د. الشيخ حسين الخشن(*)
1ـ ظاهرة الحلم: المفهوم، والأصناف
الحلم ظاهرة إنسانية مميزة وملفتة. وقد وقعت محلاًّ للبحث والدرس من قبل الحكماء والفلاسفة وعلماء النفس وعلماء الدين وغيرهم. وقد كتب عنها كثيراً، وألّفت فيها العديد من المؤلَّفات التي تناولت هذه الظاهرة من أكثر من زاويةٍ؛ في محاولة لتفسير المنام، وبيان أبعاده ودلالاته، وفكّ رموزه.
المنام وعلم النفس
فعند علماء النفس يعبِّر الحلم «عن نشاط عقلي يحدث أثناء النوم، ويتمثل في سلسلة من الصور والأحداث التي تظهر في صورٍ من الخيال، والتي يمكن أن يكون لها معنى نفسي أو محتوى يمكن تفسيره وتأويله». ويرى المحلِّلون النفسيون أنّ الحلم يحقق إشباعاً رمزيّاً للرَّغَبات، ومن ثمّ فهو طريق إلى التفريغ بما يؤدّي دوراً إيجابياً في التوازن النفسي. وللحلم محتوى ظاهرٌ من الأفكار والخيالات والأحداث، كما يذكره الشخص الحالم، كما له محتوى كامن يتكوّن من الرغبات المكبوتة، التي يتمّ التعبير عنها بطريقةٍ غير مباشرة في المحتوى([1]).
أنواع الحلم
للحلم أنواعٌ أو مستويات متعدِّدة؛ فهو تارةً يكون حلماً محقِّقاً لرغبة، ويقال: إنّ كثيراً من الأحلام لدى الأطفال تكون كذلك، فإذا وعده والده بشراء درّاجةٍ له قد يرى في الحلم أنّه يركب دراجةً، ويلعب عليها.
وتارةً أخرى يكون محقِّقاً لحاجةٍ بيولوجية، كحلم الشاب الذي تلحّ عليه الغريزة الجنسية، فتراه يحلم بما يشبع غريزته، وهذا ما عبَّر عنه القرآن الكريم في قوله: ﴿وَإِذَا بَلَغَ الأَطْفَالُ مِنْكُمْ الْحُلُمَ﴾ (النور: 59). وهكذا قد نرى النائم العطشان يحلم بالماء، أو بالبحث عن الماء.
وثالثةً يكون الحلم محافظاً على النوم، حيث تتحوّل فيه المثيرات الخارجية إلى حلم، مثل: مَنْ ينام، ثم يجتمع أناسٌ حوله، ويخوضون في بعض الأحاديث، فلكي يستطيع النائم الاستمرار بالنوم يُدخل حديثهم في حلمٍ يتماهى معه.
ورابعةً يكون الحلم استعادة ـ بطريقةٍ أو بأخرى ـ لما يسيطر على المرء من هواجس أو أفكار، أو ما يشغل باله من هموم. فإذا كان المرء يخاف من عدوٍّ أو سبع فإنه يراه في منامه، كما تؤكِّد ذلك التجارب. وقد أشارت بعض الروايات إلى هذا الصنف من الأحلام، ففي الحديث عن موسى بن جعفر، عن أبيه، عن آبائه، عن رسول الله|: «الرؤيا ثلاثة: بشرى من الله؛ وتحزين من الشيطان؛ والذي يحدّث به الإنسان نفسه، فيراه في منامه»([2]).
الرؤيا
ومن أنواع الحلم وأقسامه: الرؤيا. ولفظ الرؤيا وإنْ كان قد يأتي، ولا سيَّما في كلمات اللغويين، مرادفاً للحلم في المعنى، إلاّ أنّه قد شاع استخدامها في نوعٍ خاصّ من الأحلام، وهي الأحلام الصادقة، حتّى صارت اصطلاحاً في ذلك([3]). ويمكننا القول: إنّ الرؤيا الصادقة هي التي تتعطّل فيها قوانين المكان والزمان، حيث يجتاز فيها النائم حاجز الغيب الزماني، ليرى أشياءً قبل حدوثها، أو يجتاز حاجز الغيب المكاني فيرى أشياءً قد وقعت في مكانٍ بعيد عنه، ثم يتبين أنّ ما رآه قد وقع فعلاً. وهذا ما ربما يشير إليه الحديث النبوي الشريف: «إنّ الرؤيا من الله؛ والحلم من الشيطان»([4])، وفي حديث آخر عنه|: «إن الرؤيا الصادقة جزءٌ من سبعين جزءاً من النبوّة»([5])، وعن رسول الله| أيضاً: «لم يبْقَ من النبوة إلاّ المبشِّرات، قالوا: وما المبشِّرات؟ قال: الرؤيا الصالحة»([6]).
2ـ دور المنام في المعرفة الإسلامية
نقولها بكلّ حسمٍ ووضوح: ليس للمنام أيّ دور في بناء المعرفة الإسلامية في شتّى حقولها ومجالاتها، تماماً كما لا دور له في أيّ حقلٍ معرفي آخر. أترى أنّ علماء الطبّ أو الفلك يعتمدون الحلم أو المنامات في اكتشاف النظريات العلمية، أو تشخيص الأمراض، أو تحديد الموضوعات ذات الصلة؟! بالتأكيد لا يفعلون ذلك([7]). وكذلك هو الحال في المعارف الدينية؛ فإنّ المنامات لا تصلح لإثبات شيءٍ أو نفيه. وإليك التفصيل:
أـ علم العقيدة
فالمعتقدات الدينية لا تُبنى إلاّ على أساس العقل والوحي، ولا يمكننا أن نبرهن على عقيدةٍ معينة، أو نثبت مصداقية دينٍ من الأديان أو مذهب من المذاهب، على أساس الرؤى والمنامات. أجل، لو أنّ شخصاً رأى مناماً، وحصل له بموجبه اليقين في أمر عقدي معيّن، فإنّ ذلك قد يصلح أن يكون معذِّراً له، لكنّ هذا لا يعني حجّية المنام، أو كونه مصدراً للمعرفة.
ب ـ علم الفقه
والأحكام الشرعيّة لا يمكن إثباتها أو الاستدلال عليها بالأحلام، وإنّما هناك مصادر معروفة للإثبات الفقهي. ورحم الله الشيخ جعفر كاشف الغطاء حيث نقل عن بعض الأخباريّين أنهم استدلّوا على حرمة شرب التتن (التدخين) بأحلام بعض الصالحين، ثمّ ردَّهم بالقول: «إنّ الأحلام لا تكون شواهد الأحكام، باتفاق علماء الإسلام»([8]).
وبالإضافة إلى كون المسألة ـ أعني عدم حجّية المنام ـ في المجالين العَقْدي والفقهي موضع تسالم عند علماء المسلمين، فإنّه يكفينا دليلاً على عدم حجّية المنام فيهما: عدمُ الدليل على الحجّية. ولو شكّ في حجّية أمرٍ فلا يعتنى بالشكّ. وقد اشتهر في كلمات الأصوليين «أنّ الشكّ في الحجية يساوق عدمها». وأضِفْ إلى ذلك أنّه قد ورد في الحديث الصحيح عن الإمام الصادق×، تعليقاً على ما روي بشأن الأذان، وأنّه رؤي في النوم من قبل بعض الصحابة، فقال×: «كذبوا؛ فإنّ دين الله عزَّ وجلَّ أعزّ من أن يُرى في النوم»([9])، و«دين الله» شاملٌ لكافّة المفاهيم الدينية والمعتقدات والأحكام الشرعية، فهذا الدين هو أعزّ وأكرم وأشرف من أن يُرى في النوم، وإنّما هو وحيٌ من الله تعالى.
موضوعات الأحكام
وكما لا يصحّ اعتماد المنام في إثبات الأحكام الشرعية لا يصحّ اعتماده في إثبات موضوعات الأحكام، كإثبات النجاسة أو الطهارة، أو كرّيّة الماء، أو إثبات بداية الشهور الهلاليّة، أو غيرها من موضوعات الأحكام.
ج ـ المنام والتثقيف العامّ
ويستخدم الكثير من الوعّاظ المنامات مادّةً للتثقيف العام، كمرغِّبات ومبشِّرات، أو منذرات ومخوِّفات، أو لاستدرار الدمعة، كما يفعل الخطباء وقرّاء العزاء. ومع أنّ ذلك ليس مرفوضاً رفضاً باتّاً، ولا محرَّماً في ذاته، لكنّ للمسألة بعداً سلبياً، وهو أنّ الاستشهاد بالمنامات غدا يلامس حدّ الظاهرة المنتشرة، التي يلجأ إليها البعض؛ ربما بسبب ضحالتهم الفكرية، أو في محاولة منهم للتهرُّب من إشكاليات السند ومسؤولية التوثيق، أو لأنّ المنامات يتمّ حبكها بطريقةٍ مؤثِّرة جدّاً. والخطورة في ذلك:
أوّلاً: إنّا نخشى من أنّ ذلك سيطبع ثقافتنا الإسلامية، لتغدو ثقافة أحلام ومنامات، مع أنّ الاستشهاد بالقرآن الكريم والسنّة الشريفة وما تضمَّنا من مواعظ وحكم يغني عن المنامات والأحلام، بل هو أبلغ تأثيراً وأوقع في النفوس من الأحلام. هذا لو كانت صادقةً، وإلاّ فسيقع الخطيب في محذور الكذب أيضاً.
ثانياً: إنّ الكثير من المنامات التي يتمّ تداولها على المنابر المختلفة تشتمل على بعض المفاهيم القلقة أو القِيَم المنافية للمبادئ الإسلامية، أو المجانبة لبعض الأحكام الشرعية، كما في رؤيا ذاك اللصّ الذي أراد سرقة قافلة الزوار المتجِّهين لزيارة أبي عبد الله×، حيث غفَتْ عيناه أثناء مرور القافلة، فرأى في المنام أنّه واقفٌ للحساب بين يدي الله، وإذا بالمنادي ينادي بإدخاله إلى الجنّة، أَتدْرُون لماذا؟ لأنّه وأثناء مرور القافلة المذكورة وقع عليه شيءٌ من غبار زوّار الحسين×. فهذا منامٌ قد يثير مشكلة عقدية تتّصل بمسألة العَدْل الإلهي، كما أنّه قد يزهِّد الإنسان في العبادة وعمل الخير، ويشجِّعه على ارتكاب المعاصي؛ إذ ما دام لغبار زوار الحسين× مثلَ هذا التأثير العجيب يوم الحساب فلا حاجة بعدها لأيّ عمل. ولذا نرى الشهيد مطهَّري يردّ على هذا المنام وأمثاله، ويعتبره من مصاديق التحريف المعنوي للثورة الحسينية([10]).
د ـ وسائل الإثبات القضائي
ومن المجالات التي لا يجوز اعتماد المنام فيها: المجال القضائي، فلا يجوز إصدار الأحكام أو اتّهام الشهود أو تبرئة المتَّهمين على أساس الرؤى والأحلام. فالقاضي ملزمٌ باعتماد المنهج النبوي الشريف في القضاء، طبقاً لما ورد عنه|: «إنما أحكم بينكم بالأيْمان والبيِّنات»([11]). فإذا قُتل شخصٌ، ولم يُعرَف قاتله، إلاّ أنّ ابنه ـ مثلاً ـ رآه في المنام وهو يخبره بأنّ فلاناً هو الذي قتلني، فلا يجوز له، ولا للقاضي، التعويل على هذا المنام، وترتيب الأثر عليه شرعاً، حتّى لو كان الرائي هو القاضي نفسه، وحتّى لو تكرَّرت رؤية المنام لأكثر من مرّةٍ.
وهكذا لا يجوز لك اتّهام الآخرين على أساس المنام. فلو سُرق لك متاع، ورأيت في المنام مَنْ يخبرك أنّ فلاناً هو السارق، فلا يجوز لك اتّهامه ورميه بالسرقة. وهكذا لا يجوز للزوج رمي زوجته بالخيانة الزوجيّة، استناداً إلى أنّه رآها هو أو غيره في المنام وهي تخونه.
هـ ـ إثبات النَّسَب
ولا يمكن الاعتماد على الأحلام في إثبات النسب. فإذا رأى رجلٌ في المنام أنّه يُسلِّم على السيدة الزهراء÷ فلا يمكنه أن يستنتج من ذلك أنّه «سيِّدٌ»، ومن نسل رسول الله|. وهكذا لو رأَتْ المرأة أنّها تسلِّم على رسول الله|، فلا يجوز لها أن تستنج أنها من نسل النبيّ|؛ لأنّ وسائل إثبات النَّسَب معروفة، والمنام ليس منها، حتّى لو أفاد اليقين. ويكفي دليلاً على عدم الحجّية في المقام فقد الدليل على الحجّية، تماماً كما أنّ علم الرَّمْل أو الجَفْر أو نحوها من العلوم الغريبة ليست حجّةً في هذه المجالات.
وـ بناء المقامات الدينيّة
وهكذا لا يمكن الاستناد إلى الأحلام والمنامات في بناء المقامات الدينيّة. فإذا رأى أحد المسلمين في المنام أنّ ثمّة نبياً من الأنبياء^ مدفوناً في مكانٍ معين فلا حجّية لهذا المنام شرعاً في تبرير زيارة هذا القبر، أو عمارة مشهدٍ لصاحبه، باعتباره قبر نبيّ. وهكذا لو رأينا في المنام صحابيّاً أو وليّاً ممَّنْ لم يعرف مكان دفنه فأخبرنا أنّه مدفونٌ في المكان الفلاني، فلا يجوز التعويل على المنام.
ز ـ إثبات الحقائق التاريخيّة
للأحداث التاريخية وسائل خاصّة لإثباتها، ومنهجٌ خاصّ للتعرُّف عليها، وليس المنام من هذه الوسائل. فعندما يقع البحث عن أنّ هذا الأمر التاريخي أو ذاك قد وقع على عهد الرسول| أو الإمام عليّ× أو السيدة الزهراء÷ أو غيرهم، أو أنّه لم يقع، فعلينا الرجوع إلى المصادر التاريخية. أما إذا رأى أحدهم مناماً يخبره بوقوع هذه الحادثة فلا قيمة لهذا المنام في الإثبات أو النفي. هذا فضلاً عن أن يستخدم البعض المنام بهدف ثني العزائم عن تحقيق تراثنا وتاريخنا، كما هو الحال في المنام الذي يردِّده بعض قرّاء العزاء عن أنّ عالماً من العلماء همَّ بتحقيق يوم وفاة الزهراء÷، الذي اختلفت فيه الأقوال على ثلاثة، فجاءَتْه÷ في المنام، وقالت له: «يا فلان، هل استكثَرْتَ أن يبكي المؤمنون على مصيبتي في ثلاثة أيّام أو مناسبات؟! فانصرف عمّا عزم عليه»!
ح ـ المنام والتنبُّؤ بالمغيَّبات
وهل يجوز اعتماد المنام في التنبُّؤ بالمغيَّبات، والتعرُّف على حوادث المستقبل؟
الجواب هو بالنفي، حتّى لو كانت بعض المنامات صادقة ومصيبة؛ لأنّ الإصابة ليست مطّردة، والإصابة مرّةً لا تعني الإصابة مرّةً أخرى، والغيب لا يعلمه إلاّ الله تعالى، أو مَنْ ارتضاه من رسول، قال الله تعالى: ﴿وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاَسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ﴾ (الأعراف: 188). ومن هنا فما يعتقده البعض من أنّ هذا العصر هو عصر ظهور الإمام المهديّ#، استناداً إلى رؤيا عالمٍ أو مؤمن رأى فيها الإمام×، وأخبره بذلك، هو كلامٌ لا يمكن التعويل عليه.
ط ـ ترتيب الآثار العمليّة
ليس هناك ما يلزم الإنسان شرعاً بأن يرتِّب أثراً عملياً على المنام. فلو رأى في المنام أمراً مزعجاً، وكان ناوياً للسفر ـ مثلاً ـ، فليس عليه الامتناع عن السفر، بل له أن يسافر دون أن يبالي بالمنام. ويمكنه أن يدفع الوحشة النفسيّة بالصَّدَقة، وله أيضاً أن يؤخِّر السفر إلى وقتٍ آخر، لكنْ لا من منطلق حجّية المنام، وشريطة أن نحاذر من أن يتحوَّل هذا الأمر ـ وهو ترك السفر تعويلاً على المنام ـ إلى سلوكٍ دائم، بما قد يربك حياة الإنسان.
وربما يأتيك بعض الأشخاص، ويقصّ عليك مناماً مفاده أنّه رأى أباه أو أخاه يُعذَّب في النار، أو أنّه غير مرتاح، ويسأله: لماذا أنتَ كذلك؟ فيقول له مجيباً: إنني أُعذَّب؛ لأنّني مدينٌ لفلان، أو لأنّي لم أصلِّ جيداً، أو لأنّي لم أحجّ، ففي مثل هذه الحالة ربما يَحْسُن بالإنسان أن يصلّي عن والده الميت أو يحجّ عنه، وهذا من مصاديق صلة الأرحام المطلوبة حتّى بعد الموت، ولكنْ هل يجب عليه شرعاً ذلك؟ الجواب: لا، فلا يجب عليك أن تدفع لفلان مالاً، ولا يجب عليك أن تصوم أو تحجّ عنه.
3ـ المنامات المبشِّرات
هل يعني ما تقدَّم أنّ المنام لا قيمة له على الإطلاق في ميزان الشَّرْع والدِّين؟
الجواب: خارج المجالات المشار إليه، والتي ذكرنا أنّه لا مجال للتعويل على المنام فيها، فإنّ للمنام جملةً من الفوائد الدينية، ومن أهمّها:
1ـ إنّه يمكن اعتباره آيةً على عظيم قدرة الخالق، ومؤشِّراً قويّاً على تأكيد مبدأ الغيب؛ إذ كيف لنا أن نفسِّر ما يراه النائم من أحداث أو صور بعيدة عن ناظريه ولم يكن على معرفةٍ بها ومن ثمّ تأتي رؤياه مطابقة للواقع؟ أليس هذا مؤشِّراً على أنّ ثمّة عالماً آخر يتجاوز عالم الحسّ والمادّة المألوف لنا.
2ـ وبالإضافة إلى ذلك، فإنّ المنام يمكن أن يكون بشارة للإنسان المؤمن. وهذا ما أشارت إليه الأحاديث. ففي الخبر الصحيح، عن أبي عبد الله×، قال: «الرؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن؛ وتحذير من الشيطان؛ وأضغاث أحلام»([12]).
ورُوي عن رسول الله|، من طرق أهل السّنة، أنّه قال: «الرؤيا ثلاث: فبشرى من الله؛ وحديث النفس؛ وتخويف من الشيطان. فإذا رأى أحدكم رؤيا تعجبه فليقصّها إنْ شاء، وإنْ رأى شيئاً يكرهه فلا يقصّه على أحدٍ، وليقُمْ ويصلّي»([13]).
وفي حديثٍ آخر عنه| قال: «إنّ الرؤيا ثلاث: منها أهاويل من الشيطان؛ ليحزن ابن آدم، ومنها ما يهمّ به الرجل في يقظته فيراه في منامه، ومنها جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوّة»([14]).
إذن إنّ أحد أنواع الرؤيا ـ وفقاً لهذه الأحاديث ـ هي البشرى من الله، وذلك بأن يبشِّره الله من خلالها بمستقبلٍ أخروي طيِّب، أو مستقبلٍ دينيّ جيِّد، بالنسبة إليه أو إلى أحد أبنائه.
إلاّ أنّه يواجهنا هنا غالباً مشكلةٌ صعبة، وهي مشكلة التمييز بين هذه الأنواع. فإذا رأى المسلم أنّه مع الرسل والأولياء في جنات النعيم فقد يكون هذا بشرى حقيقية، إلاّ أنّ الجزم بذلك والاطمئنان إليه مشكلٌ؛ إذ ما الذي يمنع أن تكون هذه الرؤيا هي وسوسة شيطانية تهدف إلى إغراء الإنسان، وإيقاعه في العُجْب أو الكِبْر، أو لإيهامه أنّه صاحب مكانةٍ دينية متقدّمة، فتضعف همَّته عن العمل الصالح؟ إنه لا يمنع مانعٌ من ذلك، ما دام أنّ للشيطان نوعاً من السبيل على الإنسان، ويتمكَّن من أن يوسوس له في اليقظة والنوم، كما يستفاد من الروايات المتقدّمة.
الرؤيا الصادقة
ولهذا ينبغي للإنسان أن يبقى على حَذَرٍ في أمر الرؤيا، وأن لا يركن إليها، إلاّ إذا صدَّقها الواقع، كما لو رأى في المنام أنّ ثمة كنزاً مدفوناً في مكانٍ ما، فذهب وحفر، وعثر على الكنز فعلاً، فهذا منامٌ صادق، وهو توفيقٌ من الله، ورزقٌ ساقه إليه. ومثله: لو رأى الرجل العقيم (الذي لا ينجب في منامه) عبداً صالحاً يبشِّره بأنّه سوف يولد له ولدٌ ذكر أو أنثى، ومن ثمّ يجري الأمر على طبق ما أخبر في المنام. وهكذا لو رأت الأم أنّ ابنها المفقود منذ زمنٍ آتٍ إليها بعد أيّام، ومن ثمّ تَصْدُق الرؤيا. أو يرى المريض الميئوس من شفائه وليّاً من الأولياء يخبره بأنّه سوف يُشْفى، ويعيش عمراً طويلاً، وبالفعل تجري الأمور على طبق الرؤيا([15]). فهذه الرؤى الصادقة موجودةٌ، ولا ينكرها أحدٌ. ولعلّني لستُ مبالغاً إذا صنَّفتها في دائرة الألطاف الإلهية ببعض العباد، والتي يظهر الله فيها قدرته ولطفه، ويريهم أنّ ثمّة عالماً آخر، وقدرة أخرى هي فوق قدرتهم وطاقتهم، حتّى لا تجتاحهم المادّة، فينكروا وجود هذا العالم الغيبي، ويغفلوا عن قدرته تعالى وألطافه.
4ـ رؤيا الأنبياء وحيٌ
ما تقدَّم من كلام عن نفي أيّ دورٍ للرؤيا في بناء الثقافة الإسلامية إنّما هو بالنسبة لرؤيا الأشخاص العاديين. لكنْ ماذا عن رؤيا الأنبياء؟
من المهمّ ـ في البَدْء ـ أن نشير هنا إلى أنّ رؤيا الأنبياء هنا تنطبق على معنيين:
الأوّل: أن يرى النبيّ| نفسه شيئاً في المنام، فهل يكون منامه حجّة ووحياً، أم انّه كَمَنامنا نحن عندما نرى شيئاً؟
الثاني: أن نرى نحن النبيّ× أو الإمام× فاعلاً لشيءٍ، أو آمراً بشيء، أو ناهياً عن شيء.
والمعنى الثاني سيأتي الحديث عنه في المحور الثاني من هذا البحث، أعني مبحث تعبير الرؤيا.
أما في ما يتّصل بالمعنى الأول فنقول إزاءه: إذا كانت الرؤيا الصادقة للمؤمن العادي جزءاً من النبوّة فما بالك بما إذا كان الرائي نبيّاً من الأنبياء؟! فرؤياه هذه تختلف عن رؤيانا تمام الاختلاف. والمعروف عند المسلمين أنّ رؤيا النبيّ× هي وحيٌ؛ لأنّ الله تعالى يوحي للنبيّ× من خلال عدّة طرق؛ إما بالتكليم بالواسطة؛ أو التكليم المباشر؛ أو من خلال إرسال الرسول الخاصّ، وهو المَلَك، قال تعالى: ﴿وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ﴾ (الشورى: 51).
ومن جملة طرق الوحي إلى النبيّ× أيضاً: الرؤيا، كما في رؤيا نبيّ الله إبراهيم أنّه يذبح ولده إسماعيل، فإنّ ذلك كان وحياً إلهيّاً، ولذا بادر إبراهيم الخليل× إلى امتثاله، وسلَّم إسماعيل× لذلك، قال تعالى: ﴿فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللهُ مِنْ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ﴾ (الصافات: 102 ـ 105)، وفي الحديث عن أمير المؤمنين×: «رؤيا الأنبياء وحيٌ»([16]). وعليه فلا تُقاس رؤيا الأنبياء برؤيا سواهم؛ لأنّ رؤيا النبيّ× أو الإمام× هي رؤيا صادقة، ولا مجال لدخول الشيطان فيها.
رؤيانا للنبيّ| أو الإمام×
أما المعنى الثاني، وهو رؤيانا للنبي× أو الإمام× وهو على حالٍ معينة، فهل هذه الرؤيا تكون صادقة دائماً، وإذا أمرنا النبيُّ أو الإمام× فيها بشيءٍ فهل يكون أمرُه واجبَ الاتّباع، ولا تجوز مخالفته؟
ربما يقال: نعم، هي رؤيا صادقةٌ، وكذلك هي حجّة؛ وذلك لما ورد في الحديث المرويّ، من طرق الفريقين، عن رسول الله|: «مَنْ رآني فقد رآني؛ فإنّ الشيطان لا ينبغي له أن يتمثَّل بمثلي»([17]). ورواه الشيخ الصدوق في العيون ومَنْ لا يحضره الفقيه، وفيه: «أن يتمثَّل بصورتي وصورة أحدٍ من أوصيائي».
ومع أنّ السيد المرتضى رمى هذا الحديث بالضعف، قائلاً: «هذا خبرُ واحدٍ ضعيفٌ، من أضعف أخبار الآحاد، ولا معوَّل على مثل ذلك»([18])، إلاّ أننا نلاحظ على كلامه بأنّ الخبر بعد كونه مرويّاً من طرق الفريقين، بأسانيد متضافرة، يمكن حصول الوثوق به.
ومع ذلك فإن هذا الحديث لا ينفع في المجال المعرفي؛ لعدّة ملاحظات:
الأولى: إنّ هذا الحديث لا ينفع شيئاً إلاّ أولئك الذين عايشوا المعصوم، وعرفوه، ورأَوْه رأي العين، دون مَنْ لم يَرَهُ ولم يعرف صورته؛ والوجه في ذلك أنّ قوله|: «مَنْ رآنا» لا ينطبق إلاّ على مَنْ عرف صورة النبيّ|، ليستطيع أن يقول: «أنا رأيت النبيّ في النوم»، وأمّا الصور التي نراها نحن ممَّنْ لم نَرَ المعصوم، ولم نعرف ملامحه وصورته، ويمثَّل إلينا أنّه المعصوم، فما الذي يدرينا أنّ مَنْ رأيناه هو المعصوم حقّاً، وأنّه النبيّ| أو الإمام×.
ولا يقال: إنّ ثمة صوراً منتشرة للنبيّ| في بعض الأوساط، أو لأمير المؤمنين×، ويتداولها بعض المسلمين، فيمكن القياس عليها.
إذ نجيب: هذه صور لا أساس لها من الصحّة، ولم تثبت صدقيَّتها، ولا يبعد أن يكون العمل التجاري هو الذي يقف خلفها.
الثانية: إنّ رؤيا النبيّ| أو الإمام× حتّى على فرض ثبوت أنّه النبيّ| أو الإمام× إذا تضمَّنت حكماً شرعياً أو عقدياً فلا يمكن التعويل عليها؛ لأنه قد ثبت بالدليل القاطع أنّ دين الله لا يُرى في المنام، كما مرَّ في الخبر الصحيح، عن الإمام الصادق×، حيث قال: «إنّ دين الله عزَّ وجلَّ أعزُّ من أن يُرى في النوم».
إلى غير ذلك من الملاحظات التي سُجِّلت على هذا الحديث. وقد تناولتها بالبحث في كتاب: «في فقه السلامة الصحيّة، التدخين نموذجاً». وذكرنا هناك العديد من الوجوه التي تمنع من الاستدلال بهذا الحديث على حجّية قول المعصوم إذا رُؤيَ في المنام آمراً بشيءٍ أو ناهياً عنه أو فاعلاً له أو تاركاً له.
5ـ تعبير الرؤيا
ومن الأبحاث المهمّة في المقام هي القدرة على تفسير المنام، وفكّ رموزه؛ لأنّ المنامات والأحلام قد لا تكون واضحةً وجليّة، وإنّما تحتاج إلى تفسيرٍ وتعبير. فهل من طريقٍ إلى تعبير الرؤيا والمنام؟
والجواب: إنّ الإمكان أمرٌ لا شَكَّ فيه، وإنّما الكلام هو في صدقيّة التعبير وإصابته، وفي تحديد شروط المعبِّر، وشروط وضوابط التعبير نفسه، وتحديد الرؤيا القابلة للتعبير والتأويل. وهذا علمٌ قد لا يمتلك معظم الناس مفاتيحه.
يوسف ومعجزة تأويل الأحاديث
أجل إنّ بعض الأنبياء× كان يمتلك مثل هذا العلم. فهذا نبيّ الله يوسف× قد تميَّز بقدرته الاستثنائية على تعبير الرؤيا، ولكنّه لم يكتسب ذلك اكتساباً، وإنّما كان ذلك إلهاماً من الله تعالى، وتعليماً منه لنبيِّه|. قال تعالى، حاكياً عن لسان يعقوب×: ﴿وَكَذَلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: 6). والملفت أنّ هذا المعنى ـ وهو إسناد علم تعبير الرؤيا الذي كان يمتلكه يوسف× إلى الله وإلهامه ـ قد جاء في ثلاثة موارد في سورة يوسف، منها: المورد السابق؛ والمورد الثاني قوله تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الأَرْضِ وَلِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: 21)؛ والمورد الثالث ما جاء في ختام السورة: ﴿رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنْ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ (يوسف: 101).
إذن فيوسف الصدِّيق× قد امتلك علم تعبير الرؤيا وتأويلها، ولكنْ من خلال تعليم الله له ذلك. ولعلّ ذلك قد كان معجزةً ليوسف؛ إذ لم نجِدْ له معجزةً ظاهرة أخرى غير تعبير الرؤيا. وربما نستوحي من قوله تعالى: ﴿وَيُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الأَحَادِيثِ﴾ أنّ هذا الأمر يحتاج إلى تعليمٍ إلهيّ، وأنّه لا يُكتَسَب بغير ذلك، وإذا ناله أحدٌ بالاكتساب والتجربة فإنّه قد لا يكون مأموناً من الخطأ والاشتباه، كما سوف نبيِّن لاحقاً.
ثلاثة منامات ليوسف الصدِّيق×
وعند التأمُّل في سورة يوسف نجد أنّ هناك ثلاثة منامات تتّصل بيوسف الصدِّيق شكَّلت منعطفاتٍ أساسيةً في حياته×، وهي:
الرؤيا الأولى: وهي رؤيا شخصيّة ليوسف تتّصل به وبمستقبله، حيث رأى في صغره أحد عشر كوكباً والشمس والقمر ساجدين له، قال تعالى: ﴿إِذْ قَالَ يُوسُفُ لأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ﴾. وقد أحسّ والده يعقوب× بأهمّيّة هذه الرؤيا، ودلالتها على المكانة العالية التي سيتبوَّؤها يوسف، فخاف عليه من حَسَد إخوته وكيدهم، لذا نصح ابنه يوسف× قائلاً: ﴿لاَ تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطَانَ لِلإِنسَانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ﴾. وهذه الرؤيا قد صدقَتْ بعد عشرات السنين، عندما جاء والدا يوسف وإخوتُه إليه، ﴿وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَخَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَقَالَ يَا أَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَاي مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقّاً…﴾ (يوسف: 100).
الرؤيا الثانية: رؤيا صاحبَيْ السجن، قال تعالى: ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيَانِ قَالَ أَحَدُهُمَا إِنِّي أَرَانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقَالَ الآخَرُ إِنِّي أَرَانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنَا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَرَاكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ * قَالَ لاَ يَأْتِيكُمَا طَعَامٌ تُرْزَقَانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُمَا بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُمَا ذَلِكُمَا مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لاَ يُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ… يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُمَا فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيَانِ﴾ (يوسف: 36 ـ 41). وتعبير رؤيا هذين الشخصين هو الذي مهَّد لخروج يوسف× من السجن؛ وذلك لأنّه بعد أن رأى الملك منامه المعروف الآتي، وعجز المعبِّرون عن تأويله، هنا تذكَّر بعض أعوان الملك ـ وهو الذي كان سابقاً مع يوسف في السجن ـ يوسف، وأنّه كان قد أوَّل له رؤياه بـ «أنّه يسقي ربَّه خمراً» بالخروج من السجن والنجاة، فقال للملك: إنّي أعرف شخصاً يمتلك قدرةً على تأويل رؤياك، وهو يوسف: ﴿وَقَالَ الَّذِي نَجَا مِنْهُمَا وَادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ﴾.
الرؤيا الثالثة: رؤيا الملك المشار إليها، قال تعالى: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرَى سَبْعَ بَقَرَاتٍ سِمَانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجَافٌ وَسَبْعَ سُنْبُلاَتٍ خُضْرٍ وَأُخَرَ يَا بِسَاتٍ يَا أَيُّهَا الْمَلأُ أَفْتُونِي فِي رُؤْيَاي إِنْ كُنتُمْ لِلرُّؤْيَا تَعْبُرُونَ﴾. وهذه الرؤيا هي التي حيَّرَتْ المعبِّرين، وتاهوا في تفسيرها، ولم يهتدوا إلى تأويلها، فاستقرّ رأيهم على أنّها أضغاثُ أحلام، قال تعالى: ﴿قَالُوا أَضْغَاثُ أَحْلاَمٍ وَمَا نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الأَحْلاَمِ بِعَالِمِينَ﴾. ولكنّ يوسف× بما أتاه الله من علمٍ استطاع تأويل رؤيا الملك على النحو التالي: ﴿قَالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَمَا حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ سَبْعٌ شِدَادٌ يَأْكُلْنَ مَا قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ * ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ عَامٌ فِيهِ يُغَاثُ النَّاسُ وَفِيهِ يَعْصِرُونَ﴾ (يوسف: 47 ـ 49). وتعبيرهذه الرؤيا هو الذي أوصل يوسف الصديق إلى سدّة الحكم، وقرَّبه من الملك: ﴿وَقَالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قَالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنَا مَكِينٌ أَمِينٌ﴾ (يوسف: 54).
حجّية تعبير الرؤيا
هذا في ما يتّصل بالأنبياء وقدرتهم على تعبير الرؤيا. أمّا غيرهم فهل يمتلك أحدٌ معرفة تعبير الرؤيا، فيكون تعبيره مصيباً؟
أقول: قد يمتلك بعض الناس بصيرةً تؤهِّله لمعرفة الكثير من أسرار المنامات، وتزيده التجربة قدرة على تأويله، بَيْدَ أنّ مشكلة التعبير عند غير المعصوم تكمن في أمرين:
أوّلاً: في أنّ تعبير الرؤيا يعتمد على الحَدْس والتخمين. صحيحٌ أنّ الخبرة تلعب دوراً في هذا المجال، ما يسمح بالتعرُّف على فكّ رموز المنام، والتعرُّف على دلالاته من خلال مقارنات معيَّنة ومناسبات خفيّة وإشارات رمزيّة، ولكنْ مع ذلك فإنّ «التعبير» لا يمتلك حجّية شرعية، فيما لو كان المنام ذا صلةٍ بأمر شرعي؛ لما قلناه من أن التعبير لا يفيد اليقين والعلم، وإنما هو محفوف دائماً بالحَدْس والتخمين؛ إمّا لأنّ المُعبِّر لم يستطع فكّ رموز الرؤيا؛ وإمّا لأنّ صاحب الرؤيا لم يَرْوِها لنا بشكلٍ دقيق؛ إذ غالباً ما تغيب بعض تفاصيل المنام عن أذهاننا، ومع ظنّية التعبير فمن الطبيعي أن لا يكون التعبير حجّة، وقد قال تعالى: ﴿وَلاَ تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ﴾. ولذا فكما أنّ المنام ليس حجّةً شرعاً فكذلك تعبيره، ومن هنا يُفترض بالشخص المُعبِّر أن لا يجزم في تعبيره وتأويله للمنام. أما قضية يوسف فكانت قضية علمٍ علَّمه الله إيّاه، ومَنْ يعلمه الله فلن يخطئ، بل سوف يصيب الواقع، فهل هناك أشخاص كيوسف يستطيعون أن يزعموا أنهم يمتلكون علم تعبير الرؤيا، وتحديد الصادق من أضغاث الأحلام؟ ليس هناك سوى الأنبياء والمعصومين^ يمكن أن يدَّعوا ذلك، هذا مع العلم بأنّ هذا العلم ليس شرطاً في النبوّة، كما أنّ علم الفلك والكيمياء ليس شرطاً فيها.
ثانياً: والمشكلة الأخرى التي نواجهها في تعبير الرؤيا، والتي تحول دون أخذ التعبير أخذ المسلَّمات، هي ـ بالإضافة إلى ظنّيّة التعبير والتأويل ـ عدم القدرة على الفصل بين ما هو من مصاديق الرؤيا الصادقة وبين ما كان من أضغاث الأحلام أو ما كان من وساوس الشيطان، فهذا أمرٌ قد لا يستطيع المُعبِّر ـ إلاّ إذا كان معصوماً ـ أن يبتَّ فيه ويميِّز بين هذه الأصناف. وفي بعض الروايات أنّ رجلاً قصّ رؤيا على الإمام الرضا×، فقال له×: «إنْ صدَقَتْ رؤياك يخرج رجلٌ…»([19])، وقوله: «إنْ صدَقَتْ رؤياك» يُراد به إذا لم تكن من أضغاث الأحلام.
ولأجل ما قلناه من ظنّيّة تفسير الأحلام، وعدم قدرة أحدٍ ـ غالباً ـ على التمييز بين الصادق والكاذب، فلا يجوز للمعبِّر أن يجزم في تأويله وتفسيره للمنامات. وربما لأجل ذلك أيضاً لم نجد تخصُّصاً إسلامياً في المعاهد الدينية باسم تعبير الرؤيا، كما لدينا تخصُّص في تفسير القرآن أو الفقه أو العقائد أو ما إلى ذلك.
تعبير الرؤيا في الروايات
وقد يقال: إنّه يمكننا التعرُّف على قواعد تفسير الرؤيا وتعبيرها من خلال ما جاء في الروايات، معطوفةً على ما ورد في القرآن الكريم في قصة يوسف. فالروايات الواردة عن النبيّ| والأئمّة^ في تعبير الرؤيا تصلح لإثبات شرعية التعبير، وتعطي منهجاً عامّاً، وترسم خطاً لعملية التعبير، وتحدِّد ضوابطه وشروطه.
وتعليقاً على ذلك نقول: أوّلاً: إنّ هذه الروايات لا بُدَّ أن تخضع للمنهج العلمي في قبول الخبر، أي لا بُدَّ أن يتمّ بادئ ذي بدء التوثُّق من أسانيدها، ولا مجال للتسامح في أدلّة السنن؛ لعدم تمامية القاعدة في نفسها، فضلاً عن أنّ مضمون الرؤيا قد تتّصل ببعض القضايا العقدية والشرعية، ممّا لا يمكن التساهل بشأنه، حتّى عند القائلين بقاعدة التسامح.
وإنّ واحداً من معايير تقييم صحّة الروايات في هذا المقام هي ملاحظة انطباقها على الواقع، فإذا كانت الرواية مخالفة للواقع فهذا دليلٌ عدم صدقها. فكما قلنا سابقاً: إنّ الميزان في تمييز الرؤيا الصادقة من الكاذبة إنّما هو انطباقها على الواقع كذلك نقول هنا إزاء الروايات الواردة في تعبير الرؤيا.
ثانياً: إنّ من الضروري أن يُصار إلى فرز الروايات الواردة في تفسير الرؤيا وتعبيرها؛ لأنّها على أصناف:
الأوّل: روايات تتحدّث عن رؤيا النبيّ| أو الإمام× لأمرٍ من الأمور أو لشيء معين. وهذا الصنف من الروايات لا يجدي نفعاً في مقام التعرُّف على قواعد تعبير الرؤيا؛ والوجه في ذلك أننا قد عرفنا أنّ رؤيا النبيّ هي وحيٌ إلهيّ، فلا تقاس برؤيا غيره، كما في رؤياه| أنّ بعض بني أميّة يصعدون على منبره، ويُضلّون الناس ويردّونهم القهقرى. وقد رُؤي النبيّ| حزيناً، فلمّا سُئل عن سبب حزنه حكى لهم قصّة المنام، وقيل: إنّه إثر ذلك نزل قوله تعالى: ﴿وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَالشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ﴾ (الإسراء: 6)([20]).
الثاني: هو روايات واردة في بيان حقيقة المنام([21])، أو بيان أقسامه وأنواعه([22])، أو بيان صفات المُعبِّر للرؤيا([23])، أو بيان علامات الرؤيا الصادقة([24]) وفرقها عن الكاذبة. وهذا الصنف من الروايات مهمٌّ، ويمكن أن يُستَلْهَم منه بعض ضوابط تعبير الرؤيا، إلاّ أنّ الأخذ بهذه الروايات منوطٌ بصحتها سنداً أيضاً.
الثالث: هو الروايات الواردة في تعبير بعض الرؤى من قِبَل النبيّ| أو الإمام×، من قبيل: ما رُوي عن الإمام الصادق× بسندٍ لا بأس به: «مَنْ رأى أنه في الحَرَم وكان خائفاً أَمِن»([25]). ونحو ذلك ما ورد في أنّ أمّ الفضل رأَتْ أنّ قطعةً من جسد رسول الله| في حجرها، فجاءت إليه| فَزِعةً، وقصَّتْ عليه الرؤيا، فقال: لا تجزعي، «تلد فاطمة غلاماً يكون في حجرك»([26])، على اعتبار أنّ الولد بضعة من أبيه، وأولاد فاطمة هم أولاده|. وهذا الصنف من الروايات علينا التثبُّت من صحة أسانيده أيضاً، كما أنّ علينا أن نأخذ بعين الاعتبار أنّ هذه الأخبار قد تكون خاصّةً في موردها؛ لخصوصية الرائي والمرئي وزمان الرؤية، ممّا لا يتوفر في رؤيا أخرى، الأمر الذي يمنع من الاطّراد دائماً.
على أنّ ثمة أمراً آخر لا بُدَّ أن يؤخذ بعين الاعتبار، وهو أنّ الإمام× قد يفسِّر الرؤيا بنحوٍ تفاؤلي؛ لأنّه لا يريد إقلاق الرائي وإرباك حياته، كما ورد في الخبر عن أبي الحسن× يقول: «الرؤيا على ما تعبَّر، فقلتُ له: إنّ بعض أصحابنا روى أنّ رؤيا الملك كانت أضغاث أحلام، فقال أبو الحسن×: إنّ امرأةً رأَتْ على عهد رسول الله| أنّ جذع بيتها قد انكسر، فأتَتْ رسول الله| فقصَّتْ عيه الرؤيا، فقال لها النبيّ|: يقدم زوجك، ويأتي وهو صالح ـ وقد كان زوجها غائباً ـ، فقدم كما قال النبيّ|، ثمّ غاب عنها زوجها ثانيةً غيبة أخرى، فرأَتْ في المنام كأنَّ جذع بيتها انكسر، فأتَتْ النبيّ|، فقصَّت عليه الرؤيا، فقال لها: يقدم زوجك ويأتي صالحاً، فقدم على ما قال، ثمّ غاب زوجها ثالثةً، فرأت في منامها أنّ جذع بيتها قد انكسر، فلقيت رجلاً أعسر، فقصَّت عليه الرؤيا، فقال لها الرجل السوء: يموت زوجك، فبلغ النبيّ| فقال: ألا كان عبَّر لها خيراً»([27]).
وهل أنّ هذا المنحى التفاؤلي في تفسير الرؤى منطلقٌ من أن ّالرؤيا هي على ما تفسَّر، كما جاء في صدر الرواية([28])، أو لأنّ تفسيرها يقلق الإنسان ويُدخل عليه الغمّ؟
كتب تفسير الأحلام
وأمّا الكتب المتداولة في تفسير الأحلام، كتفسير ابن سيرين أو غيره من الكتب الرائجة، فهي كتبٌ تعتمد ـ كما قلنا ـ على الحَدْس والتخمين، ولذا فهي لا تمثل حجّةً شرعية، ولا يمكننا الركون إليها في ذلك. يقول العلامة المجلسي، بعد أن ينقل نماذج متعدِّدة من تعبير الرؤى وتأويل المنامات: «انتهى ما أخرجناه من كتبهم المعتبرة عندهم، ولا يعتمد على أكثرها؛ لابتنائها على مناسباتٍ خفيّة وأوهام رديّة. والأخبار التي روَوْها أكثرها غير ثابتة، وقد جَرَتْ التجربة في كثير منها على خلاف ما ذكروه… ثمّ إنها تختلف كثيراً باختلاف الأشخاص والأحوال والأزمان. ولذا كان هذا العلم من معجزات الأنبياء والأولياء×، وليس لغيرهم من ذلك إلاّ حظٌّ يسير، لا يسمن ولا يغني من جوع»([29]).
الهوامش
(*) باحثٌ وأستاذ الدراسات العليا في الحوزة العلميّة. له أعمالٌ متعدِّدة. من لبنان.
([1]) عن موقع الإبداع الإلكتروني.
([3]) الفرق بين الرؤيا والرؤية أنّ الرؤيا هي ما يراه الإنسان في النوم، وأما الرؤية فهي ما يراه في اليقظة.
([4]) جاء في كتاب التبصرة، لابن بابويه. (انظر: بحار الأنوار 58: 191)؛ وورد في صحيح البخاري 7: 25.
([7]) أجل، يحكى أنّه كانت للأحلام في الحضارات القديمة أهمّيةٌ خاصّة في ممارسة الطبّ، فقد كان هناك كهنة مختصّون بالأحلام. وكان المرضى يزورون هؤلاء الكهنة والعرّافين؛ طلباً للشفاء. كان الرجل المريض يدخل معبد أبّوللو أو معبد إسكولابيوس؛ ليؤدّي عدة طقوس هناك، وليتطهّر عن طريق التدليك والبخور، وليستلقي، وهو في حالةٍ من النشوة، على جلد كبشٍ ذبح قرباناً للآلهة، ثمّ يغلبه النعاس بعدئذٍ، ويحلم بالعلاجات التي تشفي من مرضه، ثمّ يكشف عن هذه العلاجات للرجل؛ إما في صورتها الطبيعية؛ وإما في رموز وصور يتولّى الكهنة بعد ذلك تفسيرها وفكّ طلاسمها. (انظر: سلسلة عالم المعرفة، أسرار النوم، تأليف: ألكسندر بوربلي، ترجمة: أحمد عبد العزيز سلامة، الكويت، 1992م).
([8]) ذكره في الحقّ المبين: 83.
([10]) الملحمة الحسينية 3: 241.
([15]) على سبيل المثال: رؤيا الحر العاملي عندما كان مريضاً في مشغرة، وهو طفلٌ صغير. (انظر: الحر العاملي، موسوعة الحديث والفقه والأدب).
([16]) الشيخ الطوسي، الأمالي: 338.
([17]) مسند أحمد بن حنبل 1: 620.
([18]) رسائل الشريف المرتضى 2: 13.
([20]) انظر الروايات حول ذلك في البحار 16: 168 ـ 169.
([21]) راجع: بحار الأنوار 16: 158، فقد روى الصدوق، في المجالس، بإسناده عن أمير المؤمنين× قال: سألتُ رسول الله| عن الرجل ينام فيرى الرؤيا، فربما كانت حقّاً وربما كانت باطلاً؟ فقال رسول الله|: «يا عليّ، ما من عبدٍ ينام إلاّ عرج بروحه إلى ربِّ العالمين، فما رأى عند ربِّ العالمين فهو حقّ، ثم إذا أمر الله العزيز الجبار بردّ روحه إلى جسده فصارت الروح بين السماء والأرض فما رأَتْه فهو أضغاث أحلام» (الأمالي: 209).
([22]) من قبيل: ما مرّ عن الصادق×: «الرؤيا على ثلاثة وجوه: بشارة من الله للمؤمن؛ وتحذير من الشيطان؛ وأضغاث أحلام».
([23]) من قبيل: ما رُوي عن رسول الله|: «الرؤيا لا تقصّ إلاّ على مؤمنٍ خلا من الحسد والبغي».
([24]) من قبيل: ما رواه في روضة الكافي، عن الصادق×: «…أما الكاذبة المختلقة فإنّ الرجل يراها من أوّل ليله… وأما الصادقة إذا رآها بعد الثلثين من الليل، مع حلول الملائكة، وذلك قبل السحر، فهي صادقةٌ لا تختلف إنْ شاء الله، إلاّ أن يكون جُنُباً، أو يكون على غير طُهْرٍ، أو لم يكن يذكر الله عزَّ وجلَّ حقيقة ذكره…». (الكافي 8: 91).
([26]) الطبراني، المعجم الكبير 25: 27.
([28]) ونحوها رواية أخرى في البحار، نقلاً عن الكافي 61: 173، ح32.