أحدث المقالات

دراسةٌ تحليلية

الشيخ أحمد مبلغي(*)

ترجمة: نظيرة غلاب

مقدّمة ــــــ

أوّلاً: إن ما يشغل بال الفقهاء وعلماء الدين بالدرجة الأولى التوصل إلى الأحكام الدينية، ومعرفة موقف الشرع تجاه كلّ فعل وسلوك. وهذا الهدف يجعلهم دائمي السفر والرحلة إلى الماضي، إلى زمن النصّ وزمن المعصومين^. ولهذا فالعلماء والباحثون في الحقل الديني يتسلّحون بكثير من الجهد لإجراء تحقيقاتهم وأبحاثهم في التاريخ، وتنقيح المطالب الدينية الفقهية والأصولية و… ولا بُدَّ لهم من أن يلقوا نظرة فاحصة على السنّة باعتبارها المصدر الثاني في التشريع؛ لأن كلّ فقيهٍ، وقبل أن يغوص في زمن النصّ، قد ظهرت له من ذلك العصر شواهد هي بنت ذلك الزمن، لكنها اليوم هي ضمن الأصول والقواعد التي يبتني عليها الحكم.

وحيث إن تلك الشواهد هي إرث تاريخي فقد احتفظت ببعض الخصال التاريخية التي تجعل من محاولة قراءتها بالآليات الفكرية الراهنة صعبة، وغالباً لا يؤمن الخطأ معها.

سيرتا العقلاء والمتشرِّعة، وكذا الألفاظ التي تتشكَّل منها الروايات، تفتح مجالاً كبيراً أمام الفقهاء؛ ليتسنى لهم فهم السنّة، وبالتالي البناء لمبانيهم الخاصة.

فالعديد من الألفاظ التي وردت في الروايات؛ وبسبب التطوُّر التاريخي، قد أخذت معاني جديدة، وجرّدت من معناها القديم، وربما فقدت معناها التقليدي. لكن هناك ألفاظٌ أخرى لم تتخلَّ عن معناها الأصيل، وبقيت حتّى مع التطوُّر التاريخي محافظة على معناها التقليدي، والذي يتطابق والشروط العامة لتلك الحقبة الأولى، فلم يؤثر فيها هذا التطوّر، ولم يغيِّر منها شيئاً. كذلك توجد مجموعة أخرى من الألفاظ التي عاداها الزمان، ورماها بالهجر، ولم تعد تتداول في اللسان العربي الحالي، وأصبح الحصول على معانيها أمراً معقّداً، وملازماً لتحدّيات مختلفة.

سيرة العقلاء وعرف المتشرِّعة؛ وبلحاظ حجّيتهما التي جاءت وفق معطيات وتداولت عبر المراحل التاريخية المختلفة، أصبحتا تواجهان اختلافات جوهرية في طريقة الاستدلال بهما، وأسلوب التعاطي معهما؛ نظراً للاختلافات الجذرية التي فرضها الانسياب التاريخي للمجتمعات الإسلامية. من هنا فاستعمال السيرة العقلائية أو عرف المتشرِّعة في الوقت الراهن أصبح لا يخلو من التعقيدات، بل إن الحصول على هذه السِّيَر في ظلّ التراكم الزمني، وتطوّر المجتمع الإسلامي، زاد من صعوبة الأمر، وعمَّق تعقيداته.

ثانياً: لقد أضاف الشهيد الصدر مجموعة من المباحث العالية وذات القيمة الكبيرة إلى الأدبيات الفكرية العميقة للحوزة العلمية. ورغم اعتقادنا بأن جهود وسعي الشهيد الصدر كان مكثَّفاً، وشمل مجالات واسعة، حتّى أنّي أستطيع القول ـ وبكلّ مسؤولية ـ: إنّ طروحاته وتحقيقاته في كلّ المباحث الدينية عميقة، وتتنوَّع كمّاً وكيفاً، لكنّ قصر عمره كان مانعاً قهرياً فوَّت الفرصة عليه، حيث لم تتح له الفرصة في بسط وتفصيل أفكاره بالمستوى الذي كان يتطلَّع إليه. لكنّ هذه الفرصة الفاتحة ذراعَيْها أمام الجيل الحاضر، حتَّى يستفيد أكثر من الآثار العلمية لهذا العالم الفذّ، الحبلى بأفكار عميقة ومتطوِّرة، سواء في الفقه أو التاريخ، هي بحقّ قادرة على صنع تطوّر نوعي في الفكر، وقفزة نوعية ومتطوّرة في الحوزة العلمية.

ولن نغالي إذا قلنا: إن الشهيد الصدر واحدٌ من المفكِّرين الجدد القلائل في مجال الفقه، الذين إلى جانب إحاطتهم بالدراسات التقليدية أسَّسوا لنظرة علمية تتوافق وقرائن الحال والمقام؛ لتكون عملية بشكلٍ جدّي وواسع في المستقبل. فكما كانت له نظرة متفحِّصة إلى الماضي والموروث الديني كانت له ـ وبالموازاة، وبنفس الدرجة ـ نظرةٌ ثاقبة وواعية إلى المستقبل.

ولا بُدَّ من النظر إلى أفكار هذا العالم الفقيه على أنها بداية عهدٍ جديد في تطوير منهج التفكير في الحوزات العلمية التقليدية. فآثار الشهيد الصدر بحرٌ من المفاهيم الخالصة البكر، التي لا زالت لم تخضع للدراسة، حيث إن الانفتاح على كلّ واحدةٍ منها يفتح باباً عظيماً أمام الفقه، وأفقاً واسعاً سيحدث نقلة فريدة في الفقه، ويقطع به مراحل من التطوّر والتكامل.

وفي الواقع فإن عمدة أفكار الشهيد الصدر تكمن في أجوبته عن الأسئلة الرئيسة التي تشغل الفكر الديني. وأظن أن الجميع يدرك أن أعظم سؤال يطرح أمام الفقهاء يكمن في كيف نستشرف المستقبل من خلال الماضي؟ كيف نمدّ جسراً بين الماضي والمستقبل؟ فباعتبار أن الفقه والأصول على السواء علوم جذورها في القدم قد فرضت نمطاً على الفقهاء والمحقِّقين جعلتهم يعيشون في الماضي، ليجدوا أنفسهم أمام معضلة المستقبل. وبطبيعة الحال فقد سعى كلّ واحدٍ إلى الاجابة عن هذا الطرح، لكنْ بشكلٍ لا يزيد ولا ينقص من الأمر شيئاً، بينما وجدنا الشهيد الصدر قد التزم التنظيم والانضباط في إجاباته، بحيث لا يوجد هناك فراغٌ بين الماضي والمستقبل، واستطاع باجتهاداته أن يغطي قدراً كبيراً من مساحة الفراغ في التشريع الإسلامي، في ما يخصّ قضايا المستقبل.

إن تفكُّر الشهيد الصدر يختلف عن تلك الأفكار المبعثرة البعيدة عن الواقع، والمتجاوزة لحدود المعقول، حيث سعى إلى إيجاد رابطةٍ معقولة ومنطقية بين الماضي والمستقبل، وفق أسس التفكير المنهجي، حتّى يضمن للتفكُّر الفقهي السَّيْر في مسيرة التحوّل والتغيّر بشكلٍ طبيعي وعفوي، في قبال تحوُّلات الزمان.

في هذا المقال سيتمّ التعرُّض لجزءٍ من أفكار الشهيد الصدر، وبالذات ما طرحه ضمن مقولتي تطوُّر الألفاظ والسِّيَر. ورغم أنّ ما طرحه بخصوص هاتين المقولتين لم يكن مبحثاً مستقلاًّ، بحيث يكون ضمن منهج مميَّز في مقولة نظرية معرفة الزمان، لكنّه جاء على شكل مباحث ضمن مواضيع متفرَّقة. وعلى العموم فإن الأصول الأولى في دور تطوُّر الزمان على الفقه يمكن تتبُّعها ضمن مباحث الشهيد الصدر.

إن توجّهه إلى النتائج الناشئة عن تطوّر الزمان كانت مبيّنة لمنهجية جديدة في التعاطي مع الفقه والزمان، أكثر من كونها امتداداً للنظرة النمطيّة التقليديّة للفقه، ودور الزمان في فرض تغيُّرات وتطوّرات في المعاملات و…

ضمن هذا المقال ستنصبّ جهودنا على احتواء جميع ما طرحه الشهيد الصدر في ما يخصّ الألفاظ والسِّيَر، وسنعمل على توسعة مجالها في ما يرجع إلى أصولها وفروعها أمام المحقِّقين، يقيناً منا أن بحوثاً من هذا القبيل تحتاج إلى تحقيقات معمَّقة من قبل المحقِّقين والعلماء.

إن الخوض في غمار هذه المباحث سيرفع ذلك القلق الدائم من التعامل مع الروايات، بل ستجعل الاستفادة من الروايات والأخبار في إطارٍ معقول، ويعود بالفائدة الكبيرة عليها.

يجرى هذا البحث ضمن محورَيْن:

1ـ التطوُّر التاريخي لمعاني الألفاظ.

2ـ التطوُّر التاريخي للسِّيَر.

في مجال الاستنباط يكون لتبيين المراد من الألفاظ ومعانيها ـ الألفاظ ذات المفاهيم المطّاطة والمتعدِّدة المعاني والأوجه ـ الأهمّية القصوى، بل هي من المبادئ الأصيلة والرئيسة في عملية التحقيق، وخصوصاً مع تزايد الفترة الفاصلة بين صدور النصّ الديني، سواء القرآن أم السنة، وبين عملية الاستنباط التي تناولها الفقهاء. وهو الأمر الذي يفرض ضرورة تتبُّع التطوُّر التاريخي للألفاظ، وبالتالي تتبُّع تطوُّر مفاهيمها ومعانيها.

لقد تعوَّدنا إسقاط المفاهيم المعاصرة والراهنة على الألفاظ التي استعملت في عملية الاستنباط في الماضي، بحيث كلما أطلقت تلك الألفاظ يتبادر إلى ذهننا المفاهيم الحاضرة، وهو بالتأكيد ما يفوِّت علينا فرصة الفهم العميق والصحيح للمفاهيم المرادة من تلك الألفاظ حين استُعملت في الماضي.

في مجال الاستنباط تكون المفاهيم المستمدّة من ألفاظ رواية من الروايات الأساس والقاعدة التي يقوم عليها الاجتهاد. وإن عدم تتبُّع التطوُّر التاريخي لمفهوم ألفاظ الرواية سببٌ في عدم إدراك مراد الرواية، وبالتالي تحميل الرواية ما ليس منها.

ولعلّ السؤال المنهجي الذي يطرح نفسه هو: ما المراد بالتطوُّر التاريخي للألفاظ؟ وكيف يمكن تصنيفها وتقييمها، وفي نهاية المطاف تحديدها والتعريف بها؟

وبشكلٍ كلّي يمكن القول: إن تطوُّر مفهوم الألفاظ هو مسألةٌ تابعة لتأثير الزمان في مفهومها، أو في فهمنا لها. والجواب عن هذا السؤال يكمن في تصنيف تأثير الزمان على الألفاظ، وتتبُّع ذلك بكلّ دقّةٍ ما بين زمان الصدور والأزمنة الأخرى التي تمّ تتبُّع تلك الألفاظ في متونها.

تأثير الزمان على الألفاظ ــــــ

يمكن الحديث هنا عن نوعين من التأثير:

الأول: أن يتغيَّر مفهوم اللفظ في الذهن وفي الاستعمال، من دون أن يحدث تغيير في التعريف المفهومي للفظ، بمعنى أن مصاديقه تتغيَّر وتختلف، أما تعريفه المفهومي فنفسه، لم يتغيَّر أو يتبدَّل.

الثاني: وهو على عكس النوع الأول، فقد يحدث تغيير في تعريفه المفهومي، فقد أصبحت ماهيّة اللفظ مبهمة بالنسبة إلى الباحث والمحقِّق، مما يدفع بالمخاطب إلى البحث في ذهنه بادئاً، وفي استعمالات اللفظ ثانياً، في اللسانيات والأدبيات، بل حتّى في أسلوب استعماله في الماضي.

وهذا النوع هو مصيري وتاريخي، يلازم اللفظ في جميع الدورات التاريخية. إن مصير التغيُّر والتحوُّل في مفهوم اللفظ هو من ماهيّة تحوُّل وتكامل الحياة الاجتماعية، بلحاظ العلاقة التي تجمع بينها وبين اللفظ. ففي كلّ مرحلةٍ من مراحل الحياة الاجتماعية تكون هناك عوامل مختلفة تجعل العقل يتحرّك ويتفاعل، فيتغيّر محيط الإنسان من خلال تغيير وتحوُّل في مفهوم الألفاظ. وبمعنى آخر: إن انعكاس معاني ومفاهيم الألفاظ في أذهان المخاطبين هو فرصة للتغيُّر خلال الفترات التاريخية المختلفة، وكذلك تتغير مستويات تحليل تلك الألفاظ.

وعلى هذا الأساس يصبح للفظ في الماضي والحاضر تبادرٌ عرفي مختلف. فالتبادر العرفي للفظ في الماضي تابعٌ لمستوى الإدراك، حيث تنعكس عليه بساطة المفهوم، بينما التبادر العرفي في هذه المرحلة من الحياة الاجتماعية، التبادر العرفي لنفس اللفظ اليوم اقترن اليوم في الاستعمال الأدبي، وتجانس ببعض الألفاظ الأخرى ـ وربما في الماضي كان إلى جنبها أو بعضها ـ، فأوجد خصوصيات اجتماعية جدّ معقدة. فبالإضافة إلى فهمنا نجد أنفسنا أمام الفهم التاريخي، حيث لا يمكن الفصل بين المفهومين التاريخي والحالي، بينما أسلافنا لم يعيشوا هذا المصير، ولم يرَوْا من اللفظ إلاّ ما فهموه هم بشكله البسيط. كلّ هذا الاختلاف في حين أن التعريف الكلاسيكي المدرسي أو اللغوي لمفهوم اللفظ لا يتمّ في حضن التاريخ.

في عملية استنباط الأحكام الفقهية، حيث فهم مراد اللفظ يحتلّ مكانة قصوى وجدّ حسّاسة، لا زلنا نرى هناك نوعاً من الاضطراب في التعامل مع التطوُّر المفهومي للفظ. ولعلّ أبسط مثال يمكن الاستشهاد به على اعتبار دور التطوُّر التاريخي للمفاهيم ما يخصّ لفظتي «عبيد» و «إماء». فقد تمّ تجاوز المفهوم المستعمل في الماضي بالنسبة إلى العبيد والإماء، حيث لم يكن يومها في الذهن الاجتماعي معنى سلبيّ لهما، بينما اليوم تغيَّرت النظرة للعبودية والرقّ، وأصبحت معبِّرة عن سلوك الظلم والاستضعاف، فتغيَّر المفهوم الفقهي للفظتين. وكما هو واضح فإنّ هذا التغيير في المفهوم لم ينشأ عنه تغيير في التعريف الاصطلاحي اللغوي، كما هو مشاهد في لفظ «الاجتهاد» على سبيل المثال. فنحن لو رجعنا إلى المعاجم اللغوية الجديدة أو إلى التبادر اللغوي الحالي سنجد نفس التعريف المفهومي بالنسبة للفظي «عبيد» و «إماء» الذي استعمله أسلافنا لا زال حاضراً، بينما بالنسبة للفظ «الاجتهاد» قد أوجد التطوُّر التاريخي تعريفاً آخر له.

البحث في تأثير التطوّر على عملية الاستنباط عملية تحتاج إلى الدراسة والمتابعة المسؤولة، وهي مهمّة ـ على صعوبتها وثقلها ـ ملقاة على عاتق الفقهاء والأصوليين ومَنْ يشاركهم الاختصاص. ونحن لن نعمل في هذا البحث على فتح هذا الملفّ، وإنما سنكتفي بالعمل على إثبات وجود هذا النوع من التأثير.

وفي النوع الثاني يظهر للفظة الواحدة خلال مقطعين تاريخيين تعريفان متفاوتان ومختلفان، وهو النوع الذي سينصبّ عليه بحثنا ضمن هذا المقال. يحدث هذا التغيير في الإطلاق العرفي للفظ بالمقارنة مع مفهومه، ويكفي التتبُّع التاريخي لاستعمالات اللفظ للوصول إلى هذا التطوّر، والمقتضيات التي دعَتْ إليه. فعلى سبيل المثال: لفظ «عامة» كان في عهد الأئمّة يصف اتجاهاً سياسياً كان العلماء فيه يصنِّفون الفقه الذي يلائم رغبات الحكّام، ويثبت لهم الشرعية، بينما أصبح نفس اللفظ يشير في مجال الاستنباط إلى المجتمع السنّي وفكر أتباع مدرسة أهل الحلّ والعقد.

ورغم أن هذا التطوّر غير خفيّ عنا، لكنْ هناك العديد من الألفاظ التي كساها الإبهام، واختلف المعنى المستعمل في الماضي عن الفعلي.

لفظ «اجتهاد» تعرَّض هو الآخر للتطوُّر التاريخي؛ ففي زمان الأئمة كان الاجتهاد يعني سعي الفقيه في مجال الظنّ وفي الموارد التي لا يوجد فيها نصٌّ أو تصريح روائي، بينما نجده اليوم قد توسَّع أكثر. فإلى جانب الاجتهاد في الموارد الخالية من النصّ أصبح يضمّ حتّى اجتهاد الفقيه في الاستنباط من النصّ، واقتصر معناه في العُرْف الخاصّ عند الشيعة على المعنى الثاني.

وقد أشار الشهيد الصدر إلى تطوّر وتحوّل معنى «الاجتهاد» بين الماضي والحاضر، وعزا سبب موقف بعض العلماء بالنسبة للفظ «الاجتهاد» إلى الغفلة عن تطوُّر مفهومه([1]).

هذا النوع من التطوُّر يمكن تعقُّبه، إلاّ أن الحصول على الأساليب الصحيحة للوصول إليه جدّ معقَّدة، وتحتاج إلى مجهود علمائي حتّى تفتح على النهج الصحيح. لكنّ تعقيد هذا النوع من التطوُّر بالمقارنة مع التطوُّر في النوع الثاني أهون وأقلّ.

وقد قبل الشهيد الصدر بتحوّل وتغيّر الألفاظ على نحو النوع الثاني من التطوّر قائلاً: «ممّا لا شكَّ فيه أن ظواهر اللغة والكلام قد تعرَّضت مع مرور الزمان؛ ولأسبابٍ لغوية وفكرية واجتماعية، إلى التطوّر والتغيّر.

ربما يختلف المعنى الظاهري للفظ عند صدور الحديث عنه في مرحلة سماع الحديث، يعني الزمان الذي يُراد العمل فيه بالحديث»([2]).

وهنا لا بُدَّ من النظر هل هناك قبولٌ ولو بشكلٍ كلّي بهذا التغيير والتطوّر في مفاهيم الألفاظ؟ وهل كيفية تعاملنا مع ألفاظ النصوص الدينية تؤثّر في عملية الاستنباط أو لا تؤثِّر؟ وهل يمكن اتّخاذ هذا دليلاً يسمح لنا بالقول بأن الألفاظ مجملة أم نستطيع الخلوص، وبناءً على قواعد مشخَّصة، إلى القول بوجود الاختلاف بين الألفاظ، فهناك ما هو مجمل، وهناك ما ليس مجملاً، بمعنى أن معانيه مستقرّة لا تختلف باختلاف المجتمع والعرف المستعمل لها؟

في الجواب عن السؤال المتقدِّم نجد الشهيد الصدر قد ذكر لنا حالات وأشكال مختلفة، وبيَّن لكلّ حالةٍ حكمها الخاصّ بها. وهنا نذكر بأن التقسيمات التي سنوردها في البحث ليست جميعها من قول وطرح الشهيد الصدر، وإنما قال بعضها على شكل الكلّية. ومن خلال التحليل والتحقيق في كلماته ونظرياته تبيَّن أن تقسيمه العقلي حصر التقسيمات في ما سنذكره، أما ما جاء من التقسيمات الأخرى فهي في حقيقتها معطوفةٌ على هذا التقسيم. ومهما يكن الأمر فتقسيماته هي:

 إنّ اللفظ لا يخرج عن هذين الفرضين الكليّين:

أـ الألفاظ التي لم تعُدْ تتداول في عرف المحاورات الحاضرة، ممّا سبَّب غياب أيّ تبادر عرفي لها.

ب ـ الألفاظ المتداولة في العرف الحاضر، وقد شاع تبادرها العرفي.

ويشكِّل هذان الفرضان الفرعين الرئيسيّين، ويتفرَّع كل واحد منهما إلى تقسيمات أخرى متعدِّدة. والتحقيق في هذه الفروع والتقسيمات بلحاظ التاريخ والتطوّر ـ رغم أنها تكتسي لباس التخصُّص ـ هو في متناول أولئك الذين يرَوْن في البحث في التطوّر التاريخي أمراً محيّراً، ودراسته مجلبة للمشقّة، وبدون فائدة، بل على العكس هم يستطيعون من خلال هذه التقسيمات، ولو بقصد التجربة، أن يغيِّروا من معلوماتهم ومعارفهم التاريخية.

الفرض الأول: ويشمل الألفاظ التي بسبب عدم تداولها في المحاورات والعرف الحاضر لم يعُدْ لها تبادر عرفي بين المتحاورين. وهذا الفرض ينقسم بنفسه إلى مجموعتين:

1ـ الموارد التي يختلف أهل اللغة في معاني اللفظ فيها. وحكم هذا النوع من الألفاظ أنه لا يمكن اعتبار تفسيرات واصطلاحات الفقهاء حجّة في بعض الألفاظ، ولا يعتدّ بآرائهم ونظراتهم فيها، حتى مع فرض اتّفاقهم حول الاصطلاح، بل لا بُدَّ من العمل والسعي الحثيث للكشف عن نظر الأئمة^ فيها، وإحراز اصطلاحهم بخصوصها.

وقد عدّ الشهيد الصدر لفظ «سؤر» ضمن هذه المجموعة، وأكّد على ضرورة إحراز المعاني التي أرادها المعصوم×، وقال: «السُؤْر كلمة لا تخلو من غموضٍ؛ لعدم تداولها في العرف الحاضر بنحوٍ يكشف عن تحديد مدلولها الأصلي.

وانعقاد اصطلاح الفقهاء على تسمية كلّ ما باشره جسم الحيوان بالسؤر لا يعيِّن حمل اللفظ عليه ما لم يحرز وجود الاصطلاح في لغة الأئمّة^. وتعريفات اللغويّين متفاوتة سعةً وضيقاً، بنحوٍ لا يحصل الوثوق من ناحيتها»([3]).

ويلاحظ عدم ذكر الشهيد الصدر لسبب عدم اعتبار اصطلاح الفقهاء بخصوص هذا اللفظ. لكنْ يمكن القول: إن ظهور الاصطلاحات الفقهية والعلمية غالباً ما يكون في ظلّ الشروط التي تفرضها الدقّة وعوامل أخرى مختلفة، ترجع تاريخياً في معظمها إلى ما بعد عصر الأئمة^. لذا لا يمكنها أن تعكس مقصود المعصوم× من اللفظ.

وممّا سبق نصل إلى أنه في المسائل التي لم يحصل فيها اتّفاق بين الفقهاء، بل كان بينهم اختلاف، كما حصل بين أهل اللغة، يصبح من الأولى إحراز المعنى الذي أراده المعصوم بالضرورة.

وفي الموضع الذي يصبح إحراز مقصود المعصوم× ضرورياً تكون النتيجة أنه بدون هذا الإحراز يدرج اللفظ في دائرة الإجمال، وحينها لا يمكننا الأخذ به.

2ـ ويختص بالموارد التي حصل فيها اتّفاق بين أهل اللغة حول معنى لفظٍ معين. وقد يعتقد أن اتفاق أهل اللغة حول معنى لفظٍ ما أسلوب يطمأنّ إليه، ويعتمد عليه، ويعفى معه من الكشف عن اصطلاح المعصوم وإحراز مراده! والجواب الأكيد أن اتفاق أهل اللغة مهما كان يعين القرينة والعلامات، إلا أنه لا يجب الركون مطلقاً إلى نظر أهل اللغة، والاكتفاء به كطريقٍ أوّل وآخر في تحصيل مراد المعصوم×.

من خلال ما سبق: هل نستطيع اعتبار حكم أهل اللغة في تعيين معاني الألفاظ الواردة في الروايات، أم أن اعتبار نظر اللغة يكون بلحاظ تحقُّق الكشف عن معاني الألفاظ، أم أن اعتبار نظر اللغوي بلحاظ بنائه على أصل عقلائي يكون مورد تأييد المشرِّع؟

بالنسبة للحالة الأولى يُطرح إشكالٌ مفاده أن دور أهل اللغة وعلمائها ليس تامّاً حتّى يكون له اعتبارٌ ذاتي، بل هو من جهة الدَّوْر، فهو لا يتعدّى سقف القرينة. وبعبارةٍ أخرى: لا يجب أخذ نظر اللغوي إلاّ في مستوى القرينة التي لها تأثيرٌ في مجرى الكشف عن المعنى المقصود كيفما كان استقبالنا لها، حيث إن لها في بعض الموارد دوراً خاصّاً، حيث تعبِّد الطريق نحو الوصول إلى المعنى الأصلي للفظ.

وفي الحالة الثانية على رغم وجود كلامٍ يسوق لوجود أصل عقلائي من شأنه أن يضفي نوعاً من المصداقية على نظر اللغة، والتي بمقدورها أن ترفع عنّا القلق في ما يخصّ كشفها عن المعنى، لكنّ المشكلة في هذا حين نعلم أنْ لا أصل عقلائي في الموضوع، وحتّى مع فرض واحتمال وجوده فإنّه غير قادر على منح الاعتبار لنظر أهل اللغة. فالأصل الموجود في هذا المورد هو الأصل العقلائي في عدم النقل، والذي عليه يكون أصل وجذر المعنى الحالي للفظ راجعاً إلى الماضي، وينفي أن تكون نشأته قد وقعت في نقلٍ من المعنى الأولي والأصلي.

والواضح أن هذا الأصل يجري فقط في الألفاظ التي لا زال العمل جارياً بها في المحاورات العرفية، والعرف يفهم منها حين التبادر المفهوم المشخّص لها. أما حين لا يكون للعرف معنى على مستوى التبادر فحينها ليس هناك من معنى حتّى نحاكمه بهذا الأصل العقلائي.

وعلى العموم الشهيد الصدر لم يتطرَّق بشكلٍ خاصّ إلى هذا القسم، لكنْ على أساس ما طرحه من تصويرٍ وفق أصل عدم النقل فإن هذا الأصل يجري في موارد يكون فيها التبادر العرفي مقبولاً. وبناءً عليه ففي هذا القسم ـ كما القسم الأول ـ إحراز المعنى المقصود من طرف المعصوم× لازمٌ.

وستتّضح أكثر في بقيّة البحث نظرية الشهيد الصدر بالنسبة إلى هذا الأصل.

وهذا القسم يقسم وفق معايير ونظريات دقيقة إلى الأقسام التالية:

أـ اتّفاق رأي أهل اللغة والفقهاء على معنى للفظ ــــــ

وفي هذه الصورة قد يكون الاثنان، اللغويون والفقهاء، قد بادروا إلى تعيين أحد المفاهيم للفظ، ولهم فيه قولٌ واحد؛ وقد يعمد كلّ واحدٍ من الفريقين إلى تعيين مفهوم يختلف عن المفهوم المطروح لدى الآخر.

في الوضع الأوّل: نكون أمام وضع مطلوب نسبيّاً، حيث نكون أمام معنى هو مورد اتّفاق الفريقين (اللغويين والفقهاء)، ونجري فيه أصل عدم النقل، ومن ثمّ نثبت أن هذا المعنى هو نفس المعنى الذي ساد في المراحل السابقة، وبالتالي يكون مقصود الأئمة^ هو هذا المعنى بعينه. وحتى في حالة عدم القبول به، وكذا ردّ أصل عدم النقل، ففي الحدّ الأدنى نكون أمام قبول أحد توافقات اللغويين والفقهاء ـ وخاصّة إذا تمّ التنسيق بينهما ـ، على أساس أنه قرينة نستطيع بالاعتماد عليها التوصّل إلى المعنى المقصود من طرف الأئمة^، وهو أمرٌ معقول وممكن.

في الوضع الثاني: نحن أمام فرعين:

1ـ حيث خرج اللفظ من دائرة العامّ ودخل في دائرة الخاصّ بالاصطلاحات الفقهية. ونستطيع هنا التمثيل بلفظ «القياس»، حيث نجد له في اللغة معاني، وفي الاصطلاح معاني أخرى. ولم يكن في عصر الأئمة^ ضمن الاصطلاحات الفقهية. فهذا اللفظ؛ وبلحاظ فقده للاستعمال العامّ ـ العرفي في دائرة المحاورات العلميّة، لا بُدَّ من تحصيل نظر أهل اللغة إلى جانب اللفظ.

والسؤال المطروح هنا هل المعنى الاصطلاحي الحاضر عند الفقهاء يصلح لأن يكون معياراً يقوم عليه معنى لفظ القياس الذي استعمل في روايات المعصوم×؟

الجواب ـ في نظرةٍ واحدة ـ بالنفي؛ إذ لا بُدَّ من تحصيل المعنى المراد في اصطلاح الأئمة^، وفي القرن الثاني، حتّى لو كان البحث في النهاية سيوصلنا إلى نفس المعنى والاصطلاح الذي لدينا. نعم، البحث هنا ليس في خصوص لفظ القياس، حتّى مع ادّعاء البعض أنه قد تتبّع المعنى بالشكل المطلوب، بمعنى أن المعنى الرائج حالياً لهذا اللفظ هو من تتبُّع الفقهاء. المنظور هنا أنه في مقابلتنا لهكذا لفظ لا بُدَّ من النظر في معناه الاصطلاحي والعلمي خلال القرنين الثاني والثالث.

2ـ إن اللفظ في زمن الأئمّة^ لم يكن ضمن سلك الألفاظ الاصطلاحية. وهنا يكون اللفظ في حالة من الإجمال والإبهام الشديدين؛ لأن نظر اللغويين ومفهوم الفقهاء متغايران، وكل واحد من الفريقين لا يتوافق مع الآخر في معنىً له. فلا بُدَّ من اكتشاف منشأ الاختلاف. فهل نستطيع والحال هذه عميقة في الاختلاف بين الفريقين أن نصرِّح أن مقصود الأئمّة^ من هذا اللفظ هذا المعنى أو ذاك؟

ب ـ الفقهاء مختلفون، وأهل اللغة متَّفقون، حول معنى اللفظ ــــــ

في هذه الحال يكون اللفظ مورد البحث ينتمي إلى الألفاظ التي يرجع البحث فيها إلى القرن الثاني والثالث. وفي هذه الصورة تكون وجهة نظر اللغوي غير ذات صلة بعمل الفقيه. وهنا لا بُدَّ من تحصيل المعنى الاصطلاحي. وحيث إن بين أهل الاصطلاح اختلاف يصبح واجباً البحث والتحقيق للوصول إلى المعنى المقصود لدى الأئمّة^.

وأما أن يكون اللفظ غير متعرَّض له ضمن القرنين الثاني والثالث حينها يكون حجم المشكلة أقلّ، لكنْ لا بُدَّ من الاطلاع عن علّة اختلاف الفقهاء؟ هل له جذورٌ في التاريخ القديم، بحيث يمكن من خلال إدراكه التوصُّل إلى طريقٍ آخر، أم أن جذوره ترجع إلى الزمن المتأخِّر؟

ومهما يكن فمعرفة أن اللفظ يرجع إلى بحوث القرنين الثاني والثالث أو ليس كذلك قد تكون مسألة سهلة المنال، وقد تحتاج إلى دراسةٍ تاريخية جادّة.

الفرض الثاني: أن يكون اللفظ متداولاً في العرف الحاضر، وبالنسبة إلى تبادره العرفي فهو ملاحظٌ وملموس. ويغطي هذا الفرض أربع مجموعات أو أقسام:

1ـ العلم بوقوع النقل من المعنى الأصلي، وكذا العلم بتاريخ وقوعه ــــــ

في هذه الحال إمّا أننا نستطيع تشخيص وقوع النقل قبل زمان الصدور، أو أن وقوع النقل قد أتى متأخراً عن زمان الصدور. في الوضع الأول يكون الحكم هو حمل معنى اللفظ الوارد في الرواية على المعنى المتبادر في الحاضر؛ أما في الوضع الثاني فالحكم هو أنه من المحتمل أن يكون المعنى قبل النقل هو نفس المعنى المتداول في عصر الصدور. وبالطبع هذا يجري في حال اتَّضح المعنى لنا قبل النقل بشكلٍ قطعي ـ ليس عن احتمال أو ظنّ ـ، أما إذا علمنا أن النقل قد وقع، لكنّنا لا نعلم المعنى قبل النقل، أو نعلمه بنحو الاحتمال والظنّ، ففي هذه الحال لا بُدَّ من إحراز المعنى المقصود للمعصوم× في الرواية.

2ـ العلم بوقوع النقل عن المعنى الأصلي، لكنْ مع عدم إحراز تاريخ وقوعه ــــــ

في هذه الحالة إذا حصل تردُّد في إحراز تاريخ وقوع النقل بين مرحلتين: قبل زمان صدور الرواية؛ وبعد زمان صدورها، فهنا لا توجد حيثيّة كاشفة عن تأخُّر وقوع النقل والتحوّل عن زمان المعصومين^. فالإشكاليّة هنا هل نحمل اللفظ على المعنى الجديد أم أن التغيير والنقل وقع بعد عصر النصّ، فنحمل اللفظ على المعنى القديم؟ والجواب: لا مكان لجريان أصل عدم النقل، ولا بُدَّ من إحراز المعنى المطروح في عصر الصدور، والكشف عن المفهوم المراد في نظر المعصوم×.

ولم يخرج الشهيد الصدر في هذه الحال ـ حيث يقع الشكّ في زمان وقوع النقل ـ عن هذا الرأي، ويعتقد أنّ الصحيح في هذه الصورة هو عدم جريان أصل عدم النقل، وبعبارةٍ أخرى: لا يمكن أن يكون المعنى المتبادر في الحاضر؛ استناداً إلى أصل عدم النقل، يرجع تاريخياً إلى زمن المعصوم×:

في الحالة التي يقع فيها تغيير في ظهور اللفظ بلحاظ الوضع، ولكن وقع شكّ في تاريخه، فإن الصحيح عدم جريان أصل عدم النقل، فلا يوجد بناءٌ عقلائي على العمل بعدم النقل في الفترة المشكوكة([4]).

ويوجِّه& عدم جريان أصل عدم النقل في مثل هذه الحال، فيقول: «والنكتة في ما ذكرناه أن البناءات العقلائية عموماً تقوم على أساس حيثيات كشف نوعية، وليست هي من باب التعبُّد. فعندما يبني العقلاء على أصالة عدم النقل في مورد معين فذلك إنّما يكون لأجل استبعاد وقوع التغيُّر في اللغة، وأن النقل حالة استثنائية نادرة بحسب نظرهم، فإذا فرض وقوع ذلك الأمر المستبعد، أو حصول تلك الحالة النادرة، فلا يوجد عند العقلاء ما يبرِّر نفي احتمال تقدّم زمان النقل أو التغيُّر والتبدّل؛ لأنّ المستبعد ليس هو إلاّ أصل النقل والتغيُّر، وقد تحقَّق فعلاً. وأما بالنسبة إلى زمانه، من حيث كونه متقدّماً أو متأخّراً، فلا يوجد أيُّ استبعادٍ فيه؛ إذ كونه حاصلاً في زمان الإمام الباقر× أو كونه حاصلاً في زمان الإمام الكاظم× على حدٍّ سواء بنظر العقلاء»([5]).

3ـ الشكّ في وقوع النقل، مع العلم بما يقتضيه ــــــ

قد يقع الشكّ في وقوع النقل، لكنْ في المقابل هناك مجموعةٌ من القرائن والظروف المساعدة التاريخية التي تدلّ على وقوع التطور والتغير بالنسبة إلى اللفظ مورد البحث. وهنا يصبح السؤال: ماذا نعمل؟

يرى الشهيد الصدر أنه في هذه الصورة لا يخلو التمسُّك بأصل عدم النقل من إشكال. ففي الموارد التي تكشف عن مجموعة من الشروط التي تقتضي حدوث تغير في مفهوم ومعنى اللفظ يكون التمسُّك فيها بأصل عدم النقل مخالفاً للمعقول، وبالتالي يصبح التمسُّك به غير خالٍ من الإشكال([6]).

4ـ الشكّ في وقوع النقل، والظروف التاريخية التي مرَّت على اللفظ اعتُبرت عادية وبسيطة ــــــ

الشهيد الصدر يذعن هنا بجريان أصل عدم النقل، حيث يقول: «إن نظر العقلاء في جريان أصل عدم النقل حين يكون احتمال التغير والنقل احتمالاً بسيطاً وعادياً»([7]).

يؤكِّد الشهيد الصدر أنه رغم عدم نفي حصول تغيّر في مفهوم اللفظ، لكنّ العرف، الذي هو نتيجة تجارب حصلت للأشخاص بشكلٍ متكرِّر ومستمرّ، يقول بالثبات النسبي للغة والكلام، أي إن تحول وتغير اللغة يتمّ بشكلٍ بطيء يكاد لا يلاحظ. فاحتمال وقوع التغير ووقوع النقل عند العقلاء بمثابة احتمال يأخذ طابعاً استثنائياً. لذلك نفوا هذا الاحتمال، والمشرِّع أمضى هذا المبنى العقلائي وأيَّده.

وبالتأكيد فإمضاء الشارع لا يعني نفيه لفكرة تطوّر اللغة وتغيرها، وإنّما يحكم الشارع في مقام التشريع بحجّية احتمال تطابق المعنى المتبادر في الوضع الحالي مع المعنى المراد من طرف المعصوم×. وهذا يجري ما لم يثبت دليلٌ خلاف ذلك.

وحتّى تتمّ الاستفادة أكثر من تلك التقسيمات نرى أفضلية طرحها على شكل رسمٍ بياني:

الألفاظ المهجورة في عرف المحاورات الحاضرة، مما سبَّب غياباً لأيّ تبادر عرفي لها ــــــ

1ـ موارد وقع فيها الاتفاق بين أهل اللغة والفقهاء حول معنى للفظ مورد البحث.

2ـ أهل اللغة متّفقون على معنى، والفقهاء متفقون على معنى آخر، واللفظ ضمن دائرة الألفاظ التي تمّ البحث العلمي فيها خلال القرنين الثاني والثالث (زمن الباقرين’).

3ـ أهل اللغة متفقون على معنى، والفقهاء متّفقون على معنى آخر، واللفظ ليس ضمن دائرة الألفاظ التي تم البحث العلمي فيها خلال القرنين الثاني والثالث.

4ـ أهل اللغة متفقون بينهم على معنى، لكنّ لم يحصل بين الفقهاء هذا الاتفاق، واللفظ ضمن دائرة الألفاظ التي بحث فيها خلال القرنين الثاني والثالث.

5ـ أهل اللغة متّفقون حول معنى، وقد حصل بين الفقهاء اختلافٌ، واللفظ ليس ضمن دائرة الألفاظ التي بحث فيها خلال القرنين الثاني والثالث.

6ـ أهل اللغة مختلفون حول معنى، والفقهاء متّفقون على معنى.

7ـ أهل اللغة مختلفون حول معنى، والفقهاء مختلفون كذلك حول معنى.

الألفاظ المتداولة في العرف الحاضر، بالإضافة إلى شيوعها في التبادر العرفي ــــــ

1ـ العلم بوقوع النقل وتاريخ وقوعه قبل زمان الصدور.

2ـ العلم بوقوع النقل وتاريخ وقوعه بعد زمان الصدور، مع إحراز المعنى ما قبل وقوع النقل.

3ـ العلم بوقوع النقل، لكنّ تاريخ وقوعه غير معلوم.

4ـ الشكّ في وقوع النقل، لكنّ الشروط التاريخية التي مرَّت على اللفظ تم تقييمها على أنها معقّدة.

5ـ الشكّ في وقوع النقل، لكن الشروط التاريخية التي مرَّت على اللفظ بسيطة وعادية.

التطوُّر والتغيُّر في السِّيَر ــــــ

يلاحظ وجود ثلاثة أنواع من التطوّر والتغيّر للسِّيَر، بلحاظ علاقتها وارتباطها بالزمان:

النوع الأول: السِّيَر التي انتفت مع مرور الزمان. وهذه السيرة التي انتفت قد تكون موجودة في زمن الشارع. ونظراً لأهمية هذا النوع سنخصّه بالبحث، وسنسلط عليه الضوء وفق ما يسمح به المقال.

قد يطرح السؤال عن الفائدة من معرفة هذا النوع من السِّيَر؟

والجواب بكلّ بساطة: إن هذه السِّيَر التي تكون موجودة في زمن الشارع مرآة نرى من خلالها الأحكام التي أصدرها الشارع؛ لأن هذه السير إذا كانت سيرة المتشرِّعة فهي ينبوع الشرع، فهي تكشف عن الحكم الشرعي، وإذا كانت سيرة العقلاء، وأمضاها الشارع، فهي الطريق المطمئن للشرع.

فلا يتبادر إلى الأذهان أن البحث في السير التي تنافَتْ مع الزمان خارج عن هذه الفائدة. ومعرفة هذه السير تجعلنا نرفع عن كاهلنا أنواعاً من الحمل الثقيل الذي حملنا إيّاه فهم بعض الفقهاء للروايات؛ حيث أفتى الفقهاء من خلال فهمهم للروايات بنجاسة الكفّار، لكنّ الشهيد الصدر، ومن خلال تتبُّعه لسيرة المسلمين في صدر الإسلام، وعدم مجانبتهم للكفّار والمشركين، أدلى بنظرةٍ جديدة في المسألة.

وكان دليله على وجود هذه السيرة قوله: إنّ ابتلاء المسلمين بالتعايش مع أصنافٍ من الكفّار في المدينة وغيرها على عهد النبيّ| كان على نطاقٍ واسع، واختلاطهم مع المشركين كان شديداً جدّاً، وخصوصاً بعد صلح الحديبية، ووجود العلائق الرحميّة وغيرها بينهم، فلو كانت نجاستهم مقرَّرةً في عصر النبوّة لانعكس ذلك وانتشر وأصبح من الواضحات، ولسُمِعَتْ من النبيّ| توضيحاتٌ كثيرة بهذا الشأن، كما هو الحال في كلِّ مسألةٍ تدخل في محلّ الابتلاء إلى هذه الدرجة.

ولا توجد في مثل هذه المسألة دواعي الإخفاء. وأيُّ داعٍ إلى ذلك مع ظهور الإسلام، وعدم منافاة هذا الحكم مع أغراض أولياء الأمر بعد النبيّ|؟

وحتّى لو افترضنا أنّ الحكم بالنجاسة كان في ظرف نزول سورة التوبة ـ التي نزلت بعد الفتح ـ فإنّ طبيعة الأشياء كانت تقتضي شيوعه وانتشاره أيضاً([8]).

النوع الثاني: إن المرتكز العقلائي ومع مرور الزمن يعرف زيادة في السِّيَر، والتي تختلف مع السيرة التي كانت في زمن الشارع. فقد تظهر في مسيرة الزمان عوامل وشروط جديدة تعمل على تغيير في الجوانب الخارجية والعملية للمرتكز العقلائي أو ما يصطلح عليه بالسيرة العقلائية، بحيث تستقرّ وترتكز السيرة الجديدة بدلاً عن السيرة القديمة.

وفي الواقع فإن كلتا السيرتين ـ سيرة المتشرِّعة وسيرة العقلاء ـ تنبعان من نبعٍ واحد، ويقف خلفهما مرتكزٌ عقلائي واضح.

والعديد يذهب إلى اعتبار السيرة الجديدة، رغم عدم إمضائها من طرف الشارع، وإنما يتمّ اعتبارها بلحاظ أنّ إمضاء الشارع للسيرة القَبْلية هو في حقيقة الأمر إمضاء لهذا المرتكز الذي يقف خلف هذه السيرة، وباعتبار أن هذا المرتكز نفسه هو الذي عمل على ظهور سيرة جديدة فإنّه يمكننا اعتبار هذه السيرة والاستدلال بها.

وهذا الاستدلال يمكن إكماله، وذلك بقوله: إن أصل وروح أيّ سيرة هو الارتكاز، والذي يأتي في شكل السيرة. وما دام الشارع قد أيَّد هذا الأصل وأمضاه فإنها تصبح معتبرة، سواء ظهرت في هذا الشكل أو في ذاك، بلا فرقٍ من حيث الاعتبار والقبول.

فالارتكاز هو في حقيقة الأمر أصلٌ كلّي يأخذ كيفيّات متعدّدة ومختلفة.

النوع الثالث: أن يكشف الزمان عن سيرة جديدة بعد انقضاء عصر الشارع. والفقهاء مجمعون هنا على عدم اعتبار هذه السيرة؛ لأن السيرة تأخذ الاعتبار من تأييد وإمضاء الشارع لها؛ إذ حجية السيرة ليست بلحاظ ذاتها، بل بلحاظ انكشاف الإمضاء الشرعيّ من التقرير وعدم الردع. فلكي يتمّ هذا الانكشاف يجب أن تكون السيرة معاصرةً لحضور المعصومين^؛ حتّى يدلّ سكوتهم على‏ الإمضاء في ذاتها.

لكنّ الإشكال يقع فيما لو وقع عندنا شكٌّ في زمن ظهورها، فما هو تكليفنا تجاهها؟

وبعبارةٍ أوضح: ما العمل في مقابل السيرة التي لا زالت قائمةً بين العقلاء أو المتشرِّعة، ولكنْ حصل لنا شكٌّ فيما إذا كانت هذه السيرة قد وُجدت زمن الشارع أو أنها ظهرت بعد زمانه؟

تقابلنا هنا نظريتان:

1ـ بعض العلماء يرَوْن أن وجود السيرة بينهم وتداولها يكفي في الإفصاح عن وجودها في زمن الشارع.

2ـ لكنْ في المقابل هناك جمعٌ آخر من العلماء، ومنهم الشهيد الصدر، يعتقدون أن وجود السيرة في فترة متأخِّرة عن زمن المعصوم× غير كافٍ في الحكم عليها بأنها وُجدت في زمنه.

إن هذه النظرية الأخيرة تستند في موقفها على دليلٍ ثابت. فالسيرة ليست ظاهرة فوق الزمن، بحيث لا يكون لها ارتباطٌ وعلاقة بمسائل وقضايا زمانها، بل على العكس لها ارتباطٌ وثيق، سواء على مستوى مرحلة الظهور أم على مستوى الاستمرارية والتداول بشرائط وقضايا الزمان.

وإذا قبلنا بدليل ارتباط السِّيَر بزمانها فإنّ دليل النظرية الأولى، بأن وجود السيرة في زمن متأخِّر عن زمان الشارع دليلٌ على وجودها في زمن المشرِّع، ينتفي؛ لأنه من الممكن أن تتشكَّل السيرة في زمنٍ ما بعد زمن التشريع.

 بهذا الدليل نفسه ردَّ الشهيد الصدر النظرية الأولى، وبيَّن بطلان الدعوى بأن وجود السيرة دليلٌ على ثبوتها في زمن الأئمّة^، قائلاً: إنه من الممكن أن تكون هناك مجموعة من العوامل بعد عصر الأئمة^ ساهمت في ظهور السيرة، كالانتشار التدريجي للفتوى في بعض القضايا، لكنّها لم تأخذ جذورها من زمن المعصومين^([9]).

ويقول الشهيد الصدر في الموارد التي يمكن تحصيل قرائن تثبت امتداد السيرة إلى زمن الأئمة^، وبالتالي تكشف عن ثبوت السيرة في زمنهم^: «إنّ صِرْف وجود السيرة في زمن متأخّر عن زمن الأئمة×، من دون أن تضاف إليها قرائن خاصّة، ليس كاشفاً عن ثبوت هذه السيرة في زمن الأئمّة^»([10]).

طرق معرفة التطوُّرات التاريخيّة في مجال السِّيَر ــــــ

هل هناك طرقٌ يمكن من خلالها تحصيل السِّيَر المعاصرة لزمن الأئمّة^؟

ذكر الشهيد الصدر عدّة طرق في حال وقوع تردُّد في زمن السيرة، وهل كانت في زمن المعصوم أو جاءت متأخِّرة عنه؟

وسنحاول بيان هذه الطرق، وإنّما نعرضها بشكلٍ قد يختلف عن الشكل الذي طرحه الشهيد الصدر.

الطريق الأول: قراءة وتحليل في المعطى التاريخي. وبما أننا نريد الكشف عن تاريخ السيرة وتحقّقها في مقطع تاريخي هو في الحقيقة بعيدٌ عن المقطع الزماني الحالي بعصور غير قليلة لا بُدَّ من قراءة هذه السِّيَر في معطيات التاريخ. وبطبيعة الحال الدراسة التاريخية لهذا الموضوع من أعقد الأمور، وأصعبها؛ إذ تحتاج إلى تتبُّع دقيق، وتحليل لمختلف القرائن والأمارات، ووضعها إلى جانب بعضها البعض؛ للخلوص إلى نتيجة صحيحة.

وحيث إن هذه النتيجة معرَّضة بشكلٍ محتمل إلى إشكال أو إشكالات، وهو ما قد يوقع هذه النتيجة في المأزق، فإن على المحقِّق أن يستحضر الوجه الحقيقي والواقعي للمرحلة التاريخية، وأن لا يقتصر على تجميع وضمّ القرائن والضميمات بعضها إلى البعض الآخر.

وربما نستطيع القول: إن القراءة التاريخية قد تستدعي المرور ببعض المحطات المعقَّدة، لكنْ بلحاظ أن السيرة العقلائيّة معبِّرةً ـ بوصفها عقلائيّةً ـ عن نكاتٍ فطريّة وسليقةٍ نوعيّة، وهي مشتركة بين العقلاء في كلِّ زمان، فليس هناك أيّ صعوبة في دراسة السيرة في مجالها التاريخي إذا تصوَّرنا ابتداء التحول التدريجي والبطيء للسيرة، ويكفي تجميع القرائن، وضمّ بعضها إلى بعض؛ للتوصُّل إلى جوابٍ عن السؤال: هل توجد سيرةٌ عقلائية في الموضوع أو لا توجد؟ فإنْ وجدت فإنّ ملامحها لا يمكن أن تختفي، بل تظلّ ظاهرة؛ وإنْ لم توجد علاماتٌ كذلك فعدم وجودها سرعان ما يكشف عن ذلك.

وعلى العموم فالشهيد الصدر يرى أن هذه الدراسة والتحقيق التاريخي يمكن إجراؤه من خلال الموارد التالية:

1ـ فتاوى الجمهور: فتاوى‏ أهل السنّة في نطاق المعاملات؛ باعتبار أنها أحياناً تكون منتزعةً من الوضع العامّ، المرتكِز عقلائيّاً، إلى‏ جانب دلالات التأريخ العامّ([11]).

ووفق هذا البيان يمكن عدّ فتاوى الجمهور طريقاً للوصول إلى المرتكز العقلائي الذي سادَ في تلك المرحلة من حياة المعصوم×.

وبطبيعة الحال تبقى هذه في حكم القرينة التي إذا تمّ ضمُّها إلى نقاط أخرى تاريخية فلا شَكَّ أنّها ستكون مفيدة، وتكشف عن نتائج إيجابية في الموضوع، كما لاحظ الشهيد الصدر ذلك، وأشار إليه([12]).

2ـ الروايات: فالروايات بلحاظٍ تاريخي بمثابة المرآة الجليّة، تعكس الحالات المختلفة لعصر الأئمّة^. ولأن الغالب على تعاملنا مع الروايات هو استحضار الحكم الشرعي لذلك لم نولِ أهمّية لما تُطْلعنا عليه من وقائع تاريخية. فملاحظة الواقع التاريخي من خلال الروايات طريقٌ فعّال في الكشف عن السِّيَر الموجودة في تلك المرحلة من عمر النصّ.

ولعلنا نستطيع من خلال قراءةٍ تاريخيّة لهذه الروايات أن نتوصَّل وبشكلٍ مباشر إلى السيرة، سواء المتشرِّعية أو العقلائية، التي سادَتْ في عصر الأئمة^. بل إن هذا النوع من القراءة يكشف حالاتٍ مختلفة للناس وللرواة، والتي بتجميعها وتحليلها تبدي لنا السيرة التي على أساسها كان تعامل تلك الفئة من مجتمع عصر الأئمّة أو عصر الرواة.

وقد استدرك الشهيد الصدر هذا الموضوع، وأشار إلى أهمّيته في استكشاف السِّيَر، قائلاً: «…أو في نطاق الروايات والأحاديث الفقهيّة. ويتوقَّف اعتبار هذا النقل إمّا على‏ كونه موجباً للوثوق والعلم؛ أو على‏ تجمّع شرائط الحجّيّة التعبُّديّة فيه. وفي هذا المجال يمكن الاستفادة من الروايات نفسها؛ لأنّها تعكس ضمناً جوانب من حياة الرواة والناس وقتئذٍ»([13]).

الطريق الثاني: اعتماد الفقيه المستنبط على مبدأ «لم يصلنا شيءٌ حول القضية، ولم ينعكس لها شيءٌ في التاريخ الذي وصل إلينا».

قد لا يحتاج الفقيه المستنبط إلى تجشُّم مشقّة السفر عبر الزمن إلى عصر الصدور في دراسة التاريخ بحثاً عن جوابٍ على مسألة، بل يكفي الاعتماد على نقطة تاريخية، والتي لا تتطلب كثيراً من الجهد، حيث يستطيع من خلال التحليل العقلي أن يكشف عن وجود سيرة معيَّنة في زمن الأئمة^. وتتجلى هذه النقطة في عنصر عدم انعكاس مسألة في التاريخ، أو بعبارة أوضح: عدم وصول شيءٍ في المسألة.

فالذي لم يصلنا قد يكون تارةً سيرة؛ وتارةً قد يكون لوازم على انتفاء السيرة وعدمها. وكلا الحالتين تكشف عن وجود سيرةٍ مقابلة. وحتّى تتّضح المسألة أكثر نبحث كلّ واحدة من الحالتين بمعزلٍ عن الثانية:

أـ عدم وصول السيرة إلينا لا بُدَّ وأنْ تكون لها إحدى الصفات التالية:

1ـ أن تكون في وضع بحيث لا يمكن أن لا تنعقد فيها السيرة، بمعنى أن تكون ظاهرة اجتماعية بحيث يكون عدم انعقاد السيرة فيها أمراً مستحيلاً، نظير: مسألة التفهيم والتفهُّم؛ إذ لا بُدَّ وأن ينعقد من طرف الأئمّة^ والمعاصرين لهم سلوكٌ وسيرة فيهما.

2ـ أن تكون على نحوٍ بحيث تكون السيرة المحتملة قابلة للقِسْمة إلى نوعين. مثلاً: السيرة المنعقدة في الفهم والتفهم كانت منعقدة على اعتبار الظواهر والعمل بها؛ إذ لولا ذلك لكان لا بُدَّ من سلوك بديلٍ يمثِّل طريقةً أخرى‏ في التفهيم. والداعي إلى وجود تقسيم ثنائي بالنسبة إلى السيرة يأتي من الحالة الحاضرة، فما لدينا اليوم في قضية التفهيم والفهم هو سيرة الاعتماد على الظواهر، وبطبيعة الحال رؤية هذه السيرة وهذا السلوك يدفع بنا إلى السؤال حول طريقة وسلوك الأئمة^ في مجال التفهيم، هل كان سيرة اعتبار الظواهر أو شيئاً آخر؟ وهنا نلاحظ بروز التقسيم الثنائي.

فلو افترضنا وجود سيرة غير السيرة الموجودة لدينا لكان من الطبيعي أن تنعكس ويشار إليها، وحيث إنه لم تنعكس في التاريخ؛ لأنها لو كانت سيرة لكانت ظاهرة طبيعية، فلا يمكن أن تختفي، وأن لا تصل إلينا، أمّا حيث لم تنعكس فهذا؛ بدلالة الالتزام، ووفق القضية الشرطية، يقتضي النفي. والتالي غير واقعٍ، فكذلك المقدَّم. وبذلك تستقر السيرة الحاضرة.

ومسألة التفهيم والتفهم من هذا السِّنْخ، ولا تخرج عن هذا التحليل. فعدم انعكاس سيرةٍ أخرى في التاريخ للتفهيم يجعل الاعتبار للسيرة القائمة على العمل بالظواهر. ونستطيع اعتبارها سلوكاً صادراً من الأئمة وسيرة سائدة في عصرهم. وقد بيَّن الشهيد الصدر هذا الأمر بقوله: «أن يكون للسلوك الذي يُراد إثبات كونه سلوكاً عامّاً للمعاصرين للأئمّة^ سلوكٌ بديل على‏ نحوٍ لو لم نفترض ذاك يتعيَّن افتراض هذا البديل، ويكون هذا السلوك البديل معبِّراً عن ظاهرةٍ اجتماعيّةٍ غريبةٍ، لو كانت واقعةً حقّاً لَسُجِّلت وانعكست علينا؛ باعتبارها على‏ خلاف المألوف. وحيث لم تسجَّل يعرف أنّ الواقع خارجاً كان هو المبدل، لا البدل»([14]).

ب ـ عدم وصول لوازم إحدى السِّيَر إلينا. ويمكننا كشف السيرة السائدة في زمن المعصوم× من خلال المسألة التي تتوفَّر على الخصوصيّات التالية:

ـ أن يكون فرض عدم انعقاد سيرة بخصوصها أمراً غير معقول (وهي نفس الخصوصية الأولى في القسم السابق)، كأن تكون المسألة محلاًّ للابتلاء، فلا يعقل أن لا تنعقد فيها سيرةٌ.

ـ أن تكون السيرة المفترضة ذات تقسيم ثنائي، على نفس الشاكلة التي أتينا على ذكرها بالنسبة إلى المجموعة السابقة، مع وجود فارقٍ يكمن في أننا في التقسيم السابق أخذنا السيرة الموجودة حالياً وفي هذه الفترة من التاريخ، وقمنا بالتقسيم الثنائي، مع فرض حالة أخرى غير التي توجد لدينا اليوم. أما في ما يخصّ هذالتقسيم الثنائي في هذه المجموعة فلا داعي لأن تكون لدينا سيرة في الحاضر، بل يمكن أن تكون كلتا السيرتين مفترضتين. وكذلك خلافاً لما كان في التقسيم السابق، حيث تمّ فرض عنوان آخر غير معروف أُضيف إلى السيرة الموجودة في الحاضر، بينما في هذا التقسيم يتمّ الانطلاق من أن السيرتين المفروضتين معرفتان ومشخّصتان؛ لأننا من خلال هاتين السيرتين المعرفتين نريد أن نثبت أنّ إحداهما هي السيرة الواقعية المعاصرة للمعصومين^. وقد مثَّل لهذا الشهيد الصدر بسيرة الاجتزاء بالمسح ببعض الكفّ في الوضوء، وسيرة المسح بتمام الكفّ([15]).

وكما نلاحظ فإنّ كلتا السيرتين معرفتان. وكما سيأتي في الخصوصية الثالثة فإنه في تشخيص إحدى السيرتين نسلك الطريق الصحيح، وبالتالي نصل إلى تحديد السيرة المعاصرة فعلاً للمعصومين×.

ج ـ إنه من خلال النظر في إحدى السِّير المشخصة تنشأ ملازمة بين انتفاء تلك السيرة وبين انعكاسها في التاريخ، مع فرض وجودها.

ففي المثال الذي عرضه الشهيد الصدر لو افترضنا أنّ المسح بتمام الكفّ كان وارداً في السلوك العملي في زمن المعصوم× فهنا لا يمكننا إثبات دلالتها على الوجوب. وحيث إن المسألة إذا كانت مورد ابتلاء فحتماً ستكثر الأسئلة للأئمّة^، وتكثر معه الأجوبة منهم^، يتبيَّن أن هذه السيرة المشخَّصة تمكننا من طرح ملازم هذه السيرة المفروضة، والذي يكمن في كثرة الأسئلة من عموم أفراد المكلَّفين، وكثرة الأجوبة من الأئمة^، في مسألة وجوب المسح بتمام الكفّ.

لكنّ هذه اللازمة لم تصلنا، مع أن الحال يقتضي أن تصل إلينا كلّها، أو بعضها على الأقلّ؛ بانتفاء المانع. وحيث إنه لم يصِلْ فهذا يجعلنا نخلص إلى أنه لم تكن هناك أسئلةٌ وأجوبة كثيرة، وبالتالي لم تكن هناك حاجةٌ إلى‏ استعلام حكم المسألة عن طريق السؤال والجواب. وهذا يقوّي ويغلِّب افتراض قيام السيرة على‏ الاجتزاء بالمسح ببعض الكفّ، وأنّ سيرة المسح بتمام الكفّ في الوضوء لم تكن مستقرّة.

وفي السؤال عن كيف يمكننا التأكُّد من أنه لو وُجدت اللازمة المذكورة لوصلت إلينا؟ يجيبنا الشهيد الصدر بأنّ الأمر يتمّ في ظلّ النقاط التالية:

الأولى: من خلال فرض كون المسألة محلّ الابتلاء للعموم؛ لأن الأمور والقضايا مورد ابتلاء عامّة الناس، وتكون حالةً اجتماعية.

الثانية: عدم وجود مبرّرات ودواع لإخفاء الحكم الصادر من الأئمّة^، كما انتفاء أدلة على حصول أيّ نوع من الإخفاء، أو مع فرض وجودها فهي ليست موجّهة بأيّ وجه، بل على العكس توفّر الدواعي لنقلها وروايتها([16]). ومع كلّ ذلك لم تصلنا الأسئلة من عموم المكلَّفين حولها، كثيرة أو قليلة.

ونتيجة عدم انعكاس تلك الأسئلة في التاريخ، والذي يمثِّل هنا لازمة السيرة المعاصرة للمعصوم×، لا يبقى سوى نفي وجودها وطرحها في تلك الفترة. ومع نفي هذه اللازمة ينتفي الملزوم، والذي يمثِّل هنا المسح بتمام الكفّ. ومع نفي هذه السيرة تثبت بالملازمة السيرة الأخرى، وهي الاجتزاء ببعض الكفّ في المسح في الوضوء، وتثبت هذه السيرة على أنها السيرة المعاصرة للمعصوم×.

الطريق الثالث: الاحتكام إلى الوجدان. ويمكن تقسيم إدراكات الإنسان إلى قسمين:

الأول: إدراك شخصي ومتغير. فالإنسان، إضافة إلى أنه يملك خصوصيات في الحياة، يملك كذلك خصوصيات نفسية، خصوصيات ـ على الرغم من أنها في نهاية المطاف روابط مشتركة ـ تربط الإنسِان بالآخر، لكنّها تتغيَّر من إنسانٍ إلى آخر، وليس بينها تماثل أو اتّساق.

الثاني: الوجدانيات العامّة والثابتة. فالإنسان في أعماق حريم باطنه النفسي يشترك في الإدراك، إدراكٍ لا يمكن لأيٍّ كان أن ينكره، وهو ما يعبَّر عنه «بالوجدانيات العامة».

وبالانطلاق من هذا البعد المشترك تنفتح أمامنا طريق إلى أسلافنا، ولا بُدَّ أنّهم قد اشتركوا في الإدراك والمعرفة التي يكون مصدرها هذا الحسّ المشترك. وإن الاستفادة من هذا الحسّ سيكشف عن المشتركات العلمية والتاريخية أمام الباحث، كما يمكن الانفتاح على هذا الحسّ المشترك في البحوث الفقهية من جهة أن التعرُّف على حالة اجتماعية في زمن الأئمة^ ـ سواء كانت من نوع المرتكزات العقلائية أو السِّيَر العقلائية القائمة على المرتكزات ـ قبل أن تكون فنّاً هي واقعة تاريخية، وأحد العوامل المؤثِّرة بشكل كبير في عملية الاجتهاد واستنباط الأحكام الفقهية. وفي الواقع إن ما يتوصَّل إليه من خلال إدراك نفسي داخلي هو جزء وقسم من الوجدان، وميراث مشترك بين الإنسانية. وهنا لا بُدَّ من الإشارة إلى أن عصر الأئمة^، وبغضّ النظر عن الفاصلة الزمانية التي تفصله عن الحاضر، هو جزءٌ من تاريخ الحياة البشرية. والنتيجة أنّ المرتكز الوجداني كان موجوداً كذلك في زمن الأئمّة^.

في هذا الطريق، وبخلاف ما كان في الطرق السابقة، يتمّ في كشف إحدى الوقائع في زمن الأئمّة الاعتماد على الداخل النفسي، وليس على أدلّة خارجية، وتحليل معطيات خارجية.

وتتجلّى أهمية هذا الطريق في الحلّ من جانبين: الأول: إننا نعتمد على المرتكز الوجداني؛ والثاني: إن النتيجة هي عامّة وشاملة، بلحاظ أن الوجدان خارج عن الزمان والمكان والطبع.

وقد عرض الشهيد الصدر طريق الحلّ هاته بقوله: «الملاحظة التحليليّة الوجدانيّة، بمعنى‏ أنّ الإنسان إذا عرض مسألةً على‏ وجدانه ومرتكزاته العقلائيّة، فرأى‏ أنّه منساق إلى‏ اتّخاذ موقفٍ معيَّن، ولاحظ أنّ هذا الموقف واضحٌ في وجدانه بدرجةٍ كبيرة، واستطاع أن يتأكَّد من عدم ارتباطه بالخصوصيّات المتغيِّرة من حالٍ إلى‏ حال ومن عاقلٍ إلى‏ عاقل، بملاحظةٍ تحليليّة وجدانيّة، أمكنه أن ينتهي إلى‏ الوثوق بأنّ ما ينساق إليه من موقف حالة عامة في كلّ العقلاء. وقد يدعم ذلك باستقراء حالة العقلاء في مجتمعات عقلائية مختلفة؛ للتأكُّد من هذه الحالة العامة. وهذا طريق قد يحصل للإنسان الوثوق بسببه، ولكنّه ليس طريقاً استدلاليّاً موضوعيّاً إلاّبقدر ما يُتاح للملاحِظ من استقراءٍ للمجتمعات العقلائيّة المختلفة»([17]).

الهوامش

(*) باحثٌ وأستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلمية في قم، والمسؤول العلمي عن مركز دراسات التقريب بين المذاهب.

([1]) دروس في علم الأصول 2: 383.

([2]) المصدر السابق 2: 189.

([3]) بحوث في شرح العروة 2: 283.

([4]) دروس في علم الأصول 2: 190.

([5]) المصدر نفسه.

([6]) المصدر نفسه.

([7]) المصدر نفسه.

([8]) راجع: بحوث في شرح العروة 3: 242.

([9]) المصدر السابق: 32.

([10]) المصدر نفسه.

([11]) دروس في علم الأصول 1: 278.

([12]) المصدر نفسه.

([13]) المصدر نفسه.

([14]) المصدر السابق 1: 280.

([15]) المصدر السابق 1: 279.

([16]) المصدر نفسه.

([17]) المصدر السابق 1: 280.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً