أحدث المقالات

تمهيد

الدليل جوهرة العلم و ركنه الركين ، حتى انّ كل معرفة غير مستندة الى الدليل تخرج من العلم بلا تردد . و ربما  يمكن القول ان اعتماد الدليل هو احد منجزات الانسانية  التي تحمد عليها، و الشرع الاسلامي اهتم اهتماما بالغا بالدليل ، حتى انّه بلغ به درجات غير مسبوقة في العلمية ، فلم يقبل الا المعرفة القطعية بالدليل  ، و القران بذلك صريح حيث يقول تعالى (وَمَا يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلَّا ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لَا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئًا)  

و مع انّ الايمان و العقائد مسألة فردية   ، الا انّ الدين منظومة معارف متناسقة ، و لقد استشعر المسلمون ذلك لذلك ظهر التقنين للمسائل منذ العصور الأولى للإسلام ، وهذه أحدى المفاخر التي يجب ان يعتز بها كلّ مسلم ، فانّ دينهم و علماؤهم لم يرضوا لهم الا الحقيقة و العلم في اعتقاداتهم و معاملاتهم ، و لو قلنا انّ الشرع انضج علم و اكثرها اكتمالا عند المسلمين لم يكن قولنا جزافا .

لقد اهتمّ المسلمون ايما اهتمام بالدليل الشرعي ، و بالغوا في درجات ضبطه ،و  ذلك ناتج من حقيقة الحاجة اليه  للتوصل الى المعارف الشرعية ، لان  علم مصدر التشريع  علم لا متناه لذلك لا مجال للاجتهاد و الرأي و اعمال المبررات الوضعية مستقلة في التوصل الى تلك المعارف .

  و لذلك و رغم ان الملامح العامة للشريعة موجودة في متون القرآن و السنة الا انّ الأبحاث العلمية للمسلمين هي التي أعطت الوجه الموحَّد الواضح للإسلام ، بحيث ما عاد خفيّاً على أيّ أحد ملامح الدين الاسلامي و توجّهاته العامة ، و صار الرجوع الى النصوص إنّما يكون من باب بحث الأصل و الإستشهاد و التدعيم . و لقد أولى المسلمون من علماء و مفكّرين ، من فقهاء و أصوليين و غيرهم  الدليلَ إهتماماً منقطع النظري ، يدعو الى الفخر و الزهو ، و حملوا لنا تراثا عظيما قَلَّ نظريه عند غيرنا .

سنعمد هنا الى بيان ماهيّة الدليل الشرعي و خصائصه  و  من ثم الى أقسامه المشهورة ، و أما ترتيب الأدلة فهو مبحث مستقل سنؤجّله الى ما بعد إتمام مباحث الحجج ، لأنّه مبحث مهم جدا و خطير و يحتاج الى تعرّف تفصيلي على الأدلة فيكون موضعه الطبيعي بعد أبحاثها من جهة ثبوت حجّيتها شرعا .

فصل : في تعريف الدليل الشرعي

لا يظهر من الشرع معنى مختلف للدليل عمّا هو مفهوم منه لغة و عرفا ، كما انّه لا يظهر اختلاف حقيقي بين الحجّة و الدليل في اللغة و العرف . فالدَّلِيلُ : لغة  المرشد . والجمع : أَدِلَّة ، وأَدِلاَّء و الدَّلِيلُ ما يُسْتَدَلُّ به . والجمع : أَدِلَّة ,و عن قاموس المعاني  الدَّلِيلُ : ما يُسْتَدَلُّ به ، برهانٌ ، بيِّنة ، حجّة ، شاهد ، علامة ،  . والحُجّة : الدَّليل والبُرْهان   ، و في معجم كلمات القران   الحجّة البالغة بإرسال الرّسل و انزال الكتب  . و من هنا يظهر  ان الحجّة هي الدليل  ، فالقول انها مسبّبة عنه لا وجه له .

و لا يظهر في العرف و الشرع اصطلاح خاص غير المعنى اللغوي ، ففي معجم اللغة المعاصرة : الدليل  – ما يُسْتَدَلُّ به ، برهانٌ ، بيِّنة ، حجّة ، شاهد ، علامة يعرف بها المسافرون طريقهم :- أقامَ الدَّليلَ على براءته ، – { ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلا ) . و من الظاهر هنا انّ استعمال الدليل في العرف و الشرع كان بالمعنى اللغوي ، وهو ما يستدلّ به ، و كذلك الحال في الحجّة وهو ظاهر  قوله تعالى  (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) . و  بهذا لا يكون لبحث التعاريف الإصطلاحية كثير فائدة ، ولقد قيل انّ الدليل اصطلاحاً : هو الشيء الذي يلزم من معرفته معرفة شيء آخروالشيء الأول في التعريف هو الدال ويسمى الدليل أيضاً ، والشيء الثاني هو المدلول. و الأمر سهل .

 

 

 

فصل قيام الشرع الاسلامي على الحجّة و الإحتجاج

  لم يكن التصاق المسلمين بالحجّة و الأحتجاج اجتهادا مستقلا من عند انفسهم بل هي تربية عامة علّمها الشرع لهم يقول تعالى  في كتابه العزيز  (   وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آَتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ) ، قال الطبرسي في مجمع البين ( 4\98):   « و تلك حجتنا » أي أدلتنا « آتيناها » أي أعطيناها « إبراهيم »  ، و قال الطنطاوي في الوسيط (1\1492):  والإشارة في قوله – تعالى – { وَتِلْكَ حُجَّتُنَآ } إلى جميع ما تكّلم به إبراهيم في مجادلة قومه في شأن وحدانية الله وبطلان الشرك .

وأضاف – سبحانه – الحجّة إليه مع ذكر اللفظ الدال على العظمة وهو ” نا ” تنويها بشأنها وتفخيما لأمرها . و قال البقاعي في نظم الدرر ( 3\80 )  { وتلك } أي وهذه الحجة العظيمة الشأن التي تلوناها عليكم ، وهي ما حاجّ إبراهيم عليه السلام به قومه ، وعظمه بتعظيمها فقال : { حجتنا } أي التي يحق لها بما فيها من الدلالة أن تضاف إلينا .  و قال الشيخ الطوسي في التبيان  (4\188):  وقوله ” مالم ينزل به سلطانا ” أي حجة لان السلطان هو الحجة في اكثر القرآن، وذلك يدل على ان كل من قال قولا واعتقد مذهبا بغير حجة مبطل. وقوله ” ان كنتم تعلمون ” معناه ان كنتم تستعملون عقولكم وعلومكم وتحكمونها على ماتهوونه وتميل اليه أنفسكم . وفي الاية دلالة على فساد قول من يقول بالتقليد وتحريم النظر والحجاج ، لان الله تعالى مدح ابراهيم لمحاجته لقومه وامر نبيه بالاقتداء به في ذلك فقال ” وتلك حجتنا آتيناها ابراهيم على قومه ” .  

و قال تعالى (قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبَالِغَةُ) ، و في مجمع البيان (4\168  ) « فلله الحجة البالغة » و الحجة البينة الصحيحة المصححة للأحكام و هي التي تقصد إلى الحكم بشهادته مأخوذة من حج إذا قصد و البالغة هي التي تبلغ قطع عذر المحجوج بأن تزيل كل لبس و شبهة عمن نظر فيها و استدل بها و إنما كانت حجة الله صحيحة بالغة لأنه لا يحتج إلا بالحق و بما يؤدي إلى العلم . و في التفسير الصافي (2\200 ) :  قل فلله الحجة البالغة (3): البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة، والقوة على الأثبات . وفي الوسيط الطنطاوي (1 \1565)   قل لهم : لله وحده الحجة البالغة . أى البينة الواضحة التى بلغت أعلى درجات العلم والقوة والمتانة ، والتى وصلت إلى أعلى درجات الكمال فى قطع عذر المحجوج وإزالة الشكوك عمن تدبرها وتأملها .  و عن السمرقندي في بحر العلوم  (  2\88 ) قوله تعالى : { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } يعني : الحجة الوثيقة وهو محمد عليه السلام والقرآن  ، و عن تفسير ابي مسعود( 2\445 ) :   { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } الفاء جوابُ شرطٍ محذوفٍ أي وإذ قد ظهر أن لا حجةَ لكم فللَّه الحجةُ البالغة أي البينةُ الواضحة التي بلغت غايةَ المتانةِ والثباتِ أو بلغ بها صاحبُها صحةَ دعواه ، والمرادُ بها الكتابُ والرسولُ والبيانُ ، وهي من الحج بمعنى القصدَ كأنها تقصُد إثباتَ الحُكم وتطلُبه. و عن البيضاوي 2\217:  { قُلْ فَلِلَّهِ الحجة البالغة } البينة الواضحة التي بلغت غاية المتانة والقوة على الإثبات ، أو بلغ بها صاحبها صحة دعواه وهي من الحج بمعنى القصد كأنها تقصد إثبات الحكم وتطلبه .

فصل خصائص الدليل الشرعي

 من أوضح ملامح الاستدلال الشرعي هو شدّة التدقيق و التحقيق ، حتى انه تكتب المطولات في ادق المطالب و اصغر المفردات ، و هذا النهج الموغل في التدقيق لم يكن فقط لأجل خطورة علوم الشريعة و العلم بتأثيرها على الناس في دنياهم و آخرتهم ، و انّما كان ناتجا و بصورة مباشرة من الطبيعة العلمية و الحقائقية  التي تربّى عليها المسلمون  ، فكان للخطاب الشرعي و التعاليم السماوية الأثر في ذلك البناء و التوجه ، وهنا نورد بعض الخصائص التي من الواضح اتصاف الاستدلال الحجة الشرعيين بها .

 

1-                 علمية الاحتجاج الشرعي

 لقد انبثت روح العلمية في نفوس المسلمين منذ الايام الاولى للتشريع ، و بعد الصرامة في تلقّي التعاليم من الوحي ، و الامتثالِ المنقطع النظير للتعاليم السماوية ، ترسّخت في نفوسهم روح العلمية و الاعتماد على المصدر المعصوم ، و هو منتهى العلمية فلم يكن الامر مسألة إيمان فقط ، بل هو تحصيل أعلى درجات اليقين بالمعارف الحقّة ، و المعلّم الاول لهم كان الشرع الحنيف فالقرآن مليء بالمعطيات الدالة على انّه لا بد من المعرفة من العلم و انه لا معرفة الا بعلم  ، فيؤسّس لمبدأ انّ الإذعان لا يكون الا للعلم حيث يقول تعالى (وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ) حيث اغلظ في النهي عن القول بغير علم حتى قرنه بالشرك العظيم ، اذ يقول تعالى (قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالْإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) بل انّ القول بغير علم انّما هو من مصدر الشرّ و الخسران يقول تعالى (إِنَّمَا يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ ) .و دلّهم  على انه لا مجال للبحث عن المعرفة الا عند العالم و انه لا وجه لسؤال غيره  حيث يقول تعالى (فَاسْأَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ) ،  و يعلي الله تعالى منزلة العلم فيخبر انّ السلطان للعلم  والأذعان انّما يكون للعلم  حيث يقول (وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا ) و في صورة اخرى من إعلاء العلم حيث يعلو الانسان به و يصير متبوعا اذ يقول تعالى (يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا ) ، بل انّ  فهم الآيات و بيانه  على حقيقتها لا يكون الا من قبل أهل العلم حيث يقول تعالى (بَلْ هُوَ آَيَاتٌ بَيِّنَاتٌ فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَمَا يَجْحَدُ بِآَيَاتِنَا إِلَّا الظَّالِمُونَ )  و في كلمة أخرى لإعلاء شأن العلم انّ الخشية الحقّة لا تكون الا من العالم يقول تعالى (إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ) .

 ان من مظاهر تأصّل العلمية في أبحاث الفقه التي هي جوهر معارف الشريعة العلمية انّ فقه الاحكام الشرعية هو العلم الوحيد على ما نعتقد الذي يحتاج الى مستويين من المقدامات ، فبينما العلوم الاخرى اما انّه يمكن الولوج فيها من دون مقدمة أصلا ، او انّه يحتاج الى مستوى مقدمي  واحد  ، اما علم الفقه فلا يمكن الولوج اليه الا عن طريق اصول الفقه وهذا مستوى ، و اصول الفقه لا يمكن الولوج اليه من دون مقدمات لغوية و عقلية وهذا مستوى مقدّمي آخر ، و هذا ينبئ عن متانة و صرامة البناء العلمي للفقه .

2-                 اعتماد اللغة العلمية في الشرع

انّ كثيرا من المظاهر التي تدلّ على خلل في البناء العلمي للمعارف لا تجد لها أثراً في ابحاث الشرع ، ففي المعارف الادبية و الفلسفية و غيرهما من المعارف الانسانية غير المنضوية الى علم نجد فكرة  الاجتهادات  واسعة الانتشار بينما في الشرع لا مجال ابدا للاجتهادات بل المنع واضح فيها ،  و في العلوم الاخرى غير الشرعية  نجد  مجالا واسعا للنظريات و الفرضيات ، بينما في الشرع  لا بد من الحقائق و لا مجال لغير الحقائق .

ان العلمية التي بلغها الشرع ، لا تكمن فقط في رسوخ المعارف الدينية عند المتدينين بحيث يمكن لهم تمييز ما هو ديني مما هو غير ديني من افعال و اقوال ، و فكرة تشخيص و نبذ الابتداع و الراي في الدين واضحة المعالم ،  بل من الواضح ايضا وضوح اللغة العلمية التي تتناول مسائل علوم الشريعة بحيث يكون من السهل لكل من له خبرة فيها ان يميز و بسهولة بين اللغة العلمية و اللغة اللاعلمية في ذلك العلم الشرعي المعين ، حتى انه يمكن القول بانّه لا مجال لإقحام  التناول اللاعلمي بالتناول العلمي في مسائل علوم الدين .

ان هذه العلمية الواضحة لعلوم مادتها الاساسية النصوص و العقائد و الافكار هو انجاز انساني فذ خصوصا اذا ما لاحظنا التأخر الخطاب العلمي في غيرها من المعارف الفكرية كالفسلفة و الأدب التي لا تدخل في العلوم اصلا  ، و كل هذا البناء الضخم لم يكن لولا تراكمات فذّ و مقتدرة لعلماء المسلمين ، لذلك يكون من اللاموضوعية و من الجهل التقليل من شأن المنجز العلمي لعلماء الفقه و الاصول ، فضلا عن كونهم طرقا معتبرة لتحصيل المعارف التي يقوم بها دين الانسان . كما ان من الهم ان ينهل و يستفيد الباحثون في العلوم الأخرى من الصرح و الإنجاز الذي بلغته الابحاث الأصولية .

3-                  قطعية الدليل الشرعي

  لم يشترط الشرع الإسلامي فقط الدليل في تحصيل المعرفة ، بل و اشترط ان يكون على أعلى درجات العلمية و القطعية ، حتى انّ بعض المدارس الفقهية تشترط القطعية في جميع الادلة الشرعية  كما عن السيد علم الهدى المرتضى .

 منذ بدايات البحث التشريعي الاسلامي جعل المسلمون طرق معارفهم  و اعتماداتهم في حقلين مميزين لا يمكن الخلط بينهما الاول المعارف القطعية من القرآن و السنة الثابتة و الثاني غير ذلك من ادلة ، و هذا العمل و ان كان يبدو عفويا و غير مقنّن ، الا انه مهم للغاية من حيث العمق كفكر و بناء معرفي .

4-                 إعتماد الاستقراء  العالي في تحصيل المعارف الشرعية

ربّما يثير الدهشة عند أيّ متتبع عندما يطلع على رأي لأحد علماء المسلمين في مبحث الاجماع وهو يشترط في تحصيل الاجماع دخول اقوال جميع فقهاء المسلمين من اولهم الى اخرهم ، و ربّما يذهب آخر باشتراط دخول جميع اقوال الامة الاسلامية من اولها الى اخرها ، ان هكذا نظرة تتجاوز جميع ما هو معروف عند الاستقرائيين في العلوم ، و الذين لا تجدهم قادرين على تحصيل نسبة كاملة من المادة في الاستقراء .  و السبب في تلك النظرة الاسلامية للاستقراء ليس ناتجة عن الخيال و اللاواقعية ، بل انها ناتجة عن ترسّخ الفكر الاستقرائي و التتبع العلمي التدقيقي ، و لذلك عادة ما يوصف العالِم الاسلامي المنتج بالمحقق و المدقق ، و هذا يعكس رسوخ  الفكرة الاستقرائية العالية  في تحصيل المعارف عند علماء المسلمين .

ان هذا التوجه الاستقرائي عالي المستوى   يبرز بشكله العام في اعتبار سعة الإطلاع و الإلمام بحيث انّ فوات بعض المواد و قلّة الفحص يعد مثلبة و نقصا ، بل قد يؤدي الى الطعن في علمية العالم و يخرج بحثه من الاعتبار بالكلية ،  ان العلمية التي بلغت اقصاها عند الفقهاء ليس فقط نتاج اعتبار الورع و التقوى و الاخلاص ، بل ايضا هي نتيجة تراكم منهجية الاستقراء الأعظم الذي لا يسمح بإغفال ايّة معلومة او معطى او أثر يخصّ موضوع البحث ، لذلك فان الأبحاث الخاصة بالمسائل العلمية عادة ما توصف بمطالب ، و يستقصى فيها البحث ، و مهما كان البحث مختصرا فان لا يسمح فيه الا بالإلمام التام و الإحصاء الوافي ، لذلك نجد صفات الوافي و الكافي و الوافية و الكفاية من العناوين السائدة عند المؤلفين في علوم الشريعة .

5-                   الحقائقية

لا يؤكد الشرع فقط على صحة الإستدلال و علميّته  وتكامله ، بل يهتّم ايضا ان لا يتطرق الوهم اليه ، بان تكون المعارف المحصّلة معارف حقة ، و صادقة و انها صادرة من النور المعصومي و الهداية الحقيقة ،  و القرآن مليء بالدلائل و الارشادات الى ضرورة عصمة مصدر التشريع و العلم الللامتناهي  ، و ان عالم الوحي هو عالم الهداية و النور و آيات القران جلها شواهد على ذلك .

 يقول تعالى  (  يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ )  و يقول تعالى (وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ )  في التأكيد على أنّ معارف الشرع معارف الحقّ و الحقيقة ، وانّها تنبع من عالم الهداية  يقول تعالى ( أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ ) و يقول تعالى (ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَاد ) و يقول تعالى (إِنَّ الْهُدَى هُدَى اللَّهِ )  و انه معارف الشريعة هي المعارف الصادقة  يقول تعالى ( وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ ) و يقول تعالى ( إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ ) 

 6-     الظهور و التمامية  

من أولى اهتمامات علماء الشريعة هو بلوغ غاية الوضوح و الظهور للدليل بحيث ميّز بين المجمل و الظاهر في الشرع  ، و هذا ايضا ناتج عن التربية القرآنية التي ميّزت بين المحكم و المتشابه من الخطاب يقول تعالى (هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آَيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ)  . و شدّد القرآن على البيِّن المبيِّن من المعرفة يقول تعالى (وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ آَيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَأَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ) و يقول تعالى (وَلَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ آَيَاتٍ مُبَيِّنَاتٍ )

 فصل اقسام الدليل الشرعي

قُسِّم الدليل الشرعي باعتبارات بحثية و تنظيمية الى اقسام مختلفة ، و لا يظهر تميّز واضح من حيث الاعتبار لاقسام الأدلة ، و انما التمايز يكون من جهة الخصائص و هذا ليس تقسيما جوهريا ، و على كل حال هناك تقسمات معروفة للأدلة  :

1-      العقلي و النقلي

الأدلة النقلية هي ما كان طريقها النقل  ، وهذا يشمل الكتاب والسنة والإجماع على القول بحجيته . و  الأدلة العقلية  هي ما كان طريقها العقل و تختص بما يستقل به العقل من أحكام  و ان كانت مستفادة من دليل نقلي  كالملازمات  و الاستصحاب . و من الواضح ان هذا التقسيم للأدلة من حيث هي لا من حيث الاستدلال اذ في عملية الاستدلال يجب إعمال الفكر و عمليات العقل في الاستفادة من الدليل النقلي .

2-      الاصلي و التبعي

الأدلة الأصلية  هي التي لا تتوقف في دلالتها على الأحكام على دليل آخر وهي الكتاب والسنة القطعية  لأنهما اللذان أنزلا للبيان أولاً  ، و الأدلة التبعية هي التي تتوقف في دلالتها واعتبارها على غيرها كخبر الواحد .

لا ريب في حجّية القران و السنة القطعية في الدين ، و هذا من المعارف القطعية البديهية فيه ، كما انّه لا بدّ من اعمال قواعد العقل في استفادة المعارف من هذه الادلة ، بمعنى اخر ان العمليات العقلية حجج بديهية في الشرع و ان قيل بعدم استقلالها ، الا انه يمكن المناقشة ان الدليل على الايمان و الموجب له و الموجب للتصديق بالنبي صلى الله عليه و اله و الوحي ، و دليل الاعتراف بهما انما هو  العقل ، و من هذه الجهة فالعقل دليل أصلي و دال طبيعي على النبّوة و الوحي ، و كل فكرة خلاف ذلك تكون من باب المناقشة خلاف الوجدان ، نعم في مجال العمل و التقديم يكون الاعتماد على الوحي ولا عبرة بما يخالفه ، كما ان دلالة العقل على الأيمان لا يعني حاكمية العقل و منطقيته على المعارف الشرعية لحقيقة واضحة انّ مصدر التشريع علم لا متناهي لا مجال للعقل للإحاطة به و تعجز وسائله عن ادراك حقائقه بالدرجة المطلوبة من الاطمئنان ، لذلك نجد ان النقل قد استفاضة من انّه ما من شيء الا وفيه قرآن و سنة و انّ الدين لا يصاب بالعقول ، و هي تشير الى هذا المعنى .

3-      اللفظي و غير اللفظي

من اهم التقسيمات العلمية للدليل في الفقه هو تقسيمه الى دليل لفظي و غير لفظي ، لاشتراك مصاديق كل منهما بخصائص عامة تمكن من التعميم و الاستفادة الموحدة ، حيث ان للدليل اللفظي ابحاث دلالية و استعمالية مهمة مؤثرة في عملية الاستنباط كدلالة الصيغ  اللفظية ،لا تجري على الادلة غير اللفظية ، كما ان موارد و فوائد الادلة العقلية ايضا مختصة بها فالتمييز بينهما مهم جدا و البحث التفصيلي في كل من جانب وسائلي لكل منهما مهم جدا ايضا ، و من الظاهر للمتتبّع انّ الابحاث الاصولية في غالبيتها تقع في هذا المجال .
    

 فصل : أصالة عدم الحجية

   الراسخ في نفوس المتشرعة عدم صحّة الاحتجاج بما لم تثبت حجيته في الشرع ، وانّ كل شيء ليس بحجة فيه ما لم تعلم حجيته و لا ينفع في ذلك الظن و الشك ، و في الواقع هذا الامر فطري ليس فقط في الانظمة الاختصاصية المقنّنة كالشرع بل في المعارف الانسانية العامة ايضا ، اذ ليس من سلوك العقلاء الاحتجاج بما لا يكون له مصداقية فيه ، كما انه لا يصح التخاطب بما لا وضعية للتخاطب فيه .  و استدل على عدم الحجية و الاعتبار  من العقل بما ارتكز في اذهان العقلاء من ان الاحتجاج بشيء و اعتباره و صحة الاعتذار به و انتسابه الى شخص لا بدّ و ان تكون بحجة معتبرة و ان الشك في الحجية و الاعتذار يكفي في عدمها كما ان الشك في صحة الانتساب يكفي في عدمها لدى العقلاء فتكون اصالة عدم الحجية و اصالة عدم صحة الانتساب من الاصول العقلائية مطلقا و يكفي فيها عدم الردع من الشارع فكيف بما ورد من التقرير و العلم بلا تناهي علم مصدر التشريع  .

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً