د. مهدي بازرگان(*)
ترجمة: محمد عبد الرزاق
من أجل الحرية والعدالة والتنمية والحب والسلام ــــــ
إن من أبرز الأحداث التي شهدتها نهايات القرن الماضي، والمتزامنة مع ولادة الثورة الإسلامية(1979م)، والانحلال المفاجئ للاتحاد السوفياتي(1990م)، هو إعلان ـ أو زعم ـ خطر الإسلام على العالم، من قبل الصحف والمحافل الغربية.
وكانت قد ظهرت مخاوف شبيهة من «النهضة» أو «إحياء الفكر الإسلامي»، وعودته إلى الواجهة الدولية والسياسية؛ وذلك بظهور بعض الحركات التحررية في جملة من الدول الإسلامية.
لقد بلغ بالدعاية والاتهامات أن يقال بأن الديمقراطية والحرية والقيم في الحضارة الغربية ـ التي استطاعت الخلاص من الفاشية والشيوعية ـ هي اليوم أمام تهديد حقيقي هو الإسلام وإحياؤه من جديد. ولذا لابد في مواجهته من وضع حلول، واتخاذ مواقف حازمة.
وكان ينبغي على الغرب الداعم أو المؤسِّس للقيم المذكورة، والمطالب بحقوق الإنسان، أن يشجع ويدعم حركة الشعوب المسلمة، التي عاشت في الماضي عصوراً من الظلم، وهي اليوم في دوامة الاضطهاد والتعذيب تبحث عن استقلالها وحريتها بكل إصرار وعزم.
كما أنه؛ ونظراً لما يتمتع به المسلمون من انتشار ملحوظ في العالم، وما يحملونه من إرث عظيم وطاقات لا يمكن إنكارها، ليس من صالح المجتمع الدولي أن يرغب عن مساهمتهم العادلة في بناء المجتمعات البشرية، والتحاقهم بالكيان الدولي. لقد قدَّم الإسلام خدمات جليلة للغرب وسائر البشرية. ففي «قصة الحضارة» ـ وهو سفر كبير لعالم أمريكي ـ نقرأ أن نهضة أوروبا في القرن السادس عشر، والثورة على محاكم التفتيش، كانت على اتصال وتأثر بدول البلقان، واتصالها بالمسلمين ممَّن درسوا القرآن وتعلموا تفسيره. كما شكلت الحروب الصليبة المنطلق والدوافع للحركات الفكرية والتيارات الإصلاحية في الغرب.
ومن جهة أخرى يعترف المفكرون والمتنورون في العالم الإسلامي بأن الغرب أحيا فيهم أفكاراً قيمة، كالقومية، والليبرالية، والديمقراطية، والاشتراكية، وكذلك محاربة الاستبداد والرأسمالية والإمبريالية.
ولست هنا بصدد الدفاع، أو شجب بعض الممارسات غير الإنسانية التي تنسب إلى بعض الحركات أو الدول الإسلامية. كما لا أريد الخوض في صراع إسرائيل مع العرب أيضاً.
إسلام أم مسلمون؟ ــــــ
يبدو أن مَنْ يثير الاهتمام هم الصحفيون ورجالات السياسة، ممَّن يصنِّف الإسلام خطراً وتهديداً عالمياً. وهنا أُذكِّر بمسألة بديهية، وهي أنه ليس بالضرورة أن يمثل المسلمون الإسلام، مثلما قد لا يكون الزعماء الدينيون أو الحركات في الدول الإسلامية ـ في الوقت الحاضر ـ يمثِّلون المسلمين في تلك الدول. فالمسألة تختلف كثيراً بين أن يقال: معالجة الخطر الناجم عن مذهب أو دين وبين أن يقال: معالجة الخطر الناجم عن أتباع ذلك المذهب.
يقول (إريك فروم)، العالم النفساني المناهض للشيوعية والفاشية، لكنه من مؤيِّدي توجُّهات ماركس الإنسانية: «كثيراً ما كان كارل ماركس يرفض نعته بالشيوعية، ويقول: لم يدرك الشيوعيون فكرة أستاذهم بشكل صحيح».
وقد صدر مؤخراً كتاب ـ يبدو أنه موثَّق جداً ـ تحت عنوان «عودة الديمقراطية»([1])، للكاتب السيد «م، ج، ف، ريفل» (M.G.F.Revel). ومن المؤسف أنه وقع في هذا اللبس ـ إن لم نقل الخطأ ـ، واعتبر الإسلام والمسلمين أمراً واحداً. حيث تطرق في الفصل الثاني عشر من كتابه إلى الموضوع الجدلي «الديمقراطية الإسلامية أو الإسلام الإرهابي»، وأصدر حكمه النهائي على الإسلام هنا. في حين كان ينبغي علينا، ونحن في صدد تقييم الإسلام ـ أو أي دين آخر أو مذهب فكري ـ السير عبر قناة وحيدة، وهي الرجوع إلى جوهر الإسلام وما يحمله من تعاليم، ثم ندرسها في مرحلة التطبيق، وهل هي بعينها؟ فلنرجع إلى القرآن الذي لم يحرَّف منذ بزوغ الإسلام وإلى يومنا هذا، ولنتخذ من «السنة»، أو السيرة العملية للرسول‘، ملاكاً ومعياراً في التقييم؛ فقد أوصى القرآن حين نزل بهذين المصدرين.
يبدأ السيد ريفل محاكمته أو شكايته على «الإسلام المهدِّد للديمقراطية» بكلمة لـ (فولتر)(1765م)، مذيَّلة بفتوى أو حكم شرعي صادر عن «المفتي الأعظم» للإمبراطورية العثمانية المقدَّسة ضد الاستعمال الشيطاني للمطابع، وقراءة الكتب، التي تحكم الإنسان باللعنة الأبدية. كما تناول الكاتب في السياق ذاته «عقيدة أو ظاهرة» أخرى في المشهد الإسلامي ـ لا صلة لها بجمهورية إيران الإسلامية، التي هدرت دم مؤلِّف الآيات الشيطانية ـ وهي أن المسلمين العاديين أو «الإنسان المسلم» يحمل ـ بشكل عام ـ ردود فعل غير متوقِّعة ومقلقة جداً. فالمسلمون يحرقون كتاباً، ويطالبون بمنع نشره، وإعدام مؤلفه([2]).
لكنكم إن أردتم الحقيقة فلا «فتوى» المفتي الأعظم معتبرة ـ على الرغم من إطارها الديني «الذي منحه إياها الإخوة القضاة والأئمة في مدينة الحكم إسطنبول أو بعض الدراويش الباحثين عن الشهرة والمال» ـ، ولا هي مشتملة على قاسم مشترك مع إسلام محمد‘. كما لا يوجد أي تشابه بين الأحكام الانفصالية الجديدة عند مسلمي آسيا وأوروبا والأسس والتعاليم القرآنية الحقّة. فليست ردود الفصل هذه إلا عواطف غريزية تصدر باسم الله والدين، وهي على النقيض منه تماماً. ثم إن هذه ليست المرة الأولى في التاريخ التي ترتدي فيها الرغبات المتطرفة، والمنطلقة من مبدأ الحب والبغض الذاتي، لباس الدين المقدَّس و(الأزلي).
فمحاكم التفتيش التعسُّفية في القرون الوسطى هي نفسها نموذج بدائي للممارسات التي كانت تصدر باسم الدين، وإن كان ذلك في الغرب أقل حضوراً بين القديسين، ممَّن يدَّعي تمثيل المسيح.
أما بالنسبة للإرهاب، الذي بات يعدّ مرادفاً للإسلام، فلماذا لا يقال عنه: إنه ردّة فعل طبيعية ومشروعة من المسلمين؛ نتيجة ما يُمارَس بحقّهم من قمع ووحشية؟ فهاهم الفلسطينيون، وقد احتُلَّت أوطانهم، ومنعوا من كل وسائل الدفاع، في حين نشهد القوى العظمى، التي تعد نفسها من المدافعين عن حقوق الإنسان، تدعم وتؤيِّد القمع والاضطهاد. وهناك مثل إيراني يقول: «إذا حوصرت القطّة ضربت صاحبها».
وكذلك الحال في الجزائر. فحين أُجريت انتخابات ديمقراطية، وفازت فيها الأغلبية المسلمة، منعوا من حقوقهم السياسية والمدنية، وأحيل الأمر إلى لجنة جائرة وضعها الغرب، فبطشت بهم بالقمع والإعدام.
والأبشع من ذلك كله الحرب المباغتة التي شنها الصرب ـ وبكل وحشية ـ على المسلمين العزَّل في (البوسنة والهرسك)، وكان ذلك يجري على مرأى ومسمع من الأمم المتحدة غير المكترثة ـ إن لم نقل المؤيدة ـ. فما هو جواب الغرب وحضارته للتاريخ والأخلاق؟ ولست هنا في صدد تأييد الإرهاب؛ لأن ذلك ممنوع ومحرَّم في الإسلام والثقافة الإيرانية. فقد كان لي شخصياً حوار خاص مع السيد الخميني سنة(1982م)، وقد حذَّرته فيه من استخدام مثل هذه الأساليب. واستدللت على ذلك بأن أعداءنا هم مَنْ اخترعها وأنتجها، ولهذا كانوا أكثر قوّة منا وهيمنة. إن أهمية التفريق بين أداء أتباع الإيديولوجيا والإيديولوجيا نفسها، بالنسبة إلى ما يخص التعاليم المنسوبة إلى المصادر الإلهية وما فوق البشر ـ والتي هي بحاجة إلى دقة وإحكام في الفهم والتطبيق ـ أكبر منها بالنسبة إلى المذاهب والإيديولوجيات الاجتماعية والبشرية؛ لأنه لا يمكن في الشقّ الأول تحديد مدى انطباق وانسجام سلوك الأتباع ـ بما في ذلك سلوك الصادقين ـ مع الثوابت والقواعد الأصلية.
ومع التسليم بأن ما يمارسه المسلمون في الحاضر والماضي لا صلة له بالإسلام الأصيل تبقى الحاجة ملحّة أيضاً إلى معرفة الإسلام معرفة كاملة وصحيحة. فهو المبدأ والمنتهى في سلوك المسلمين وغايتهم، سواء من ناحية المسلمين أنفسهم، ومعرفة الغاية في سلوكهم هذا، أو من ناحية مصير العالم والإنسان الذي يرى نفسه في تهديد وخطر دائم ـ من قبلهم ـ.
منذ عشرين عاماً تقريباً ونحن نشهد حركة دؤوبة في الدراسات الجامعية المختصة بمعرفة الإسلام في الولايات المتحدة، ولا سيما بعد ظهور الثورة الإسلامية الإيرانية. وهذا ما يدعو إلى السرور والأمل. فالإسلام لم يخسر شيئاً في أوروبا عندما خطا الأوروبيون باتجاه معرفته وإدراك حقيقته، وإن كانت هذه التجربة في بواكيرها تنطلق من دوافع العداء، ومحاولات الاستهانة بالدين الجديد، لكن سرعان ما تحول دافع الانتقام في معرفة حقائق الإسلام إلى دراسة تاريخه، والرغبة في التعريف بصاحب الرسالة. وهكذا بدأت رقعة المنجذبين نحو الإسلام بالانتشار والتوسع. فقد غير (فيلتر) رأيه بالإسلام، وصار (غوته) يقول: إذا كان هذا هو الإسلام فهل نحن غير مسلمين؟!
لقد تبوأت الدراسات الاستشراقية؛ بدافع السياسة والاستعمار ونشر الدراسات حول الإسلام، مكانه خاصة في ثقافة أوروبا وجامعاتها. وقد شهدت القرون الأخيرة جملة من المستشرقين البارزين والكتّاب والمحقِّقين، ممَّن اهتدى إلى طريق الإسلام، فصار يعظِّم تعاليمه، ويستحسنها، بل إن بعضهم أسلم بطوع إرادته.
لقد أثارت ثورة 1979م في إيران ـ قبل ظهور إخفاقاتها السياسية والفكرية ـ بوادر الأمل لدى الشباب الغربي في الخروج من لا جدوائية الحضارة الحالية.
فوبيا الإسلام، حقيقة أم مخطّط؟ ــــــ
أنا شخصياً ـ وعلى الرغم من اعتراضي على كيفية التفكير أو التقييم الحاصل عن مناقضة أعمال وأفكار المسلمين للإسلام ـ لا أتوقع أن تكون فرضية (خطر الإسلام) الواهمة مجرد مقولة نظرية عابرة ذات طابع ديني أو إيديولوجي، بل إن فكرة «الرعب من الإسلام» أو (فوبيا الإسلام) إنما هي من اختراعات الأمريكيين؛ لتحل محل «الرعب الأحمر» أو (الفوبيا الحمراء)، التي تلاشت وتبدَّد بريقها عقب انهيار الشيوعية.
كان وراء التطبيل بشعار فوبيا الإسلام أهداف سياسية واقتصادية وعسكرية، والأهم دعم خطط إسرائيل التوسعية في الدول الإسلامية، وليلبي من جهة أخرى احتياج التصنيع الأمريكي المستمر لتجّار السلاح. لقد خلقت سياسات إسرائيل وأمريكا المشتركة حالة من الرعب والخوف والعداء في دول الغرب والشرق تجاه الإسلام والمسلمين. كما لا ينبغي أن ننسى في هذا السياق السباق التاريخي العالق في الذاكرة بين المسيحييين والمسلمين، والذي لم يكن بدوافع سياسية أو دينية أو حدودية.
للأسف لم يعد هناك أشخاص منصفون ذوو ضمائر حية، أو أنهم نادرون، أمثال: (درمنكام)، الذي قال: «لقد كشفت الحروب الطويلة بين الإسلام والمسيحية عن وجود تناحر وخلافات. وعلينا أن نعترف بأنها كانت تنشأ في الغالب من قبل المسيحيين أنفسهم»([3]). وعليه ينبغي أن نأخذ ادعاء خطورة الإسلام على العالم بجميع أبعاده، ولكن نظراً لضيق المجال أرى نفسي ملزماً أن أركِّز في هذا المقال على الجانب الإيديولوجي للموضوع، أو تبعاته الاجتماعية الدينية؛ وذلك لأن الجوانب الإيديولوجية هي المبدأ والمنطلق في فهم ودراسة الجوانب الأخرى لكل موضوع.
ومن هنا سنتناول في الصفحات اللاحقة الآراء والأعمال التي كانت سبباً في تأنيب المسلمين وإيذائهم، وسنسلط الضوء على مقارنة تلك الأفكار مع قوانين الإسلام الأصلية، أي الإسلام الحقيقي. ومن تلك المفاهيم: احتجاز الرهائن؛ الإرهاب؛ قتل المرتدين والسبّابين. وبعد ذلك سنعرض لرأي الإسلام المبتني على القرآن والسنّة المحمدية في خصوص المسائل الراهنة، والمفاهيم المنسوبة للغرب، من قبيل: الديمقراطية؛ الحرية؛ التنمية؛ التسامح؛ وغيرها.
وهنا لا أرى حاجة إلى التذكير بأن هذا المقال يخاطب أيضاً أبناء ديني الأعزاء، وكذلك أرباب الحق والإنصاف، الذين آمنوا بما أوحي إلى النبي‘، بعيداً عن التجاذبات السياسية.
الأعمال والممارسات التي انتُقدت عليها الدول والحركات الإسلامية ــــــ
1ـ احتجاز الرهائن ــــــ
إن ما تمّ من احتجاز لموظّفي السفارة الأمريكية في طهران في بدايات الثورة الإسلامية ـ بغض النظر عن كونه مناسباً في ظرفه وزمانه أو لا ـ لا يمت إلى الإسلام بصلة، ولا يحمل أي وجه شبه مع قوانين القرآن، أو مع الأسس والمعايير في سيرة الرسول الأكرم‘. فقد شدَّدت تعاليم الإسلام ـ وبقوّة ـ على حفظ المعاهدات المبرمة، وصون الأمانات. كما أن حياة الرسول والأئمة مليئة بالأحداث والمواقف التي نهوا وامتنعوا خلالها من اللجوء إلى العنف والخداع، أو أي عمل منافٍ للقانون والإنسانية، حتى مع أعدائهم.
2ـ الإرهاب ــــــ
لا شك في كون الجهاد أو محاربة الأعداء واجباً مقدَّساً، وجزءاً من المنظومة الفكرية الإسلامية. لكن الجهاد ـ وخلافاً لما كان عليه في عهد الخلفاء والسلاطين وسائر حكام الدول الإسلامية ـ مختصٌّ بأمر الجهاد في سبيل الله، وضد أولئك الذين ﴿يُقَاتلونَكُمْ﴾ (البقرة: 186)([4]). فهو ذو طابع دفاعي محدَّد. وقد رسم لنا حدوده كتاب الله وسنة نبيه‘ على أتم وجه. أما غير ذلك من الأعمال فهي مرفوضة بالجملة، من قبيل: شنّ الحرب والهجوم؛ والإبادة؛ والتعذيب؛ والإرهاب؛ والعنف؛ والتعسُّف، التي يهدف من ورائها إلى بسط الهيمنة والنفوذ، وأسلمة الآخرين، والانتقام، والأسر، والقضاء على الكفّار والمشركين. وهكذا هو الأمر بالنسبة إلى الإرهاب؛ إذ يعدّ عاملاً في خلق الاضطرابات، وسلب الأمن الاجتماعي والدولي، ومثيراً للفتنة، وقد وصفها القرآن: بأنها ﴿أَشَدُّ مِنَ القَتْلِ﴾ (البقرة: 187).
3ـ إعدام المرتدين والملحدين والمسيئين للمقدسات ــــــ
هناك العديد من الفقهاء ـ ولا سيما بين أهل السنة ـ يعدون المرتدّ والسبّاب ـ ممَّنْ أساء بقوله أو فعله إلى الذات المقدسة، أو إلى الرسول‘، أو الإسلام وتعاليمه ـ مهدور الدم، ويجب قتله، في حين أن لدينا رواياتٍ كثيرة، وصلتنا من زمن الرسول‘ والخليفة الأول، حول المعارك ضد المعاندين والعصاة. والواقع أن الارتداد آنذاك كان يطلق على ما هو أكبر من المخالفة السطحية أو ترك التوحيد، فقد كان يستعمل في المواجهات السياسية الدينية الكبرى، وفي حمل السلاح بوجه الأمة الإسلامية وهي حديثة عهد، وكان ذلك المفهوم يطلق أيضاً على مَنْ ينقض العهود بغرض التمرُّد والطغيان، وإلاّ كيف يمكن تصور السماح أو إصدار حكم بالإعدام أو ممارسة أيّ عنف آخر لمجرد مخالفة العقيدة الدينية، وصريح القرآن يقول: ﴿لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ﴾ (البقرة: 256)؟! وقد خاطب القرآن الرسول الكريم لأكثر من مائة مرة بأن رسالتك شاهدٌ ومبشِّرٌ ونذيرٌ للناس بما ينفع آخرتهم([5])، ولستَ أيُّها الرسول مسؤولاً أو رقيباً أو مفتِّشاً في معتقداتهم وأعمالهم. أما بالنسبة إلى عذاب ومصير الكفار والمنافقين فإن الله وحده صاحب القرار في ذلك([6]). فمن وجهة نظر القرآن يعتبر الإيمان وعدمه من القضايا الشخصية، وهو علاقة مباشرة بين الخالق وعبده وما اختارت نفسه([7]).
أما بالنسبة إلى موضوع السبّ والإساءة للمقدسات وأئمة الدين فلم يوحِ القرآن إلا بالتسامح وترك مجالسهم([8])، حتى أنّه قد منع الإساءة إلى المشركين؛ لأنها قد تكون سبباً في إثارتهم، فيسيئون لله، عداءً أو جهالة.
كيف يمكن تبرير هذا الكمّ الهائل من البيانات والتهديدات في خصوص قضية (سلمان رشدي)، في حين عانى النبي‘ ما عانى في مكة والمدينة من الإجحاف والتجاوزات، ومع ذلك كان يحرص دائماً على أن لا يبدي موقفاً أو ردة فعل قاسية ضد المسيئين، على الرغم من قوة المسلمين آنذاك ونفوذهم؟!
4ـ التعايش السلمي والدفاع المشروع ــــــ
كان أول عمل قام به الرسول‘ عقب دخول المدينة، وتأسيس دولة إسلامية فيها، هو وضع معاهدة جماعية تستنكر التعدّي، وتنص على التعايش السلمي مع القبائل المشركة وأهل الكتاب المقيمين في أرض الحجاز([9]).
ورد في سورة براءة أو التوبة، التي حاول البعض من خلالها إلقاء صبغة العنف على الإسلام، كما كان بعض المتشدِّدين يلجأون إليها أيضاً، التأكيد على أن مسألة إعلان الحرب مختصة بالمشركين (أو أهل الكتاب)، ممَّن نكثوا أيمانهم مع المسلمين، أو شرعوا في إيذاء المسلمين ومحاربتهم. بينما يحتِّم مبدأ التقوى على المؤمنين الوفاء بعهودهم، وتجنُّب الهجوم في كل الأحوال. وقد ذكرت في فقرة سابقة بأن الدعوة إلى الله والإسلام لم تؤسَّس على الإكراه والإجبار أبداً، لا من قبل المؤسِّسين أنفسهم، ولا من قبل أتباع الإسلام. ومع أن القرآن يأمر بمقاتلة مَنْ يقاتل المسلمين، لكنه يستدرك أيضاً بأنه لا بأس بمعاشرة الذين لم يقاتلوا المسلمين، ولابد من معاملتهم بعدل وإحسان([10]).
إن جهاد القرآن هو نوع واضح من أنواع الدفاع المشروع، فهو بريء تماماً من كل أنواع المعاداة والاقتتال. فالجهاد الواجب في الإسلام هو في حدود القصاص فقط. على أنه يوحي كثيراً بالعدل، والتعاون، والعفو عن العدو أيضاً([11]).
أما إعلان «براءة» الله ورسوله فقد حصل لمرة واحدة في مكة في السنة الثامنة للهجرة وعلى عهد الرسول‘. وما كانت جزءاً من مناسك الحجّ أبداً. وقد كان المعنيّ بتلك البراءة أولئك الذين نكثوا عهود الصلح مع المسلمين، وتآمروا مع أعداء الإسلام. ولم يرِدْ تعميم الحادثة أو تكرارها سنوياً إعلاناً للبغض والكراهية في فتاوى المذاهب الإسلامية حتى وقت قريب. بل على العكس من ذلك حرصت تعاليم الإسلام على نشر مفاهيم التقوى، والإحسان، وطلب الخير، ونبذ الأحقاد والإساءة لجميع الكائنات؛ بما فيها الإنسان والحيوان والنباتات. فلا أساس لمبدأ «نحارب حتى نقضي على جميع المستكبرين في الأرض» في القرآن والسنّة. كما لم يخوَّل أحدٌ بإزالة الشيطان من على وجه الكرة الأرضية.
5ـ التآخي والصراعات الدينية ــــــ
تنبّأ البروفسور (س. هانتينغتن)، في مقال له تحت عنوان «انهيار الحضارة»([12])، بأن ما سيعقب انهيار الشيوعية هو الصدام بين الحضارات، بدلاً من الحرب الباردة. ورأى أن الدين سيلعب دوراً أساسياً في ذلك الصدام؛ نظراً لكونه يشكل جزءاً هاماً في كل حضارة، وعنصراً فعالاً في إثارة النعرات والتفرقة والحروب على مر التاريخ. فصحيح أن التشتت والخلافات بين أتباع الأنبياء هي السبب وراء نشوب الحروب وإراقة الدماء على مر العصور ـ سواء ما كان بين المسلمين أو بين المسيحيين أو اليهود والأديان الأخرى ـ([13])، لكن هناك خلافٌ آخر أيضاً بين الدين والمتدينين أنفسهم، على عكس ما وعظت به الأديان الموحِّدة.
كان القرآن قد تنبه سريعاً لرغبات البشر الغريزية في التفرقة والتسلط حين صبّ جُلَّ اهتمامه على توجيه المؤمنين وتحذيرهم من الاصطدام بالمسيحيين واليهود (أو الزرادشتيين). كما دعا القرآن أهل الكتاب إلى الاتحاد تحت لواء التوحيد ومحور الوحدنية المشترك، حيث لا معبود إلا الله، وأن لا يتخذ أحدٌ أرباباً من دونه، تتحكم باختياراته، سواء كان هؤلاء الأرباب أئمة أم قساوسة أم أي نوع آخر من السلطة البشرية.
لقد أكد النص القرآني على حفظ التآخي وبث روح التعاون بين أهل الإيمان، ونهاهم عن إيجاد الخلافات، والسير بمجرياتها، وأمرهم أن يتركوها للخالق الجبار وقضاء اليوم الآخر، وأن يهتمّوا بعمل الخير والإحسان إلى الآخرين، بدلاً من التفاخر والصراع([14]). وقد ذهب القرآن إلى أبعد من هذا، فنادى بالوحدة الإنسانية، وإلغاء كل الخلافات الدينية، وقال: إن الناس عند الله أمة واحدة، على الرغم من تعدد الأعراق، والقوميات، والمعتقدات، والثقافات، والثروات؛ وأما الذين يحاولون تسعير نار الاختلاف؛ للاستفادة منه، من بعد ما جاءتهم البينات من الله فأولئك هم الظالمون.
وكلّنا يعلم أن تسمية الأنبياء للناس ببني آدم قد أسهم في بناء الأخوة والتآخي العالمي، وسبق إعلان حقوق الإنسان بكثير.
ومن هنا نستنتج أن الإسلام والأديان الموحِّدة كانت ترغب في الصلح والسلام أكثر من رغبتها في إثارة الحروب بين الشعوب، أو خلق صدام بين الثقافات والحضارات، فقدَّمت للبشرية حلولاً مجدية في نشر السلام والمؤاخاة بين سائر أعراق البشر، شريطة أن ندركها جيداً، ونعمل بها دائماً.
7ـ الديمقراطية ــــــ
إن كنا نفسِّر الديمقراطية بحكومة الشعب على الشعب، وأن يكون هو المتصدي لتسيير شؤونه، وأن طريقة تحقيق ذلك هو رأي الأغلبية في الانتخابات أو الشورى المفتوحة، فهذا تماماً ما أوصى به القرآن الكريم في إدارة الحياة العامة، وهي النظرية المطروحة قبل الثورة الفرنسية الكبرى، وقبل برلمانية الحكم في إنگلترا.
وقد طُبِّق هذا النظام من قبل الرسول الأكرم‘ في المدينة، وكذلك في عهد الإمام علي× والإمام الحسن×. ونقرأ في القرآن آية تخاطب الرسول، وتأمره أن يستشير أصحابه، ويعفو عن زلّتهم، ويعاملهم بإحسان ورحمة([15])، كما تناولت آية أخرى أطر المجتمع الإسلامي، فنصَّت على أنّ منها تنظيم الشأن الداخلي عن طريق الشورى([16]).
لقد رفض الإسلام كل أنواع الطاعة العمياء للعناصر المقدَّسة في الأرض، وعدّ ذلك شركاً بالله، وذنباً لا يغتفر أبداً. أما إذا كان الأمر على أرض الواقع غير ذلك، ولم ينصب زعماء المسلمين عن طريق الشورى أو البيعة، فلا ينبغي أن نلقي اللوم على الإسلام نفسه.
8ـ الرفاهية والتنمية ــــــ
إن من جملة الانتقادات الموجَّهة إلى الإسلام هو إهماله الرفاهية في العيش، ورفضه للتطور المادي، والتنمية الاقتصادية، والمزايات التي جاءت بها الحضارة الغربية الجديدة.
لقد طلب منا الإسلام وسائر الأديان الموحِّدة الإيمان بإله واحد، والانتظار والاستعداد لحياة الآخرة الأبدية، والتحرر من القيود وحب الملذات الآنيّة في الحياة الدنيا.
وأما الذي نهت عنه هذه الأديان فهو أن يستميت الإنسان في جمع مال الدنيا، فينسى واجباته، وحقوق الآخرين، وأن لا يحمل غاية أسمى، حيث ينصّ القرآن على أن (جنة الخلد) هي من نصيب أولئك الذين لا يسعون في الأرض وراء المباهج وإشباع الجسد. أما ما يُنظر يوم القيامة، ويحاسب عليه، فهو ما يمارسه الإنسان في الدنيا مع الآخرين، من إساءة أو إحسان([17]).
أما بالنسبة لمتع الدنيا المعقولة والطبيعية، التي أخرجها الله لعباده، بما في ذلك الزينة والجمال، فهي لم تحرم إطلاقاً([18]). ومن هنا أوصى الإسلام بالسعي والتدبير من أجل حياة عائلية كريمة، تنعم بعيش رغيد، وتواكب حياة سائر المجتمع.
ويدلنا الازدهار في القرون الأولى من حياة الإسلام على نمط حياة الإنسان المتقدمة.
الخوف من ماذا؟ ــــــ
آمل أن توفِّر هذه المقتطفات قناعة لدى القارئ العزيز بأنه لا تعارض بين الإسلام ـ القرآني المحمدي ـ والمفاهيم والقيم الإنسانية السامية، من قبيل: الديمقراطية؛ والحرية؛ والتقدُّم؛ والعدالة؛ وغير ذلك. بل يعد الإسلام نفسه المحفز الأساسي لهذه القيم، فهو لم يدافع عنها فحسب، وإنما أسهم وساعد في تحقيقها، بل إن مشروع الإسلام قد سبق مبادرات الغرب بكثير.
كما دعا الإسلام المسلمين وأهل الكتاب إلى الوحدة والتعاون من أجل السلام، والإحسان، ومناهضة الهيمنة والظلم. أما ما لا يرتضيه الإسلام للمسلمين، ويدعوهم إلى التصدّي له، فهو الخضوع أمام المستكبر وتعدّي الأعداء ومناصريهم. إنه لخطأ كبير أن يقارنوا الإسلام بالماركسية والفاشية، ويعدوه معادلاً أو بديلاً لهذه المذاهب في إيجاد الاضطراب العالمي. فهاتان الفكرتان المهجورتان قد أسست إحداهما على مبدأ العنصرية المقيتة؛ والأخرى على دياليكتية رفض الرسالة وضدها. في حين يدعو الإسلام، وتدعو الأديان الموحِّدة، جميع البشر إلى الاتحاد، والأخوة، والأماني الخالدة والأبدية.
إذاً ومع هذا كله هل يبقى دافع مقبول للخوف من الإسلام ومعاداته من قبل الغرب، والحال أن الإسلام يستمد مبادئه من الحق والحقيقة والمحبة، فيقدم الوعود والسبل الكفيلة بعودة السلام الدائم، والتعاون العالمي؟! ألا ينبغي أن ينظر له بواقعية ومصداقية تليق بدوره؟!
وعلى طريق تحقيق هذه الطموحات أكرِّر مرة أخرى وأسأل الجميع: هل الإسلام ـ وفق ما جاء في القرآن والسنة النبوية وأهل البيت^ ـ خطر حقّاً على العالم؟ وهل يهدف المسلمون فعلاً، أو بإمكانهم، أن يشكلوا خطراً على العالم الملتهب في حدّ ذاته؟
أتصوَّر أنه لا يوجد أحدٌ يعتقد بهذا الأمر حقيقةً، إلا إذا حاول الغرب متابعة سياساته التوسعية، والهيمنة على الشعوب، وكبح جماح الدول النامية، والتواطؤ مع الصهيونية؛ لإرعاب المسلمين، وإجبارهم على الانتقام والعنف، فمن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن الأمور ستتجه إلى الحرب والإرهاب، وسيبحث المسلمون وسائر الشعوب المضطهدة عن نيل استقلالهم، واستعادة كرامتهم، مهما كلف ذلك من ثمن. إنه لعين الظلم أن تؤجج الفتن والأحقاد، وتترك العدالة والإنسانية.
وفي الختام أدعو المسلمين إلى التمسُّك أكثر بالإيمان، الداعي إلى مبادئ العدل والإنسانية، التي أكَّد عليها القرآن، وأن يعملوا بهذه الأصول والأحكام في مجتمعهم الواحد، وفيما بينهم، وأن يتعاونوا على تأسيس مجتمع دولي، قوامه المحبة والسلام والتقدُّم والازدهار.
الهوامش:
(*) أحد أبرز المفكّرين في إيران في العقد السادس والسابع من القرن العشرين، لديه نظريات متعدّدة في الرؤية الكونية والفكر السياسي الإسلامي.
([1]) Leregain democratique, Librairie Arinem Fayard, Paris 1992.
([3]) Emile Dermengham, Lavie de Mohamed Libraric Plon, Paris 1929
([4]) ﴿وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين﴾.
([6]) ص: 35: ﴿إلينا مرجعهم فننبئهم بما عملوا﴾.
([7]) يونس: 108: ﴿قل يا أيها الناس قد جاءكم الحق من ربكم فمن اهتدى فإنما يهتدي لنفسه ومن ضل فإنما يضل عليها وما أنا عليكم بوكيل﴾.
([8]) النساء: 140: ﴿وقد نزل عليكم في الكتاب أن اذا سمعتهم آيات الله يكفر بها ويستهزأ بها فلا تعقدوا معهم حتى يخوضوا في حديث غيره﴾.
([9]) راجع: ((L’hamanisme de Islam، لمؤلفه (مارسل بوازار) (Marcel Boisard).
([12]) مجلة (Foreign Affairs)، عدد الصيف، لعام 1993م.
([13]) يبدو أن البروفسور هانتينغتن قد نسي ممارسات المسيحيين الوحشية بحق اليهود، والتي امتدت حتى عقود النازية المتأخِّرة، فوضع كلاًّ من المسيحية وإسرائيل في معسكر واحد ضد المسلمين، ووصفهم بالمتمرِّدين والمعادين للسلام. وهذا يكشف لنا عن مدى تغلغل الصهيونية وسيطرتها على سياسة أمريكا الخارجية.