الشيخ أحمد عابديني(*)
لا شَكَّ أن الدِّيَة تكون جبراناً للخسارات الواردة على أهل المقتول، ومع ذلك قد تكون جزاءً للقاتل، كما في شبه العمد، وقد لا تكون، كالقتل الخطئي المَحْض.
ففي القتل الخطأ المَحْض تكون جبراناً لا غير؛ إذ لا معنى لمجازاة مَنْ لا قَصْدَ له ولا ذَنْبَ. وفي الشبيه بالعمد تكون جبراناً للخسارة، وجزاءً للحرام الذي ارتكبه الجاني، فتكون جبراناً لواحدٍ، وجزاءً لآخر.
وهنا تظهر أسئلةٌ، ومنها: هل للمقتول الذي قُتل في الشهر الحرام قيمة أعلى من الذي قُتل في غيره؟! وهل الخسارات الواردة على أهل المقتول الذي قُتل في الشهر الحرام تكون أكثر من الخسارات الواردة على الذي قُتل في غيره؟!
ومنها: ما هي الحكمة في تغليظ الدية على القاتل الذي قَتَل في الأشهر الحُرُم؟ هل حكمته انتهاك حرمة الأشهر الحرم؟ فإنْ كان هذا فما بال القاتل خطأً، الذي لا قصدَ له ولا ذنبَ ولا انتهك شيئاً؟ وما بال عاقلته، المكلّفين أداء الدية، على رأي المشهور؟
ومنها: الشعب في إيران أو تركيا أو أندونيسيا وفي كلّ الدول غير العربية لا ينظِّمون أمورهم وبرامجهم على أساس الأشهر القمرية، فلا يعرفون متى دخل الشهر الحرام؟ ومتى خرج؟ حتّى يقال: إنهم هتكوا حرمة الأشهر الحُرُم؛ لأنهم غافلون عنها بالمرّة. نعم، كلّ المسلمين يتفحَّصون عن شهر رمضان؛ لأجل الصوم. والذي يريد أن يذهب إلى الحجّ يتفحّص إجمالاً عن ذي الحجّة؛ حتّى لا يتأخر عن الحجّ. وبعض الملتزمين بالمستحبّات يتفحّصون إجمالاً عن رجب؛ للذهاب إلى العمرة المفردة. وقد يتفحّص أفراد متفرّقون؛ لأجل الزواج أو ما شابه ذلك؛ حتّى لا يكون القمر في برج العقرب. والشيعة كثيراً يتفحّصون عن محرّم وصفر؛ لأجل إقامة مجالس العزاء للحسين× والنبيّ|. ولا يتفحّص أحدٌ من أهل هذه البلدان عن الأشهر الحرم؛ إذ إنه ليس مرتبطاً بعيشهم وعباداتهم ومجالس عزائهم وغير ذلك.
فالأشهر الحُرُم في يومنا هذا أمرٌ مغفول عنها بالمرّة. فإنْ تنازع الرجلان أو تضاربا أو تقاتلا أو… في أمر من الأمور لايلاحظان الأشهر الحرم أبداً. وإنْ لاحظوا شيئاً لاحظوا شهر رمضان أكثر من غيره، ولا يلاحظ أحدهم شيئاً لذي القعدة. ولكنْ بعد وقوع القتل والمراجعة إلى القاضي فهو ينظر إنْ كان القتل وقع في الأشهر الحُرُم فيحكم على القاتل أو عاقلته بديةٍ وثلث، وحينئذ يغضب القاتل أو عاقلته، ويفرح أولياء المقتول، ومثلاً يقول: الحمد لله، قُتل أبونا في آخر يومٍ من رجب، فربحنا ثلاثمئة وثلاث وثلاثين ديناراً، ولو بقي يوماً لذهب هذا المال الكثير من أيدينا، والقاتل يلعن الزمان ونفسه و… ويقول: ليته كان يبقي المقتول إلى ساعة دخول شعبان.
وأيضاً إنْ اتّفق قتلٌ أو جرح في أواخر شوّال يكون الأمر بالعكس. فالزمان له دَوْرٌ واسع في أخذ المال من شخصٍ وإدخاله في ملك آخَر، مع أن المقتول شخصٌ واحد، والانتهاك فيهما سواء. فالحكم بالتغليظ الدية حكمٌ لا يقبله العقلاء، ولا سيَّما في القتل الخطأ المَحْض. اللهمّ، إلاّ أن يوجد له دليلٌ فقهي قويّ، من آيةٍ صريحة أو سنّة متواترة أو إجماع محصل صريح يوجب حجّة شرعية.
وإنّي بعد الفحص الكثير لم أجد إلاّ بعض الروايات المخدوشة؛ إما دلالة؛ أو سنداً، وبعض الإجماعات الناشئة من هذه الروايات. فالأصل عدم تغليظ الدية في البلاد غير العربية في الخطأ والشبيه بالعمد.
ولكنْ في البلاد العربية، وقصدي بالضبط في الحجاز، ولا سيَّما في الحَرَم الذي لا يجوز الدخول فيه إلاّ بالإحرام، فإنْ قَتَل امرؤٌ آخرَ عن قصدٍ في الأشهر الحرم وفي حال الإحرام فالدية يمكن أن تغلَّظ احتياطاً؛ إذ هناك يوجد توجيهٌ عقلائي بأنَّ مَنْ أَحْرَم ودخل الحَرَم في الشهر الحرام فهو يحسّ بالأمن؛ لأن الله جعل الحَرَم آمِناً، وأكّد على حرمة القتال في الأشهر الحُرُم، وهو أيضاً لابسٌ الإحرام، فهو وأهله يطمئنون بسلامته من ظلم المعتدين. فالقاتل عن قصدٍ، مضافاً إلى القتل، ذهب بسكينة المقتول وأهله، وأزال حالتهم الروحية المطمئنة، فيلزم عليه أن يجبره بالثلث من الدية. ولكنْ مع ذلك المخطئ المَحْض ليس عليه شيءٌ؛ إذ لم يهتك الحرمة، فنشكّ في الثلث الزائد عليه، ومجراه البراءة. ففي الأشهر الحُرُم عدم التغليظ على المخطي في غير الحَرَم أمرٌ واضح، والتغليظ يُدْفَع بالأصل، وفي الحَرَم التغليظ على المخطي يُدْفَع بالأصل، والتغليظ على غيره أمرٌ يقبله العقل العُرْفي، فيمكن أن يُحْكَم به احتياطاً، فنتّبع الأدلّة لو وُجِدَتْ.
أما الأدلّة:
1ـ القرآن
في الآيات القرآنية يوجد التأكيد على الأشهر الحُرُم، وأنها أربعة، وحَرَّمها الله من يوم خلق السماوات والأرض: ﴿إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً في كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ والأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلوا المُشْرِكِينَ كَافّةً كَمَا يُقَاتِلونَكُمْ كَافّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللهَ مَعَ المُتَّقِينَ﴾ (التوبة: 36). ومن السياق وغيره يُعلَم أنّ المحرَّم فيها القتال، حتّى يكون الطريق والحَرَم آمناً للذين يريدون الحجّ والعمرة، ولم يتكلَّم حول القتل فيها، وحول دية القتل فيها.
حول الدية جاء في القرآن آية واحدة، وهي الآية 92 من سورة النساء: ﴿وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَإِنْ كَانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ مِيثَاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ وَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنْ اللهِ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً﴾. وكما ترى فإن الدية في الآية مرتبطةٌ بالخطأ المَحْض، واستعملت مرتين.
نقطة: لفظ «الدية» في الآية نكرة، فيمكن أن يستنبط منها أنّ الدية ليست معينة شرعاً، بل إمّا أنها ملقاةٌ إلى العُرْف؛ أو إلى التعيين من ناحيه الحاكم أو الخصمين.
وكما تلاحظون فالقرآن عند التكلُّم عن الأشهر الحُرُم لم يتكلَّم عن القتل والدية، وعند التكلُّم عن القتل خطأً لم يتكلَّم عن الحَرَم أو الأشهر الحُرُم.
فالقرآن ساكتٌ عن حكم تغليظ الدية وعدمه في الأشهر الحُرُم والحَرَم، في الخطأ وغيره.
2ـ السنّة
السنّة تنقسم إلى: السنّة القولية؛ والسنّة الفعلية. في الفعلية يجب علينا أن نتفحّص عن فعل النبيّ| والوصيّ×، هل وقع في زمن حكومتهما بين الناس قتل في الحَرَم أو في الأشهر الحُرُم؟ ثم ننظر إلى ما حكما فيه. وفي السنّة القولية يجب أن نتفحّص عن الروايات المنقولة عن النبيّ| والأئمة المعصومين؛ فإنْ وجدنا روايات فنتفحّص عن سندها ومدى دلالتها.
أقول: لم ينقل لنا سنّةٌ فعلية في مَنْ قتل في الأشهر الحرم، إلاّ أمورٌ قليلة، منها: ما حكى أهل السنّة في مَنْ قتل في الحرم؛ ففي المغني، لابن قدامة، ما هذا لفظه: وفي حديث أبي شريح أن النبيّ| قال: «وأنتم يا خزاعة قد قتلتم هذا القتيل من هذيل، وأنا والله عاقله. مَنْ قتل له قتيل بعد ذلك فأهله بين خيرتين؛ إنْ أحبّوا قتلوا؛ وإنْ أحبّوا أخذوا الدية. وهذا القتل كان بمكّة في حرم الله تعالى، فلم يزِدْ النبيّ| على الدية، ولم يفرق بين الحرم وغيره، وقول الله عزَّ وجلَّ: ﴿وَمَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾ يقتضي أن الدية واحدة، في كلّ مكان، وفي كلّ حال.
ولأن عمر أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه، ولم يزِدْ على مئة([1]).
وجاء فيه أيضاً: «إنّ عمر أخذ من قتادة المدلجي دية ابنه، حين حذفه بالسيف، ثلاثين حقّة وثلاثين جذعة وأربعين خلفة، ولم يزِدْ في العدد شيئاً. وهذه القصة اشتهرت فلم تنكر، فكانت إجماعاً([2]).
وكما ترى فإن رسول الله لم يزِدْ لأجل الحَرَم شيئاً، وعمر أيضاً لم يزِدْ على المئة شيئاً([3]).
وفي المغني: إنّ عثمان قضى في امرأةٍ وطئت في الطواف بستّة آلاف [ديتها]، وألفين تغليظاً للحرم([4]).
وقال ابن عمر: مَنْ قتل في الحرم أو ذا رحمٍ أو في الشهر الحرام فعليه دية وثلث.
وعن ابن عبّاس: إن رجلاً قتل رجلاً في الشهر الحرام وفي البلد الحرام، فقال: ديته اثنا عشر ألفاً، وللشهر الحرام أربعة آلاف. وهذا مما يظهر وينتشر ولم ينكر، فيثبت إجماعاً([5]).
فظهر أن عثمان زاد لأجل الحرم، وغيره زاد لأجل الأشهر الحرم. ولعل غيره زاد أو سيزيد لأجل الإحرام وما شابه ذلك. فالسنّة الفعلية عن الرسول| والخليفتين بعده أن الدية لم تغلظ في الحرم وفي الأشهر الحُرُم. ويظهر أن البدعة ظهرت من زمن عثمان، واشتهرت إلى يومنا هذا.
والمحكم إطلاق الآية: ﴿وَدِيَةٌ مُّسَلَّمَةٌ إِلَى أَهْلِهِ﴾، من غير فرقٍ بين الأمكنة والأزمنة.
والسنّة القولية عن الرسول| تؤكّد على حرمة الدماء والأموال؛ إذ إنّه قال في حجّة الوداع: فإنّ دماءكم وأموالكم بينكم حرامٌ، كحرمة يومكم هذا، في شهركم هذا، في بلدكم هذا([6]).
وكما ترى لم يقُلْ شيئاً في موضوع الدية وتغليظها في الحرم والأشهر الحُرُم.
أما من طريقنا نحن الشيعة فيوجد روايات في موضوع الحرم والشهر الحرام وتغليظ الدية فيهما، وهي:
عقد صاحب وسائل الشيعة باباً في هذا المجال،وذكر فيه خمس روايات. ولكن إحداها غير مرتبطة بالبحث، وبعضها متحدة مع بعضٍ آخر، فيبقى ثلاث. وبما أنَّ النُسَخَ فيها مختلفة اختلافاً مغُيِّراً للحكم يجب الفحص عنها.
1ـ مُحَمَّدُ بْنُ يَعْقُوبَ، عَنْ عَليِّ بْنِ إِبْرَاهِيمَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عِيسَى، عَنْ يُونُسَ، عَنْ كُليْبٍ الأَسَدِيِّ قَال: سَأَلتُ أَبَاعَبْدِ اللهِ× عَنِ الرَّجُل يُقْتَل فِي الشَّهْرِ الحَرَامِ مَا دِيَتُهُ؟ قَال: دِيَةٌ وثُلثٌ([7]).
وكما ترى فقد سأل كليبٌ الصادقَ× عن دية الرجل الذي يُقتَل في الشهر الحرام، وأجاب الإمام الصادق× بأن ديته «دية وثلث». والمحمّدون الثلاثة روَوْا هذا الحديث في كتبهم الروائية. ولكنّ كليب الاسدي أو كليب بن معاوية لم يذكر بمدحٍ ولا ذمّ. فالسيد الخوئي في معجم رجاله جاء بأزيد من أربع صفحات حوله، وقال في خلاله: إنه وقع بعنوان كليب الأسدي في ثمانية عشر مورداً([8])، وقال: هذا متحد مع كليب بن معاوية الأسدي([9])، ونقل عن الكشي علّة تسميته بالكليب: قلتُ لأبي عبد الله×: إن عندنا رجلاً يسمّى كليباً، فلا يجيء عنكم شيء إلاّ قال: أنا أسلِّم، فسمّيناه كليباً بتسليمه به، قال: فترحَّم عليه أبوعبد الله×([10]).
الذي يظهر من وجه التسمية أنه ليس أهلاً للدقة في كلمات الحديث، وفي راويه، وهل أنّ الراوي يقول بالجّد أو الهزل أو غير ذلك؟ فلذا سمّي كليباً. فيظهر أنه كان محبّاً لأهل البيت، صادقاً في قوله، ولكنّ في تمييزه بين الجدّ والهزل والحكم والخبر شكّ. ففي ما نحن فيه قد سمع عن الصادق× لفظة: دية وثلث، في جواب سؤاله: «ما ديته؟»، ولكنْ لم يستَطِعْ أن يفهم هل أنه حكم الله وحكم رسوله أو حكم القضاة أو أمر شايع في المجتمع آنذاك والإمام قال ما كان جارياً في المجتمع؟ مثل: أن يسأل أحدٌ: ما قيمة تذكرة السفر في أيام العطلة؟ فيُقال: قيمته الأصلية مع الثلث. والناقل نقل هكذا، ولكن لا يدري هل أنه مشروع أو غير مشروع؟ هل أنه حق أو باطل؟ وأيضاً لم يدقِّّق في أنه على فرض التغليظ ـ هل يجب على القاتل أن يعطي دية وثلث، وعلى أولياء المقتول أن يقبلوا أو لهم أن يطالبوا؟
الخبر الثاني من وسائل الشيعة غير مرتبط بالدية؛ لأنه بيَّن كفّارة القتل في الشهر الحرام، وليس موضوع بحثنا الحالي.
وأمّا الخبر الثالث فنقله صاحب الوسائل([11]) عن التهذيب، ولكن سنده في الوسايل هكذا: وعن ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن زرارة قال: قلتُ لأبي جعفر×.
وفي التهذيب([12])؛ ابن أبي عمير، عن أبان بن عثمان، عن زرارة قال: قلتُ لأبي عبد الله×.
ولكنْ في الكافي جاء هكذا: ابن أبي عمير، عن أبان بن تغلب، عن زرارة قال: قلتُ لأبي جعفر([13]).
وكما ترى فإن السند مختلفٌ في الإمام المرويّ عنه، هل هو الباقر أو الصادق’؟ وفي الراوي عن زرارة، هل هو أبان بن تغلب أو أبان بن عثمان؟ وبالتفحص في التاريخ يظهر أنّ رواية أبان بن تغلب عن زرارة بعيدةٌ؛ إذ هو أدرك السجاد والباقر والصادق^، معتقداً بهم، فهو بنفسه كان يسأل الباقر×؛ إذ كان أسنّ وأعرف من زرارة في ذاك الزمان. نعم، رواية أبان بن عثمان عن زرارة ممكنةٌ؛ إذ إنه كان أصغر من زرارة، ومن أصحاب الصادق والكاظم’([14]).
وعلى أيّ حال زرارة سأل سؤالين، ونقل جوابهما. أمّا متن السؤال الأول ففي الوسائل والتهذيب: «رجل قَتَل في الحرم»، وفي الكافي: «رجل قَتَل رجلاً في الحرم» بزيادة «رجلاً». وظاهر السؤال بل صريحه أنه مرتبط بالحرم، أي حَرَم مكّة المكرّمة، وغير مرتبط بسائر بلدان الحجاز، فضلاً عن إيران والعراق وغيرهما. ولا يمكن أن يستدلّ عليه للتغليظ في الأشهر الحُرُم. اللهم، إلاّ أن يقرأ «الحُرُم» بضمتين، وتجعل صفة لموصوف محذوف، ويقال: إنه سأل عن رجلٍ قتل آخر في [الأشهر] الحُرُم، وهل يجوز لنا أن نتصرف في سؤال السائل؛ لأجل أن نصدر فتوى يضحك بها الناس؟!
والجواب أيضاً يختلف اختلافاً فاحشاً يساعدنا على أن ننكر تغليظ الدية على مَنْ قتل آخر خطأً.
ففي الوسائل والتهذيب: «عليه دية وثلث، ويصوم شهرين متتابعين من الأشهر الحُرُم»([15]).
ولكنْ في الكافي: «عليه دية وثلث، ويصوم شهرين متتابعين من الأشهر الحرم، ويعتق رقبةً، ويطعم ستين مسكيناً»([16]).
ومن الجواب في التهذيب لا يظهر أنه مرتبطٌ بالخطأ أو العَمْد. ولكن الجواب المذكور في الكافي يرشدنا إلى أن السؤال كان عن العَمْد؛ إذ كفارة الجمع مرتبطة به. فبما أن الكليني كان أضبط وأقدم، وفي التعارض بين النقيصة والزيادة يؤخذ بالزيادة، فيظهر أن السؤال والجواب ـ لو كان خالياً عن سائر المشاكل ـ غير مرتبط بالخطأ المَحْض.
فبالنتيجة الخطأ المَحْض لا يختلف حكم ديته في الأشهر الحُرُم وغيره، وفي الحَرَم وغيره، طبقاً لخبر زرارة.
بعد جواب الإمام لم يبْقَ سؤالٌ لزرارة في موضوع الدية، ولكنْ بقي له سؤال في موضوع صوم شهرين متتابعين في الأشهر الحُرُم؛ إذ إنه فقيهٌ، ويدري أن الأشهر الحُرُم التي يمكن أن يصام فيها شهران متتابعان هي: ذو القعدة وذو الحجّة ومحرّم، وأي وقت بدأ القاتل بالصيام يدخل فيه عيد الأضحى، الذي يحرم صومه، ويدخل فيه أيام التشريق، التي يحرم صومها للحجاج في مِنى، فسأل الإمام عنه. والسؤال في الوسائل([17]) والتهذيب([18]) هكذا: قال: قلتُ: وهذا يدخل فيه العيد وأيام التشريق؟ وفي الكافي([19]) قال: قلتُ: يدخل في هذا شيءٌ، قال: وما يدخل؟ قلتُ: العيدان وأيام التشريق. فكما ترى السؤال في الكافي يكون أطول، ومع ذلك يكون غلطاً؛ إذ لم يدخل في الأشهر الحُرُم أو الصيام فيها «العيدان»، بل يدخل فيه عيدٌ واحد. ومن كلمة «أيام التشريق» نفهم أن الحكم مرتبط بالحَرَم؛ إذ في غير الحَرَم لا يحرم الصوم في أيام التشريق. فمن سؤال زرارة، وعدم ردّ الإمام، يظهر أن الحكم خاصٌّ بحَرَم مكّة المكرّمة، بل مختصٌّ بالذي هو في مِنى.
تذكارٌ: لا يلزم أن نتكلّم حول الخبر الخامس الذي نقله صاحب الوسائل؛ إذ إنه جزءٌ من الخبر الثالث، نقله بدون ذكر السؤال. والمتن هكذا: عن أبان، عن زرارة، عن أبي عبد الله× قال: عليه دية وثلث.
ولا يمكن أن نحسبه خبراً مستقلاًّ؛ إذ السؤال غير مذكور، ولا ندري أنه غلّظ الدية لأجل الحرم أو الإحرام أو الشهر الحرام أو قتل ذي المَحْرَم؟ فهذا الخبر إمّا مجملٌ غير مفيد أو مختصر كذلك.
والخبر الرابع من وسائل الشيعة هو الذي نقله عن التهذيب والفقيه. والمتن في الكتب الثلاثة واحدٌ، وهو: الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن زرارة قال: سألتُ أبا عبد الله عن رجلٍ قتل رجلاً خطأً في الأشهر الحُرُم؟ قال: عليه الدية، وصوم شهرين متتابعين من الأشهر الحُرُم. قلتُ: إن هذا يدخل فيه العيد وأيام التشريق؟ فقال: يصومه، فإنه حقٌّ لازمه([20]).
فكما ترى لا اختلاف في السند، ولا في المتن، ولا في الراوي، ولا المرويّ عنه. وموضوعه أيضاً لا يثير سؤالاً، ولا إشكالاً، بل يقول: كلّ شخص قتل شخصاً آخر خطأً فعليه دية، من غير تغليظ.
وهذا هو الذي كنتُ أصِرّ عليه، وكان أمراً عقلائياً لكلّ بلد؛ والتغليظ في الحرم أو في الأشهر الحُرُم خلافٌ للأصل، وإثباته يحتاج إلى دليل.
والحاصل: لا يوجد دليل لإثبات تغليظ الدية، إلاّ خبر كليب الأسدي، الذي لا يحكم ولا يفتي الأصحاب بخبره، لا لأنه ضعيف أو كاذب، بل لأجل أنه لم يكن دقيقاً حتّى يسأل عن خفايا الأمور؛ إذ كان متعبِّداً مسلِّماً لأمر الأئمة، من دون دقّةٍ، فهو كان يقبل كلّ ما كان منسوباً إلى الإمام×، من دون ضبط خفاياه، ولذا حين قال الإمام×: دية المقتول في الأشهر الحُرُم دية وثلث لم يسأله: لماذا زادت ديته؟ والزائد على مَنْ؟ ومَنْ زاد الدية؟
وعلى أيّ حال لو أصرَّ أحدٌ على قبول خبر كليب، وفهم منه أنّ الدية والثلث تكون على القاتل، سواء كان عامداً أو غير عامد، فيقيّده صحيحة عليّ بن رئاب عن زرارة…، القائلة بأن القاتل خطأً في الأشهر الحُرُم يعطي الدية. فبالنتيجة الذي قتل شبه عَمْدٍ يعطي الدية والثلث، والذي قتل خطأً يعطي الدية لا غير.
ويؤيِّده ما مضى من صحيح أبان، عن زرارة؛ إذ الحرم والشهر الحرام كلاهما ذات حرمة لأجل الحجّ.
والصيد في الحرم لا يقتل، سواء في أشهر الحج أو في غيرها، وأشجاره لا تقطع في الأشهر الحُرُم أو في غيرها، فكما أنّ حرمة الحَرَم لا توجب على القاتل خطأ غير الدية فكذلك الأشهر الحُرُم لا توجبه.
كلام السيد البروجردي&
كثيراً ما كان ينقل أستاذنا المنتظري& عن أستاذه السيد البروجردي& أنه إنْ وجدنا خبراً أو خبرين أو ثلاثة أخبار ـ مثلاً ـ في أنه لا يجب على المربية للطفل أن تطهِّر ثيابها للصلاة نفهم أن هذه المسألة قد طرحت عند الإمام×، وهو أجاز بكلامٍ مجمل لا إطلاق فيه، فنستطيع أن نأخذ منها بالقدر المتيقَّن، ولا نستطيع أن نأخذ بإطلاقها؛ إذ الأصل الثابت الذي لا شكَّ فيه «أن ثوب المصلّي يجب أن يكون طاهراً». فالإمام لأجل الضرورة جوَّز إجمالاً للمربية أن تصلّي في ثوبها النجس. ولذا نقيِّده بالمربية دون المربي، وبالتي لها ثوب واحد، وبالتي تربي طفلاً لم يكمل الرضاع…؛ إذ هذه الأخبار مخالفةٌ للأصل الثابت، والعمل بها مخالفٌ للاحتياط، ولما ندري من مذاق الشرع، فنقتصر عل القدر اليقين.
فيمكن لنا أن نستوحي من كلامه؛ لأجل بحثنا هذا، ونقول: بما أن التغليظ خلاف الأصل، وخلاف الاحتياط، وخلاف رأي العقلاء، فلو فرض أنه يوجد روايات صحاح في هذا المجال نعلم أنه طرحت هذه المسألة عند الإمام، وهو حكمٌ بتغليظ الدية إجمالاً، ولكنْ لا ندري غلّظه لأجل الشهر الحرام أو لأجل الحَرَم أو لأجل المحرم؟ وهل التغليظ على مَنْ قتل مع القصد أو مَنْ قتل خطأً؟ فنحكم بالقدر المتيقَّن، وهو أنه مَنْ قتل آخر في الحرم وفي الشهر الحرام قاصداً لذلك فعليه دية وثلث.
ولكنّ القتل الخطأ في الحرم وغيره لا تغليظ فيه؛ تمسُّكاً بإطلاق الآية وإطلاق الروايات الكثيرة، وتمسُّكاً بكلام العقلاء، الذين لا يفرِّقون بين الأزمنة والأمكنة، وبما أنه لم يهتك شيئاً.
وأيضاً مَنْ قتل في غير الحرم، ولا سيَّما في غير الحجاز ـ بما أنه إمّا لا يعرف الأشهر الحُرُم فلا يقصد الانتهاك، أو نشكّ في أنه قصد الانتهاك، فلا نحكم عليه بالتغليظ؛ لأنه خارجٌ عن القدر المتيقَّن، ولا سيَّما أننا نطمئنّ أن القتل في إيران أو أندونيسيا أو… لا يزاحم الحجّ، الذي هو العمدة لجعل الأشهر الحرم.
الإجماع
من الأدلة اللبّية القائمة على المسائل الشرعية الإجماع. وهو بنفسه ليس دليلاً وحجّة عند الشيعة الإمامية، بل حجّيته لأجل كاشفيته عن قول الإمام المعصوم×. فالإجماع أحد طرق الوصول إلى رأي المعصوم. كما أنّ الأخبار أحد الطرق إلى قولهم.
وكما قال السيد البروجردي: عندما نرى العلماء الشيعة القدماء رحمهم الله، الذين ليسوا من أهل القياس والاستحسان، ولا من أهل الأهواء المضلّة، ولا من أهل الفتوى بغير حجّةٍ معتبرة، قد أفتوا بشيءٍ، متّفقين، نطمئنّ أنهم وصلوا إلى قول المعصوم أو رأيه من طريق لم يصِلْ إلينا، فنفتي في تلك المسألة اطمئناناً بفتواهم. وفي هذا المجال نأخذ بالقدر المتيقَّن، دون الإطلاق؛ إذ الإجماع دليلٌ لبّي. وبعبارةٍ أخرى: في الموارد التي نعلم بفتواهم كلهم، ولا ندري مستندهم، نفتي فيها بما أفتوا به؛ اتكالاً على فتواهم، ومع ذلك نقتصر على القدر المتيقَّن؛ إذ الإجماع ليس لفظاً حتّى نتمسّك بإطلاقه، بل هو عملٌ، والعمل مجملٌ، فنأخذ بالقدر المتيقَّن منه.
ففي مسألة القتل في الأشهر الحرم نستطيع أن نتمسّك بالإجماع بشرطين: 1ـ عدم وجود خبر دالّ عليه ظنّاً أو احتمالاً؛ 2ـ أن يكون إجماعهم صريحاً في جميع أنواع القتل، وإلاّ نأخذ بالقدر المتيقَّن، وهو الذي يكون القاتل فيه مؤاخَذاً ومعاقَباً، دون القتل الذي تكون ديته على عاقلته.
قال الصدوق: فإنْ قتل رجلٌ رجلاً في الأشهر الحُرُم فعليه الدية، وصيام شهرين متتابعين من الأشهر الحُرُم. وإذا دخل في هذين الشهرين العيد وأيام التشريق فعليه أن يصوم؛ فإنه حقٌّ لزمه([21]).
وقال أبو الصلاح الحلبي: فإنْ كان القتل عمداً في الحلّ… وإنْ كان القتل في الحرم أو في الأشهر الحُرُم فقد رُوي «أن عليه دية وثلثاً»([22]).
أقول: كما ترى فإن الصدوق لم يُفْتِ بالتغليظ. وأبو الصلاح نسبه إلى روايةٍ، مشعراً بعدم قبوله.
وفي الفقه المنسوب إلى الإمام الرضا×، والمراسم، لم تكن المسألة معنونةً.
فادّعاء الاجماع في المسألة ليس ممّا ينبغي، بل نَقْلُ عدم الخلاف أيضاً مخالفٌ لفتوى الصدوق. فلا يوجد في المسألة إجماعٌ على التغليظ، لا في قتل العَمْد ولا في غيره.
أمّا الذين أفتوا بالتغليظ فنلاحظ عباراتهم:
قال القاضي ابن البرّاج: «وإذا قتل إنسان غيره في الحرم أو في أحد الأشهر الحُرُم طلبت منه الدية للقتل والثلث؛ لانتهاكه حرمة الحرم والأشهر الحُرُم. وإنْ اختار أولياء المقتول القَوَد كان لهم ذلك»([23]).
أقول: عبارته هذه مرتبطة بالقتل العمد في الحرم؛ إذ في الشق الأوّل قال: «طلبت منه الدية»، ومعلومٌ عندهم أنّ دية الخطأ تطلب من العاقلة. وأيضاً قال: «لانتهاكه…»، ومعلومٌ أن الخطأ ليس فيه انتهاك.
وبعد هذا كلّه قال: «لانتهاكه حرمة الحرم والأشهر الحُرُم»، مع العطف بالواو، فيظهر منه أنّ انتهاك حرمة أحدهما دون الأخرى لا يوجب التغليظ. والحاصل أنه أفتى في قتل العمد في الحَرَم والأشهر الحُرُم بالدية والثلث. هذا كلّه إنْ رضي أولياء المقتول بالدية. ولكنْ إنْ اختار أولياء المقتول القَوَد كان لهم ذلك.
ولا بأس لنا بأن نفتي كما أفتى هو إنْ صحَّحنا الأخبار. ولكنْ هو لم يُفْتِ بشيءٍ من التغليظ في الخطأ، وشبه العَمْد، وفي العَمْد إذا كان في الأشهر الحُرُم وفي غير الحَرَم.
وأيضاً إن الفعلين في الجملتين مختلفان؛ ففي الأولى فعل «طلبت» فاعله مجهول؛ وفي الثانية ـ أي «اختار» فاعله معلوم، فيحتمل أن يكون الفاعل في الأول الحاكم الطاغوت الذي جاء بهذه البدعة، وأخذ الثلث قهراً، وفي الثانية الفاعل هو أولياء المقتول، كما صرّح به.
فالإجماع على تغليظ الدية لو انعقد على القتل العمد في الحرم وفي الأشهر الحُرُم.
قال ابن حمزة في الوسيلة: «ودية العَمْد تنقسم إلى قسمين: أحدهما: دية القتل في الحرم أو في الأشهر الحُرُم؛ والأخرى: دية القتل في غير هذه المواضع والأوقات. فالاوّل دية كاملة؛ للقتل، وثلث؛ لانتهاكه حرمة الحرم والأشهر الحُرُم»([24]).
أقول: عبارته صريحةٌ في أن كلامه في العَمْد، دون الخطأ المَحْض. ومن عطفه «الأشهر الحُرُم» بالواو على «الحرم» يظهر أن انتهاك أحدهما دون الآخر لا يوجب التغليظ. فعبارته هذه لا تشمل القتل الخطأ المَحْض في الحرم وغير الحرم، مثل: إيران ومصر والمدينة الشريفة. وإنما تغلّظ في قتل العمد في الحرم وفي الأشهر الحُرُم، وأما في قتل العَمْد في الأشهر الحُرُم وفي غير الحَرَم فصدر عبارته ينافي ذيله، حيث إن صدره يفهم منه التغليظ، وذيله ينفيه.
قال المفيد: «ومَنْ قُتِل في الحرم فديته دية كاملة وثلث؛ لانتهاك حرمته في الحرم [لانتهاك قاتله بما فعل حرمة الحرم (نسخة)]، وكذلك المقتول في الأشهر الحُرُم»([25]).
ويظهر من العبارة أن كلام المفيد& لم يكن في القتل الخطأ؛ إذ لا انتهاك فيه.
وأيضاً يظهر أنه أوسع تغليظ الدية بمَنْ قُتِل في الحرم ومَنْ قُتِل في الأشهر الحُرُم، ولكنْ جعل الأوّل أصلاً، والثاني عطف عليه، بقوله: «وكذلك»، فيعلم منه أنه رأى الأدلة على كلا الفرعين موجودةً، ومع ذلك رأى الأخبار على الأول أوضح أو أكثر، فجعله أصلاً، وعطف الثاني عليه. فما ستسمع من أن الشهيد الثاني وغيره قال: إنه لا نصّ على الأول، ونصوص كثيرة على الثاني، فمحلٌّ للنظر».
قال الطوسي: «ومَنْ قتل غيره في الحرم أو أحد الأشهر الحُرُم، وأخذت منه الدية، كان عليه دية وثلث، دية للقتل، وثلث الدية لانتهاكه حرمة الحرم والأشهر الحُرُم. فإنْ طلب منه القَوَد قتل بالمقتول»([26]).
أقول: ما علّقنا به على عبارة القاضي ابن البراج يأتي هنا بالضبط.
والحاصل أنه لم يكن التغليظ في الأشهر الحُرُم في القتل الخطأ إلى زمن الشيخ الطوسي مشهوراً. وأيضاً إن التغليظ في العَمْد في الأشهر الحُرُم في غير الحرم كان مشكوكاً؛ إذ في صدر العبارات كان العطف بـ «أو»، فيثبته، وفي ذيله كان العطف بـ «الواو»، فينفيه.
وفي الخلاف، للشيخ الطوسي: «مسألة: دية الخطأ تغلّظ في الشهر الحرام وفي الحرم. وقال الشافعي: تغلظ في ثلاثة مواضع: في الحرم، والشهر الحرام، وإذا قتل ذا رحم محرم… وقال أبو حنيفة ومالك: لا تغلظ في موضعٍ من المواضع… دليلنا إجماع الفرقة، وأخبارهم، وأيضاً طريقة الاحتياط([27]).
أقول: ادّعاء الإجماع عجيبٌ مع ما مرّ من فتواه وفتوى غيره. اللهمّ إلاّ أن يدّعي الإجماع على قبول كلام الإمام.
وعلى أي حالٍ يظهر من عبارته أن إجماعه المدّعى ليس الإجماع الذي يكون حجّةً تعبداً؛ إذ ذكر في جنبه: «وأخبارهم، وطريقة الاحتياط»، فيظهر أن سبب إجماعهم الأخبار والاحتياط، فلا نستطيع ان نأخذ به دليلاً؛ إذ الأخبار نقلناها ودقّقنا فيها، وحاصلها أنها لا تدلّ على التغليظ في القتل الخطأ المَحْض، سواء اتفق في الأشهر الحُرُم أو الحرم. ولو دلّت على شيءٍ دلّت على أن دية القتل غير الخطأ تغلّظ إذا كان في الحرم وفي الشهر الحرام.
أمّا طريقة الاحتياط فمشكل؛ إذ الاحتياط كما يدلّ على وجوب إعطاء الزائد على القاتل، كذلك يدلّ على عدم جواز أخذه لأولياء المقتول. فالاحتياط غير ممكن. وأيضاً ربما يكون القاتل صغيراً أو يتيماً، وأخذ الزائد على الدية من ماله خلاف الاحتياط. وأيضاً في يومنا هذا بعض الفتاوى، كتغليظ الدية في غير الحرم، توجب السخرية من الدين؛ فالاحتياط في تركه؛ حفظاً للشريعة.
قال ابن زُهْرة: «ويجب على القاتل في الحرم أو في الشهر الحرام دية وثلث»([28]).
أقول: يظهر من إيجاب الدية على القاتل، دون عاقلته، أن فتواه هذه غير مرتبطة بالخطأ المَحْض. ومن عدم ذكر دليلٍ من إجماع وغيره يشمّ أنه لم تكن المسألة عنده إجماعية؛ إذ إنه استفاد من لفظ الإجماع كثيراً، بحيث يقول: «للإجماع المتكرّر ذكره»، ومع هذا في هذه المسألة لم يأتِ بلفظ الإجماع، ولا ذكر خبراً من الأخبار، ففتواه هذه خالية من الدليل.
والعجب من تلميذه صاحب السرائر، الذي يظهر منه أن تغليظ الدية مخصوصٌ بالقتل الخطأ في الشهر الحرام والحرم.
قال ابن إدريس الحلّي: «وقد ذكرنا أن الدية تغلّظ في العمد المَحْض، وعمد الخطأ، وتخفّف في الخطأ المَحْض. فهذه مخفّفة أبداً إلاّ في موضعين: المكان؛ والزمان. فالمكان الحرم، والزمان الأشهر الحُرُم. فعندنا أنها تغلّظ، بأن توجب دية وثلثاً. ولم يذكر اصحابنا التغليظ إلاّ في النفس، دون قطع الأطراف»([29]).
أقول: لا أدري كيف أفتى بتغليظ الدية في القتل الخطأ المَحْض في الحرم وفي الأشهر الحُرُم؛ إذ لا إجماع يدلّ عليه، ولا خبر واحد، فضلاً عن المقطوع به، فابن إدريس الذي لا يفتي بأخبار الآحاد كيف أفتى هنا من غير خبرٍ يعتمد عليه ومن غير إجماع من أستاذه؟! بلى، يوجد ادّعاء إجماع من كتاب الخلاف، للشيخ الطوسي، فحَسْب.
نقطةٌ: لم أفهم من عبارته هذه إجماعاً، بل في رأيي أنها فتواه، قالها بلفظ: «عندنا». وشاهده أنه قال في أوّل عبارته: «قد ذكرنا»، وفي وسطه: «ولم يذكر أصحابنا»، وبعده: «عندنا إن كانت العاقلة من غير أهل البلد…».
فاستفادة الإجماع من عبارته مشكلٌ جدّاً. ولا أدري كيف أرجع المحقِّقون المحشّون على رياض المسائل إلى السرائر([30]).
قال المحقّق الحلّي: ولو قتل في الشهر الحرام ألزم دية وثلثاً، من أي الأجناس كان؛ تغليظاً. وهل يلزم مثل ذلك في حرم مكة؟ قال الشيخان: نعم([31]).
أقول: لا أدري كيف فرّق بين الحرم والأشهر الحُرُم، مع أن الفتاوى والأخبار لم يفرّقا بينهما؟ بل ألحق الشيخ المفيد الأشهر الحُرُم بالحَرَم في التغليظ. وأيضاً لا أدري كيف عمّ الحكم، بحيث يشمل القتل الخطأ؟!
والعجيب ما قاله الشهيد الثاني: «تغليظ الدية بالقتل في الأشهر الحرم موضع وفاق، وبه نصوص كثيرة. وأما تغليظها في الحرم فلا نصّ عليه»([32]).
وأعجب منه ما قاله صاحب الجواهر، حيث بعد عبارة الماتن، أي المحقّق الحلّي: «ولو قتل في الأشهر الحُرُم ألزم دية وثلثاً…؛ تغليظاً»، قال: بلا خلاف أجده فيه، بل الإجماع بقسمَيْه عليه، بل المحكيّ منهما صريحاً، فضلاً عن الظاهر، مستفيض أو متواتر([33]).
حيث أضرب من عدم الخلاف إلى الإجماع بقسمَيْه: المنقول؛ والمحصّل، وادّعى صريحاً الإجماعات، ووصولها إلى حدّ التواتر. فهو ادّعى أموراً كلّها قابل للنقاش:
1ـ عدم الخلاف. وقد ظهر لك خلاف الصدوق وابن حمزة.
2ـ الإجماع. ولكنْ مع سكوت كثير من الفقهاء لايمكن أن يدعّي الإجماع، كما أنّ وجود المخالف يمنعنا عن ادّعاء عدم الخلاف.
3ـ كثرة الإجماعات المنقولة الصريحة، وكثرتها تكون على حدّ التواتر أو الاستفاضة. مع أنه في الفقهاء القدماء لا يوجد إلاّ الإجماع المذكور في كتاب الخلاف.
4ـ تواتر الإجماعات المحصلة. ويظهر حاله ممّا مرّ.
وبعد هذا كلّه لا أدري لماذا عدل صاحب الشرائع ومعلِّقيه عن القتل العَمْد، وعمّموا القتل بحيث يشمل الخطأ المَحْض، مع أن القرائن الموجودة في كلام الأصحاب الدالة على أنه لا يشمل القتل الخطأ لم تكن مخفيةً.
ولا بأس بذكر كلام المحقّق الأردبيلي، في مجمع الفائدة والبرهان في شرح إرشاد الاذهان: تغليظ الدية بما ذكره ـ إذا قتل في الحرم أو الشهر الحرام ـ هو المشهور بين الأصحاب. والدليل ـ على الأشهر ـ ما رواه كليب بن معاوية الأسدي، قال…([34]).
أقول: يظهر من عبارته أنه لا إجماع في المسألة، وأنّه ليس موضع وفاق، بل إنه مشهور. وأيضاً يظهر أن دليلهم منحصرٌ في رواية كليب.
ثم استشكل المحقق الأردبيلي على ما قاله الشهيد الثاني في مسالك الأفهام، قائلاً: قول زين الدين في شرح الشرائع: «تغليظ الدية بالقتل في الأشهر الحُرُم موضع وفاق، وبه نصوص كثيرة، وأما تغليظها في الحرم فلا نصَّ عليه… محلّ نظر».
فبما أن الذي صدر من الشهيد الثاني مشتملٌ على أمور ثلاثة:
الأوّل: «تغليظ الدية بالقتل في الأشهر الحرم موضع وفاق».
الثاني: «وبه نصوص كثيرة».
الثالث: «أمّا تغليظها في الحرم فلا نصّ عليه».
نفهم أنّ المحقق الأردبيلي كان مستشكلاً فيها كلّها. ثم قول الشهيد الثاني: «وبه نصوص كثيرة» قابلٌ للمنع؛ إذ المحقق الأردبيلي لم يجد إلاّ خبر كليب، وكذلك صاحب مفتاح الكرامة([35]).
وإني مع جهدي الواسع لم أجد شيئاً أكثر ممّا وجدا. وبعد هذا فخبر كليب ليس نصّاً، بل له ظهورٌ؛ إذ نوع القتل في السؤال غير معلوم، وإجماله يسري إلى الجواب، ولا سيَّما أن في مقابله خبراً آخر من زرارة ينفي التغليظ في القتل الخطأ.
ثم لا أدري كيف قال الشهيد الثاني: «أمّا تغليظها في الحرم فلا نصّ عليه»، مع أن صحيح أبان بن عثمان، عن زرارة، كان صريحاً فيه. اللهمّ، إلاّ أن يقرأه الحُرُم في السؤال بضمّتين، حتّى يكون صفة «الأشهر» المحذوفة، ويكون حاصل السؤال: «رجل قتل في [الأشهر] الحُرُم»([36]). ولكن هذا خلاف الظاهر، ومخالف لأصل عدم التقدير.
ثم بعد اللتيّا والتي ينتج أنه يوجد خبران دالاّن على التغليظ في الأشهر الحُرُم، لا «نصوص كثيرة».
بلى، يمكن تكثير الأخبار باحتساب كليب بن معاوية وكليب الأسدي شخصين، وباحتساب خبر زرارة عن الباقر×، وعن الصادق×، اثنين، وخبر أبان بن عثمان عن زرارة، وخبر أبان بن تغلب عنه، وخبر أبان عنه، ثلاثة أخبار. وهكذا.
ولكنْ بأدنى تأمّلٍ يظهر أنه ليس هكذا، بل أهل الرجال حكموا بأن كليب رجلٌ واحد، يُدْعى بهذا مرّةً وبذاك أخرى. وخبر أبان بن تغلب عن زرارة عن الباقر× غير معقول؛ إذ أبان أكبر سناً من زرارة، وأعرف منه في زمن الباقر×، فلا يعقل أن ينقل قول الباقر× عن زرارة. فاللفظ فيه تصحيفٌ، والصحيح: أبان بن عثمان عن زرارة عن الصادق×، فيكون خبراً واحداً.
فمجموع الأخبار ثلاثة: اثنان منها في موضوع القتل في الأشهر الحُرُم: أحدهما مطلق؛ والثاني مقيد. فالمطلق خبر كليب الدالّ على تغليظ الدية في القتل في الأشهر الحُرُم، والمُقيّد خبر عليّ بن رئاب عن زرارة عن الصادق×، الدالّ على عدم تغليظ الدية في القتل الخطأ في الأشهر الحُرُم، فيقيِّد الثاني إطلاق الأوّل، فينتج أن القتل العَمْد أو شبهه في الأشهر الحُرُم تغلّظ ديته. هذا إذا كان خبر كليب حجّةً.
والخبر الثالث عن أبان عن زرارة عن الصادق×، وموضوعه تغليظ دية قتل العَمْد في الحَرَم.
النتيجة
بما أن القرآن لا يدلّ على تغليظ الدية، وبما أن التغليظ أمرٌ مخالف للقاعدة، فلا نذهب إليه إلاّ بدليلٍ قطعي. وبما أن الأخبار في التغليظ منحصرةٌ في اثنين: أحدهما موضوعه القتل في الشهر الحرام؛ والثاني موضوعه القتل غير الخطأ في الحرم، فلكلّ واحدٍ من الحَرَم والشهر الحرام يوجد خبرٌ واحد، ولا نستطيع أن نرتكب خلاف القاعدة، ونُفتي بالتغليظ في كلّ واحد منهما، ولو كان القتل عمداً؛ إذ بالخبر الواحد لا نستطيع أن نفتي في ما خالف الأصل، كما قال السيد البروجردي&.
ولكنْ إنْ قَتَل رجلٌ رجلاً عمداً في الحَرَم وفي الأشهر الحُرُم فهذا يشمله الخبران، فيمكن أن يقاوما القاعدة. فإنْ ساعدنا الإجماع أو الشهرة بين العلماء القدماء، وحسبناه خبراً، فتصبح الأخبار ثلاثة أخبار، فنخرج بها عن مقتضى القاعدة، ونُفتي في القدر المتيقَّن بالتغليظ. ولكنْ إنْ لم يساعدنا، وبقينا في الشكّ، نتمسَّك بأصل البراءة، ولا نُفتي بالتغليظ.
هذا إذا كان القتل عمداً وفي الأشهر الحُرُم وفي الحَرَم. ولكنْ إنْ لم يكن أيّ قيدٍ من القيود الثلاثة، بأن كان خطأً أو في غير الحرم أو في غير الأشهر الحُرُم، فالأصل البراءة».
تذكارٌ: مرّ أن التغليظ بدأ من عثمان بن عفّان وابن عمر، ولم يكن في زمن الرسول والخليفتين بعده منه عينٌ ولا أثر، فنحسبه فتوى أموية. ولعلّ الصادق× قال بالتغليظ تقيّةً، أعني أنه بيَّن ما يُعمَل في المحاكم القضائية آنذاك، لا أنه بيَّن
الحكم الشرعي.
الهوامش
(*) باحثٌ، وأستاذُ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة في إصفهان، وعضو الهيئة العلميّة لجامعة آزاد ـ نجف آباد.
([3]) والأول عمد أو شبه عمد، والثاني مجمل يحتمل قتل الخطأ أيضاً. فنفهم منها أن الدية لا تغلظ في الأشهر الحُرُم أبداً. وإطلاق الآية أيضاً يؤيّد عدم التغليظ.
([7]) وسائل الشيعة 29: 203، باب 3 (أن مَنْ قتل في الأشهر الحُرُم).
([8]) معجم رجال الحديث 14: 119.
([10]) معجم رجال الحديث 14: 121.
([11]) وسائل الشيعه 19: 150، كتاب الديات، الباب 4 من أبواب ديات النفس، ح3.
([12]) تهذيب الأحكام 10: 216، كتاب الديات، باب 16، ح4.
([13]) الفروع من الكافي، كتاب الصيام 4: 140، ح9.
([14]) راجِعْ: معجم رجال الحديث 1: 143، 150، في كلا الموضعين عن النجاشي.
([15]) الفروع من الكافي، كتاب الصيام 4: 140، ح9.
([17]) وسائل الشيعة 19: 350، كتاب الديات، الباب 4 من أبواب ديات النفس، ح3.
([18]) تهذيب الأحكام 10: 226، كتاب الديات، باب 16، ح4.
([19]) الفروع من الكافي، كتاب الصيام 4: 140، ح9.
([20]) راجِعْ: تهذيب الأحكام 1: 215، ح3: وأيضاً: مَنْ لا يحضره الفقيه 4: 110، ح5212.
([24]) الجوامع الفقيه: 787، نقلاً عن: ابن حمزة، الوسيلة: 440.
([28]) الجوامع الفقهية: 558، نقلاً عن: الغنية، لابن زهرة.
([30]) راجِعْ: رياض المسائل 16: 358 (تعليقة 1).
([32]) مسالك الأفهام في شرح شرائع الإسلام 15: 320. وقال قريباً من هذا المضمون أيضاً في الروضة البهية قي شرح اللمعة الدمشقية 10: 182 ـ 183.