مدخل إلى العصر الأصولي الجديد
تعدّ مدرسة الوحيد البهبهاني المدرسة الأصولية الحديثة التي سيطرت على الحواضر العلمية الإسلامية الإمامية بعد الهزيمة التي ألحقتها بالمدرسة الإخبارية الحديثة، من هنا كانت هذه المدرسة في أوج نشاطها وحيويتها لما كانت قد حقّقته من انتصارات علمية رائعة ورائدة أدّت إلى نضج المسلك الأصولي في فهم نصوص الشريعة وأحكامها؛ فجهود الوحيد البهبهاني الرائدة أسفرت عن منهج يجمع بين العقل والنقل، ويعطي لكلّ منهما دوره في عملية الاستنباط، ويحدّد له مجالاته التي تتناسب مع طبيعته وخصائصه بوصفه مصدراً معرفياً ووسيلةً للوصول إلى مقاصد التشريع وتفاصيلها.
لم تتطرّق هذه المدرسة الأصولية لكلّ واحدة من هاتين الأداتين على حساب الأخرى؛ من هنا استطاعت تأصيل منهج الاستنباط، فضلاً عن تقييمها لأدواته؛ فاعتمدت على أصول وقواعد معرفية لا يمكن نسفها وإبطالها.
إنّ شبهات الإخباريين كانت تشكّل حوافز ونقاط انطلاق للبحث الجادّ عن مشروعية علم الأصول الذي شكّل المنهج السليم لفهم الشريعة من مصادرها، وقد انعكس هذا التطوّر الأصولي في المنهج والقواعد على عامة مجالات البحث الفقهي ممّا أدى إلى تطوّر الدراسات الفقهية أيضاً، وتعميقها وإنضاجها على أسس علمية متينة.
وتكشف الآثار الفقهية والأصولية التي صدرت خلال النصف الأول من القرن الثالث عشر ــ بما تضمّنته من مناهج حديثة في التأليف ــ عن الاتجاهات الفقهية والأصولية لعلماء هذه المرحلة من مراحل التطوّر الأصولي والفقهي في المدرسة الإمامية، وإحدى الظواهر الملفتة للنظر في هذه الحقبة التاريخية هي ظاهرة الاهتمام بتدوين القواعد الفقهية من قبل جملة من الفقهاء المتميّزين، بدءاً بالوحيد البهبهاني (1208هـ) نفسه وخيرة تلامذته، مثل الميرزا القمي (1232هـ) والسيد بحر العلوم (1212هـ) وكاشف الغطاء (122هـ) وكبار تلامذته، وتلامذة تلامذته.
إنّ هذا الاهتمام الذي تجلّى في جملة من الكتب الأصولية والفقهية بشكل ضمني، قد ظهر على شكل تيار قوي في تدوين كتب القواعد الفقهية بشكل مستقل أو بشكل رسائل فقهية، وتكفي مراجعة سريعة لتراث هذه المجموعة من الفقهاء، الذين عاشوا في النصف الأول من القرن الثالث عشر، للوقوف على حجم هذا التوجه إلى القواعد الفقهية، فضلاً عن الأصولية، ومدى التطور العلمي في مستوى ومحتوى البحوث الفقهية.
فلو أخذنا قاعدة نفي الضرر مثلاً، وقسنا ما كتبه الميرزا أبو القاسم القمي ــ وهو من خيرة تلامذة الوحيد البهبهاني ــ مع ما كتبه مثل الفاضل التوني الذي يعود عصره إلى بدايات القرن الحادي عشر، وكذلك ما كتبه الشهيد الأول الذي يعود عصره إلى القرن الثامن الذي يعتبر بداية عصر تقعيد القواعد، لوجدنا البون شاسعاً في المحتوى والمنهج معاً.
عصر القواعد الفقهية
يعتبر عصر الوحيد البهبهاني عصر الاهتمام بالقواعد الفقهية بشكل خاص، فتلامذته و.. قد أدلوا بدلوهم في هذا المضمار، ويشكّل كتاب (عوائد الأيام) للفاضل النراقي أنموذجاً جيداً لهذا الاهتمام.
يمثل كتاب (كشف الغطاء) جهداً رائداً في الخط القواعدي للفقه، كما أن كتاب (العناوين) للمراغي يعتبر ثمرةً من ثمار جهود هذه المدرسة، ولكلّ منهما خصائصه ومميزاته، غير أنّ هذا البحث التقويمي والمقارن يتطلّب فرصةً وزماناً يتسع له، ونحن في هذه العجالة ندعو المهتمّين بتطوّر الفقه الإمامي لتعميق وإشاعة هذه الدراسات التاريـخية المقارنة التي سوف تكشف لنا أبعاداً مغمورة من فقه عظمائنا، وسوف تفتح أبواباً جديدة للتطور الفقهي، فضلاً عن أنها سوف تؤثر على العقلية الفقهية لطلابنا حينما يتّجهون للقواعد الفقهية التي تشكّل حلقة الوصل بين فقه المقاصد وفلسفة الفقه من جهة، والتنظير الفقهي وفقه الأنظمة من جهة أخرى، ونحن بأمسّ الحاجة إلى هذا الاهتمام الواسع بكل أبعاد الفقه ومجالاته التي طالما تغافل عنها فقهاؤنا؛ لأنها لم تكن محلّ حاجة قصوى في عصورهم، أو لأن الظروف لم تكن لتسمح لهم ليدلوا بآرائهم في هذه المجالات التي هي اليوم أهمّ المجالات التي تدعو الفقيه للاهتمام الجادّ بها.
ظهور حركة تقعيد الفقه، مشروع الشهيد الأوّل (786هـ)
إذا استعرضنا تطوّرات حركة التأليف الفقهي الإمامي، نجد الشهيد الأول محمّد بن مكّي العاملي (786هـ) قد أفرد مجموعةً من القواعد الفقهية في كتاب مستقلّ أسماه (القواعد والفوائد)، وقد وصفه في إجازته المعروفة لابن الخازن: <إنّه مختصر يشتمل على ضوابط كلية أصولية وفرعية، تستنبط منها الأحكام الشرعية، لم يعمل للأصحاب مثله>، ووصفه تلميذه المقداد السيوري (826هـ): <إنه يشتمل على قواعد وفوائد في الفقه، تأنيساً للطلبة بكيفية استخراج المنقول من المعقول، وتدريباً لهم في اقتناص الفروع من الأصول، لكنه غير مرتّب ترتيباً يحصّله كل طالب وينتهز فرصة كلّ راغب، فصرفت عنان العزم إلى ترتيبه وتهذيبه وتقرير ما اشتمل عليه وتقريبه، وسمّيته بنضد القواعد الفقهية على مذهب الإمامية>.
فالشهيد الأول ــ حسب نصّه ــ هو أول من اقتحم هذا الميدان من أصحابنا الإمامية، وتلميذه المقداد هو أول من رتّب هذه القواعد ترتيباً قدّم فيه القواعد العامّة لكلّ الأبواب الفقهية على القواعد الخاصة بكل باب فقهيّ، مقدّماً فيها أبواب العبادات على سائر الأبواب.
وليس معنى ذلك أن هذه القواعد لم يذكرها الفقهاء في مصنّفاتهم، بل إنها قواعد وردت في نصوص الكتاب العزيز والسنّة الشريفة، كما وردت في طيّات بحوث الفقهاء، لكن تطوّر حركة التدوين الفقهي وتطوّر اتجاهات الفقهاء في حركة التأليف لتحقيق مقاصد يبتغيها الفقهاء، والتي منها إسعاف المتعلّم والمتفقّه بالقواعد المحدودة التي تعينه على استنباط ما لا حصر له من الأحكام للوقائع المستجدة في الحياة.. دعت الفقهاء إلى أن يشعروا بضرورة الاهتمام بالقواعد بشكل مستقلّ بعد أن كانوا يعتمدون على القواعد الأصولية ويجدون فراغاً هائلاً في ميدان القواعد الفقهية المتناثرة بين كتب الأصول وكتب الفقه معاً، فالفقيه إذا لم يزوّد نفسه بالقواعد الفقهية سيجدها عاجزةً أمام المستجدات.
من هنا؛ نستطيع أن نعتبر عصر الشهيد الأول بداية عصر الاهتمام بالقواعد الفقهية المدوّنة بشكل مستقل تقريباً، وقد طبع كتابه في جزئين، بتحقيق فضيلة العلامة السيد عبد الهادي الحكيم)؛ فالحركة الفقهية الإمامية في مرحلة استقلالها عن التأثر بالفقه ومحاكاته قد توّجت نشاطها بالاهتمام بالقواعد الفقهية بشكل مستقل، واستمرّت هذه الاهتمامات منذ عصر الشهيد حتى عصرنا هذا، بالرغم من تسلّل حالة استثنائية طارئة دامت مدة طويلة نسبياً، وكادت أن تعصف بأسس المنهج الأصولي لفهم الشريعة الإسلامية، وهي ظاهرة الجمود والحرفية في التعامل مع النصوص الفقهية الدينية، وقد استفحلت هذه الظاهرة حتى ولّدت ردود فعل قوية باتجاه عقلنة الفقه وإبعاده عن سيطرة الاتجاه الإخباري الذي أخذ يتّسم بنوع من الجمود والسطحية والوقوف عند ظواهر النصوص.
من الشهيد الأول (786هـ) إلى الوحيد البهبهاني (1205هـ)
وبعد محاولات طويلة لزعزعة أركان وأسس الفقه الإسلامي الإمامي الذي وقف في وجه المدّ المتطرّف والمتبلور في مدرسة الرأي أو التي اصطلح عليها بعضٌ بمدرسة اجتهاد الرأي في قبال مدرسة اجتهاد النصّ، وقد تزعّم الأئمة حركة مقاومة هذا الاجتهاد، واستمرّ ذلك قروناً، حتى تطرّف بعضٌ ظنّاً منه أنّ دخول العقل في عملية الاستنباط سوف يجرّها إلى فخّ الرأي والقياس والاستحسان، فكان التيار الإخباري؛ حتى استبسل مجموعة من الفقهاء الأصوليين ــ وعلى رأسهم الوحيد البهبهاني (1205هـ) وخيرة تلامذته الأصوليين ــ للوقوف امام اتجاهين متطرّفين: الاتجاه الإفراطي والاتجاه التفريطي، أو اتجاه العقلنة واتجاه الجمود، وكرّسوا جهودهم لانتشال علم الأصول من الإشكاليات التي كانت تطرحها المدرسة الإخبارية باستمرار، وتجعلها مستمسكاً لعدم شرعيّته بشكل من الأشكال.
وكانت هذه الجهود تنصبّ على أمهات مسائل علم الأصول، وهي كبريات القواعد الأصولية من جهة، ومهمّات القواعد الفقهية التي لا يستغني الفقيه عنها من جهة ثانية، وبهذا أرسى الوحيد وتلامذته قواعد الاستنباط ومباني الأحكام على أسس علمية متينة، سيما في فوائده الحائرية، ثم نجد تلامذته الكبار مثل المحقق الميرزا القمي والشيخ جعفر كاشف الغطاء وبحر العلوم والميرزا مهدي الشهرستاني والسيد علي الكربلائي، حاولوا بجدّ تسليح الفقيه بما يسعفه من القواعد الأصولية والفقهية معاً.
ويمثّل كتاب كشف الغطاء حركةَ الفقه الإمامي باتجاه إخضاع الفقه للقواعد، حيث قدم القواعد الأصولية على القواعد المشتركة بين المطالب الفقهية جميعاً، ثم أتبعها بقواعد كلّ باب، ولعلّ تسمية القوانين المحكمة للمحقق القمي تعبيرٌ واضح عن هذه النزعة وهذا الاتجاه القواعدي التقنيني.
وقد استمرّت هذه الحركة بعد الشيخ كاشف الغطاء الكبير والنراقي الأول ــ محمد مهدي بن أبي ذر ــ الذي ترك لنا تراثاً أصولياً وفقهياً غنياً، وفي هذا الوسط العلمي والتيار الفقهي انطلق الشيخ أحمد النراقي وكتب كتابه الذي اشتهر بـ (عوائد الأيام) والذي قال عنه: <هذا ما استطرفته من عوائد الأيام من مهمّات أدلّة الأحكام وكلّيات مسائل الحلال والحرام وما يتعلّق بهذا المرام>، والسيد مير عبد الفتاح الحسيني المراغي (1250هـ) المعاصر للنراقي ــ صاحب المستند والعوائد ــ حيث كتب <العناوين> في خصوص القواعد الفقهية، والتي اعتبرها بعضهم حصيلة دراسته عند الشيخ موسى كاشف الغطاء والشيخ علي كاشف الغطاء؛ لاتجاههما هذه الوجهة واعتمادهما هذا المنهج.
وتعدّ هذه العقود الخمسة التي بدأت بالوحيد البهبهاني وانتهت بالمراغي، عصر ازدهار اتجاه التقعيد الفقهي؛ لكثرة التصنيف المستقلّ في مجال قواعد الفقه فيها أوّلاً، ولتنوّع المناهج في معالجة هذه القواعد ثانياً، تشير إلى ذلك فهارس هذه التصنيفات، بل تفصح عنها طبيعة البحوث المدوّنة؛ فلو قارنّا مثلاً قاعدة نفي الضرر عند النراقي بقاعدة نفي الضرر في العناوين لوجدنا الفارق بيّناً والاختلاف كبيراً في منهج معالجة هذه القاعدة، كما سنرى قريباً، على أنّ أهمّ ما لدينا من تراث فقهي قواعدي يعود إلى هذه العقود الخمسة بالذات.
نعم، استمرّت حركة التطوير هذه في مجال القواعد الفقهية فيما بعد، لكن بشكل محدود؛ حتّى نجد المتأخرّين عنها عالةً على من ذكرناهم فيها، بل إنّ بعضهم لم يبدع في تغيير منهج البحث الذي ورثه عن النراقي ومعاصره صاحب العناوين، وإن كان هناك التفات خاص لتعميق الدلالات واستخراج الدقائق العلمية من بعض هذه القواعد.
وربما نستطيع اعتبار هذه الفترة منطلقاً لنشوء وازدهار البحث في النظريات الفقهية التي مهّدت الطريق للبحث عن النظم الفقهية قبل استقرار الدولة الإسلامية الحديثة بعقود، ونجد ترابطاً وثيقاً بين مراحل الحركة الفقهية بدءاً بفقه النصوص والمسائل الخاصة الفقهية التي انتظمت في أبواب فقهية معيّنة، ثم تطورّت باتجاه تقعيد القواعد وكشفها وتدوينها بشكل مستقل، ثم بلغت مرحلة البحث عن النظريات الفقهية؛ لتنتهي إلى الحديث عن النُظُم الفقهية للمجتمع الإسلامي، بحيث أصبح كتاب (اقتصادنا) أنموذجاً بارعاً في مجال بلورة النظرية الاقتصادية ثم بلورة النظام الاقتصادي الإسلامي.
من فقه المقاصد إلى فقه القواعد
إنّ القرآن الكريم، ثم نصوص أهل البيت ( ــ تبعاً له ــ هي المصادر الأولى التي اهتمت ببيان مقاصد الشريعة، غير أن الفقه بحسب ظروف خاصة أحاطت به؛ أخذ يبتعد عن الاهتمام بمقاصد الشريعة، ويركّز على تفاصيل الأحكام، حتى أغفل الفقهاء ــ في بعض المراحل من هذه الحركة الفقهية ــ الاهتمام بالمقاصد التي تشكل الإطار الأول للأحكام والنظريات، وإغفالها موجب لخروج الفقه عن الطريق المعدّ له.
من هنا، وحين نتتبّع هذا الاهتمام بالمقاصد عند فقهائنا، نجد الشهيد الأول ممّن أدلى بدلوه الكبير واهتم بهذا الحقل اهتماماً رائعاً، كما جاء في كتابه النفيس (القواعد والفوائد)، فقد ركّز بشكل عام على المقاصد الشرعية، كما في القواعد رقم (4، 5، 6)؛ حيث ربط القواعد الشرعية بالمقاصد، وجعلها كلها مصاديق وطرقاً لتحقيقها، وهي ــ أي المقاصد ــ التي تتلخص في جلب النفع ودفع الضرر عن الإنسان في الآخرة
والدنيا بشكل أساس، ووزّعها على مجالات خمسة: النفس والدين والعقل والنسب والمال، ولعلّ في عبارة المقداد السيوري السابقة، من أنه <يشتمل على قواعد وفوائد في الفقه، تأنيساً للطلبة بكيفية استخراج المنقول من المعقول>، إشارة واضحة إلى هذا المنحى المقاصدي.
وعليه، يمكن القول: إنّ الاتجاه العام في قواعد الشهيد الأول كان الاهتمام بالقواعد الفقهية على أساس الاهتمام بالمقاصد الشرعية، وهي حقيقة مهمة وأساسية لا يمكن إغفالها عند دراسة القواعد الفقهية من خلال النصوص الدينية التي وردت حولها، ويشهد لذلك قلّة اعتماده للنصوص التي تكفّلت بيان هذه القواعد إذا ما قسنا ذلك بما جمعه المتأخرون من النصوص حول كلٍّ منها، بينما سار المحقق القمي باتجاه كيفية اقتناص القاعدة الفقهية من النصوص المأثورة؛ كما جرى معه في قاعدة نفي الضرر، وتكفي مقارنة بسيطة بين النصّين: نص الشهيد الأول ونص المحقق القمي؛ لفهم هذا الانتقال.
وقد جاء بحث الفاضل النراقي لقاعدة نفي الضرر على أعتاب هذا الاتجاه الجديد، فقد اتبع منهج المحقق القمي وطوّره، متجهاً إلى فقه النصوص المأثورة وكيفية معالجتها؛ لاقتناص قاعدة فقهية ذات مستند منصوص في روايات الفريقين.
وقد كان الشهيد الأول ذكر ــ بشكل عام ــ أنّ القواعد تستند إلى الكتاب والسنّة والإجماع والعقل، وذكر منها قاعدة نفي الضرر، وأشار في مطاوي بحثه عن مصاديق هذه القاعدة إلى آية قرآنية واحدة، لكنّ القرآن الكريم حافل بآيات تكلّمت عن نفي الضرر([1])، لم يُشر إليها أي واحد من هؤلاء الفقهاء، بدءاً بالشهيد وانتهاءً بالنراقي والمير فتاح والشيخ الأنصاري، فهل في ذلك ما يردّ الاستدلال بها، أم أنّها الغفلة، انسياقاً مع الاتجاه الإخباري في التغافل عن كتاب الله، والاهتمام بنصوص الحديث فقط، أم أن نصوص الكتاب ذات إجمال فيما نصوص الحديث ذات بيان وتبيان؟
التقعيد الفقهي بين القمي (1232هـ) والنراقي(1245هـ)
يتجلّى الموقع المتميز للفاضل المولى أحمد النراقي في مجال تدوين القواعد الفقهية بوضوح حينما نقارن بحوثه مع من سبقه من كبار تلامذة الوحيد البهبهاني، كالمحقق القمي، وكذلك حينما نقارنها مع من عاصره كالمير فتاح الحسيني.
ويمكن أن نستشهد بما أنجزه المحقق القمي في مجال قاعدة نفي الضرر كمصداق من مصاديق هذا البحث المقارن من جهة، وما أنجزه المير فتاح في نفس هذه القاعدة من جهة أخرى؛ باعتباره قد سبق المير فتاح وتأخّر عن الميرزا القمّي.
أما المحقق القمي الذي يعدّ إنجازه ثالث إنجاز ــ حسبما اطّلعنا عليه ــ في مجال قاعدة نفي الضرر بعد الشهيد الأول (786هـ) والفاضل التوني (1059هـ)، فإننا نجده يحاول تقديم مادة فقهية مستندة ومشروحة حول القاعدة، بعد أن كان الشهيد قد اكتفى بطرحها مشيراً إلى مصدرها فقط، وبعد أن كان الفاضل التوني قد تعرّض لفقه حديث: <لا ضرر ولا ضرار> بشكل مقتضب جداً مع محاولة إقحامها في البحث الأصولي في وافيته، متكلّماً عن دلالة الحديث بشكل مختصر جداً، بينما نرى المحقق القمي يقوم بشرح الحديث ويبين تعدّد طرقه ومصادره، وفي هذا دعم لمستند القاعدة، ثم يقارن القاعدة المستفادة منه مع الأصول العملية وسائر الأدلة الفقهية؛ ليبيّن موقع القاعدة في عملية الاستنباط؛ ويجيب عن الإشكالات المتصوّرة أو المطروحة عليها، كما يتعرّض لتطبيقاتها بشكل إجمالي.. هذا كلّه في كتابه: القوانين المحكمة، في ذيل البحث الذي طرحه الفاضل التوني في مبحث أصالة البراءة؛ فالمحقّق القمي أدخل البحث عن قاعدة نفي الضرر في مرحلة جديدة؛ فكان له قصب السبق في هذا المجال.
لكنّ هذا التطوير حظي بتطور كمّي وكيفي في منهج البحث على يد أحمد النراقي، واستمرّ هذا التطوير ــ بشكل أو بآخر ــ بعد أن أرسى دعائمه، حتى نجد أن ملامح إنجاز النراقي تهيمن على كل ما كُتبَ من بعده، بدءاً بتلميذه الشيخ الأنصاري وحتى يومنا هذا.
مقارنات في التقعيد الفقهي بين النراقي والمراغي والأنصاري، <لا ضرر> أنموذجاً
غير أن المير فتاح الحسيني الذي تلمّذ على يدي شيخيه العظيمين من آل كاشف الغطاء: موسى وعلي، ابني الشيخ جعفر الكبير، اختلفت معالجته للقاعدة المبحوث عنها، أي قاعدة نفي الضرر.
فقد قال الشيخ النراقي: <قاعدة في نفي الضرر والضرار. قد شاع استدلال الفقهاء في كثير من المسائل الفقهية بنفي الضرر والضرار، وتحقيق المقام يستدعي رسم أبحاث: البحث الأول في نقل الأخبار الواردة في ذلك المضمار>، بينما قال مير فتاح في العناوين: <عنوان من جملة الأصول المتلقّاة من الشريعة: قاعدة الضرر والضرار، وهو من القواعد الكثيرة الدوران، العامة النفع، ويبتني عليه كثير من الفروع في الفقه، إلاّ أن الإجمال المخلّ إنما هو في معناه وفي كيفية دلالته، ولهم في ذلك كلمات كثيرة، والذي ينبغي البحث في ذلك، تنقيح المراد منه بحسب ما يستنبط من كلمة الأصحاب؛ لأنها المعيار في أمثال الباب، فلابد أولاً من ذكر المقامات التي استندوا فيها إلى قاعدة نفي الضرر حتى يتضح من مجموعها ما ينبغي أن يقال في ضبط المعنى والمراد وتحرير الاستدلال؛ ليكون جامعاً بين النصّ والفتوى>.
فالنراقي يركّز على النص، بينما يركّز المراغي على النص والفتوى، ويبدأ النراقي بالنص، بينما يبدأ المراغي بموارد الاستدلال والاعتماد على هذه القاعدة في أبواب الفقه، ويقوم بعملية استقراء في جولة مفصّلة لكل أبواب الفقه؛ ليرى رأي الفقهاء فيها من خلال استعمالهم لها، ويعتبر تداول الفقهاء لها وموارد الاستناد إليها الغرض الأهم للفقيه، بينما يقف النراقي عند تحليل النص الوارد في هذا المضمار، ولا يعير أهميّةً لفهم الفقهاء أو استدلالهم بها في الموارد الكثيرة التي استندوا إليها في عامة أبواب الفقه، وهذا فارق منهجي ملفت للنظر، يفرز نتائج خاصّة في عملية الاستنباط بشكل عام.
أما سائر النقاط التي تعرض لها النراقي بعد استعراض روايات نفي الضرر التي أنهاها إلى إحدى عشرة رواية فهي: 1 ــ معنى الضرر والضرار لغةً، وموارد استعمالهما في العرف واللغة. 2 ــ معنى نفي الضرر والضرار وبيان المحتملات في معنى الضرر، وبيان نتاج كلّ احتمال. 3 ــ إنّ نفي الضرر أصل وقاعدة ثابتة بالأخبار المستفيضة وغيرها من أصول التشريع. 4 ــ معالجة حالات التعارض بين هذه القاعدة وسائر الأدلة. 5 ــ مفاد نفي الضرر هو نفي الحكم لا إثبات حكم وتعيينه، ومناقشة ما ارتكبه كلّ من الفاضل التوني والمحقق القمي في هذا المجال. 6 ــ الملاك في تحديد الضرر المنفي. 7 ــ موارد تعارض نفي الضرر مع دليل آخر. 8 ــ التكاليف الشاقة الضررية ظاهراً، وعلاقتها بدليل نفي الضرر، ومناقشة المحقق القمي في ذلك. 9 ــ ما يكون جبراً للضرر، ومدى دخوله في مورد تعارض الضررين. 10 ــ حكم الإذن بالضرر.
أما منهج المير فتاح المراغي، فيتلخّص فيما يلي:
1 ــ استقراء موارد تعرّض الفقهاء للقاعدة وتطبيقاتها؛ لاستنتاج معنى عاماً. 2 ــ تعريج على مستندهم لها، وهي الأخبار المتواترة، مضيفاً إليها دليل العقل. 3 ــ ذكر المعنى اللغوي من مصادر اللغة. 4 ــ التعرض لموارد الضرر من الأعيان والمنافع والحقوق والنفس والبدن والعرض، والضرر بالفعل والقوة. 5 ــ بيان المراد من نفي الضرر، ومناقشة القمي وصاحب العوائد في ذلك. 6 ــ بحث مدى قبول القاعدة للتخصيص، مع مناقشتين ــ من جهتين ــ للقمي والنراقي. 7 ــ قبول الإذن وعدمه. 8 ــ مناقشة النراقي في إثبات القاعدة للحكم. 9 ــ مناقشته لتعارض الضررين. 10 ــ تعارض القاعدة مع مفاد عموم سلطنة الناس على أموالهم.
أمّا المحقق المدقق الشيخ الأعظم الأنصاري، الذي تتلمذ على الفاضل النراقي، فقد لخّص رسالتي: النراقي والمراغي وهذّبهما، وإن اتبع المنهج العام للنراقي، مناقشاً من سبقه، لكنّ الفضل يعود لهذين العَلَمين اللذين تباريا في هذا المضمار وقدّما للفقهاء ثمرة جهدهما العلمي من الفكر والإبداع.
خلاصة واستنتاج
ما نستخلصه ــ بعد المقارنة ــ هو ضرورة الاهتمام بالمنهج العلمي المتكامل الذي رسم كلّ واحد وكل مجموعة من الفقهاء القدامى والمحدثين بعض خطوطه العريضة، ويتلخّص ــ في مجال البحث عن القواعد الفقهية ــ بما يلي:
1 ــ استقصاء كامل لمقاصد الشريعة في الكتاب والسنّة مع تمييز العام منها.
2 ــ استقصاء القواعد الفقهية وتنظيمها بشكل هرمي يجمع القواعد العامة لكل مجالات الحياة وأبواب الفقه إلى جانب القواعد الخاصة بكل مجال وباب فقهي.
3 ــ التركيز على كتاب الله؛ لاستخراج القواعد من نصوصه مباشرة أو عبر مصاديقها، وكذا نصوص السنّة، ودراستها سنداً ودلالة.
4 ــ مقارنة ما أفرزته نصوص الكتاب مع ما أفرزته نصوص السنّة، وملاحظة المقاصد التي تشكّل الإطار العام لكل التشريعات؛ لئلا نخرج في فهمنا واستنباطنا عن ذلك الإطار الذي حدّدته نصوص الكتاب والسنّة.
6 ــ الاهتمام بالمصاديق والفروع التي جاءت في الكتاب والسنّة، ثم الفروع التي ذكرها الفقهاء، وملاحظتها ضمن الإطار العام الذي حدّدته النصوص الدينية.
7 ــ الفهم الاجتماعي للنصوص أصلٌ لابد منه، بمعنى ضرورة رؤية هذه النصوص من زاوية كون الإسلام ديناً أبدياً اجتماعياً، يصلح لكل المجتمعات البشرية على مدى الأجيال، فهذه جميعاً قرائن لُبيّة في فهم النصوص الدينية، تؤثر في كيفية استنباط الأحكام منها.
على أن للقرآن الكريم مميزاته التي تفرض علينا اتباع منهج خاص لفهم نصوصه، منهج يستند إلى الأصول التي طرحها هو، بوصفه كتاباً جاء لهداية البشرية، وتضمّن منهجاً خاصاً لتبيان الحقائق وهداية الإنسانية.
إنّ تعدد جوانب الحياة واتساع دائرة التخصصات تفرض علينا التخصص إلى جانب الموسوعية والإحاطة عند دراسة النصوص، لضرورة اجتناب المنهج التجزيئي الذي قد يؤدي إلى مسخ الحقائق أو تحويرها؛ انطلاقاً من الفهم الناقص والخاطئ أو الفهم المتأثر بالأهواء والرغبات وما تفرضه المرتكزات الخاطئة والعادات.
* * *
الهوامش
(*) باحث مهتم بالتراث الإسلامي، من العراق.
([1]) راجع الآيات: 282، 230 ـ 234 من سورة البقرة والطلاق، والنساء: 12، 95، 113 وغيرها من الآيات التي اشتملت على اشتقاقات هذه المادّة.