خطورة وآثار نسبية الأخلاق القيم
د. إبراهيم أبو محمد
من المعلوم أن المنهجية الوضعية في الغرب فصلت بين القيم والأخلاق، وأنها تبنت مقولة النسبية ليس في منظومة القيم وحدها، وإنما أيضا في العقائد والأخلاق، واعتبرت ذلك قانونًا يحكم الظواهر الطبيعة كما يحكم المجتمعات البشرية، ومن ثم فرغت مجتمعات الغرب من ثوابت القيم وثوابت الأخلاق، بعد أن تفلتت من قيود الدين، وتمردت على التعاليم الكنسية، واعتبرتها قيودًا على حركة العقل وعقبات في سبيل التطور والتقدم وتحقيق النهضة، وحاولت ولا زالت تلك المنهجية أن تجعل من هذا التوجه قانونًا عامًا وقدرًا مقدورًا، الأمر الذى ترتب عليه حالة من الاهتزازات الاجتماعية، عصفت بها رياح الثورة العلمية وواكبها تقدم تكنولوجي هائل في عالم الأشياء، أشعل جذوتها، وأغرى الكثير من الباحثين بخرافة الربط بين التقدم وتحقيق النهضة من جهة، والثورة على كل ثوابت القيم والأخلاق من جهة ثانية، وأضحى هناك نوع من التلازم المتواضع عليه بين أغلب المدارس الوضعية في الغرب أن لا ثوابت يجب أن تراعى، وأنه لا علاقة بين الأخلاق والقيم، وأن كل شيء يخضع لقانون النسبية في أصله وحجمه ومساحات تأثيره، الأمر الذي عكس حالة من الضياع والتمزق سادت كل ميادين المجتمع ووقع الفرد أسيرًا لها، وقد أشار إلى تلك الحالة -الكاتب الأمريكى زبيجنيو بريزينسكى، حيث قال: "أصبح المواطن يعاني من حالة ضياع وتشتت. فهو لايدري هل يعود للالتزام بالتعاليم الدينية في حين يجد حوله مجتمعًا بأكمله، استبعد تلك التعاليم واستباح المحرمات، أم يواكب ذلك المجتمع ويعاني من التمزق والتناقض الداخلي" .
هذا الوضع الجديد أصبح قادرًا على تشيئ القيم النبيلة وتحويل المعاني العظيمة إلى مجرد رغبات تنشأ لا من قيم عليا تكون محل تعظيم المجتمع وتقدير فاعليها، وإنما من دوافع ذاتية تتحرك داخل الذات الإنسانية وتحقق لذة عارضة أو مصلحة آنية، الأمر الذي ترتب عليه مساوئ كثيرة أساءت إلى الإنسانية كلها وعانت وتعاني منها مجتمعات كثيرة، وفي مقدمتها تلك المثالب الثلاثة أو تلك الآفات التي تتسبب في حروب وصراعات تأكل الأخضر واليابس وتهدد الوجود الإنساني على سطح الكرة الأرضية، وهذه المثالب هي:
– ازدواجية المعايير
– اختلال العدالة
– فقدان الثقة
وهي أمور في غاية الخطورة يتسبب شيوعها في تفكك المجتمع مهما كانت عافيته وقوته الاقتصادية، وهي لا تنتشر وتسود إلا في حالتين:
الأولى: أن لا تكون القيمة مستمدة لأصولها من عقيدة صحيحة.
الثانية: أن تكون القيمة مفصولة عن عقيدتها الصحيحة وتعاني صراعًا بين الواقع والواجب وتلك الحالة لا تتحقق إلا حين ينفصل المرء عن قيمه الصحيحة.
يقول د. صلاح عبد المتعال في بحثه الأخلاق في الحضارة الإسلامية، كيف حفزت الحركة العلمية: "لا يعاني من يتبنى المنهج الإسلامي من أزمة صراع قيمي إزاء إشكالية العلوم الإنسانية، سواء فيما يتعلق بمنهجية البحث، أو بقضية الموضوعية التي يؤثر فيها إلى حد كبير الإطار التصوري أو المرجعي للباحث؛ وذلك لوجود عدة خصائص مرتبطة بطبيعة التصور القرآني، وتلك الخصائص منها ما هو أخلاقي، ومنها ما هو تشريعي، كالفطرة والتنـزيل وتحري الرشد والحق، فالعمل العلمي الاجتماعي قد سبقه المنظور الإيماني، حيث إن الفطرة الكونية غير مصنوعة من بشر، بل نـزل بها الوحي على الأنبياء والمرسلين؛ حتى يصححوا ما شاب الفطرة من الإيمان بالزيف والتضليل. ويعتبر هذا التصحيح تنزيلاً يتعلم به البشر منهج التأمل والتفكير، وإذا عدنا إلى الفطرة نجد أن الله سبحانه وتعالى قد زوّد الإنسان بخصائص وهبات عقلية تمكنه من إعمال فكره، كإدراكه للبديهيات، ومبدأ عدم التناقض الذي يمكِّن من استنباط الأفكار، ورفض العقل الجمع بين الخطأ والصواب، أو الجمع بين الحق والباطل في آنٍ واحد.
إن ضوابط الفكر هذه هي في نفس الوقت معايير أخلاقية في منهجية البحث. ولا يقف الأمر عند فطرة الإنسان أو ما اكتسبه من قدرات عقلية، بل يهديه التنـزيل إلى فريضة التفكير أو تحري الرشد والحق معًا، وهو ما نطلق عليه منهجية البحث. وقد طرح القرآن أسس هذه المنهجية التي كانت منطلقًا لعصور التنوير الإسلامي في الفقه والدين والعلوم والفنون".
"وإذا كان الفكر أرفع مقامات النعم على الإنسان، فدونه لن تكون هداية أو ممارسة حياة، وبذلك اشترط الشرع سلامة العقل ويقظته، ومن ثم الحفاظ على سلامته، والحرص على هذه السلامة، وتلك الاستقامة فريضة التزام ومسؤولية شرعية، ومن ثم تستوجب هذه المسئولية توجيه الفكر متجها إلى اجتناب الضرر وجلب النفع، وبذلك يوجه العلم النافع وجوبًا لمصلحة الناس والمجتمع في دينهم ومعاشهم، والنبي (صلى الله عليه وسلم) كان دومًا يسأل الله تعالى: (اللهم إني أسألك علمًا نافعًا) [رواه أحمد وابن ماجة]، وفي الحديث الذي رواه مسلم كان يستعيذ بالله تعالى قائلاً: (اللهم أني أعوذ بك من علم لا ينفع) .
ومما تجدر الإشارة إليه أن المعايير الأخلاقية التي حث الإسلام على الالتزام بها في صروف الحياة اليومية هي ذاتها التي اهتدى بها علماء المسلمين في مباحثهم الفقهية، وأدت بهم إلى تعميم مناهج بحثهم. لقد قادهم علم استنباط الأحكام الشرعية -أي علم الفقه- إلى ابتداع علم أصول الفقه، هو العلم الذي يحدد العناصر المشتركة في عملية استنباط الحكم الشرعي، والذي يسميه البعض بأنه منطق علم الفقه. فإذا كان علم الفقه قد نشأ في أحضان علم الحديث، فإن علم أصول الفقه قد خرج من عباءة علم الفقه، ونقصد بالعلاقة بين العلمين -الأصول والفقه- العلاقة بين النظرية والتطبيق.
ومن ثم كان هناك تكامل وانسجام في الإنسان بين جانب التكوين من ناحية وجانب الأمر التكليفي من جهة أخرى، فمثلا: العدل في الرؤية الإسلامية قيمة بذاتها وضدها الظلم والجور، والنفس الإنسانية بطبيعتها وفطرتها تأنس إلى العدل وتشعر بالأمان في ظلاله الوارفة، بينما يكون شعورها عكسيًّا؛ إذا عمَّ الجور والظلم وما يستتبعهما من فساد، وهنا نرى المنهجية الإسلامية تتوافق مع الفطرة الإنسانية وتطابق بينها بالأمر التكليفي الذي يقرر أن العدل قيمة في ذاته وفريضة دينية في نفس الوقت، فهو ذو جذور ثابتة في فطرة الإنسان، ومن ثم يجب أن يكون كذلك قيمة ثابتة لا تخضع للمتغيرات، ولا لعوامل القرابة والنسب، قال تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلّهِ وَلَوْ عَلَى أَنفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِن يَكُنْ غَنِيّاً أَوْ فَقَيراً فَاللّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلاَ تَتَّبِعُواْ الْهَوَى أَن تَعْدِلُواْ وَإِن تَلْوُواْ أَوْ تُعْرِضُواْ فَإِنَّ اللّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيراً) [النساء: 135].
وقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ لِلّهِ شُهَدَاء بِالْقِسْطِ وَلاَ يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلاَّ تَعْدِلُواْ اعْدِلُواْ هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ) [المائدة: 8].
فهو عدل يستمد وجوده من حيث المصدر من كونه قيمة إنسانية وفريضة دينية من ناحية، ثم من ناحية أخرى القيام به وتحقيقه بين الناس لله، فهو أداء لعبادة ومن ثم وجب التجرد فيها عن الهوى ورغبات الذات، والسمو والاستعلاء في تطبيقه عن كل عوامل التأثير الأرضى التى كثيرا ما تطيح بمبادئ العدالة وتبحث في ثناياها عن ثغرات تعفي بموجبها العقاب عمن يوافق الهوى السياسي فيمشى في الركاب مؤيدا ومبايعا، أو تضاعفه وتشدد في عقابها على من يخالف أو يعترض.
وما أعظم القيمة حين تكون لله، وما أقدسها وأعلاها حين تكون شهادة له بأن القوامين بها شهداء بالقسط.
ثم ما أجلها وأغلاها، وأبقاها وأخلدها حين تكون ثابتة لا تميل مع الهوى ولا تحيف مع الشنآن، حتى لو كانت مع النفس أو كان أطرافها الوالدين والأقربين.
نذكر هذا وتعي ذاكرة التاريخ حادثة امرأة مخزومية من عِلْية القوم قد سرقت وأراد أهلها أن يعفوها من العقاب، فما يجوز في عرف السادة أن تتساوى الشريفة مع عامة الناس وأن تؤاخذ وإن سرقت، وإذا كان هناك من الناس من يتمتع بحصانة تجعله فوق المؤاخذة والعقاب فهم أولئك القوم من الأشراف والسادة، ومن ثم بحثوا عن وسيلة تعفي سيدتهم وتعفيهم من أن يلحق بهم مثل هذا العار، وذهبوا إلى أسامة بن زيد (رضي الله عنه) وهو الحب بن الحب، وله عند رسول الله (صلى الله عليه وسلم) موقع ومكانة، وذهب أسامة إلى رسول الله، واستقبله الحبيب هاشا باشا، ولما فاتح أسامةُ رسولَ الله (صلى الله عليه وسلم) فيما جاء من أجله تغير وجهُ النبي (صلى الله عليه وسلم) واستشعر من خلف حجب الغيب نذر الخراب الذي يحل بالدنيا والعالم حين تتعدد المعايير في الحكم بين الناس وتزدوج مقايس العدالة، فيصبح للأغنياء معيار وللفقراء معيار آخر، وللضعفاء معيار وللأقوياء معيار آخر، فأراد (صلى الله عليه وسلم) أن يحفر في ذاكرة التاريخ قاعدة لا يجوز أن تتخلف أبدًا وأن يعطي للعالم درسًا في وحدة معايير العدالة وأنها وحدة يتساوى أمامها الجميع بغير استثناء مهما كانت مواقعهم، يروي لنا الإمام البخاري (رضي الله عنه) القصة كاملة فيخبرنا: "أن قريشا أهمهم شأن المرأة المخزومية التي سرقت، فقالوا: ومن يكلم فيها رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟ فقالوا: ومن يجترئ عليه إلا أسامة بن زيد، حب رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فكلَّمه أسامة، فقال (صلى الله عليه وسلم): (أتشفع في حد من حدود الله)، ثم قام فاختطب، ثم قال: (إنما أهلك الذين قبلكم، أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، وأيم الله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها) (رواه البخارى).
اين هذا المعيار ممن تجنوا وتجرأوا أن يسرقوا حتى أعضاء البشر ليبيعوها في أسواق العار وتحت إشراف بعض الأطباء بل أين هذا المعيار الآن ممن لا يسرقون فقط أموال الأمة وأعضاء الفقراء والضعفاء من أبنائها، وإنما يسرقون آمال الشعوب وأحلام الأمم وأقدار الحضارات ، تحت مظلة قوانين الأمم المتحدة وهى مظلة عمياء لا تسمع ولا تبصر ولا تغنى عن الناس شيئا. فهل يمكن أن نقارن ؟ وهل تصح المقارنة ؟
رئيس المؤسسة الأسترالية للثقافة الإسلامية ـ أستراليا
نقلاً عن موقع الاتحاد العالمي للعلماء المسلمين