قراءةٌ فقهيّة
السيد محسن الموسوي الجرجاني(*)
تمهيد: ماهيّة القضاء
يستعمل القضاء في اللغة العربية بشكلَيْه اللغوي والمصطلحي. وذكرت في المعاجم معانٍ كثيرة لهذه المفردة، ومنها: ما أورده صاحب الجواهر، حين قال: «هو لغةٌ لمعانٍ كثيرةٍ ربما أنهيت إلى عشرة: الحُكم والعلم والإعلام ـ وعبّر عنه بعضهم بالإنهاء ـ والقول والحَتْم والأمر والخلق والفعل والإتمام والفراغ».
ويمكن الاستشهاد بالآية الكريمة للدلالة على المعنى الأول، حيث يقول جلَّ وعلا: « ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي مَا كَانُواْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ﴾ (يونس: 93)، وذلك لدلالة «يقضي» على أنه «يَحكُم». وهناك مزيد من الآيات التي تدل على هذا المعنى، ومنها: قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُم بِحُكْمِهِ﴾ (النمل: 78)، وأيضاً قوله سبحانه: ﴿وَاللهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ﴾ (المؤمن: 20)، وكذلك في قوله تعالى: ﴿إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ﴾ (الجاثية: 17). كما أن «القضاء» ورد في مواطن عدّة في الذكر الحكيم ويقصد منه «الحُكْم»، وذلك في قوله سبحانه: ﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا﴾ (طه: 72)، و﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ﴾ (النساء: 65)، وآيات أخرى لم نتطرق إليها؛ كفاية هذه الأمثال.
ثم إن صاحب الجواهر، وبعدما أفرد عشر معانٍ للقضاء، ذكر آيات يبدو أنه رشّحها لتكون مثالاً لتلك المعاني بطريقة اللفّ والنشر المرتَّب. ولو قصد هذا فإنه وقع في خطأ، اللهم إلا إذا قصد من قوله هذا بيان أقوال الآخرين.
ونأتي هنا بهذه الآيات، وبالترتيب الذي أورده صاحب الجواهر: ﴿ثُمَّ لاَ يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ﴾ (النساء: 65)، و﴿إِلاَّ حَاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضَاهَا﴾ (يوسف: 68).
ومن البديهي أن صاحب الجواهر وقع في الخطأ لو اتّخذ من هذه الآية مثالاً للمعنى الثاني ـ والظاهر أنه قصد منها هذا المعنى ـ ؛ لأنّه ممّا لا شَكَّ فيه أنّ «القضاء» في هذه الآية لا يستفاد منه معنى «العلم»، ومن هنا من الممكن أن يكون قصده من ذكر هذه الآية مثالاً للمعنى الثالث، أي «الإعلام»، وإنْ كان في هذه الحالة لم يقدّم مثالاً للمعنى الثاني.
والآية الثالثة التي ذكرها بالتوالي هي: ﴿وَقَضَيْنَا إِلَيْهِ ذَلِكَ الأَمْرَ﴾ (الحجر: 66). وكما أشرنا سَلَفاً فإنّه اتّخذها مثالاً للمعنى الثالث، وهو «الإعلام». ويبدو أن ذلك صحيحٌ، وخاصّة أنه فسّر «الإعلام» بالـ «إنهاء». ومع هذا يصبح من الصعب أن نقبل بأن الآية السابقة جاءت مثالاً لهذا المعنى؛ لأنه أوّلاً: يلزم التكرار في المثال؛ وثانياً: أتى الـ «قضاء» في هذه الآية بصيغة المتعدي، ومضافاً إلى التعدية الذاتية استعمل بـ «إلى».
والآية الرابعة التي أتى بها مثالاً على معنى الـ «قضاء» هي الآية: ﴿فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ﴾ (سبأ: 14). والملفت أنه صرح بمعناها بقوله: إنّ القضاء هنا يعني الـ «حتم». وهذا الأمر وإنْ كان محتملاً، لكن يبدو من ظاهر الآية أنه يعني الـ «إتمام»، والذي ذكره صاحب الجواهر بالمعنى التاسع؛ كما يمكن أن يدلّ على المعنى الأول، وكلمة «الموت» منصوبة بنزع الخافض، وإنْ كان يبدو هذا خلافاً للظاهر.
وقد أورد صاحب الجواهر الآيات التالية بعد الآيات السابقة: ﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ﴾ (الإسراء: 23)، و﴿فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ﴾ (فصّلت: 12)، و﴿فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ﴾ (طه: 72)، و﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ﴾ (القصص: 29)، و﴿أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ﴾ (القصص: 28). ووفقاً للقاعدة التي أسّس عليها يجب أن يكون قد قصد من القضاء في الآية الأولى معنى الـ «أمر».
لكنْ أوّلاً: من الممكن أن يكون القضاء في هذه الآية يعني القضاء بإزاء القدر؛ وثانياً: يمكن أن يكون القضاء فيها بمعنى الحكم، وإنْ كان من المحتمل أن يكون معناه هو نفس المعنى الذي قصده صاحب الجواهر، لكنّه غير ثابت.
والآية الثانية التي ذكرها صاحب الجواهر، في سياق الآيات المذكورة أعلاه، أتت شاهداً للمعنى السابع، وتصوّر أن القضاء فيها يعني الخلق والتكوين.
وهذا المعنى وإنْ كان محتملاً، لكنْ؛ وبالنظر إلى ما ذكرناه في الآية السابقة وما تفرَّع منها في هذه الآية، يبدو أن القضاء هنا يعني الـ «إتمام»، كما يمكن أن يكون بمعنى الـ «جعل»، ولذلك فلا يمكن اعتبارها شاهداً للمعنى المذكور.
ومن الواضح أن صاحب الجواهر اعتبر الآية التالية شاهداً للمعنى الثامن، وتصوّر أن القضاء فيها يعني الـ «فعل» والإنجاز.
وبالنظر إلى معنى الآية يظهر أن القصد من القضاء فيها هو الحكم، وليس الفعل؛ وذلك لأن السحرة بعد إيمانهم برسالة موسى والتهديدات التي وجّهها إليهم فرعون قالوا له: اقْضِ ما أنت قاضٍ بحقِّنا. وإنْ كان يُحتَمَل أيضاً المعنى الذي قدَّمه صاحب الجواهر؛ لأن مَنْ يقع تحت تهديد الحاكم ربما يجيب على تهديده بقوله: افعل ما أنت فاعله. لكنْ من جهةٍ أخرى فإنّ فرعون لا يعمل شيئاً سوى الحكم. والظاهر من حديث السحرة هو كأنّهم يقولون: يا فرعون، نحن اخترنا الإيمان، وتستطيع أن تصدر بحقّنا ما شئت من الحكم.
وكما أشرنا فإنه يظهر أن صاحب الجواهر قصد من القضاء في الآيتين: ﴿فَلَمَّا قَضَى مُوسَى الأَجَلَ﴾ (سبأ: 14)؛ و﴿أَيَّمَا الأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ﴾ (قصص: 28)، معنى الـ «إتمام»؛ ومن الآية ﴿قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ (يوسف: 41) معنى الـ «فراغ».
بَيْدَ أنّه يظهر أن القضاء في هذه الآية يشير إلى القضاء في مقابل القدر، دون معنى آخر.
وما يتمخّض من هذا الاستقصاء الوجيز هو أن القضاء في اللغة يتضمّن عدة معانٍ، لا تنحصر بما ذكره صاحب الجواهر. ومن الواضح أن الاسترسال في الحديث حول كون هذه المعاني هي المعاني الحقيقية لهذا اللفظ أم لا، أو أنّها من الألفاظ المشتركة، أو أنّها وضعت لبعض هذه المعاني، أو أنّ لها معاني مشتركة أو وضعت للقدر المشترك بينها، لا تفي بالغرض المنظور من موضوع هذه الدراسة؛ وذلك لأننا نبحث عن معنى الـ «قضاء» عند المتشرِّعين وفي الروايات الواردة عن أهل البيت^. ولذلك نقول بأن القضاء في النصوص الدينية والمحاكم الشرعية يعني الحكم، وهو المعنى الأول من معانيه اللغوية.
القضاء في المصطلح الفقهي
إذن فالقضاء في المصطلح الفقهي، والذي أخذ حيِّزاً واسعاً من الدراسات الفقهية، هو إصدار الحكم من قبل مَنْ يتمتع بصلاحية إصداره بإثبات أو نفي حقّ المدّعي وما شابه ذلك، وليس بمعنى الولاية الشرعية على الحكم والمصالح العامة، كما ذكر الشهيد الأول في الدروس، واختاره صاحب الجواهر([1])؛ وذلك وفق الأدلة التالية:
أوّلاً: لا شَكَّ أن القضاء لا يعني الولاية، بل يعني الحكم بين الناس، كما ذكر جلَّ وعلا في كتابه المجيد: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ﴾ (ص: 26). وكما هو جليٌّ فإن استخلاف داوود× تقدّم على حكمه بين الناس بالحقّ، وهذا يعني بحدّ ذاته أن القضاء لا يعني الولاية، بل متفرِّع منها، وأن القضاء من شؤون الوليّ.
ثانياً: لقد عدّ الشهيد الأول القضاء بمعنى مطلق الولاية على الحكم والمصالح العامة. ولهذا قام صاحب الجواهر وبعض الفقهاء([2]) بترجيح هذا الرأي، من حيث تعميمه على الرأي الآخر، الذي جاء في كتاب المسالك، والذي لا يستفاد منه هذا التعميم. في حين أنه يبدو ممّا لا شَكَّ فيه أن حكم حاكم الشرع بثبوت رؤية الهلال وما شابهه لا يعني القضاء، وإنْ كان حكماً، حيث لا يطلق على هذا الحكم في المصطلح الشرعي قضاء؛ لأن الظاهر أنّ الحكم العادل والحكم بالحقّ وما شاكله من هذه الأحكام، والتي تجري بين الناس، هي القضاء. فبالتالي القضاء لا يعني مطلق الحكم، بل هو أخصّ منه، والذي عبّرنا عنه بحكم الشخص الصالح بإثبات أو نفي حقّ المدّعي وأمثال ذلك. ومن المؤكَّد أن القصد من صلاحية القاضي بالحكم تعني الصلاحية العلمية لإصدار الحكم، فضلاً عن انتصاب القاضي وتعيُّنه من قبل الله أو الرسول أو الإمام المعصوم، فمن دون ذلك لا يعتبر حكمه قضاء شرعياً، وإنما يدخل في القضاء العرفي.
وتجد الإشارة إلى أن القضاء الفقهي، وهو الوجه الآخر من القضاء الشرعي، يستلزم شروطاً كثيرة، لسنا بصدد عدّها جميعاً، وإنما نشير إلى أهم الشروط التي يجب توفُّرها في القاضي لنفاذ قضائه. ومن البديهي إنه اذا كان القاضي رسول الله‘ أو الإمام المعصوم× فالشروط متوفِّرة بأتمّها عندهما؛ لأن اجتماع هذه الشروط في شخصيتهم هي التي أهّلتهم لتولّي منصب الرسالة والإمامة. والحديث هنا إنما هو عن ظروف القضاء الشرعي من قبل غير المعصوم في عصر الغَيْبة، فكيف يمكن أن يتولى غير المعصوم منصب القضاء في عصر الغَيْبة، وهو في الظاهر أمرٌ لا مناص منه؟ وكيف يمكنه أن يقضي بين الناس، كما اعتبره الفقهاء واجباً كفائيّاً([3]) في هذا العصر؛ لحلحلة خلافات الناس ومشاكلهم، وفقاً لقوانين الشريعة الإسلامية؟
وللإجابة عن هذا السؤال تناول الفقهاء هذا الموضوع بشكلٍ موسّع، وذكروا شروطاً تفصيلية للقاضي، نطرحها في ما يلي بالتوالي؛ وذلك للتذكير بالأهمّية القصوى التي يوليها الإسلام الحنيف للقضاء.
يقول المحقّق في الشرائع: «إن الشروط التي يجب توفرها عند القاضي؛ كي يتمكن من القضاء، هي: البلوغ وكمال العقل والإيمان والعدالة وطهارة المولد والعلم والذكورة»([4]).
ويقول السيد الخوئي: «إن الأمور المعتبرة عند القاضي هي: البلوغ والعقل والذكورة والإيمان وطهارة المولد والعدالة والرشد والاجتهاد والاختصاص»([5]).
وأما الإمام الخميني فيقول: «إن شروط القاضي هي: البلوغ والعقل والإيمان والعدالة والاجتهاد المطلق والذكورة وطيب المولد والأعلمية في مكان القضاء وأطرافه»([6]).
ويمكن القول بأنّ هذه الشروط هي التي اتّفق عليها الغالبية الساحقة من فقهائنا، وإنْ كان بعضهم تحفَّظ على بعض هذه الشروط، كذكورة القاضي مثلاً، لكن غالبية هذه الشروط هي من المسلَّمات الواردة في الروايات.
وهناك شروطٌ أخرى ذكرت للقاضي، ونخصّ بالذكر هنا ما ورد منها عن الإمام علي بن أبي طالب في عهده لمالك الأشتر، فقد كتب الإمام في عهده عن القضاء: «فاختَرْ للحكم بين الناس أفضل رعيّتك في نفسك، وأنفسهم للعلم والحلم والورع والسخاء، ممَّنْ لا تضيق به الأمور، ولا تُمحِكه الخصوم، ولا يتمادى في إثبات الزلّة، ولا يحصر من الفيْء إلى الحقّ إذا عرفه، ولا تشرف نفسه على طمع، ولا يكتفي بأدنى فهم دون أقصاه، وأوقفهم في الشبهات، وآخذهم بالحجج، وأقلّهم تبرّماً بمراجعة الخصوم، وأصبرهم على تكشّف الأمور، وأصرمهم عند اتّضاح الحكم، ممَّنْ لا يزدهيه إطراء، ولا يستميله إغراء، ولا يصغي للتبليغ، فولِّ قضاءك مَنْ كان كذلك، وهم قليلٌ»([7]).
ويتضح من هذا العهد الشريف والروايات المتعدّدة الواردة عن شروط القاضي في الإسلام أوّلاً: إن القضاء شأن بالغ الأهمية، وحاضر في جميع مراحل تاريخ الحضارة البشرية، ولا يختص بعصر وزمان دون غيره، أو عندما يقع الحكم بيد المعصوم×، فلو كان غير ذلك لما صدر كلّ هذا التأكيد والإصرار على شروط ومواصفات القاضي. فإنْ كان أمر القضاء حكراً على المعصوم× ومنحصراً به لما لزم كلّ هذا التأكيد على شروط القاضي ومواصفاته؛ لأنه× يحمل كلّ هذه الشروط كحاكم الشرع. ومن جانبٍ آخر لو كان القاضي منصوباً ومعيناً من قبل المعصوم× فما الحاجة إلى هذا الكمّ من التوصيات والدعوات؟ وفضلاً عن هذا كلّه فإن الإمام عليّ× يأمر مالك في عهده هذا باختيار أفضل الرعية لتولّي منصب القضاء. وهذا إنْ دلّ إنما يدلّ على أن القضاء شأنٌ ضروري يشمل البشرية كافّة، وهذا ما يصرّح به القرآن الكريم في قوله تعالى: ﴿فَبَعَثَ اللهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ وَأَنزَلَ مَعَهُمْ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِي مَا اخْتَلَفُوا فِيهِ﴾ (البقرة: 213). ويستفاد من الآية ـ كما هو واضح ـ أنّ الفلسفة من تنزيل الكتب السماوية هي أن تستخدم قوانين هذه الكتب كمرجع للحكم والقضاء من قبل القضاة. ويبدو جليّاً أن هذا المعنى عامّ يشمل كلّ عصر وزمان.
وثانياً: يبدو واضحاً من الآيات والروايات أن منصب القضاء منصبٌ هامّ، وجدير بأن يكون مما أوصى به الله سبحانه وتعالى، ولا يمتلك كلّ فرد الصلاحية لتولي هذا المنصب. ومن هذا المنطلق نرى الإمام علي×، وبعد عدّه لشروط ومواصفات القاضي، يقول بصراحة: «وَلِّ قضاءك مَنْ كان كذلك، وهم قليلٌ»، ما يعني أن أكثر الناس لا يمتلكون الصلاحيات لتولّي القضاء؛ فالقاضي له شروطه ومواصفاته الخاصة والهامّة، التي يفتقدها الكثير من الناس.
وجاء في رواية أن أمير المؤمنين× خاطب شريح القاضي بقوله: «يا شريح، قد جلست مجلساً لا يجلسه إلاّ نبيّ، أو وصيّ نبيّ، أو شقيّ»([8]). وهذا يعني أن منصب القضاء منصب النبوّة.
وجاء في روايةٍ أخرى عن الإمام الصادق× أنه قال: «اتّقوا الحكومة؛ فإن الحكومة إنما هي للإمام العالم بالقضاء، العادل في المسلمين، كنبيٍّ أو وصيّ نبيّ»([9]).
مبادئ حكم القاضي في الإسلام
ممّا لا شَكَّ فيه أن القاضي في الإسلام يجب أن يحكم وفقاً للكتاب والسنّة.
وإنّ من صريح القرآن أنّه لا يحقّ لأحد الحكم بغير حكم الله، كما في قوله تعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ﴾ (المائدة: 44). وفي هذا إلزامٌ للجميع بالحكم بما أمر الله به. ومن الملفت والمثير أنه عدّ مَنْ يحكمون بغير حكم الله كفّاراً، كما يصفهم بالآية التي تليها بالظالمين، وبعد آيتين بالفاسقين.
إذن على القاضي في الحكومة الإسلامية أن يحكم وفقاً للكتاب، ووفقاً لما ورد عن النبيّ والمعصومين^. وإنْ كان تصريح القرآن وقع على «ما أنزل الله»، واختصّ به دون غيره، ولكنّ قول المعصوم هو الآخر شكلٌ ممّا «أنزل الله». وعليه يمكن القبول بأن القضاء وفقاً للسنّة هو شكل من القضاء وفق الحكم الإلهي. وهذا مما لا يَدَع مجالاً للشكّ بأن القضاء في الإسلام يجب أن يؤسّس على القرآن والسنّة فقط.
إذن فالنتيجة ممّا ذكرناه هي أن القضاء يجب أن يكون وفقاً لمبادئ الإسلام وقوانينه، وأن هذه المبادئ والقوانين مودعةٌ في الكتاب والسنّة. وعليه يجب على المسلمين القبول بهذا المبدأ، وهو أن القضاء الصحيح هو القضاء المستند إلى القرآن والسنة. فمثلاً: وفق هذا المبدأ لا يجب التشكيك في أن قصاص النفس هو حكم مَنْ قتل نفساً مع سابق الإصرار والترصُّد؛ وأن جزاء السارق قطع اليد؛ وغيرها من أحكام الجرائم التي ذكرت في القرآن، أو وردت في السنّة؛ وذلك لأننا ذكرنا قوله سبحانه وتعالى في كفر وظلم وفسق مَنْ لم يحكم بما أنزل الله. إذن فلا تشكيك في هذا الموضوع، وإنما الكلام هو في: مَنْ يحكم؟ وكيف يحكم؟
لقد أشَرْنا في ما سبق أن الأَوْلى في الحكم هو المعصوم×، والنقاش والنزاع في هذا الأمر لا يجدي ولا يفيد، ولسنا بصدده الآن.
كما أننا أثبتنا إمكانية حكم غير المعصوم. والموضوع الشائك والسؤال الملحّ الآن هو كيفية حكم غير المعصوم هذا. فعلى أيّ أساس، ووفق أيّ مبدأ، يتكون حكمه؟ هل هناك معيار ومبدأ محدّد لحكمه أو أن حكمه لا يحتاج لأي معيار ومبدأ خاصّ؟
إن لهذا السؤال جانبان: من حيث تحديد الحكم؛ وتحديد الموضوع.
الجانب الأوّل هو: لِمَ يستند القاضي في تحديده وتشخيصه لحكم الله؟ وبعبارةٍ أخرى: كيف يعلم القاضي أن لعملٍ ما جزاءً ما في الشريعة الإسلامية؟
الجانب الثاني هو: لِمَ يستند القاضي في تحديد وتشخيص الموضوع؟ مثلاً: إن القاضي، وحسب المفروض، يعلم من القرآن بأن جزاء السارق قطع اليد، ولكن كيف يعلم بأن هذا الشخص بالذات هو الذي قام بالسرقة ليحكم بقطع يده؟ والملخص أنه يترتّب على القاضي أن يحصل على علم بأن الشخص مديون أو مجرم أو قاتل و… حتّى يتمكّن من تنفيذ حكم الله بحقّه. والسؤال هنا هو عن السبيل الذي يوصله إلى الحكم أو المعيار الذي يمكن وفقه أن يقضي بمديونية أو إجرام أحدٍ ما كي ينفذ فيه حكم الله؟
ونقول في الإجابة عن السؤال الأول: قلنا سابقاً: إن من شروط القاضي العلم والاجتهاد، وهذا يعني أن على القاضي أن يكون على أتمّ المعرفة بالأحكام الإلهية، بل أن يكون مجتهداً ومختصاً حاذقاً في معرفة الأحكام، وأكثر من ذلك قال بعض الفقهاء: يجب أن يكون أعلم وأكثر درايةً بالحكم من الآخرين في محلّ إصدار الحكم([10]). إذن فالإجابة عن السؤال الأول أصبحت واضحة الآن، وهي في الاستناد لتحديد وتشخيص حكم الله على علم القاضي. وجاء في روايةٍ عن الإمام الباقر× أنه قال: «مَنْ أفتى الناس بغير علمٍ، ولا هدىً، لعنته ملائكة الرحمن، ولعنته ملائكة العذاب، ولحقه وزر مَنْ عمل بفتواه»([11]). كما ورد عن الإمام الصادق× قوله: «القضاة أربعة: ثلاثة في النار؛ وواحد في الجنة. رجلٌ قضى بجور وهو يعلم فهو في النار، ورجلٌ قضى بجور وهو لا يعلم فهو في النار، ورجلٌ قضى بالحقّ وهو لا يعلم فهو في النار، ورجلٌ قضى بالحق وهو يعلم فهو في الجنّة»([12]).
ولا شَكَّ في أن على القاضي أن يعرف الأحكام. فالجاهل وغير العالم لا يمكنه القضاء. وهذا ما اتفق عليه جمهور الفقهاء، فضلاً عن أنه أمر بديهي وفطري. وهناك روايات تدلّ على هذا الموضوع، قد أشرنا إلى بعضها هنا وفي ما سلف في هذا المقال، وهي لا تترك مجالاً للنقاش والتشكيك. أجل، هناك نقاشٌ في مصادر علم القاضي، وهل هو علم وجداني اجتهادي أو يشمل العلم التقليدي؟ وقد أفتى المحقّق في الشرائع، وبشكلٍ صريح، بعدم جدوى وفائدة العلم التقليدي في منصب القضاء بقوله: «لا ينعقد (القضاء) لغير العالم المستقلّ بأهليّة الفتوى، ولا يكفيه فتوى العلماء، ولا بُدَّ أن يكون عالماً بجميع ما وليه». وعلّق صاحب الجواهر، في شرح ما قاله المحقّق، بما يلي: «…بلا خلافٍ أجده فيه، بل في المسالك وغيرها الإجماع عليه، من غير فرق بين حالتي الاختيار والاضطرار»([13]).
والنقطة الهامة التي يجب الانتباه لها في هذا المجال هي أنّه بعد كلام المحقّق عن علم القاضي بجميع ما وليه يضيف عليه صاحب الجواهر، مستعيناً بنصوص الشهيد الثاني في المسالك، أن على القاضي أن يكون عالماً، «أي مجتهداً مطلقاً، كما في المسالك، فلا يكفي اجتهاده في بعض الأحكام دون بعضٍ»([14]).
وجاء في كتاب «ملحقات العروة»: «وأمّا المتجزئ، بناءً على إمكانه، فالأحوط عدم نفوذ قضائه، خصوصاً مع وجود غيره»([15]).
وجاء في كتاب تحرير الوسيلة، للإمام الخميني: «يشترط في القاضي البلوغ والعقل والايمان والعدالة والاجتهاد المطلق والذكورة وطهارة المولد والأعلمية ممَّنْ في البلد أو ما يقربه على الأحوط. والأحوط أن يكون ضابطاً غير غالب عليه النسيان»([16]).
ومن الواضح أن الإمام الخميني، شأنه شأن غالبية الفقهاء، قد صرح بضرورة الاجتهاد المطلق في القضاء في مقابل الاجتهاد المتجزئ، وهذا يعني أن القضاء ساحة لا يدخلها أيّ شخص بمجرد الدراسة في الحوزة والجامعة، وإنْ كان فاضلاً ومتعلماً، بل هو من اختصاص مَنْ يمتلك القدرة على استنباط جميع المسائل الفقهية، بل ويشترط الإمام الخميني ـ فضلاً عن هذا ـ شرط «الأعلمية»، وإنْ كان من باب الاحتياط.
واتّضح من مجموع ما قلناه أن الجواب عن السؤال الأول هو أن على القاضي أن يستند على علمه في تشخيص وتحديد حكم الله في القضاء. وهذا مما لا شَكَّ فيه ولا رَيْب.
وأما بالنسبة لعلم القاضي من حيث العلم الاجتهادي أو التقليدي، ولزوم الاجتهاد المطلق أو كفاية مطلق الاجتهاد، فهناك خلافٌ بين الفقهاء في تحديد هذا الشرط، وإنْ كان البعض منهم يدّعي أن شرط الاجتهاد في القاضي اتّفاقي، لكن اشتراط الاجتهاد المطلق لا يلقى إقبالاً واسعاً لدى الفقهاء في مقابل اشتراط أصل الاجتهاد. ولأننا ألفنا هذا المقال للإجابة عن السؤال الثاني نكتفي بهذا القدر من الإجابة عن السؤال الأول.
وكان السؤال الثاني هو: إلى ماذا يستند القاضي في تشخيصه للموضوع كي ينفذ على أساسه حكم الله؟
إن الإجابة عن هذا السؤال هي الدافع الأساس وراء تأليف هذا المقال.
إنَّ غالبية مَنْ يترافعون في المحاكم القضائية هم طرفا الادّعاء والمنكر. فالأول مَنْ يدعي شيئاً على الآخر، والآخر مَنْ ينكر الادعاء المعروض من الطرف الأول، وإنْ كان المنكر يختار السكوت أحياناً أمام ادّعاء المدّعي، أو يقبل الادّعاء حيناً آخر. كما يمكن أن يتبادل الطرفان الادّعاءات، ويرفضه الآخر.
الإقرار في مقام القضاء
لا شَكَّ بأن المنكر ـ والذي نعبر عنه بالـ «مدَّعى عليه» ـ اذا قبل ادّعاء المدّعي وأقرَّ به، أو أنَّ مجرماً ما أقرّ على نفسه دون وجود مدّعٍ، فالجريمة أصبحت ثابتةً، ويمكن للقاضي في هذه الحالة أن يصدر حكماً ضدّ المدَّعى عليه أو المجرم، وإنْ كان الإقرار الواحد لا يكفي في بعض الحالات لإصدار حكم القاضي، بل يتوجب أربعة أقارير لإثبات الحالة. فالزنا واللواط لا يثبتان بالإقرار الواحد، بل على المجرم أن يقرّ أربع مرات ليثبت قيامه بالجريمة، وليتمكن القاضي من الحكم عليه بالحدّ.
إن الدليل على ثبوت الجرم بالإقرار يكمن في بديهيّته. فمَنْ يقرَّ على نفسه بارتكابه عملاً ما لا يوجد دليلٌ على ردّ إقراره حَسْب الظاهر، إلاّ بوجود دليلٍ خاصّ يتعارض والدليل المقدَّم من المقرّ على نفسه. وبعبارةٍ أخرى: العقلاء لا يتردَّدون في مثل هذه الحالات في ثبوت وإلحاق العمل المنسوب بالمقرّ، والظاهر أنهم يقدمون على إصدار هذا الحكم من منطلق أنهم عقلاء، ولا يردّهم الشارع في ذلك، بل يؤيّد قرارهم ويصادق على فعلهم من خلال قبوله مبدأ الإقرار على النفس. إذن فإنْ قصد مجرمٌ القاضي، وأقرّ عنده بجرمٍ أو جريرة، يستطيع القاضي أن يعتبره مجرماً أو جانياً، ويصدر بحقّه الحكم، إلا في حالات لا يعترف الشارع المقدَّس باعتبار إقراره.
البيِّنة واليمين
أشرنا إلى أن الإقرار هو أحد مستندات القاضي في حكمه، ولكنْ من النادر أن يقرّ المجرم والجاني بجرمه وجنايته، ومن النادر أيضاً أن يقرّ المدَّعى عليه بادّعاء المدَّعي، ويقبل الادّعاء بشكلٍ يمكِّن القاضي من إصدار الحكم وفق هذا الإقرار. فما هو مستند القاضي الأصلي في الشبهات الموضوعية؟
لم يتردَّد أحدٌ من فقهائنا بإثبات الادّعاء عند القاضي؛ لوجود شاهدين عادلين يعبَّر عنهما بالبيِّنة، يدليان بشهادتهما للادّعاء أمامه، إلاّ في حالات خاصة لا يقبل الشارع كفاية شاهدين للإثبات. ومن البديهي أن تكليف المدّعي بالإتيان بالبينة يقع عند إنكار ادّعائه من قبل المدَّعى عليه، فلو قبل المدّعى عليه الادّعاء، كما أسلفنا، فلا يحتاج القاضي إلى شيءٍ آخر لإصدار الحكم. إذن فعند ادّعاء المدّعي، ورفضه من قبل المدَّعى عليه، يلزم القاضي المدّعي بإثبات ادّعائه، أي يقول له: هل تمتلك دليلاً لادّعائك؟ وهل هناك بيِّنة تشهد لصالحك؟ وإنْ أتى المدَّعي بالبينة فلا شَكَّ بأن القاضي سيصدر الحكم لصالحه ضدّ المدَّعى عليه. وفي حال لم يأتِ المدّعي ببينة أو افتقدت بيّنته الشروط الضرورية يقترح القاضي على المنكر أداء اليمين، ولو أدّى المنكر اليمين يبطل ادّعاء المدّعي، ويصدر حكم القاضي لصالح المنكر أو المدَّعى عليه، ولا يلتفت بعد أداء اليمين وإصدار الحكم إلى إتيان المدّعي بالبيِّنة.
وفي حال تكليف القاضي المدّعى عليه باليمين، ونكول الأخير ورفضه، وردّه على المدّعي، يؤدّي المدّعي اليمين، ويثبت بذلك مدّعاه، ويصدر القاضي الحكم لصالحه. وفي حال نكول المدّعي عن أداء اليمين، وردّه على المنكر، يسقط مدّعاه. وهذا ما ورد بالضبط في رواية محمد بن مسلم»([17]).
وإنْ أعرض المنكِر عن أداء اليمين، ولم يردّه على المدّعي، هل يجوز للقاضي أن يردّ اليمين على المدّعي، كما لو ردَّه المنكِر، ليحكم القاضي بعده؟ يعني لو أدّى المدّعي اليمين حكم لصالحه، وإنْ امتنع حكم لصالح المنكر، أو مجرّد امتناع المنكر عن اليمين يمكِّن القاضي من الحكم لصالح المدّعي؟
ونشأ عن هذا الموضوع رأيان. ونتصوّر نحن بأن الحقّ هو أن يقوم القاضي بردّ اليمين على المدّعي بعد امتناع المنكر عن أدائه، وإنْ امتنع المدّعي عن اليمين يصدر الحكم لصالح المنكر، وإنْ أدّى اليمين فيحكم لصالحه.
وهذا الرأي إنما جاء بناءً على روايةٍ معتبرة عن أبي عبد الله×، حيث يقول: «تردّ اليمين على المدّعي»([18]). ومضمون الرواية مبنيٌّ على الإطلاق، ويقتضي رد اليمين على المدعي عند نكول المنكر عن أدائه. وهذا الإطلاق أعمّ من ردّ اليمين من قبل المنكر أو القاضي على المدّعي. إذن لا يمكن القول بأن القاضي، وكما يتصور البعض، يمكنه الحكم لصالح المدّعي لمجرّد سكوت المنكر أو امتناعه عن أداء اليمين، ولا سيَّما أنّ القول بهذا يعني أن القاضي يحكم دون بيِّنة ويمين، وهو الحكم بلا دليلٍ.
وعلمنا من خلال ما قلناه بأن القاضي يحكم باستناده إلى بينة المدّعي ويمين المنكر، أي إنّه لو ادّعى المدّعي أمراً يسأله القاضي: هل لديك دليل أو شهود لإثبات ما تدّعيه؟ ومن البديهي أن يلزم القاضي الطرف المقابل بأداء اليمين في حال عجز المدّعي عن تقديم البيّنة. فلو أدّى المنكر اليمين يصدر القاضي الحكم لصالحه. والدليلُ على حكم القاضي على أساس البينة واليمين، فضلاً عن إجماع واتّفاق جميع الفقهاء على ذلك، وجودُ الروايات الكثيرة التي نشير إلى بعضها في ما يأتي.
في روايةٍ معتبرة، نقلها جميل وهشام، أن الإمام الصادق× قال: «قال رسول الله‘: البينة على مَنْ ادّعى، واليمين على مَنْ ادّعى عليه»([19]).
وجاء في روايةٍ أخرى أنه× قال: «الحقوق كلّها: البينة على المدعي، واليمين على المدّعى عليه، إلاّ في الدم خاصّة»([20]).
وتفيد هذه الروايات، التي تواترت في كتب الحديث، بأن القاضي في الإجمال يستطيع أن يقضي وفقاً لمبدأي شهادة العدلين واليمين. وقولنا ـ في الإجمال ـ يعني أنه، وكما أشرنا سابقاً، لم يكتفِ الشارع المقدَّس بشهادة شاهدين عدلين لإثبات موضوع الحكم في بعض الحالات، كما أن اليمين لا يثبت شيئاً ولا ينفيه أحياناً. وتشير الرواية المنقولة الأخيرة إلى هذا المعنى أيضاً.
كما يمكن لقائلٍ أن يقول: تكفي شهادة شاهد عادل واحد أو شخص موثوق لإثبات بعض الحالات.
إذن ما نبحث عنه هنا هو أن القاضي يستطيع الحكم وفق شهادة الشهود الذين قدّمهم المدّعي، أو وفقاً لليمين الذي يؤدّيه المدّعي والمنكر في حال فقدان البينة والشهود، وإصدار الحكم لصالح أحد طرفي النزاع، عند امتناع أحدهم عن أداء اليمين.
هذا كلّ ما كنا ننويه من حديثٍ حول البينة واليمين.
وملخَّصه أن القاضي عند توليه منصب القضاء يستطيع أن يحكم وفق شهادة الشهود أو أداء اليمين. والكلام الآخر حول عدد الشهود، ومحلّ الاكتفاء بشاهدين أو شاهد ثقة، ومواصفات الشهود، وغيرها من القضايا ذات الصلة، نتركها لمجال آخر؛ لأن الهدف من هذا المقال هو الإجابة عن سؤال: هل يستطيع القاضي العمل بعلمه أم لا؟
هل يستطيع القاضي أن يقضي وفق علمه؟
والسؤال الذي نحن بصدد الإجابة عنه في هذا المقال يمكن طرحه في المثال التالي: هل يمكن للقاضي أن يحكم لصالح المدّعي دون بينة، وحسب علمه؟
يدعي شخصٌ بأنه يطلب فلاناً بمبلغٍ من المال، ولم يتمكَّن أن يأتي بالبينة، فيقصد القاضي ويطلب منه الحكم. هل يمكن للقاضي؛ ولمجرّد علمه بصدق ما يدّعيه المدّعي، أن يصدر حكماً لصالحه بمديونية الشخص الثاني، أم أنه لا يتمكّن من القضاء لصالحه؛ لعدم تمكنه من الإتيان بالبينة؟
وهل هذه الحالة تعتبر من حالات تكليف المنكر باليمين؛ للحكم لصالحه؟
وهكذا لو علم القاضي بأن شخصاً ما ارتكب جرماً أو جناية فهل يحقّ له أن يصدر حكماً ضدّه بناء على علمه ومعرفته، أم لا يحقّ له ذلك؟
إن القضية تبدو واضحة، لا تحتاج إلى نقاش وتفصيل؛ لأنه من الثابت في محلّه أن العلم واليقين حجّتان، وحجّيتهما ذاتية. وبعبارة أخرى: إذا حصل العلم في أيّ حالة لا تحتاج حجّيته إلى دليلٍ آخر. وبعبارة أخرى: لو حصل العلم في أيّ شيءٍ كان لم تحتج حجّيته إلى دليلٍ آخر، كما في غير العلم. فحجّية كلّ غير علم تَبَعٌ للعلم، ولكنّ حجِّية العلم مستندة إليه وحده.
فلو قلنا ـ على سبيل المثال ـ بأن خبر الواحد حجّة، أو البينة حجّة، أو اليمين حجّة، فهذا لأن حجِّية أيٍّ منها ثبتت عن طريق العلم، بينما حجّية العلم قائمة به.
وعلى غرار هذا لو علم القاضي بحكم الله فلا شَكَّ بأنه يتمكّن من العمل بعلمه.
فمثلاً: لو علم بأن يد السارق تقطع، أو أن شخصاً سطا على مصرف وسرق كميات من النقود، يجب عليه كقاضٍ أن يصدر الحكم المعلوم على هذا الموضوع المعلوم.
وليس من الصحيح أن لا نتردّد في قضية توجد فيها شبهة حكمية ونتردّد في هذه القضية، وهي شبهة موضوعية، ونشكّ بأنه هل على القاضي أن يحكم بعلمه حول دعوى أو جريمة أم لا؟
أليس من الواضح أن العلم علم، وهو عين الانكشاف، ويعبِّر عن الواقع أينما حلّ؟ أَوَلم تكن الحجّية ذاتية للعلم؟
لا شَكَّ بأن الإجابة عن هذه الأسئلة تكون بالإيجاب؛ فلا مجال للشكّ بأن علم القاضي بالموضوع كعلمه بالحكم، يشكِّل أفضل منهج له في منصب القضاء.
ويبدو أنه من هذا المنطلق لم يشكِّك أحد من فقهائنا في مبدأ عمل القاضي وفق علمه، بل في وجوب العمل بعلمه.
يقول المحقِّق في الشرائع: «لا خلافَ بيننا معتدّاً به في أن الإمام× يقضي بعلمه».
وقد شرح صاحب الجواهر هذا بقوله: مطلقاً، في حقّ الله وحقّ الناس، بل في محكيّ الانتصار والغنية والإيضاح ونهج الحقّ وغيرها الإجماع عليه، وهو الحجّة.
ويضيف المحقِّق: وغيره (أي غير الإمام) من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس قطعاً، وفي حقوق الله تعالى على قولين: أصحّهما القضاء»([21]).
والعبارة التي أوردها العلاّمة في القواعد هي نفس عبارة المحقّق في الشرائع.
كما أن عبارة شارح القواعد السيد محمد العاملي تطابق عبارة صاحب الجواهر، وإنْ تضمّنت تفصيلاً لآراء أخرى. فمثلاً: عند شرحه لعبارة العلامة التي يقول فيها: «وغيره (أي غير الإمام) من القضاة يقضي بعلمه في حقوق الناس قطعاً، وفي حقوق الله تعالى على قولين: أصحّهما القضاء» يذكر عشرين كتاباً ورد فيها التأكيد على صحّة قضاء القاضي بعلمه. كما نقل الى جانب هذا التأكيد بضعة آراء تخالف هذا الرأي السائد([22])، ومنها: رأي أبي علي البغدادي، المعروف بابن الجنيد، وهو من فقهاء السلف المتقدّمين. وفي كلا المصدرين يعارض هذا الرأي، ويرى أنّه لا يجوز للقاضي القضاء بعلمه أبداً، ولا يذكر غيره من الفقهاء الذين أخذوا برأي ابن الجنيد.
ويبدو أن فقهاء السنّة والجماعة أيضاً تمسّكوا بالرأي السائد القائل بقضاء القاضي وفق علمه، وإنْ لم يدخلوا في تفاصيل الأمر كفقهاء الشيعة. ولكنّ المتتبّع والباحث في مصادرهم الفقهية يجد أنهم قبلوا هذا المبدأ كأحد مستندات القاضي لإصدار الحكم. ومن هؤلاء الفقهاء: الشيخ عبد الرحمن الجزيري، الذي يقول في كتابه «الفقه على المذاهب الأربعة»، في «مبحث في ما يثبت موجب القصاص»، بأن «الحنفية والشافعية والحنابلة رحمهم الله تعالى قالوا: يثبت موجب القصاص من قتل أو جرح عمد بإقرارٍ، أو شهادة رجلين»، ويضيف: إنهم ألحقوا بهذا علم القاضي ونكول المدّعى عليه وحلف المدّعي؛ لأن القصاص يثبت بهما أيضاً…»([23]).
وكما أشرنا فالظاهر المأخوذ من كلام فقهاء أهل السنة هو أن هؤلاء لم يتردّدوا في ترجيح حكم القاضي حسب علمه، بل أوجبوا ذلك وألزموه به في بعض الحالات.
إذن لو كانت الحجّة قائمةً في إجماع الفقهاء واتّفاقهم، كما أشار إلى ذلك صاحب الجواهر، فإننا نعتبر الكلام في هذه القضية قد أشبع وانتهى، ونتمكن من الحكم بكلّ ثقةٍ وتأكيد بأن للقاضي أن يحكم حسب علمه.
وقد ذهب بعض الفقهاء إلى العمل وفق هذه الطريقة. والمتتبِّع لآرائهم يرى بوضوح أنهم لم يتوقَّفوا عندها كثيراً، ومرّوا عليها مرور الكرام؛ لقطعيتها. ولو كان الأمر على غير ذلك لأمعنوا فيه، وأشبعوه جملةً وتفصيلاً.
فمثلاً: السيد الخوئي، الذي له الباع الطويل واليد الطولى في البحوث الفقهية، يقول في هذا المجال: «كذلك له أن يحكم بينهما بعلمه، ولا فرق في ذلك بين حقّ الله وحقّ الناس»، ثم يضيف، في شرح ما قال في مؤلَّفه الآخر «مباني تكملة المنهاج»: إنّ حكم القاضي حسب علمه هو «من الحكم بالعدل، المأمور به في غير واحد من الآيات والروايات»([24]).
والمتفحِّص في آراء وكتب الفقهاء يرى بأن جُلَّهم اكتفوا بهذه التعبيرات، مما يؤكِّد أن قضية حكم القاضي حسب علمه تعدّ قضيةً محسومة عندهم، ولو كان غير ذلك لما تركوها بهذه السهولة.
أدلّة حكم القاضي حسب علمه
الدليل الأوّل: لقد تبيَّن ممّا كتبناه بأن القاضي يحكم وفق إقرار المتَّهم أو شهادة الشهود أو الحلف؛ لأنها أمور تعبِّر عن الواقع، فإنْ تحقّق هذا الواقع للقاضي فعندها يتمكّن من القضاء بطريق أَوْلى. وبعبارة أخرى: يجب على القاضي أن يحكم على أساس الواقع؛ لأن الأدلة تظهر بأن الجناية قد وقعت بالفعل، وقد قرّر لها الشرع حدّاً وجزاءً، كما أن الدين الثابت له حكمٌ لصالح الدائن وصاحب الحقّ.
فمثلاً: القتل المتعمد الثابت يعاقب بالقصاص، كما ينتج عن الغصب الثابت حكم الضمان.
وإذا كانت هذه الأمور تثبت بالشهادة وما شابهها، وعليه يصدر حكم القاضي وفقاً لشهادة الشهود أو الإقرار والحلف، فإنّ الشارع اضطر إلى جعل هذه الطرق لإثبات الحقيقة، دون أن يجعل لها أهمية ذاتية، أو يكون الإثبات والنفي مرهوناً بها. إذن لو تأكّد القاضي من عين الواقع، وحصل له اليقين بأن زيداً قام بقتل أحدهم، أو ارتكب فاحشة، أو أتلف مال عمرو، ولم يراوده الشكّ في ذلك، فالأَوْلى له في هذه الحالة أن يحكم بعلمه؛ لأنه يمكن أن يحكم حسب شهادة شاهدين، وهو ما أمر به الشرع مع احتمال وقوع الخطأ منهما، أو فسقهما، فكيف لا يتمكّن من الحكم وفق علمه، وهو على اليقين مثلاً بقتل زيد على يد عمرو؟
الدليل الثاني: لو لم يحكم القاضي بعلمه فقد أصبح فاسقاً. وفي هذه الحالة لا يحقّ للفاسق أن يحكم؛ لأن العدالة، كما أشرنا سابقاً، هي من شروط القاضي. فإن لم يحكم القاضي بعلمه فإنه يعزل من منصب القضاء.
ونأتي بمثال لإيضاح هذه القضية: لقد علم القاضي علم اليقين بأن زيداً قد طلَّق زوجته ثلاثاً، وقد أتيا (المرأة والرجل) إليه للقضاء بينهما، والمرأة تدّعي بأن زيد طلقها ثلاثاً، ولا يحقّ له الرجوع، بينما ينكر زيدٌ ذلك. فماذا يفعل القاضي في هذه الحالة؟ غنيٌّ عن التوضيح بأنّ القاضي يحكم حسب علمه؛ لعدم جواز رجوع هذا الرجل إلى زوجته؛ لما يعلمه يقيناً بالسمع والبصر من أنه قد طلَّقها ثلاث مرات، وهذا يعني الحكم بالواقع وحسب علم القاضي.
وإذا قال قائلٌ: إنّ القاضي لا يمتلك الحقّ في الحكم وفق علمه فهناك عدّة أمور نقدِّمها في الجواب؛ لتفنيد هذا القول:
أوّلاً: في هذه الحالة القاضي يحكم لصالح الرجل؛ لأنه ينكر ذلك، مع افتراض أن المرأة لم تقدّم بينة في مقام الادّعاء، فيقوم بتسليم المرأة للرجل بناءً على حكم اليمين، مع علمه بعدم صحّة تسليمها، وقد أتى بحكمه هذا بفاحشة القيادة بين أجنبيين، وخرج عن سبيل العدالة.
وثانياً: إنْ لم ينطق بالحكم، وسكت عنه ـ والمفروض هنا أنّ للحكم وجوباً عينياً ـ، فإنه في هذه الحالة لم يعمل بواجبه، وخرج أيضاً عن سكّة العدالة، وفقد صلاحيته للقضاء والحكم، إذ إنّه قد أصبح ممَّنْ لم يحكموا «بما أنزل الله».
كما أنّ هذه هي حاله من هذه الآية في الحالة الأولى أيضاً.
لا بل إنه حكم فيها بغير ما أنزل الله.
مع أن هذا الجانب لا يلعب دوراً في مصداقية تلك القاعدة الكلّية.
الدليل الثالث: لا شَكَّ بأن إظهار الحقّ واجبٌ في الشريعة الإسلامية، كما تقع الحرمة في كتمانه. فضلاً عن وجوب ولزوم إنكار المنكر. وقد فصّلنا ذلك في كتابنا تحت عنوان «الواجبات في الإسلام». وبعد هذا التمهيد الوجيز نقول: لو علم القاضي بأن شخصاً ما يكذب، وينوي بكذبه هذا نهب واستلاب أموال الناس، ولم يظهر الحقّ وينكر المنكر أمام المدّعي أو المنكر، فقد ترك الواجب، وأتى بالحرام، الذي يوجب فسقه وعزله من منصب القضاء. فلبقاء القاضي في منصبه، وتفادي نقض الغرض، علينا الإذعان بأن يجب عليه الحكم حسب علمه.
الدليل الرابع: قال الله سبحانه وتعالى في عظيم ذكره: ﴿يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ الله﴾ (ص: 26)، و﴿إِنَّ اللهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّواْ الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُواْ بِالْعَدْلِ﴾ (النساء: 58)، و﴿وَإِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُم بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ﴾ (المائدة: 42)، و﴿وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ﴾ (الحديد: 25).
وما يتّضح جليّاً من هذه الآيات الشريفة، والآيات الأخرى التي تحمل نفس المضمون، هو أن الهدف التامّ من وراء الحكم والقضاء يتمثَّل في الحكم بالحقّ والعدل والقسط. وغنيٌّ عن القول أنْ لو بلغ القاضي الجزم واليقين في جرم أحد أو جنايته فإنه من عين العدل والقسط والحقّ أن يقوم بإنزال العقوبة التي أمر بها الشارع المقدس بحقّه، وإنْ تجنّب عن إصدار هذا الحكم، مع علمه بإجرامه وقيامه بارتكاب الجناية، فقد صدق عليه القول بالحكم بعدم الحقّ والعدل، في حين أن الجميع مأمورون بالحكم على أساس الحق والعدل.
مثلاً: يقصد شخصان القاضي، ويقول أحدهما بتأوّهٍ وأنين: إن الثاني قد أخذ كافّة أراضيه الواقعة في الضيعة الفلانية بظلمٍ وتعسّف، وأسقطه من الحياة، وقد أتى لاجئاً إلى كتاب الله، وشريعة الحبيب المصطفى‘، وقاضي الشرع الذي يحكم وفق أحكام الشريعة، مطالباً بالحكم وفق قوانين الشريعة لردّ الظلم عنه. ولنفترض أن القاضي هو القاضي الوحيد في المدينة، وقد نشأ في نفس الضيعة التي تقع فيها أراضي المدّعي، ويعلم جيداً بصدقه، وأنّ الثاني هو رجلٌ يُعْرَف بالظلم والتعسُّف. والسؤال المطروح هنا هو: هل للقاضي أن يحكم حسب علمه ومعرفته لصالح المدّعي، ويستردّ أراضيه من الظالم، مع فقدان المدّعي للشاهد المعتبر، وخشية أهالي الضيعة من الشهادة لصالحه، أو يطالبه بالشاهد، وعند عدم تمكُّنه من الإتيان به يحكم لصالح الرجل الثاني، والمنكر لادّعاء الأوّل، والمؤدّي للحلف واليمين؟
ممّا لا شَكَّ فيه بأن الحكم الثاني من أسوأ الأحكام وأظلمها في مجال الأحكام القضائية، بينما يكون الحكم الأول عادلاً، وقد أُمر المسلمون بالالتزام به وتنفيذه، كما تصرح الآيات المتقدِّمة؛ وذلك لأنه «من المستحيل أن يأتي الله برسول لهداية المجتمع البشري دون أن يضع تحقيق العدل والقسط على رأس قائمة مهامه. وقد ورد في نصوصنا الدينية أن النبيّ‘ قال: «بِالعَدلِ قَامَت السَّماواتُ وَالأَرضُ»([25]).
الدليل الخامس: هناك روايةٌ في تراثنا الإسلامي يمكن الاستناد إليها كدليلٍ آخر لحكم القاضي حسب علمه، كما تمسّك بها فقهاؤنا في هذا المجال، وهي رواية حسين بن خالد، التي يقول فيها: «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجلٍ يزني أو يشرب خمراً أن يقيم عليه الحدّ، ولا يحتاج إلى بيّنةٍ مع نظره؛ لأنّه أمين الله في خلقه. وإذا نظر إلى رجلٍ يسرق فالواجب عليه أن يزجره وينهاه، ويمضي ويدعه. قال: فقلتُ: كيف ذاك؟ فقال: لأنّ الحق إذا كان لله تعالى فالواجب على الإمام إقامته، وإذا كان للناس فهو للناس»([26]).
وقد استدلّ عددٌ من الفقهاء بهذه الرواية، واعتمدوها في هذه القضية؛ لأن الإمام الصادق× يقول بإقامة الحدّ؛ لأن الإمام أمين الله في خلقه. كما استدلّ بعض آخر من الفقهاء بها للاستدلال على عدم كفاءة القاضي في الحكم حسب علمه في حقوق الناس؛ لأن الإمام× يقول فيها: إن الإمام في ما يتعلّق بحقوق الناس يمتلك الحقّ في النهي عن المنكر فقط، دون الحقّ في الحكم.
وممّا يجب الإشارة إليه حول هذه الرواية هو أنها تفتقد إلى السند المتين والموثوق؛ لأن الشخصان الناقلان المذكوران في الرواية، وهما: محمد بن أحمد المحمودي؛ وأبوه أحمد المحمودي، مجهولان، لم يُعرفا بشكلٍ جيد، ولا يمكن إثبات الرواية عن طريقهما.
ولكنْ بغضّ النظر عن هذه الإشكالية، وبعيداً عن النقاش الرجالي، فإن الرواية في دلالتها على وجوب حكم القاضي وفق علمه أوضح من أن تحتاج إلى بيان آخر؛ لأنها تؤكد بأن «الواجب على الإمام إذا نظر إلى رجلٍ يزني أو يشرب خمراً أن يقيم عليه الحدّ، ولا يحتاج إلى بيّنة مع نظره».
وهذا هو نفس المشهور لدى العلماء، إذ يؤكِّد العلماء على ضرورة بل إيجاب حكم القاضي بعلمه إذا علم بجناية الجاني أو جرم المجرم، دون الاكتراث بالبيّنة وما شاكلها في هذا المعنى.
وهذا هو ما يتمخّض من الرواية أيضاً، وإنْ كان القاضي أو الحاكم في الرواية هو الإمام.
ويبدو أن لفظ «الإمام» في هذه الحالات يتّجه نحو المعنى اللغوي، بدلاً من الإمام المعصوم من أئمتنا^، ولا سيَّما أن الرواية تحدّثنا عن الإمام الصادق×، ولم يكن يتولى منصب القضاء في عهده، ولا غيره من أئمّة الشيعة^.
إذن فالظاهر المقصود من الإمام في هذه الرواية هو مَنْ يترأّس الحكم والسلطة، والحكم يأتي من ضمن شؤونه.
وكما أشرنا فقد ذهب بعض العلماء إلى أن هذه الرواية أحد أدلة المانعين؛ لأنها تتحدث عن عدم صلاحية القاضي للحكم حسب علمه في ما يتعلّق بحقوق الناس([27])، ولكن من الواضح والبيِّن أن هذا الاستنباط خاطئ؛ لأن الرواية في الظاهر تعزو الحكم في «حقّ الناس» إلى مطالبة صاحب الحق بحقّه، فلا يتمكن القاضي من إصدار الحكم دون طلبه، ولا يدخل في ذلك شهادة الشهود أو علم القاضي أو إقرار المرتكب، ما دام صاحب الحقّ لم يُقدم على المطالبة بحقّه. ولم تتحدّث الرواية عن عدم عمل القاضي بعلمه في حقّ الناس، وعمله به في ما يتعلق بحق الله.
ويظهر من خلال ما كتبنا أن للقاضي الحق في العمل بعلمه، والحكم على أساسه، في جميع الحالات؛ لأنه وإنْ سلَّمنا بجميع ما يقال خلافاً لذلك لا نستطيع التغاضي عن أحكام الشريعة في الحدود والديات والقصاص وغيرها؛ فهذه الأحكام تأسّست على تحقق الواقع، والمتعين والواقع يأتي بشكلٍ أوضح وأجلى مع القطع واليقين، وليس مع الأمارات والحجج الظنية، وهذا ممّا لا يشكّ به أحدٌ، وبالتالي لا مجال لقول فقيه بعدم إمكان عمل القاضي بعلمه.
أدلة عدم جواز عمل القاضي بعلمه
أوّلاً: من الممكن أن يستدلّ أحدهم برواية داوود بن فرقد المعتبرة؛ للاحتجاج على عدم إمكانية عمل القاضي بعلمه؛ لوضوحها في البرهنة على ذلك.
تقول الرواية: «…عن الإمام الصادق×: إن أصحاب النبي‘ قالوا لسعد بن عبادة: لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنتَ صانعاً به؟ قال: كنتُ أضربه بالسيف، قال فخرج رسول الله‘ فقال: ماذا يا سعد؟ قال سعد: قالوا: لو وجدت على بطن امرأتك رجلاً ما كنت صانعاً به؟ فقلتُ: أضربه بالسيف، فقال: يا سعد، فكيف بالأربعة شهود؟ فقال: يا رسول الله، بعد رأي عيني، وعلم الله أن قد فعل؟ قال: إي والله، بعد رأي عينك، وعلم الله أن قد فعل؛ لأنّ الله عزَّ وجلَّ قد جعل لكلّ شيءٍ حدّاً، وجعل لمَنْ تعدّى ذلك الحدّ حدّاً»([28]).
وكما هو واضحٌ فإن رسول الله‘ صرح بأن رأي العين وعلم الله لا يكفيان لثبوت الحدّ؛ فإن الشريعة الإسلامية المقدّسة وضعت لكلّ جرمٍ أو جناية حدّاً خاصّاً يجب إقامته. إذن لو حدّدت الشريعة الجلد والرجم للزنا بعد شهادة الشهود الأربعة فإن على القاضي أن ينزل الحكم الإلهي بحقّ المرتكبين بعد شهادة هؤلاء الشهود، ولا يجوز له في هذه الحالة، أي الزنا، أن ينفذ الحكم الإلهي بحقّ المرتكبين لمجرّد رؤيته شخصياً للحالة؛ لأن الحدّ الإلهي لم يوضع ولا يثبت لهكذا رؤية، بل حدّد لمَنْ يشهد عليه أربعة شهود، أو لمَنْ يقرّ على نفسه أربع مرات.
وحسب رأيي فإن هذه الرواية لا ترتبط بقضيتنا أساساً؛ لأنه:
1ـ ينهى رسول الله‘ سعد بن عبادة عن حقّ إقامة الحدّ الإلهي وإنْ رأى بعينه التخطّي عن حكم الله تعالى. ولعلّ ما قصده المصطفى هو أن الإمام والقاضي هما الجهة المخوّلة في البتّ في القضية، وإصدار حكم العقوبة الإلهية بحقّ المتّهمين، وليس الأشخاص الذين يقومون بمفردهم بإصدار الحكم وإنزال العقوبة، إذ لو كان كذلك لعمَّتْ الفوضى المجتمع الإسلامي. والنهي الذي أتى به النبي الأكرم‘ لا يمنع القاضي من العمل بعلمه، وإنما منع سعد بن عبادة من القتل. وأكثر من ذلك دلالة الرواية على جواز حكم القاضي بعلمه أوضح من دلالتها على نهيه.
2ـ من البديهي أن حدّ تواجد الرجل الأجنبي على بطن امرأةٍ أجنبية لم يكن القتل، وقد نهى رسول الله‘ عن القتل لمجرد هذا العمل. فكأنّما يقول لسعد بأن لكلّ شيءٍ حدّاً، فلا يمكنك قتل رجل لمجرّد رؤيتك أنه واقع على بطن زوجتك. ومن الواضح أن هذا المعنى ليس له علاقة بقضاء القاضي حسب علمه.
ثانياً: هناك رواياتٌ أخرى يمكن القول فيها بأنها تشكِّل مصدراً للقضاة عند إصدار الحكم، ومنها: ما نقله الإمام الصادق× عن النبيّ‘ بقوله: «البيّنة على مَنْ ادّعى، واليمين على مَنْ أنكر»([29]). ويستفاد من هذه الرواية والروايات المشابهة في البرهنة على وجوب حكم القاضي حسب البينة واليمين، ويعني إقامة البينة من جانب المدّعي، والحلف واليمين من جانب المنكر. ويستدلّ المخالفون لحكم القاضي حسب علمه بأنه لو كان طريقٌ آخر لإثبات الحقّ لأشار إليه رسول الله‘، بل هناك روايات تفيد الحصر، كما جاء في رواية هشام بن الحكم، عن الإمام الصادق×، أنه قال: «قال رسول الله‘: إنما أقضي بينكم بالبيِّنات والأيمان، وبعضكم ألحن بحجّته من بعض»([30]).
وقيل: إن ظاهر الرواية حصر أمر القضاء بالبينة واليمين، ولا يجوز للقاضي أن يقضي حسب علمه، دون البينة واليمين؛ وذلك لأن أيّ حصر يشتمل على عقدي الإيجاب والسلب، والعقد السلبي في هذه القضية هو نفي جواز القضاء على غير بيّنة ويمين. فإذن لا يمكن القبول بحقّ القاضي في الحكم حسب علمه، وإنْ لم تتواجد البيّنة أو تكون في الجانب المخالف.
إن هذا الاستدلال، وهو الأهم في هذه القضية، لم يشكّل قاعدةً يمكن من خلالها نفي حكم القاضي حسب علمه؛ لأنه:
1ـ لا يوجد دليلٌ يثبت بأن الكلام جاء بنحو الحصر. ودليل هؤلاء اليتيم المنحصر بلفظ «إنما» لا يشكّل دليلاً حاسماً يستفاد منه الحصر. والظاهر أنه لا فرق بين «إن» و«إنما»، كما هو الحال بين «أنّ» و«أنّما»، وهو مقبول عند اللغويين. وبناء على هذا فإنه كما لا يفيد «أنما» الحصر في الصورة الثانية فإنه لا يفيدها في الصورة الأولى أيضاً. فلا يوجد دليلٌ حاسم يثبت إفادة «إنما» للحصر.
2ـ لو سلَّمنا بأن «إنما» تفيد الحصر فليس من الواضح أن يقصد منه الحصر الحقيقي، بل من الممكن أن يقصد القول: «إني» أحكم بينكم وفقاً للبينة واليمين فقط، وليس على أساس القرابة والتوصيات وظنّي بالأمور والشؤون الأخرى.
وليس المقصود هنا «إني» أحكم وفق مصدري البينة واليمين فحَسْب، وأترك العمل بعلمي وإنْ كان واقعاً بالفعل؛ لأنه من البديهي أن الاستناد إلى البينة واليمين في إصدار الحكم يأتي لكشفهما عن الواقع، وليس لاحتوائهما على خصوصيةٍ أخرى.
إذن فالملاك هو الكشف عن الواقع. ولا بُدَّ من القول بأن العلم بالواقع هو الكشف عن عين الواقع. فكيف يمكن القول بأن النبيّ‘ لم يحكم على أساسه؟!
والدليل القويّ والساطع على أن الحصر المذكور لم يكن حصراً حقيقياً هو في الاتفاق الموجود على حكم الرسول على أساس الإقرار، كما فعلها أمير المؤمنين×، وفي وفرة الروايات التي تجعل من الإقرار أحد مصادر ومراجع القاضي في عملية إصدار الحكم، في حين أن الإقرار يختلف عن البيِّنة واليمين، فيجب القبول بأن الحصر الموجود في الرواية لم يكن حصراً حقيقياً، وإنما هو حصرٌ إضافي، لا يتنافى مع الحكم حسب العلم. وفي أقلّ التقديرات إن احتمال أن يكون الحصر الموجود في الرواية حصراً إضافياً هو بقدر احتمال أن يكون حصراً حقيقياً، وهذا القدر من الاحتمال يكفي لإبطال الاستدلال بهذه الرواية.
3ـ ما ورد في الرواية هو أن رسول الله‘ قال: «أقضي بينكم بالبينات والأيمان»، ومن المعلوم أن الأيمان جمع لليمين، ويعني الحلف، وهو معنى بيِّنٌ واضح، بينما لم يتّضح معنى البيِّنات، وهي جمع للبيِّن والبينة.
وقد قام البعض بالاستدلال بالرواية دون بيان هذا المعنى، وتصوَّر أن المقصود منها شهادة شاهدين عدلين، ليخرج منها بنتيجة مفادها: إن رسول الله‘ كان يقصد من كلامه حصر أسس الحكم في شهادة الشهود واليمين.
بينما «البيّنة» و«البين» هي في اللغة بمعنى الدليل والحجّة([31])، وبهذا يكون معنى قول الرسول: إنه يقضي بين الناس بالدليل والحجّة واليمين.
وغنيٌّ عن القول أنْ لو حصل القاضي على علمٍ بالجرم والجناية فهو يمتلك به الدليل القاطع.
فمثلاً: لو تيقَّن شخص بارتكاب أحد الزنا، أو شاهده وهو يزني، أو سمع من الآلاف بأنهم شهدوا ارتكابه لهذا العمل الآثم، أو حصل على مستندات ووثائق حاسمة تكشف قيامه بالدليل القاطع واليقين الذي لا يراوده الشكّ، يكون حكمه مبنيّاً على البيّنة إنْ كان قاضياً.
وممّا يطرح في هذا المجال هو أن الفقهاء استشفّوا من البينة في الحديث أنها تعني شاهدين عادلين. وإذا كان كذلك فالاستدلال يتمّ على هذا الأساس، وانتهى النقاش فيه.
ونقول في الجواب: إنّه ليس من الواضح أن يكون القصد من «البينة» في عهد رسول الله هو ما قصده منها هؤلاء، فلا دليل لحقيقة هذه المفردة الشرعية، وعلينا حملها على معناها الحقيقي، وإنْ كان من المقبول أن يكون الشاهدان العدلان من مصاديقها اللغوية، وليس من المستبعد في عهد الأئمة^ أن تتّخذ من هذا الجانب بهذا المعنى.
ثالثاً: وتوجد روايةٌ أخرى تدعم رأي المعتقدين بعدم جواز حكم القاضي بعلمه، وهي قول أمير المؤمنين×: «أحكام المسلمين على ثلاثة: شهادة عادلة؛ أو يمين قاطعة؛ أو سنة ماضية من أئمّة هدىً»([32]).
وكما قلنا فإنّ دلالة هذه الرواية على عدم جواز القاضي في الحكم بعلمه أوضح من الروايات الأخرى؛ لأنها تحصر القضاء بين المسلمين بالأسس الثلاثة المذكورة في الرواية. ومن الواضح أنْ لو انحصرت أسس الحكم والقضاء بها فلا مكان بعد ذلك للقضاء على أساس علم القاضي.
وكما قلنا في استدلالهم بالروايات السابقة فإنّ أصحاب هذا الرأي يقولون: إن القضاء في الإسلام يجب أن يستند إلى هذه الأمور الثلاثة. وكما هو جليٌّ فإن علم القاضي لم يكن من بين هذه الأسس، وعليه لا يكون للقاضي أن يحكم حسب علمه.
والاستدلال بهذه الرواية واهنٌ وضعيف جدّاً:
1ـ الرواة المذكورون في سند هذه الرواية هم من المجهولين، أو من غير الثقات. ووجود أحدهم في سند الرواية يكفي لإضعافها وإسقاطها من الاعتبار. إذن لا يمكن اتخاذ الرواية مصدراً للحكم والقضاء.
2ـ من الممكن أن ما ورد في الرواية يقصد منه الطرق المعتمدة عند القضاة وفي محاكم المسلمين القضائية، كما هو موجود بالفعل، فنادراً ما يقرّ المجرم أو الجاني أو المدّعى عليه، كما من النادر أن يحصل القاضي على علمٍ دون حضور الشهود ليميز من خلاله حقّ المدّعي من المنكر. فما يستفاد من هذه الرواية هي الأسس التي يعتمدها القضاء في المحاكم الإسلامية، ولم تتعرّض الرواية لإمكانية أو عدم إمكانية إدخال أسس أخرى.
3ـ الأساس الثالث، المذكور إلى جانب الأساسين الأوّلين، أي الشهادة العادلة واليمين القاطعة، هو «السنّة الماضية من أئمة هدىً»، أو «سنة جارية مع أئمّة هدىً». ولم يتّضح القصد من هذه السنّة، وإنْ كان عبَّر عنها بعض شارحي كتاب الكافي بالـ «قرعة»، لكنْ لا دليل على ذلك. لذلك يمكن اعتبار علم القاضي أحد المعاني المضمرة في معنى «السنّة».
4ـ إنّ هذه الرواية تتعارض بشكلٍ واضح مع الرواية التي ننقلها في ما يلي.
رابعاً: ونقلت رواية أخرى اتّخذها صاحب العروة أحد الأدلة على منع جواز حكم القاضي حسب علمه([33]). وقد جاء في الرواية: «استخراج الحقوق بأربعة وجوه: بشهادة رجلين عدلين، فإنْ لم يكونا فرجل وامرأتان، فإنْ لم تكن امرأتان فرجل ويمين المدعي، فإنْ لم يكن شاهد فاليمين على المدَّعى عليه»([34]).
والظاهر في الرواية أنها حصرت أسس القضاء بهذه الأمور الأربعة، ولو كان خامسٌ لذكره الإمام×. وهو هنا لم يذكر علم القاضي. وعليه لا يمكن قبوله كأحد أسس القضاء.
وإشكالية الاستدلال بهذه الرواية واضحٌ أيضاً.
فهي ضعيفة من حيث السند والمضمون. فأوّلاً: هي رواية مرسلة ومضمرة، فضلاً عن ضعف سندها؛ لأن محمد بن عيسى اليقطيني نقل الرواية مضعّفة عن يونس، ويونس نقلها عن مجهولٍ بقوله: «قال…». فالراوي والمرويّ عنه كلاهما مجهولان، لا يعرف عنهما شيءٌ، فكيف يمكن حصر أسس الإسلام القضائية بأربعة مبادئ يستبعد فيها العلم، وهو أعلى درجات الكشف، وفق رواية مجهولة المصدر؟
وثانياً: لو سلَّمنا جدلاً بصحّة سند الرواية فلا يفيد مضمونها حصر أسس القضاء في الأمور الأربعة المذكورة فيها؛ لأن الرواية تفتقد لأداة الحصر، ومن المعلوم أن إثبات الشيء لا ينفي ما عداه. وبهذا يكون مضمون الرواية أنّ الحقوق تؤدّى إلى أصحابها في أغلب الحالات وفق هذه الأمور، كما أنها تؤدّى من خلال الإقرار والعلم أيضاً، وإنْ لم يردا في الرواية. وعدم ذكرهما في الرواية ناتج عن أمرين: الندرة؛ والوضوح، فأوّلاً: من النادر جدّاً أن يقرّ المدّعى عليه بالحقّ الذي يقع على عاتقه، أو يحصل القاضي على العلم القطعي بأحقّية صاحب الحقّ. وثانياً: الأمر في غاية الوضوح، وغنيٌّ عن الذكر؛ لأن علم القاضي القطعي بأحقّية صاحب الحقّ وكذب المدّعى عليه لا يترك مجالاً للتوقُّف والتأمُّل لديه في إصدار الحكم حسب علمه، حتى يقول شخصٌ ما: إنه على القاضي أن يستند إلى كذا مستند للشروع بإصدار الحكم.
خامساً: الاستدلال باتّهام الناس للقاضي عند حكمه حسب علمه. ويقول أصحاب هذا الدليل: إنه لا يجوز عمل القاضي وفق علمه؛ لدرء الشبهة والاتهام عن نفسه من قبل الناس.
وكتب صاحب الجواهر، بعد نقله لأدلة المانعين ونقدها، ما يلي: «لم نجد للجميع مستنداً صالحاً غير ما عرفتَ، سوى اقتضاء ذلك التُّهْمة، التي قد تحصل أيضاً مع البيِّنة وتزكية النفس الحاصلة بالجلوس في منصب القضاء»([35]).
كما ذهب صاحب العروة إلى هذا، حيث يقول: «واستدل للقول بعدم الجواز بأنّه موضع التُّهْمة. وهو كما ترى، مع أنّه قد يكون مع البيِّنة أيضاً كذلك…»([36]).
وهذا الاستدلال من أضعف الكلام في هذا المجال. وكما ترى فإنّ صاحب الجواهر والمحقّق اليزدي قد فنَّدوه بإيجازٍ، ولم يظهروا له الاهتمام الكثير. والسرُّ فيه هو أن العمل بالواجب وإقامة الحدود الإلهية لم يكن مناطاً برضا الناس أو سخطهم، وكثيراً ما اتُّهم أشخاصٌ من قبل الناس بالخيانة مع أنهم قاموا بعملهم على أحسن وجه وصورة. فلو اتبعنا هذا الاستدلال لترك هؤلاء أعمالهم، مع أن المفروض منهم والواجب عليهم القيام بعملهم. والقضاء من الواجبات والمناصب التي تعرّض الإنسان للتهمة، شأنه شأن مَنْ يقوم بطبع رسالته العملية، والتي تعتبر بمنزلة الإعلان عن المرجعية، وكذا هو الحال مع مَنْ يتكفَّل ومن باب الحِسْبة عدداً من النساء والأطفال المهجورين ويقوم بتفقُّدهم بين الفينة والأخرى، والكثير ممّا شاكل هذه الحالات. والقاضي في هذا المجال معرّضٌ للتهمة من قبل المحكوم عليه وأقربائه، ولا سيَّما إذا كانوا ممَّنْ يمتلكون السلطة والمال. إذن لا يمكن طرح هذا الاستدلال وجعله ذريعةً لمنع جواز عمل القاضي حسب علمه ويقينه.
الخاتمة
ويظهر من خلال ما بيَّناه بأن للقاضي الحقّ في العمل بعلمه، والحكم على أساسه، في جميع الحالات؛ لأننا إذا سلّمنا بجميع ما يقال خلافاً لذلك لا نستطيع التغاضي عن أحكام الشريعة في الحدود والديات والقصاص وغيرها. فهذه الأحكام تأسّست على تحقُّق الواقع والمتعين، والواقع يأتي بشكلٍ أوضح وأجلى مع القطع واليقين، وليس مع الأمارات والحجج الظنية، وهذا ممّا لا يشكّ به أحد، وبالتالي لا مجال لقول فقيهٍ بعدم إمكان عمل القاضي بعلمه.
الهوامش
(*) باحثٌ، وأستاذ البحث الخارج (الدراسات العليا)، في الحوزة العلميّة في مدينة قم. له دراساتٌ فقهيّة متعدِّدة.
([2]) محمد حسن الآشتياني، القضاء: 2.
([3]) جواهر الکلام 40: 10؛ مباني تکملة المنهاج 1: 4.
([5]) مباني تکملة المنهاج 1: 10.
([6]) الخميني، تحرير الوسيلة 2: 386.
([7]) نهج البلاغة (صبحي الصالح): 434، الرسالة 53.
([8]) وسائل الشيعة، الباب 3 من أبواب صفات القاضي، ح3.
([10]) مستند تحرير الوسيلة: 31 (کتاب القضاء).
([11]) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب صفات القاضي، ح4.
([16]) مستند تحرير الوسيلة: 31 (کتاب القضاء).
([17]) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب کيفية الحکم، ح7.
([19]) المصدر السابق، الباب 3 من أبواب کيفية الحکم، ح1.
([21]) جواهر الکلام 40: 86، 88.
([23]) الفقه على المذاهب الأربعة 5: 327.
([24]) مباني تکملة المنهاج 1: 12.
([25]) تفسير الصافي، ج2. راجع تفسير الآية الکريمة: ﴿وَالسَّمَاءَ رَفَعَهَا وَوَضَعَ المِيزَانَ﴾ (الرحمن: 7).
([26]) وسائل الشيعة، الباب 33 من أبواب مقدمات الحدود، ح3.
([27]) راجع: محمد حسن الآشتياني، کتاب القضاء: 51.
([28]) وسائل الشيعة، الباب 2 من أبواب مقدّمات الحدود، ح1.
([29]) المصدر السابق، الباب 25، ح3.
([30]) المصدر السابق، الباب 2، ح1.
([32]) وسائل الشيعة، الباب 1 من أبواب کيفية الحکم، ح6.