيه من الآيتين التاليتين:
1 ـ {وَمَن يَرْتَدِدْ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَيَمُتْ وَهُوَ كَافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَأُولئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ}([49]).
تخبرنا الآية عن موت المرتد من خلال تعبيرها (فيمت)، والمقصود من هذا الموت هو الموت الطبيعي، وليس القتل أو الإعدام، ولو كان المقصود في الآية من الموت هو أحد هذين الأمرين لعبّرت بـنحو آخر: ومن يرتدد منكم عن دينه فيقتل أو يصلب وأمثال ذلك.
كما نكتشف من قوله سبحانه: {فيمت وهو كافر} أنه ربما يعود المرتد مؤمناً قبل موته، فالعقوبة التي نجدها في الآية إنما تترتب على المرتد في حال بقائه على الارتداد حتى الموت لا بمجرد الارتداد، الأمر الذي يتيح أمامه فرصة للتوبة قبل الموت إن حالفه التوفيق لها.
أما العقوبة التي أقرتها الآية للذي يموت وهو كافر فتشمل أولاً: حبط الأعمال، أي بطلانها وفسادها ووقوعها على نحو لا تستتبع الثواب، لا في الدنيا ولا في الآخرة. وثانياً: الخلود في نار جهنم.
وكل هذه العقوبات التي نصت عليها الآية إنما هي عقوبات أخروية وليس فيها أي مؤشر إلى القتل أو الإعدام في الدنيا.
2 ـ {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الخَاسِرِينَ * كَيْفَ يَهْدِي اللّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ وَشَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَجَاءَهُمُ البَيِّنَاتُ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ * أُولئِكَ جَزَاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللّهِ وَالمَلاَئِكَةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ * خَالِدِينَ فِيهَا لاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ العَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنْظَرُونَ * إِلا الَّذِينَ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ * إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمَانِهِمْ ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْراً لَن تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَأُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ}([50]).
على الرغم من أنّ القرآن الكريم رفض من الناس اعتناق أي دين غير الإسلام بعد بعثة رسول الله’ واعتبر الذي يبتغي غير الإسلام ديناً من جملة الخاسرين، إلاّ أنه مع ذلك لم يقر أيّة عقوبة على أتباع باقي الديانات الأُخرى، ولم يشرع حدّاً بحقهم.
بالإضافة إلى ذلك فإنّ العقوبات الأُخروية التي نصت عليها الآية إنما شملت الذين عرفوا الحق وانسلخوا عنه كفراً وعدواناً، أي المرتدين على المستوى التطبيقي والسياسي، لا المرتدين نظرياً وعلمياً.
بل إنّ الذين أساؤوا في اختيار الدين الحق واعتنقوا ديناً باطلاً أو عقيدة منحرفة نتيجة لجهلهم فهم في مأمن من العذاب، سواء في الدنيا أم في الآخرة.
إنّ العذاب الأُخروي الذي يلحق المرتد ـ السياسي ـ يشمل لعنة الله والملائكة والناس أجمعين، كما يشمل الخلود في النار وعدم التخفيف عنه وعدم إنظاره وإمهاله. وهذه المجموعة من العقوبات إنما تلحق بالمرتد ـ التطبيقي ـ في حال لم يلجأ إلى التوبة، وأما لو تسنت له التوبة فاحتمال أن يشمله الله برحمته قائم، والله هو التواب الرحيم. أما لو ازداد المرتد كفراً فإنّ فرصته في التوبة ستتضاءل أو تنتفي كلياً، لكن مع ذلك يبقى أن نفهم أنّ عدم قبول التوبة من المرتد في الآخرة لا يعني عدم قبولها منه في الدنيا أيضاً.
إذاً من خلال المجموعات الست من الآيات التي مرت بنا يمكننا أن نخرج بالنتائج التالية:
1 ـ إنّ ظاهرة التحول من الإيمان إلى الكفر تعد من الظواهر الفاسدة المنهي عنها، ويمكن تصنيف هذه الظاهرة إلى صنفين:
صنف يتحول من الإيمان إلى الكفر نتيجة وقوفه على نظريات ورؤى منحرفة تؤدي به إلى إنكار الله والآخرة والإعراض عن الدين الإسلامي أو التشكيك به (وهو ما يطلق عليه بالارتداد النظري أو العلمي).
وصنف ثان يتحول من الإيمان إلى الكفر نتيجة بعض النزوات النفسية أو المصالح السياسية أو الوساوس الشيطانية أو نتيجة للانغماس باللذائذ الدنيوية، وهذا النوع من الارتداد يطلق عليه (الارتداد السياسي أو التطبيقي).
2 ـ لم يقر القرآن الكريم أي نوع من العقوبات بحق الصنف الأول من المرتدين (أي العلميين أو النظريين)، لا دنيوية ولا أُخروية، لكن يبقى هذا الصنف مفتقراً للإيجابيات التي تترتب على اتباع الحق (الآثار الوضعية)، فهو سوف يفتقد مثل هذه الإيجابيات بشكل وضعي وتكويني.
3 ـ أما الصنف الثاني وهو المرتد السياسي أو التطبيقي (الذي ارتد من بعد ما تبين له الهدى) فإنه موعود في الآخرة بعذاب جهنم خالداً فيها.
ويجب أن نلتفت إلى أنّ استعمال القرآن الكريم لمفردة المرتد غالباً ما يقصد به الصنف الثاني من المرتدين.
4 ـ لم يشرع القرآن الكريم أي حد أو عقوبة دنيوية أمثال: القتل أو الحبس المؤبد وما إلى ذلك، بحق المرتد مطلقاً، أي بصنفيه الأول والثاني.
المجموعة السابعة: الحرية وأساليب الدعوة الدينية
{ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ}([51]).
يعتمد المنهج القرآني في الدعوة إلى الإسلام على أساليب سلمية وعقلانية ويوصي أتباعه بالحكمة والموعظة الحسنة والمجادلة بالتي هي أحسن، ولا مكان في هذا المنهج للإكراه والعنف والتهديد والرعب والقتل. وبما أنّ الإسلام دين الرحمة فالدعوة إليه لابدّ أن تتسم بالرحمة أيضاً.
خلاصات قرآنية في الموقف من الحرية العقدية
في هذه المرحلة من الدراسة نقف لنتطلع قليلاً إلى ما استعرضناه من الآيات القرآنية التي تتصل بمبدأ حرية الدين والعقيدة والتي صنفناها ضمن مجموعات سبع، ومن خلال هذه الوقفة التأملية تتضح لنا جملة من النتائج:
أولاً: الإسلام هو الدين الحق، وقد بيّن للناس عقيدتهم الصحيحة بأيسر أنواع البيان، كما نهاهم عن اتباع السبل الضالة وأوضح لهم المفاسد والمضار المترتبة عليها.
ثانياً: يجد الإسلام أنّ سعادة الإنسان الحقيقيّة تكمن في اتباعه الدين الحق والعقيدة الصحيحة، وينهى ويحذر أشد التحذير من مغبة الانحراف عن ذلك.
ثالثاً: من وجهة نظر الإسلام الناس أحرار في اختيار دينهم وعقيدتهم، وليس لأحد الحق في إكراههم على دين أو عقيدة ما حتى لو كانت تلك العقيدة صحيحة.
رابعاً: أقر الإسلام الديانات السماوية المتعددة، وذلك بعد أن بين للناس الدين الحق وأرشدهم إليه. وبعبارة أُخرى: إنّ من الناس من استجاب للدعوة الإلهية واعتنق الإسلام، ومنهم من اختار البقاء على الضلال، وهؤلاء الضالون ينقسمون إلى فرق وطوائف متعددة.
خامساً: الرؤية الإسلامية تقضي بأن من لم يستجب لداعي الله وأصرّ على عقيدته الباطلة في الدنيا، فإنّ جزاءه موكول إلى الآخرة.
سادساً: لم تشرع في الإسلام عقوبة دنيوية تجاه الفرق والطوائف الدينية المنحرفة.
سابعاً: المنهج الإسلامي في الدعوة منهج عقلاني يميل إلى السلم والرحمة ويتكئ على الحكمة والموعظة الحسنة، ويبتعد عن كل أنواع العنف والقوة.
ثامناً: من الخطأ إكراه الناس للبقاء على دين محدد إن راموا العدول عنه إلى دين آخر (أي إن عزموا على الارتداد)، فالارتداد لم تشرع له عقوبة في الدنيا، وأمّا العذاب الشديد في الآخرة فإنما يستحقه المرتد إن كان ارتداده ناشئاً عن عناد وإصرار على الباطل.
إذن نستنتج مما تقدم أنّ الإسلام قد أقر مبدأ حرية العقيدة والدين، لكن هذه النتيجة لا تكتمل إلاّ إذا تمكنا من رد الأدلة التي ساقها المعارضون لهذا المبدأ، ويلزم أن يكون الرد متماسكاً بحيث يمكنه الثبات أمام الاعتراضات الموجهة إليه، وهذا ما ننوي القيام به في المرحلة التالية من هذه الدراسة.
نظرية رفض الحرية الدينية، أدلّة ومناقشات
يتطلب نقد الأدلة التي ساقها المعترضون على مبدأ حرية العقيدة والدين مساحة كبيرة ربما تخرج عن إطار هذه الدراسة المقتضبة، لذا سنختار من بين الأحكام المعارضة لهذا المبدأ ثلاثة أحكام قد تكون هي الأبرز ممّا مرّ بنا سابقاً والتي تتمخض عن الفهم السائد للإسلام.
وهذه الأحكام الثلاثة هي: قتل المرتد الذكر؛ وحبس المرأة المرتدة حتى تسلم أو تموت؛ والجزية التي يجب على أهل الكتاب دفعها، ومصادرة حق الحياة من الكافر غير الذمي.
وقد أشرنا في نهاية القسم الثالث من الدراسة الحالية إلى أهم الأدلة ـ النقلية والعقلية ـ التي تستند إليها هذه الأحكام. وانطلاقاً من ذلك سنتناول هنا مناقشة هذه الأدلة معتمدين في هذه المناقشة على ما عرضناه سابقاً من الأدلة المؤيدة لمبدأ حرية العقيدة والدين.
1ـ حكم المرتد عن الإسلام، وقفة نقدية مع النظرية المشهورة
يعتمد الفقهاء السنّة في الحكم على المرتد بالقتل على مجموعة من الأحاديث النبوية (كما ورد في المصنفات الفقهية السنية)، ويعتمد فقهاء الشيعة على مجموعة من الروايات وردت عن طريق أهل البيت^ (كما هو مذكور في المصنفات الفقهية الشيعية).
وطبقاً لعملية الاجتهاد ـ التي تعني استنباط الحكم الشرعي ـ فإن جملة من هذه الأحاديث والروايات تكتسب اعتبارها من صحة سندها، وتبقى دلالتها فإن تمت فلا مناص من الأخذ بها، على الرغم من وجود الإطلاقات العقلية والقرآنية المخالفة.
ولنا في هذا المضمار عدة ملاحظات:
أولاً: لا إشكال في تطبيق أحكام المرتد إن تم ذلك على يد المعصوم أو بحضوره؛ لأنه ملمٌّ بجميع جوانب الأحكام الشرعية ومطلع على المصالح والمفاسد التي تترتب على هذه الأحكام أفضل من أي شخص آخر، ولا شك في صحة كل ما يصدر عنه من الأحكام الشرعية.
إنما البحث يقع في تطبيق الأحكام عند غيبة المعصوم، فلو فرضنا تمامية أدلة هذه الأحكام فهل أنّ إقامة الحدود الشرعية من الأحكام المنوطة بحضور المعصوم، أم أنّه حكم مطلق، لا يشترط فيه حضور المعصوم أو عدم حضوره، ومن ثَمَّ يكون من الأحكام التي لا تخضع للظروف الزمنية؟
للفقهاء الشيعة قولان في ذلك: قول مشهور([52])، لا يجيز إقامة الحدود في غير زمان الحضور وزمن الغيبة ([53])، وادعى البعض إجماع فقهاء الطائفة عليه([54])، وبما أنّ حد المرتد يدخل ضمن دائرة الحدود الشرعية كما هو المشهور([55])، إذن لابدّ من إناطته بزمن حضور المعصوم وعدم جواز إقامة الحد على المرتد في زمن الغيبة.
وتتسع أهمية هذا القول كلما ازدادت الإشكالات الواردة في عصرنا الحاضر على الحكم الشرعي الذي لا يشترط حضور المعصوم في تطبيق الحد على المرتد.
وهكذا الحال مع الجهاد الابتدائي الذي يعد ـ بحسب المشهور ـ من الأحكام التي تختص بزمن حضور المعصوم.
فالحكمان ـ إقامة الحد والجهاد الابتدائي ـ يشتركان في محور واحد هو الإسلام باعتبار أنّ الجهاد الابتدائي هو الباب لدخول الإسلام، وحد المرتد هو الوسيلة للبقاء عليه.
ثانياً: تستند جميع الأحكام المذكورة، والتي من ضمنها قتل المرتد، إلى خبر الواحد (الثقة)، والعمدة في دليل حجية خبر الثقة هي سيرة العقلاء. ([56])
لكن ما ينبغي قوله هو أنّ العقلاء لا يكتفون بخبر الثقة في المسائل الخطيرة والمهمة، وبالطبع فإنّ من أهم الأُمور هو الحفاظ على أرواح الناس وصيانتها (حق الحياة) ولا يمكن مصادرة الحياة إلاّ في حال وجد دليل قطعي، كنص قرآني أو روائي متواتر. ولا يمكن بأيّة حال إصدار حكم القتل بالاعتماد على خبر الواحد، فإنّ مثل هذا الحكم يحتاج إلى دليل معتبر وقطعي.
إنّ الاحتياط في الدماء (لخطورتها ولما أولاها الشارع من اهتمام بالغ وكبير) يقتضي الامتناع عن إصدار أي حكم بالقتل ما لم يتوفر دليل قطعي، بل لا يكفي أيضاً وجود دليل ظني معتبر.
يقول المحقق الأردبيلي بهذا الصدد: (ثم اعلم أنّ القتل أمر عظيم لاهتمام الشارع بحفظ النفس، فإنه مدار التكاليف والسعادات، ولهذا أوجبوا حفظها، حتى أنّه ما جوزوا الترك ليقتل، بل أوجبوا عليها أن تقتل غيرها ولا تقتل، والعقل أيضاٌ يساعده في الجملة وحينئذ ينبغي الإحتياط التام في ذلك) ([57]).
وفي هذا الشأن أيضاً يقول الفقيه الكبير المعاصر السيد أحمد الخوانساري: (بأن خبر الثقة أو العدل مع توثيق بعض علماء الرجال أو تعديله من جهة بناء العقلاء أو الاستفادة من بعض الأخبار لا يخلو عن الإشكال في الدماء مع شدة الاهتمام في الدماء. ألا ترى أنّ العقلاء في الأُمور الخطيرة لا يكتفون بخبر الثقة مع اكتفائهم في غيرها به..) ([58]).
وبناء على الاحتياط في الدماء أيضاً يخص صاحب كتاب >كاشف اللثام< إقامة جملة من الحدود كالقتل أو الرجم بالإمام المعصوم([59]) .
ثالثاً: يتحقق الإكراه في الدين بمجرد تهديد أي شخص من الناس، بأن يقال له: إن لم تدخل الإسلام فستقتل، أو يقال له: إن عدلت عن دينك وارتددت عنه فستقتل. كل ذلك يعكس لنا صورة عن الإكراه في الدين الذي نهى عنه القرآن الكريم. إذاً فقتل المرتد يعارض النص القرآني {لا إكراه في الدين}، كما يعارض نصوصاً أخرى تقدمت في أول البحث.
أما الأحاديث والروايات التي تفيد حكم القتل فإنها مخالفة للقرآن ومفتقرة للتقييد والتخصيص، وذلك لأنها تعتمد على الحكم العقلي، كما أشرنا إلى ذلك في الحديث عن فوائد وإيجابيات حرية العقيدة والمذهب. فمثل هذه الروايات ساقطة عن الاعتبار والأفضل أن نرجئ فحواها إلى أهلها، بمعنى: أنّ مراد هذه الروايات غير واضح لنا بشكل تفصيلي، إذاً فمن الجدير معرفة رأي المعصومين^ فيها كي يرتفع ما يدور حولها من إبهام، وحتى ذلك الحين فالأفضل التوقف حيالها وعدم الأخذ بها.
2ـ قانون الجزية بين التاريخية والدوام
يعدّ حكم الجزية من أبرز أحكام أهل الذمة التي شرعها القرآن الكريم والتي تم تطبيقها في زمن رسول الله’ والفترات التي أعقبته.
وقد وقع البحث في طبيعة هذا الحكم ـ دفع الجزية ـ هل هو من الأحكام الثابتة والدائمية التي لا تخضع للعامل الزمني أم إنه من جملة الأحكام التي تختص بفترة صدر الإسلام، أي من الأحكام المتغيرة والخاضعة للظروف الزمكانية؟
لقد كان لتطبيق حكم الجزية في تلك الفترة أهمية كبيرة، وكانت تترتب عليه مصلحة تامة، ولو لم يكن كذلك لما شرعه الله سبحانه. كما أنّ هذا الحكم ليس من الأحكام التعبدية المعبر عنها بالتوقيفية، فهو اليوم لا يتوفر، وعلى الأقل في المحاور السبعة التي ذكرناها سابقاً، لا يتوفر على نفس المصلحة التي كانت تترتب عليه في الصدر الأول للإسلام. فحكم الجزية مماثل لأحكام العبيد والإماء التي تخضع لظروف وأجواء زمنية محددة ولا تسري على سائر الفترات والأزمنة.
والقرآن الكريم لم يقتصر على تشريع الأحكام الثابتة فحسب، وإنما كرس جزءاً من تشريعاته للأحكام التي تعلقت بفترة نزول الآيات فقط لا بسائر الفترات. وحكم أهل الذمة المذكور هو من هذا القبيل.
والجدير ذكره أنّ دستور الجمهورية الإسلامية الإيرانية الذي جعل من أولى أولياته عدم تجاوز الشريعة والحرص على مطابقة القانون معها، غابت عنه أحكام الارتداد وأحكام أهل الذمة.
3ـ الكافر غير الذمي ومصادرة حق الحياة
يعد الجهاد من جملة الفرائض الإسلامية التي يجب على المسلم الالتزام بها، لكنه لا يعني ـ كما هو الفهم السائد منه ـ تسيير الجيوش واقتحام البلدان لإدخال الكفار إلى الإسلام وتخييرهم بين الإسلام أو القتل، وإنما المراد من الجهاد هو أن تكون هناك مناطق خاضعة لسيطرة الكفار والناس فيها مضطهدون مسلوبو الحرية الدينية ومحاصرون، بحيث لا يعود بمقدورهم معرفة الدين الحق من الباطل، ففي مثل هذه الحالة إن كانت هناك إمكانية للمسلمين لمداهمة تلك المناطق وتخليص المجتمع من الاضطهاد والظلم الذي لحق به عندئذ يجب عليهم محاربة الكفار والمشركين ليضعوا عن الناس إصرهم وأغلالهم ويعيدوا إليهم حريتهم التي سلبت منهم ليتسنى لهم اختيار الدين الذي يشاؤون.
ومن الطبيعي أنّه مع توفر الاستقرار والأمن وصيرورة الظروف ملائمة فإن الناس سيلجأون إلى الدين الحق ويختارونه من بين الأديان.
بناء على ذلك فإنّ الجهاد الابتدائي في واقع الأمر إنما هو ضرب من الجهاد الدفاعي؛ لأنه يجسد الدفاع عن حرية الناس في دينهم وعقيدتهم، كما أنه يخلو من الإكراه أو الإجبار على الدين حتى لو كان ذلك الدين هو الدين الحق.
ويتضح لنا أنه إن كان هناك شخص غير مسلم يعيش في الوسط الإسلامي أو خارجه، وكان صاحب دين أو عقيدة معينة، فإنه ما لم يرفع السلاح على المسلمين لا يجوز بأية حال إكراهه على الدين الإسلامي أو تخييره بين اعتناق الإسلام أو القتل، بل له الحق في البقاء على دينه وعقيدته، ولا يحق لأي مسلمٍ كان التعرض له تحت ذريعة الاختلاف في الدين أو العقيدة.
والذي يبدو لنا أنّ الآيات القرآنية التي تجري مجرى الزمان ولا تخضع للظروف الوقتية تفيد ما ذكرناه، لا ما اعتقده الفهم التقليدي السائد للإسلام.
والحاصل أنّ الفهم التقليدي لا يعكس مبدأ حرية الدين والعقيدة عن الإسلام، على خلاف الفهم الآخر الذي يتكئ على الأسس المتينة للكتاب والسنة، فهو يعكس هذا المبدأ، أي حرية الدين والعقيدة التي تنسجم بشكل كامل مع حقوق الإنسان.
الهوامش
([1]) الإعــلان العـالمي لحقـوق الإنسان اعتُمد بموجب قرار الجمعية العامة 217 (ألف د ـ 3) المؤرخ في 10 كانون الأول/ديسمبر 1948.
المادة 2: لكل إنسان حق التمتع بكافة الحقوق والحريات الواردة في هذا الإعلان، دون أي تمييز، كالتمييز بسبب العنصر أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي السياسي أو أي رأي آخر، أو الأصل الوطني أو الاجتماعي أو الثروة أو الميلاد أو أي وضع آخر، دون أية تفرقة بين الرجال والنساء، وفضلاً عما تقدم فلن يكون هناك أي تمييز أساسه الوضع السياسي أو القانوني أو الدولي لبلد أو البقعة التي ينتمي إليها الفرد، سواء كان هذا البلد أو تلك البقعة مستقلاً أو تحت الوصاية أو غير متمتع بالحكم الذاتي أو كانت سيادته خاضعة لأي قيد من القيود.
المادة 18: لكل شخص الحق في حرية التفكير والضمير والدين، ويشمل هذا الحق حرية تغيير ديانته أو عقيدته، وحرية الإعراب عنهما بالتعليم والممارسة وإقامة الشعائر ومراعاتها سواء أكان ذلك سراً أم مع الجماعة.
المادة 19: لكل شخص الحق في حرية الرأي والتعبير، ويشمل هذا الحق حرية اعتناق الآراء دون أي تدخل، واستقاء الأنباء والأفكــار وتلقيهــا وإذاعتها بأية وسيلة كانت دون تقيد بالحدود الجغرافية.
المادة 26: البند 2: يجب أن تهدف التربية إلى إنماء شخصية الإنسان إنماء كاملاً، وإلى تعزيز احترام الإنسان والحريات الأساسية وتنمية التفاهم والتسامح والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات العنصرية أو الدينية، وإلى زيادة مجهود الأمم المتحدة لحفظ السلام.
المادة 26: البند 3: للآباء الحق الأول في اختيار نوع تربية أولادهم.
المادة 29: البند 2: يخضع الفرد في ممارسة حقوقه وحرياته لتلك القيود التي يقررها القانون فقط، لضمان الاعتراف بحقوق الغير وحرياته واحترامها ولتحقيق المقتضيات العادلة للنظام العام والمصلحة العامة والأخلاق في مجتمع ديمقراطي.
المعاهدة الدولية الخاصة بالحقوق المدنية والسياسية:
اعتمد و عرض للتوقيع و التصديق و الانضمام بقرار الجمعية العامة 2200 ( ألف ) المؤرخ في 16 كانون الأول/ ديسمبر 1966.
المادة 2: البند 1: تتعهد كل دولة طرف في هذه المعاهدة باحترام الحقوق المعترف بها فيها، وبكفالة هذه الحقوق لجميع الأفراد الموجودين في إقليمها والداخلين في ولايتها، دون أي تمييز بسبب العرق أو اللون أو الجنس أو اللغة أو الدين أو الرأي سياسياً أو غير سياسي، أو العرق أو الاجتماعي، أو الثروة أو النسب أو غير ذلك من الأسباب .
المادة 18: البند 1: لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين، ويشمل ذلك حريته في أن يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره، وحريته في إظهار دينه أو معتقده بالتعبد وإقامة الشعائر والممارسة والتعليم بمفرده أو مع جماعة، وأمام الملأ أو على حدة.
2 ـ لا يجوز تعريض أحد لإكراه من شأنه أن يخل بحريته في أن يدين بدين ما، أو بحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره.
3 ـ لا يجوز إخضاع حرية الإنسان في إظهار دينه أو معتقده إلاّ للقيود التي يفرضها القانون والتي تكون ضرورية لحماية السلامة العامة أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة أو حقوق الآخرين وحرياتهم الأساسية.
4 ـ تتعهد الدول الأطراف في هذه المعاهدة باحترام حرية الآباء أو الأوصياء عند وجودهم في تأمين تربية أولادهم دينياً وخلقياً وفقاً لقناعاتهم الخاصة.
المادة 19: البند 1: لكل إنسان حق في اتخاذ أيّ رأي دون مضايقة.
2 ـ لكل إنسان حق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين دونما اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أم مطبوع أم في قالب فني أم بأية وسيلة أخرى يختارها.
3 ـ تستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من المادة واجبات ومسؤوليات خاصة، وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود، ولكن شريطة أن تكون محدّدة بنص القانون وأن تكون ضرورية:
(أ) لاحترام حقوق الآخرين أو سمعتهم.
(ب) لحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.
المادة 20: البند 1: تحظر بالقانون أية دعاية للحرب.
2ـ تحظر بالقانون أية دعوة إلى الكراهية القومية أو العنصرية أو الدينية تشكل تحريضاً على التمييز أو العداوة أو العنف.
ونشير إدناه إلى إعلان القاهرة لحقوق الإنسان في الإسلام الذي تم إجازته من قبل مجلس وزراء خارجية منظمة المؤتمر الإسلامي، القاهرة، 5 أغسطس، 1990.
ونصت المادة الأولى منه على أن :
أ ـ البشر جميعاً أسرة واحدة جمعت بينهم العبودية لله والنبوة لآدم وجميع الناس متساوون في أصل الكرامة الإنسانية وفي أصل التكليف والمسؤولية دون تمييز بينهم بسبب العرق أو اللون أو اللغة أو الجنس أو المعتقد الديني أو الانتماء السياسي أو الوضع الاجتماعي أو غير ذلك من الاعتبارات، وإن العقيدة الصحيحة هي الضمان لنمو هذه الكرامة على طريق تكامل الإنسان.
المادة 9:
أ ـ طلب العلم فريضة والتعليم واجب على المجتمع والدولة، وعليها تأمين سبله ووسائله وضمان تنوعه بما يحقق مصلحة المجتمع ويتيح للإنسان معرفة دين الإسلام وحقائق الكون وتسخيرها لخير البشرية.
ب ـ من حق كل إنسان على مؤسسات التربية والتوجيه المختلفة من الأسرة والمدرسة وأجهزة الإعلام وغيرها أن تعمل على تربية الإنسان دينياً ودنيوياً تربية متكاملة متوازنة تنمي شخصيته وتعزز إيمانه بالله واحترامه للحقوق والواجبات وحمايتها.
المادة 10:
الإسلام هو دين الفطرة، ولا يجوز ممارسة أي لون من الإكراه على الإنسان أو استغلال فقره أو جهله على تغيير دينه إلى دين آخر أو إلى الإلحاد.
المادة 16:
لكل إنسان الحق في الانتفاع بثمرات إنتاجه العلمي أو الأدبي أو الفني أو التقني، وله الحق في حماية مصالحه الأدبية والمالية العائدة له على أن يكون هذا الإنتاج غير مناف لأحكام الشريعة.
المادة 18:
أ ـ لكل إنسان الحق في أن يعيش آمناً على نفسه ودينه وأهله وعرضه وماله.
المادة 22:
أـ لكل إنسان الحق في التعبير بحرية عن رأيه بشكل لا يتعارض مع المبادئ الشرعية.
ب ـ لكل إنسان الحق في الدعوة إلى الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وفقاً لضوابط الشريعة الإسلامية.
ج ـ الإعلام ضرورة حيوية للمجتمع، ويحرم استغلاله وسوء استعماله والتعرض للمقدسات وكرامة الأنبياء فيه، وممارسة كل ما من شأنه الإخلال بالقيم أو إصابة المجتمع بالتفكك أو الانحلال أو الضرر أو زعزعة الاعتقاد.
د ـ لا يجوز إثارة الكراهية القومية والمذهبية، وكل ما يؤدي إلى التحريض على التمييز العنصري بكافة أشكاله.
المادة 24:
كل الحقوق والحريات المقررة في هذا الإعلان مقيدة بأحكام الشريعة الإسلامية.
([2]) ذكرنا هذه الأحكام بالاعتماد على فتاوى علماء الشيعة، ولمزيد من الاطلاع راجع:
الإمام روح الله الموسوي الخميني: تحرير الوسيلة 494:2، كتاب الإرث: موانع الإرث: الكفر: المسألة10.
آية الله السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي: مباني تكملة المنهاج 1: 324 ـ 327، الارتداد؛ 1: 494، المسألة 271.
والمراد من الإضرار بها: أن تضرب أوقات الصلاة، وتستخدم خدمة شديدة وتمنع الطعام والشراب، إلاّ ما يمسك نفسها، وتلبس خشن الثياب. (مباني تكملة المنهاج: 331 ـ 332).
واتفق فقهاء السنة على وجوب قتل المرتد مطلقاً (أي سواء كان ملياً أم فطرياً، رجلاً أم امرأة) في حال عدم توبته، يستثنى من ذلك فقهاء الحنفية فإنهم أولاً: حكموا على المرتد إن كان امرأة بالحبس والإضرار بها حتى تتوب أو تموت. وثانياً: قالوا باستحباب الاستتابة وليس بوجوبها.
للاطلاع أكثر، راجع: الفقه الإسلامي وأدلته للدكتور وهبة الزحيلي: 6: 183 و 193.
([3]) «المراد بالكافر من كان منكراً الأُلوهية أو التوحيد أو الرسالة أو ضرورياً من ضروريات الدين مع الالتفات إلى كونه ضرورياً بحيث يرجع إنكاره إلى إنكار الرسالة، والأحوط الاجتناب عن منكر الضروري مطلقاً وإن لم يكن ملتفتاً إلى كونه ضرورياً».
السيد محمد كاظم الطباطبائي اليزدي: العروة الوثقى 1: 67، كتاب الطهارة، في النجاسات.
«من انتحل غير الإسلام، أو انتحله وجحد ما يعلم من الدين ضرورة، بحيث يرجع جحوده إلى إنكار الرسالة، أو تكذيب النبي’ أو تنقيص شريعته المطهرة، أو صدر منه ما يقتضي كفره من قول أو فعل ..» تحرير الوسيلة 1: 118، كتاب الطهارة، في بيان النجاسات.
«من انتحل الإسلام وجحد ما يعلم أنه من الدين الإسلامي، بحيث رجع جحده إلى إنكار الرسالة، نعم إنكار المعاد يوجب الكفر مطلقاً»، السيد أبو القاسم الموسوي الخوئي، منهاج الصالحين 1: 109، كتاب الطهارة، الأعيان النجسة.
وللاطلاع على آراء أهل السنة في هذا الصدد، راجع: (الفقه الإسلامي وأدلته: 6: 183).
«المرتد هو الراجع من دين الإسلام إلى الكفر … أو حلل حراماً بالإجماع .. أو حرم حلالاً بالإجماع .. أو نفى وجوب مجمع عليه أو اعتقد وجوب ما ليس بواجب بالإجماع … أو عزم على الكفر غداً أو تردد فيه».
([4]) كثير من علماء الإسلام وقعوا ضحية التكفير، وكان من بينهم الحكماء والفلاسفة والعرفاء أمثال ابن سينا والسهروردي وصدر المتألهين ومحيي الدين بن عربي، وفي عصرنا الحاضر الفقيه الشيخ هادي نجم آبادي (المشهور بالمكفَّر)، وهذا غيض من فيض.
([6]) راجع: مباني تكملة المنهاج 1: 337، المسألة 282، وفي تحرير الوسيلة 2: 477، (فروع حد القذف، الخامس): ويترتب التعزير على ترك الواجب وارتكاب المحرم إن عد من الكبائر.
([11]) «ليس للكفار ـ ذميين كانوا أو لا ـ تبليغ مذاهبهم الفاسدة في بلاد المسلمين ونشر كتبهم الضالة فيها، ودعوة المسلمين وأبنائهم إلى مذاهبهم الباطلة، ويجب تعزيرهم وعلى أولياء الدول الإسلامية أن يمنعوهم عن ذلك بأية وسيلة مناسبة، ويجب على المسلمين أن يحترزوا عن كتبهم ومجالسهم ويمنعوا أبناءهم عن ذلك، ولو وصل إليهم من كتبهم والأوراق الضالة منهم شيئاً يجب محوها، فإن كتبهم ليست إلا محرفة غير محترمة، عصم الله تعالى المسلمين من شرور الأجانب وكيدهم وأعلى الله كلمة الإسلام».
تحرير الوسيلة 2: 507، كتاب الحدود، فروع أحكام أهل الذمة، الرابع.
([12]) تحرير الوسيلة 2: 506، كتاب الحدود، الثاني من فروع أحكام أهل الذمة؛ منهاج الصالحين 397:1، كتاب الجهاد، المسألة 80.
([14]) منهاج الصالحين 1: 398، كتاب الجهاد، مسألة 82؛ تحرير الوسيلة 2: 503، شرائط أهل الذمة، مسألة 8.
([18]) راجع على سبيل المثال: الشيخ محمد مؤمن القمي، الكلمات السديدة في المسائل الجديدة: 315 ـ 358، كلمة في الجهاد الابتدائي؛ والخوئي، منهاج الصالحين1: 364 ـ 366، كتاب الجهاد، منهاج الصالحين 1: 379 ـ 381، كتاب الجهاد، الغنائم.
(18) قال رسول الله’: >من بدل دينه فاقتلوه» نيل الأوطار 7: 90.
([20]) الكافي 7: 257، الحديث 11؛ من لا يحضره الفقيه 3: 98، الحديث 333؛ التهذيب 10: 136، الحديث: 541 الإستبصار 4: 253، الحديث 957؛ وسائل الشيعة 28: 324، أبواب حد المرتد، الباب 1، الحديث 3.
([21]) الكافي 7: 257، الحديث 10؛ التهذيب 10: 138، الحديث 548؛ الاستبصار 4: 254، الحديث 963؛ وسائل الشيعة 325:28، أبواب حد المرتد، الباب 1، الحديث 5.
([27]) الأُستاذ الشهيد مطهري: كتاب بيرامون جمهوري اسلامي (حول الجمهورية الإسلامية): 87 ـ 136؛ حول الثورة الإسلامية: 6 ـ 22.
([30])الدكتور الشيخ مهدي الحائري اليزدي، الإسلام وإعلان حقوق الإنسان، التقويم الشيعي، العدد 4، 1341، ص 67 ـ 76.
([52]) السيد أحمد الخوانساري: جامع المدارك في شرح المختصر النافع 5: 411، وأما إقامة الحدود في غير زمان الحضور وزمان الغيبة فالمعروف عدم جوازها.
([53]) المحقق الحلي، شرائع الإسلام في مسائل الحلال والحرام 1: 344، ولا يجوز لأحد إقامة الحدود إلا للإمام مع وجوده أو من نصبه لإقامتها.
والمراد من التنصيب في العبارة السابقة هو التنصيب الخاص لا التنصيب العام، راجع في ذلك: جواهر الكلام 21: 386.
([54]) ابن إدريس الحلي، السرائر الحاوي لتحرير الفتاوي 2: 25، الإجماع حاصل منعقد من أصحابنا ومن المسلمين جميعاً أنه لا يجوز إقامة الحدود ولا المخاطب بها إلاّ الأئمة^ والحكام القائمون بإذنهم في ذلك، فأما غيرهم فلا يجوز له التعرض بها على حال، ولا يرجع أن هذا الاجماع بأخبار الآحاد، بل بإجماع مثله أو كتاب أو سنة متواترة مقطوع بها.
([55]) رأي آخر يعد مجازات الارتداد ضمن دائرة التعزيرات وليس الحدود، راجع في ذلك، شرائع الإسلام 4: 147.
([58]) جامع المدارك في شرح المختصر النافع 35:7، كتاب الحدود: (وفي المقام شبهة أخرى، وهي أن اعتبار خبر الثقة أو العدل مع توثيق بعض علماء الرجال أو تعديله من جهة بناء العقلاء أو الاستفادة من بعض الأخبار لا يخلو عن الإشكال في الدماء مع شدة الاهتمام في الدماء، ألا ترى أنّ العقلاء في الأمور الخطيرة لا يكتفون بخبر الثقة مع اكتفائهم في غيرها به؟ قال المحقق الأردبيلي& في شرح الإرشاد: ثم اعلم أنّ القتل أمر عظيم لاهتمام الشارع بحفظ النفس، فإنه مدار التكاليف والسعادات، ولهذا أوجبوا حفظها حتى أنّه ما جوزوا الترك لتقتل غيرها، والعقل أيضاً يساعده، وفي الجملة ينبغي الاحتياط التام في ذلك … انتهى.