أحدث المقالات




دور المواقف المعرفية في التعارض بين العلم والدين وحل التعارض بينهما

حسين بستان نجفي

تعريب: الشيخ محمد أيوب

مقدمة:

من المباحث المهمة في علم الكلام الجديد قضية الصراع بين العلم والدين، والأمر الذي خلق الأرضية اللازمة له هو تقدم العلوم الجديدة ونموها في القرون الأخيرة؛ حيث إن العلوم التجريبية باعتبارها مصدراً معرفياً جديداً وكذلك بعض التفسيرات المأخوذة منها أحياناً أوجد نزاعاً شديداً ومتشعباً بين علماء الأديان والعلماء التجريبيين، لم يصل حتى يومنا هذا الى نتيجة حاسمة.

وأهمية هذا البحث، دفعت العلماء على اختلاف مذاهبهم إلى الاشتغال بهذا الموضوع، ومن بين هؤلاء لعب المتكلمون دوراً في هذا المجال؛ حيث إنهم يعتبرون العلم خصماً قوياً للدين.

وهنا عندما نلقي نظرة على تأريخ هذا البحث، نجد أنفسنا في مواجهة مجموعة من الآراء المختلفة، والتي تعرض كل واحد منها إلى هذه النظرة المعرفية انطلاقاً من خصيصة معيّنة وبيّن رأيه على أساسها، إن كان لجهة البحث في أصل وجود التعارض وعدمه، أو لجهة حل التعارض على فرض وجوده. وإن الإلهام الدقيق بالمواقف المعرفية المؤثرة في هذا البحث سوف تتيح للباحثين في علم الكلام الديني والإلهيات وبشكل موجّه حلّ التعارض الفرضي أو الواقعي بين العلم والدين في الموارد الخاصة، وسوف نسعى في هذه المقالة إلى تحليل التعارض بين العلم والدين من زاوية معرفية.

وتجنباً لسوء الفهم المحتمل، ورغبة في توضيح محل النزاع في هذا البحث، أولاً من بيان المقصود من التعارض بين العلم والدين في نقاط عدَّة:

أ- إن مرادنا من التعارض بين العلم والدين في هذا البحث هو تعارض البيانات العلمية مع البيانات الدينية. وفي المقابل، فإن هناك تصوراً مختلفاً في هذا المجال له نظرة مختلفة، مفادها أن نأخذ بعين الاعتبار أن العلم والدين هما منظومتان معرفيّتان ويتعامل معهما كمنظومتين بغض النظر عن الاختلافات الجزئية المصداقيّة. وإن أمثال "وايتهد" و "مكي" قد تعرضوا لهذه المسألة على أساس طرح تعاضد وتلفيق العلم والدين بدل التعارض والتمايز بينهما.

ومن البديهي أنَّ تعاضد العلم والدين بهذا المعنى لا يتنافى مع تعارض بعض أجزاء هذه المنظومة مع أجزاء المنظومة الأخرى، وسوف نشير لاحقاً إلى هذه النقطة أيضاً.

ب- المسألة الثانية التي تجب الإشارة إليها هي مسألة وساطة الفهم بين الإنسان والنصوص الدينية، فكما أن الفهم والإدراك هما الواسطة لارتباط الإنسان بالعالم المادي، فإن ارتباط الإنسان بالنصوص الدينية، إنما يتم أيضاً بواسطة الفهم.

وبناءً على ذلك، فإن تعارض العلم والدين لا يعدُّ سوى تعارض بين نوعين من الفهم، أي تعارض فهم المتون الدينية مع فهم الطبيعة؛ ولهذا فإنَّ جُلَّ من تعرّض لحل التعارض بينهما قد بنى بحثه على أساس هذه المصادرة. نعم ليس كل فهم للطبيعة والدين على درجة واحدة؛ فبعض الأفهام تدعي القرب من الواقع والكشف عن الحقيقة؛ ولذلك سوف يرجع التعارض بين نوعي الفهم إلى التعارض بين العلم والدين نفسيهما. إذا، رغم صحة الحديث عن تعارض الأفهام في بعض الحالات، إلا أن هذه النظرية لا يمكن عدها حلاً للمشكلة ناجعاً في جميع الحالات وذلك لأمور:

أولاً: إن بعض الأفهام هي بيان لواقع كل العلم والدين؛ بحيث إن تعارضها يكون متلازماً مع تعارض العلم والدين.

ثانياً: إن تعارض العلم والدين في هذه الصورة سوف يكون تعارض فهم منشأه الطبيعة مع فهم منشأه الدين وهذا بنفسه يتطلّب حلاً مستقلاً. والواقع أن هذه النظرية تنقل النزاع من مرحلة إلى أخرى فحسب.

ج- إن تعارض العلم والدين ينقسم بشكل كلّي إلى قسمين:

تعارض القضايا الدينية التوصيفية التي تحكي عن وقائع يمكن إخضاعها للتجربة مع القضايا العلمية التوصيفية.

تعارض التوصيات الدينية مع التوصيات العلمية. وتوضيح هذا القسم الأخير يحتاج إلى بيان مقدمة

مفادها أننا نواجه ثلاثة مفاهيم: العلم والمنهج والقيم.

والقيم على قسمين: القيم الغائية العامة التي لا تعيّن مصاديقها، والقيم الخاصة وهي عبارة عن التوصيات الموصلة إلى القيم العامة. وهذه التوصيات تكون وليدة القيم من ناحية، ومن ناحية أخرى مبتنية على المناهج المختلفة، وهذه المناهج أيضاً تستقى من المعلومات؛ أي الصور الذهنية الحاكية عن الواقع.

ومثال ذلك: إن معرفة دواء ضد السرطان (علم) يضع بين أيدي المتخصصين علاجاً لهذا المرض (منهجاً أو طريقة)؛ ونتيجة ذلك فإن الطبيب مع أخذه بعين الاعتبار لهذا الأمر، ومع الالتفات إلى أن السلامة "قيمة" مفروضة، فإنه يقوم "بتوجيه" المرضى للاستفادة من الدواء المذكور. وعليه، فمع الالتفات إلى هذه المقدمة، فإن المقصود من التوصيات الدينية تلك التوصيات الواردة في النصوص الدينية حول طريقة التصرف في الطبيعة أو مع النفس أو مع الآخرين.

وهذه التوصيات مبتنية من جهة على الرؤية الكونية ونظرة صاحب الشريعة إلى الإنسان، ومن جهة أخرى فإنها ناشئة من القيم المقبولة في الدين.

وأما التوصيات العلمية المتخذة من العلوم التجريبية والقيم المقبولة عند العلماء فمع أنها باللحاظ المنطقي تحسب مستقلة عن العلم –وقد أكدّ العلماء والفلاسفة على هذا الفصل المنطقي- إلا أنها في الوقت نفسه تلحق بالتوصيات العلمية لنفس العلم عرفاً. وبهذا اللحاظ، فإن تعارض التوصية العلمية مع التوصية الدينية يُعد عادة من حالات تعارض العلم والدين.

وهذا القسم من التعارض ينقسم بدوره إلى قسمين: في القسم الأول يكون منشأ التعارض عبارة عن اختلاف القيم الدينية مع القيم المقبولة عند العلماء (تعارض علم الاقتصاد مع الدين في مورد التوصية وعدم التوصية بالربا والفوائد البنكية يمكن أن يكون من هذا القسم). وفي القسم الثاني وبالرغم من اتحاد القيم، فإن الطرق المبتنية على العلوم تكون متفاوتة.

كما أن اختلاف الطرق في هذا القسم الأخير ينشأ في بعض موارده من الرؤية الكونية والنظرة إلى الإنسان التي يتبناها كل من العلم والدين(نعم في مورد الإسلام فإن وقوع مثل هذا التعارض يكون مجرد فرض فحسب). وهذه الموارد ترجع في الواقع إلى التعارض من القسم الأول؛ أي تعارض البيانات العلمية مع البيانات الدينية التوصيفية، وفي موارد أخرى نواجه تعارضاً كاذباً أو شبه تعارض بدل التعارض الواقعي، وتصوير ذلك أنه وللوصول إلى قيم مشتركة، فإن كلاً من العلم والدين يطرح طريقة مستقلة من دون أن يكون هناك تضادٌ بين الطريقتين بل ربما يكونان مكملين أحدهما للآخر ولكن الانحصارية من جهة العلم أو الدين أو كليهما تبعث على خلق ما يشبه التعارض بين العلم والدين.

والمقصود من الانحصارية العلمية: أن يرى علماء العلوم التجريبية انحصار عقلانية المعرفة في استخدام طرق التفكير العلمي التجريبي، والمراد من الانحصارية الدينية أيضاً أن يرى أصحاب الفكر الديني أن فكرهم الديني هو وحده الفكر الموثوق به.

وفي الحقيقة، فإن بعض أنواع التعارض المدعاة بين العلم والدين تحتل مكاناً لها في هذا القسم؛ ولذا فإننا في مثل هذه الموارد لا نواجه تعارضاً واقعياً، وبعنوان مثال بسيط على ذلك:

لو فرضنا أن الأطباء ولأجل تقوية البصر أوصوا بنوع خاص من الفيتامينات، وفي المقابل فإن الروايات الدينية ولأجل هذا الأمر قد أوصت بقراءة دعاء خاص، فإننا هنا لا نرى أي موجب لدعوى التعارض سوى النظرة الانحصارية الباطلة التي ترى إلى كلٍ من هاتين التوصيتين من نافذة تعارض العلم والدين.

وفي الواقع، فإن أحد أصول الرؤية النسبية الثقافية قامت على إبطال دعوى كثير من علماء الغرب وفلاسفته المبتنية على انحصار طرق التفكير العقلاني في التفكير العلمي.

ومع الالتفات إلى الأقسام المذكورة نكون قد خلصنا إلى مواقف معرفية عدة، لها دور أساس في تحقق التعارض بين العلم والدين:

       حكاية العلم والدين عن العالم الخارجي

        وجود المجال المشترك الواقعي

        وجود المجال المشترك

        النظرة الانحصارية إلى العقلانية و المنهج

د- والمسألة المهمة التي لا بد من الإشارة إليها، هي ضرورة التمييز بين طرق نفي التعارض وطرق حل التعارض، مع أنه ينكر في القسم الأول أصل وجود التعارض، ويتوجه في القسم  الثاني إلى حل التعارض الموجود. إلا أننا في القسم الأول نقبل كلاً من طرفي التعارض الادّعائي في محله، وأما في القسم الثاني فنطرح أحد طرفي التعارض لمصلحة الطرف الآخر أو نتصرف في أحدهما.

وعلى هذا الأساس، فإن تلك الطائفة من المواقف المعرفية التي أشير إليها في البند السابق ترجع إلى القسم الأول من طرق الحلول؟ وفي المقابل تمكن الإشارة إلى مسألة ثبات الدين وتحول المعرفة الدينية ما يقع ضمن القسم الثاني من القسمين المذكورين أعلاه.

والجدير ذكره أن التعاطي الإيماني مع مسألة التعارض خارج عن كلا القسمين المذكورين. وفي هذا المجال، ومن دون أن يكون للتعارض طريق إلى الحل باللحاظ النظري فإنه يلتزم عملاً بأحد طرفي التعارض. وببيان آخر، فإنه بدل الاعتقاد النظري يكون الالتزام العملي بأحد الطرفين هو الخيار المعتمد. وهنا فإن التزام المؤمنين بالأوامر الدينية مقابل التوصيات العلمية في الموارد التي لم يقم عليها دليل قطعي لمصلحة التوصية العلمية من المصاديق البارزة لهذا التعاطي العملي والإيماني مع مسألة التعارض.

وعليه فمع الالتفات إلى هذه النكات المتقدمة، فسوف نتابع البحث الأصلي في قسمين وسوف نأخذ بالاعتبار في القسم الأول تلك الطائفة من المواقف المعرفية التي يدور أصل وجود التعارض وعدمه مدارها، وفي القسم الثاني سنتعرض لبعض المواقف التي إن قبلت فسوف تعيننا على حل التعارض الموجود.

القسم الأول:

أ- النظريات غير المعرفية للغة الدين:

في الواقع إن إحدى علل طرح مباحث لغة الدين بين المتكلمين الجدد، هو موضوع تعارض العلم والدين؛ حيث إنّ بعض النظريات وبإنكارها للّسان المعرفي للدين قد نفت بشكل كلي أساس التعارض بين العلم والدين، ومن جملة هذه النظريات نظرية إظهار المشاعر، والنظرية الرمزية، والنظرية الأسطورية، فإنه بناءً على هذه النظريات، لا يمكن للقضايا الدينية أن تكون حاكية عن الواقع والعالم الخارجي، وبالتالي تقبل تحمل الصدق والكذب؛ لأنه لم يكن لها مثل هذا الدور أساساً، بل إن لهذه البيانات دوراً آخراً كإبراز المشاعر والعواطف وإيجاد التضامن الاجتماعي ونقل التجارب غير المتعارفة. ولو قبلنا هذه النظريات فلن يتحقق أي تعارض بين العلم والدين. ولو تحقق ذلك فسوف يكون محدوداً بتعارض توصيات الدين والعلم؛ لأن اللغة المعرفية للعلم و اللغة غير المعرفية للدين لا يوجد بينهما أي وجه اشتراك واتحاد، وعليه فكيف سيحصل التعارض حينئذٍ؟

مثلاً، بناءً على نظرية الألعاب اللغوية "ليس من الدين في شيء ربط الدين بالحقائق الدنيوية والاعتقاد بالتطابق بينهما سواء أكانت هذه الحقائق عامة أم كانت تكشف نفسها للباحث المحقق في قضايا الدين لأن الدين صورة حياتية ولعبة مستقلة لا تحتاج إلى الدفاع عنها الانتقادات الخارجة عن حوزتها الخاصة. إن التصور القائل بأن الدين يشير إلى التكوين الواقعي لعالم الواقع ويوضح لنا حدوداً واسعة من الوجود بالقياس إلى حياتنا الأرضية اشتباه كبيرٌ جداً"() أو على حد قول سانتايانا:" للوقاية من تعارض العلم والدين يجب أن ندرك أن كلاً من العلم والدين لا يعملان على كشف الحقيقة، ولو كانا كذلك فسوف يكون للحقيقة معانٍ متفاوتة. وإن الطريق العلمي فقط هو الذي يمكنه أن يعطي الحقيقة حول أمور الواقع؛ ولذا فإن الدين لا يمكنه أن يعطينا أي شيء حول خلق وطبيعة نظام الوجود… إن الدين هو شعر ذو توجه أخلاقي، علنا أن نسير على هديه، وإن الكتابات المقدسة لها قيمة موازية لقيمة  الأساطير…"().

ب- اختلاف مجالي العلم والدين:

إن أغلب الحلول المطروحة لرفع التعارض بين العلم والدين تؤكد على "ترسيم الحدود" بينهما بحيث يكون لكل منهما مجاله المستقل. وفي هذا الاتجاه أيضاً لو صححنا أياً من هذه الطرق فإن التعارض، وفي أغلب الموارد، سوف ينتفي بشكل تلقائي.

وسنتعرض هاهنا لأهم هذه الطرق:

1- مجال الدين: القيم الأخلاقية

ولهذا الرأي جذوره في أفكار "كانط"؛  حيث إن المعرفة العلمية عنده هي نظرة محدودة بالتجربة القابلة للإدراك الحسي وعلى حدِّ تعبيره بالظواهر، بينما يعمل الدين في ساحة مختلفة و على أساس آخر هو الإحساس بالالتزام الأخلاقي أو بحسب كانط "الواجب"، وبالتالي فلن يكون هناك أي تعارض بين العلم والدين؛ لأن للعلم ساحته الخاصة التي يبحث فيها بطريقته الخاصة، وأما وظيفة الدين فهي إرشاد وتنوير إيثارنا الأخلاقي(العشق والمحبة) والهدوء الكامل المتعلق به().

2- مجال الدين: التجربة واليقظة الدينية

وبناءً على هذه النظرية المستفادة من أفكار شلاير ماخر فإن الدين "لا يقوم على التعاليم الوحيانية كما هو المطروح في التراث الكلامي التقليدي، وليس هو المعرفة العقلية كما هو المطروح في الإلهيات الطبيعية (العقلية)، وأيضاً ليس هو الإرادة الأخلاقية كما هو المطروح في نظام "كانت" الفلسفي، وإنما هو في اليقظة والوعي الديني والذي يختلف عن كل ما تقدم؛ حيث إن الديانة هي موضوع تجربة حيَّة وليس عقائد تقليدية ميتة ولا تقبل التحويل إلى الأخلاق أو الحكمة العملية أو الحكمة النظرية… إن قيمة الكتاب المقدس فقط في أنه يحكي الأحوال الماضية والتجارب الدينية لاسرائيل والمسيح وأحوال مؤمني الصدر الأول"().

3- مجال الدين: معرفة الله

إحدى النظريات المطروحة بين المتكلمين البروتستانت الجدد، والناشئة من أفكار كارل بارث تلك النظرية المعروفة بالأرثوذكسية الجديدة؛ حيث إن بارث نفسه يعتقد بأن "الوحي الأصلي هو شخص المسيح، كلمة الله في هيأة إنسانية وأن الكتاب المقدس هو صرفاً مكتوب بشري يشهد على تلك الواقعة الوحيانية، وأن فعل الله إنما هو في وجود المسيح وطريقته وليس في إملاء كتاب معصوم"().

وكذلك في رأي أنصار هذه النظرية فإن الفرق بين مناهج الإلهيات ومناهج العلم ناشئ من الاختلاف بين موضوعي المعرفة في كل منهما؛ حيث إن الإلهيات موضوعها الله المتعال المليء بالأسرار، والذي لا يمكن أن يقاس بهذا العالَم الذي هو ميدان العلم وعليه لا يمكن استعمال منهج واحد في كلا المجالين، والله، فقط، يعرف من جهة تجليه في المسيح، وأما العلم فإنه يتقدم بسعي الإنسان واكتشافاته ولا يمكنه أن يساعد الإيمان الديني المرتبط كلياً بالمدد الرباني"().

4- مجال الدين: الحقائق غير المادية

طرح بعضهم هذه الدعوى بغرض التوفيق بين العلم والدين ومفاد هذه الدعوى، هو: أن موضوع العلم هو العالم المادي، وأما الدين، فإن نطاقه هو العالم المعنوي والروحاني، وهذه النظرية تفرض وجود عالمين متمايزين بشكل كامل ومنفصلين أحدهما عن الآخر؛ تحت سيطرة العلم والآخر تحت نفوذ الدين().

5- مجال الدين: الأمور الكيفية

من الطرق الساعية لحل التعارض بين العلم والدين تلك الرؤية المشبعة بالوضعية المتطرفة، وترجع إلى من يعتقد بأن مجال العلم يستوعب الأمور الكمية وأما حدود الدين فهي الأمور الكيفية، والمفروض في هذا الكلام أيضاً أن هذا العالم الذي نحيا فيه له جنبتان متمايزتان بشكل كامل ولا يقبلان الاختراق، ولكل من العلم والدين واحدة منهما().

6- مجال الدين  المعرفة الغائية

يعتقد بعضهم لحل التعارض بين العلم والدين بأن مجال العلم ودوره هو معرفة العلل وآليات تأثيرها، وأما مجال الدين فهو معرفة الغايات؛ وبناءً على هذا المبنى فإن العلم يعتني بالعلل وأما الدين فإنه يعتني بالغايات() وبالتالي ينتفي التداخل بينهما وأسباب التعارض.

 

ج- الذرائعية في العلم

إن إحدى النظريات المعروفة التي تؤمَّن لنا مبنىً لحل التعارض بين العلم والدين هي النظرية المعروفة في فلسفة العلم بالذرائعية(Instrumentalism). يعتقد"أندرياس أوسياندر" وهو من المتقدمين في طرح التصور الذرائعي بأن "فرضية مركزية الشمس إنما هي وسيلة مناسبة لاستطلاع حركات الأجسام السماوية، وليست تفسيراً ينطبق على الواقع بالضرورة لتعليل حركات الأجرام السماوية"(). وأيضاً فإن "ذرائعية "باركلي" من المحتمل أن تكون سعياً للتوفيق بين التعاليم الدينية، والمعرفة العلمية على أساس أن لا نضحي بأحدهما لمصلحة الطرف الآخر؛ لأنه إذا كانت قيمة المعرفة العلمية في النتائج العلمية أو التقنية وليست شيئاً آخر، يمكن لنا أن نقبل مثل هذه المعرفة وأن نستفيد منها دون قلق من لوازمها العميقة بالنسبة لحقائق الفلسفة().

وهناك الكثير أيضاً من منظري الفيزياء قبلوا هذه الرؤية على أساس أنها أصل موضوع ومصادرة قبلية. وهناك اصطلاح آخر على ارتباط وثيق بالذرائعية وهو التعاهديةConventionalism)) وبناء على النموذج المتطرف لهذه النظرية، "فإن القوانين والنظريات العلمية هي تعهدات ترتبط باختيارنا الحر نسبياً من بين الطرق البديلة لتوصيف العالم الطبيعي… والطريق الذي نختاره لا يعد أصح من بقية الطرق بل إنه أنسب منها"().

ولا يخفى أن الشكل المقبول للذرائعية والتعاهدية يعطينا حلاً للتعارض بين النظريات العلمية والدين ولا ينفي إمكانية تعارض قوانين العلوم التجريبية مع البيانات الدينية؛ لأن القوانين التجريبية، وعلى خلاف النظريات، لا تشتمل على مفاهيم نظرية ولا تحكي أموراً غير محسوسة؛ ولذا فإنه يمكن القول عن النظريات بأن لها بعداً آلياً ذرائعياً.

 وهذه النظريات المطروحة ترتبط بالموقف الأول والثاني من المواقف المعرفية الأربعة التي أشرنا إليها في المقدمة.

وأما مسألة تعارض التوصيات العلمية والدينية، فمع أنها باللحاظ المنطقي لا تعد من تعارض العلم والدين، ولكن وكما أشرنا سابقاً فإن واقع العمل البحثي يقتضي الإلفات إليها في هذا البحث، ولو استطاع البعض أن يوجه بشكل مطلوب، التوصيات العلمية أو التوصيات الدينية المرتبطة بالحقائق المحسوسة أو كما فعل أتباع النسبية الثقافية من نفي الانحصارية، فسوف يتم التوصل إلى طرق لحل هذه التعارضات.

 

القسم الثاني:

سوف نشير في هذا القسم من المقالة إلى بعض المواقف المعرفية التي إن قبلنا أياً منها فسوف تعطي طريقاً لحل التعارضات الموجودة. ومن هذه المواقف قانون أو قاعدة تحول المعرفة الدينية وتطورها، وقد صُوِّرَ هذا القانون بشكل جيد في نظرية القبض والبسط في الشريعة التي طرحها الدكتور عبد الكريم سروش.

وبناءً على هذه النظرية، فإن الدين هو أمر ثابت ومصون عن التغيير والتبدل ولكنه ليس في متناول الناس العاديين. ولكن المعرفة الدينية هي معرفة متغيرة ومتحولة ومتكاملة تقبل تأثير العلوم والمعارف البشرية الأخرى فيها، وإن كل تغيير يحدث في أحد مجالات المعرفة البشرية يجعل المعرفة الدينية في معرض التحول. وهذه النكتة تعطينا مبنى لحل التعارض بين العلم والدين على أساس أنه كلما تعارضت النظريات العلمية مع أحد البيانات التوصيفية الدينية، فإننا نتصرف في المعرفة الدينية ونجعلها منسجمة مع المعرفة العلمية. بل إنه يمكننا أيضاً الاستفادة من هذا المبنى لحل تعارض التوصيات الدينية مع التوصيات العلمية.

والجدير ذكره أن تطور المعرفة الدينية في الجملة قد قبلها جماعة كبيرة من المتكلمين المسلمين وغير المسلمين، وإن لم يعتقدوا بنظرية القبض والبسط ولوازمها المعرفية. "كتب الأسقف بلارفيت في رسالة لصديقه… إلى الآن لم يقم دليل على يقينية حركة الأرض حول الشمس وعلى مسافة بعيدة عنها… ومع كل ذلك لو سلم بالبرهان حركة الأرض، فإنه سيؤَّول الكتاب باحتياط بالغ، وسوف يعلن بأن هناك بعض أقسام من الكتاب لم تفهم بشكل صحيح إلى الآن"().

أو على حد قول المفكر المعروف فريد وجدي: "على فرض ورود نظرية التطور مرحلة قطعية غير قابلة للإنكار… فلن يكون من الصعب توجيه الآيات القرآنية وتفسيرها ونظائرها بنحو توافق الفرضية المذكورة؛ لأن حفظ المعاني الأولية لأمثال تلك العبارات إنما يكون لازماً عندما لا يقوم على خلافه شاهد وقرينة قطعية، وإلا فإن بمعونتها سوف نفهم أن المراد من تلك العبارات كان شيئاً آخراً"().

أضف إلى هذا الأصل أنه من الإشارة إلى مسألة الثابت والمتغير في الدين وتأثير الزمان والمكان على الأحكام الدينية، الأمر الذي سوف  يكون له تأثير في حل التعارض بين التوصيات الدينية والتوصيات العلمية؛ لأنه لو أنكرنا تأبيد ودوام بعض أحكام الدين وحصرناها فقط في زمان التشريع، أو اعتبرنا أنها مشروطة بشرائط زمانية ومكانية خاصة سوف يرتفع تعارض هذا القسم من الأحكام مع التوصيات المستفادة من العلوم التجريبية.

وفي آخر هذا القسم من المناسب أن نشير أيضاً إلى الاتجاه التقليدي في التعاطي مع مسألة التعارض والمتداولة بين الإسلاميين المعاصرين أيضا؛ً حيث إن الشكل المقبول لهذا الاتجاه (في مقابل أشكاله الأخرى كما هو المتصور في رأي العلماء الأخباريين)()، ومع تقسيم المعرفة إلى قطعية وظنية، يُحْكَم بتقديم الدليل القطعي على الدليل الظني  سواء أكان الدليل الديني قطعياً والدليل العلمي ظنياً أم كان عكس ذلك. ولو كان كلا الدليلين ظنياً، فإنه يؤخذ في مورد التكاليف بالدليل الديني ويرجح الدليل العلمي في غير هذا المورد.()

وهذا الاتجاه يستلزم أن ننظر إلى مسألة التعارض بالنظرة الفقهية؛ أي أنه وكما هو الحال في مقام تعارض الأحكام التكليفية لأجل تشخيص وظيفتنا العملية نُقْدِم على حل التعارض كذلك الأمر هاهنا؛ إذ إنه ما دام هناك بعض التكاليف، فإننا مكلفون بتشخيص النظريات العلمية المتعارضة مع الدين، لنتوجه حينئذ إلى حل التعارض. وفي غير هذه الصورة فلا محذور من قبول النظريات العلمية.

وبناءً على هذا الأساس سيتضح بشكل كامل أن هذا الاتجاه يتضمن في أكثر الفروض ما عبرنا عنه في مقدمة البحث بالتعاطي الإيماني؛ أي أنه وبدل الحل النظري سوف يُختار الحل العملي عند التعارض، نعم فقط في مورد تعارض الدليل العلمي القطعي مع الدليل الديني الظني سوف يكون لمثل هذه المعارضة حلاً نظريا، إلا أن مبنى ذلك الحل لن يكون حينئذ سوى أصل التطور وسيلان المعرفة الدينية. والجدير ذكره أن نفس هذا المطلب وفقط في هذا الفرض تُطرح مسألة تطور المعرفة الدينية، وأما في سائر الفروض فلا يعمل بهذا الحل. وهذا يبتني على قاعدة معرفية مفادها أن التطور والتكامل في العلوم التجريبية متقدم جداً على المعرفة الدينية، وإلى الآن قلَّ من يتكلم من فلاسفة العلم عن الحقيقة بمعناها الواقعي، بل إن الأغلب إما من أتباع النسبية أو من المتحدثين عن الاقتراب التدريجي والمستمر نحو الحقيقة.

ومن هذه الجهة، فإن التعاطي الاحتياطي لعلماء الدين مع المستجدات العلمية تعاطٍ معقول ولا يبعث على كثير من التعجب.



تقييم واستنتاج

أ – بالنسبة لمسألة لغة الدين فإن قليلاً من التأمل حول العلاقة بين ما هو كائن وبين ما ينبغي أن يكون لا يُبقي أي شك في أن الدين يشتمل على دعاوى ناظرة إلى الواقع سواء أكان ذلك بشكل صريح ومباشر أم كان بشكل ضمني، وإذا استثنينا القيم الغائية والواجبات الأولية المبنية على فطرة الإنسان الأخلاقية، فإن كل حكم قيمي يبتني على علاقة بالواقع، حتى ولو أنكرنا علاقة التوالد بين الواقع والواجب. "وإن الأصول الأخلاقية دائماً على علاقة قريبة مع العقائد الراجعة إلى ماهية الحقيقة، وإن التوصية بطريقة حياتية تتضمن هذا المعنى وهو أن وجود العالم هو بنحو تكون هذه الطريقة الحياتية موافقة له ومتناسبة معه"().

ولقد ذكر هذا الأمر عند فقهاء المسلمين تحت عنوان "تبعية الأحكام للمصالح والمفاسد الواقعية".

ومضافا إلى هذا يمكن بالتحليل اللغوي أن نميز بين نوعين من الجمل الخبرية:

الجمل الخبرية المستعملة بمعنى الإنشاء؛ وهذا النوع هو في الحقيقة من الجمل الإنشائية كألفاظ العقود والإيقاعات في الفقه مثلاً: كلمة بعت هي إنشاء وإيجاد معاملة البيع وليست إخباراً عن وقوع البيع في الماضي، مع أن البنية والشكل الظاهري لها هو الإخبار.

الجمل الخبرية التي يضاف إلى قصد مخبرها الأولي قصد آخر كالترغيب والتهديد والتخويف والتزهيد وغير ذلك مثل قولك: "توجد أفعى سامة في داخل هذا الثقب".

وبناء على هذا الأساس، فإن النظريات اللا معرفية في لغة الدين تبتني على أحد هذين الاحتمالين:

الجمل الخبرية الدينية هي من النوع الأول لا من النوع الثاني.

الجمل الخبرية الدينية هي من النوع الثاني، ولكن صدق الإخبار ليس أمراً معتنى به.

وهذا الاحتمال الثاني طرحه أمثال بريث ويت حيث يقول: "إن القصص الدينية مجعولات مفيدة لا يوجد عليها أي تأكيد أكيد ولا إيمان شديد، ولكنها كانت دائماً مصدر إلهام للعمل على وفقها"().

والنكتة المشتركة في كلا الاحتمالين أن هذا المطلب في نظرهم، وكما هو الحال عند أهل النظر كان أمراً مسلماً به، وهو أن بعض إخبارات الدين عن الواقع لا يمكن القبول بها بوصفها أخباراً لمنافاتها للاكتشافات القطعية للعلوم الجديدة، ولقد أدى بهم هذا الأمر إلى إنكار واقعية الإخبارات الدينية أو تحريفها عن معناها الأصلي.

هذا ومن الواضح أيضاً أن التوفيق بين المعطيات المتعارضة إلى أي مجال انتمت – سواء كان دينياً أم غير ديني – إنما يعقل في صورة إحراز الاعتبار السندي للأطراف المتعارضة، وعندها فقط يكون من الضروري البحث عن توجيه للتعارض. وأما على فرض الخدش في أحد طرفي التعارض من الجهة السندية، فسوف تنحو مسألة التعارض نحواً آخر، والحل حينئذٍ يكون من خلال التقييم السندي وقبول المعطيات المعتبرة ورد غير المعتبر منها. ومع أخذ هذا الأمر في الاعتبار في حل التعارض، فقد أصبح هناك أنصارٌ لها من المتكلمين الغربيين، في الجملة نشير إلى المجددين الذين يعتقدون "بأن الكتاب المقدس نص بشري وليس وحياً مباشراً من الله للإنسان… وأن الكتاب المقدس ليس كتاباً إلهامياً أو ملهَماً بالرغم من أنه مصدر إلهام، وبهذا اللحاظ، فهو كسائر الآثار الكبرى التي تبين الآراء والأفكار العميقة"().

وبهذه الملاحظات تبرز نقطة الافتراق المهمة بين تعارض العلم والدين عند اليهودية والمسيحية، وتعارض العلم والدين في الإسلام؛ لأن النصوص الإسلامية ذات الدرجة الأولى لا يمكن مقايستها من جهة الأصالة والاعتبار بالنصوص الأصلية لليهودية والمسيحية هذا من جهة، ومن جهة أخرى فليس هناك مصداق مسلّمٌ به لتعارض الجمل الخبرية في النصوص الاسلامية الأصلية مع المستجدات القطعية للعلوم التجريبية.

أضف إلى هذا وبخصوص الاحتمال الثاني لا بد من أن نشير إلى: "أننا لو قبلنا القصص الدينية على أساس أنها خرافات وُضِعَت لأجل التأثير الأخلاقي، ففي الحقيقة نكون قد قبلنا بأن تلك القصص الموضوعة فاقدة لتلك الآثار الأخلاقية المتوخاة"().

ب- حيث إن مبحث مجال الدين له أبعاد أعمق من موضوع هذه المقالة، فسوف نتجنب الدخول في بحثه بالتفصيل ولكن في الوقت نفسه، لا بد من الإشارة إلى بعض النكات المرتبطة بالمقام.

يبدو أن أغلب الذين سعوا لحل التعارض بين العلم و الدين على أساس فك الارتباط بين مجاليهما، كان يحركهم توجه ذهني وفلسفي نحو هذه المسألة وليس توجهاً موضوعياً. وبتعبير آخر: كانوا بصدد إيضاح ووضع مجال محدد للدين؛ ولذلك لم ينظروا إلى الدين من الداخل  بل، إن أذهان هؤلاء قد تمركزت على تحصين الدين بسد محكم لا يقبل النفوذ، وبذلك يصان للأبد من هجوم خصمه الجشع والقوي؛ أي العلم التجريبي. ومن هذه الجهة، فقد اعتقدوا بأن مجال الدين هو بيان القيم الأخلاقية أحياناً، ومعرفة الله ثانياً، وأمور غير ذلك في أحيان أخرى، ومن دون أن يتعبوا أنفسهم بتوجيه الموارد المختلفة التي نراها أحياناً في النصوص الدينية.

نعم، ربما يكون المدلول الضمني لهذا الطراز من التفكير هو أن الدين عندما يظهر رأيه في مجال العلم، فإنه يفقد الصفة الدينية كما يصرح بهذا الأمر أحيانا.ً() وفي النتيجة فسوف ينتفي من الأساس موضوع تعارض العلم والدين.

وعلى هذا الأساس، فالإشكال الأول الذي يتشكل في الذهن هو أنه على فرض تمامية الاستدلالات التي أقيمت على تفكيك مجال كل من العلم والدين عن الآخر، وأيضاً على فرض قبول الدعاوى القائلة بأن الدين كلما أظهر رأيه في مجال العلم، فسوف يفقد صفته الدينية، فإنه لا يمكن أن ننفي تعارض العلم والدين؛ لأن الدين وبحسب الفهم العام له يشمل القضايا المبينة في النصوص الدينية – سواء أكانت بالنظر الدقيق الفلسفي داخل مجال الدين أم لم تكن- ولهذا فإن إبطال هذا القسم من القضايا الدينية بسبب نموه العلم وتطوره سوف يعد انكساراً للدين.

والإشكال الثاني هو أن تفكيك مجال العلم عن مجال الدين حتى ولو رفع التعارض بين القضايا التوصيفية الدينية وبين القضايا العلمية، فإن مشكلة تعارض التوصيات الدينية مع التوصيات العلمية سوف تبقى قائمة. وبالتالي، لا يتم مبنى تفكيك المجالات.

 والإشكال الثالث الوارد على هؤلاء بالرغم من وجوب الاعتراف بأن كلاً من الآراء المطروحة في ثنايا هذا الاتجاه يشتمل على جانب من الحقيقة، فلا يمكن على سبيل المثال الترديد في أن القيم الأخلاقية والتجربة الدينية ومعرفة الله والحقائق غير المادية والغايات النهائية تقع ضمن مجال الدين، ولكن الإشكال من الناحية السلبية للقضية؛ أي أنه ورغم كون مجال الدين لا يشمل غير هذه الأمور، فإنه يمكن بسهولة أن نثبت للدين مجالاً أو عدة مجالات أصلية وفرعية، ولنفرض مثلاً أننا وافقنا "كانط" في اعتقاده بأن مجال الدين هو القيم الأخلاقية، فهل أن مجرد تعليم الناس الأمور الأخلاقية يكفي لتطبيق تلك القيم في حياتهم الفردية والاجتماعية، أو أنه يحتاج إلى ضمانات قوية؟

ولاشك هنا في أن الدين ما لم يخبر عن مجموعة من الواقعيات كالله والصفات الإلهية والثواب والعقاب الدنيوي والأخروي، فلن يكون هناك أي ضمانة للتحقق الموضوعي للقيم الأخلاقية.

وإلى الآن يمكن القول: إننا حدّدنا للدين عدة مجالات أصلية كمجال القيم و مجال معرفة الله ومجال الغايات. وعليه، لو بَيَّن الله، ولأجل التعريف بذاته بشكل أفضل لعباده ولأجل إفهامهم فكرة المعاد بشكل ملموس، لو بيَّن بعض المطالب المتعلقة بالنظم الحاكمة على عالم الخلق أو طريقة حياة وموت الموجودات الحية وأمثال ذلك والتي هي داخلة قطعاً في مجال العلم أيضاً. ألا يجب علينا أن ندخل هذه الموارد ضمن المجال ولو الفرعي للدين؟ وبخاصة إذا لاحظنا العلم من ناحية تاريخية لا من ناحية فلسفية، فإننا طبعاً في مثل هذه الحالة لن نجد العلم في أكمل مراحله حتى نستنتج أن البشر ليسوا بحاجة إلى تعاليم الدين حول أمور الواقع، بل إننا نرى أن للعلم حالة متدرجة ومتكاملة ابتدأت من الصفر ولأجل الوصول إلى كمالها (أي المعرفة الكاملة للعالم المحسوس بالطريقة التجريبية)، فإنها تحتاج إلى طي قرون متمادية.

وكذلك الأمر أيضاً لو ورد في النصوص الدينية ولأجل التأثير الأخلاقي على الناس، بعض المطالب عن تاريخ الأمم السابقة، أو بعض الحقائق عن نفس الإنسان وأمثال ذلك، فإنه لا يمكننا أن نخرجها من مجال الدين.

ج- إن الذرائعية والتعاهدية وكما أشرنا إلى ذلك يمكنهما التكلم في خصوص النظريات العلمية؛ ولذا فإنهما لا يقَّدمان لنا طريقة لحل تعارض القوانين العلمية أو حتى القضايا المبنية على المشاهدة مع الدين، بغض النظر عن أن هاتين النظريتين وإلى الآن، ليس لهما قواعد محكمة في الفلسفة وذلك بسبب كثرة الإشكالات الواردة عليهما.

والنتيجة التي نستفيدها هي أن أياً من تلك النظريات المطروحة في القسم الأول والتي تنكر أصل إمكان التعارض بين العلم والدين لا يمكن القبول بها؛ ولذلك لا مفر من قبول إمكان التعارض رغم أننا لم نجعل تعارض التوصيات العلمية مع التوصيات الدينية من تعارض العلم والدين، وإلاّ فإن دائرة التعارضات الاحتمالية سوف تكون أوسع من ذلك. وعليه فالمواجهة لإشكالية تعارض العلم والدين إنما تكون فقط من جهة نفي وقوع التعارض على فرض إمكانه أو رفع التعارض الموجود وحله.

د- تطور المعرفة الدينية:

 طرح هذا الاحتمال في القسم الثاني من هذه المقالة، وهذا استنتاج مبني على أساس أصل التحول في المعرفة الدينية.

وهنا أن نعرض لتقييم هذا الاحتمال: فنقول إنه لاشك في تطور المعرفة الدينية إجمالاً وأما القول بأن المعرفة الدينية هي أمرٌ غير ثابتٍ ومتغيرٌ مطلقاً، فإن هذا مطلب نادرٌ ولم يدّع أحد مثل ذلك ظاهراً "نعم بلحاظ ابتناء المعرفة الدينية على قسمين أو عدة أقسام من المعرفة الدينية وغير الدينية، فإنه يمكن عقلاً حينئذٍ مع التغير في المقدمات أن يطرأ تغيير في المعرفة الدينية أيضاً، ولكن بالإمكان العقلي للتغيير وبتعبير آخر "التحول الافتراضي المعلق"، لا يمكن استنتاج وقوع التغييرات بالفعل"().

ومن جهة أخرى، فإن تحول المعرفة، وكما أكدت ذلك نظرية القبض والبسط"، قاعدة عامة تشمل جميع أنواع المعارف البشرية ومن جملتها نفس المعرفة العلمية أيضاً. وبناءً على       هذا، فإن حل التعارض بالطريقة المذكورة سوف يكون مقبولاً فقط في صورة وقوع التعارض بين المعرفة العلمية القطعية غير القابلة للتغيير مع المعرفة الدينية الظنية القابلة للتغيير، وأما في سائر الحالات الممكنة في المسألة أي تعارض المعرفة العلمية الظنية مع المعرفية الدينية الظنية أو القطعية، فلا يمكن الاستفادة من الطريقة المذكورة؛ لأن النظريات العلمية نفسها عندما تكون في معرض التغيير والتبدل لا يمكن أن تجعل مقياساً لتغير المعرفة الدينية.

وبناءً على ذلك، سوف ننتهي إلى الطريقة التقليدية لحل التعارض والتي على أساسها في موارد تعارض المعرفة الدينية القطعية مع المعرفة العلمية الظنية، وحيث إننا نعتقد بدين خاص فإننا نحكَّم المعرفة الدينية ومن دون أن يكون لدينا توجيه نظري أو علمي لبطلان المعرفة العلمية.

وكذلك الأمر أيضاً في الموارد المتعارضة التي يكون طرفاها ظنيين وواجهنا تكاليف؟ فإننا نقبل التوصية الدينية، وإلا فلا مانع من قبول النظرية العلمية. وفي هذا القسم أيضاً فإن قبول المعرفة العلمية لن يتم تلقيه بمعنى بطلان المعرفة الدينية.

وأما مسألة الثابت والمتغير في الدين وكما أشير إلى ذلك، فإنها تطرح في قسم التكاليف الدينية، ولذا فلن تكون مفيدة في تعارض العلم مع البيانات التوصيفية للدين.

 

نقلاً عن موقع مجلة الحياة الطيبة – العدد السابع عشر – العلم والدين وهم القطيعة ويقينيات التواصل – دراسات فلسفية ومعرفية

 

المصادر والمراجع

 مايكل بترسون وآخرون، العقل والاعتقاد الديني، ص 370-372.

 انظر: دانيال ليتل، التبيين في العلوم الاجتماعية، ص 353-354.

 جان هيك، فلسفة الدين، ص 197.

 جان هرمن رندل، مدخل إلى الفلسفة، ص 261.

 أيان باربور، العلم والدين، ص 95.

 المصدر نفسه، ص 131-132.

 المصدر نفسه، ص 145-146.

 المصدر نفسه.

John Mac Murray، Reason and Emotions،  P. 107.

 Ibid، P. 108.

 Ibid، P. 109.

 العقل والاعتقاد الديني، مصدر سابق، ص 359.

 Homa Katouzian، ideology and method in Economics، P. 77.

 كارل ريموند بوبر، الحدس والنقوض، ص 123.

 The Encyclopedia of Philosophy، Vol. 2، P. 216.

 سروش، عبد الكريم، نظرية القبض والبسط في الشريعة، ص 218.

 ناصر مكارم الشيرازي، أشباه الفلاسفة، ص 268.

 الشيخ مرتضى الأنصاري، فرائد الأصول، ص 15-18.

 الشيخ عبد الله جوادي الآملي، حول الوحي والقيادة، ص 283-285.

 العلم والدين، مصدر سابق، ص 286.

 المصدر نفسه، ص 283.

 المصدر نفسه، ص 283.

 المصدر نفسه، ص 126، أنظر أيضاً، ص 130-131.

24 المصدر نفسه، ص 286

25 عبد الكريم سروش، المداراة والإدارة، ص 206.

26 نظرية القبض والبسط في الشريعة، ص 511-512.

 

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً