أ. داريوش محمد پور(*)
ترجمة: حسن الهاشمي
إنّ إجابة الدكتور سروش الثانية عن نقد الشيخ بهمن پور هي تكرار للقصة المتقدمة منه مراراً. ومن وجهة نظري فإن المشروع الذي يتقدّم به الدكتور سروش يغلب جانبه السياسي على جانبه العلمي والمعرفي.
إذا كان التنوير الديني يعني مجرّد توجيه النقد إلى الفقه فهو نشاط عقيم. وإنّ وجه التعارض بين الخاتمية والتشيع أضحى ـ كما يبدو ـ أبرز من أن تتمّ مناقشته من الزاوية التاريخية. وعلينا في هذه العجالة توضيح هذه المسألة، وهي أنّ مراد الدكتور سروش من (التشيع) هو التشيع الاثني عشري، الذي صادف أن يرتبط مصيره بالسياسة الحكومية. وإنّ نظرية ولاية الفقيه هي الجانب الأبرز من هذه النظرية. وبمعزل عن هذا كلّه فإنني لا أرى نقد الدكتور سروش للتشيع متيناً؛ وذلك للأدلة التالية:
1ـ لقد تحدث الدكتور سروش عن تقطيع أوصال النبوّة بمقراض الإمامة. ومن خلال النظر إلى المسألة من هذه الزاوية يبدو أن الطائفة الوحيدة التي لم تقطع أوصال النبوّة على هذه الشاكلة هم غالبية أهل السنّة في العالم. وعليه يتعيّن على الدكتور سروش أن يقدّم تعريفاً جديداً للتشيّع. إذا كان المراد هو مجرّد تحديد وتذليل التشيع السياسي المعاصر وجب اقتصار الحديث بصراحة ووضوح على تذليل هذا التشيّع الخاص، لا أن يتمّ توظيف مشرط الجراحة من طرف واحد على كيان التشيّع بأجمعه. لقد كان التشيع على طول التاريخ هو هذا الذي نراه بجميع مقتضياته السياسية والاجتماعية. إذا كان البناء على نقد التشيّع، بالاستناد إلى وضع النبوّة في الظل والهامش، فيجب على القاعدة عدم التوقف على الواقع الراهن، ولابد من العودة خطوة خطوة حتى نصل إلى البداية الأولى للتشيع.
2ـ قال الدكتور سروش في بيان موقع الشيعة وغير الشيعة في تاريخ الدين وتفسيراته: «إذا كان هناك الكبار من المفسِّرين والعرفاء والمتكلمين والمدافعين عن حصون الدين فإنما برزوا من الأوساط غير الشيعية».
من وجهة نظري فإن هذا الكلام إذا لم يكن باطلاً فإنه لا يخلو ـ قطعاً ـ من عدم العدل والإنصاف؛ فإنّ الدكتور سروش نفسه يدرك أكثر من غيره أن لواء الحركات والمدارس العقلية في الإسلام قد حمله الشيعة بالمعنى الأعم. وإذا أدخلنا دور المعتزلة في الحساب فلن نتمكن من إلغاء دور إخوان الصفاء والفاطميين في مصر في توسيع الحركات العقلية، اللهم إلا إذا كان للمفسِّر والعارف والمتكلِّم أو المدافع عن حياض الإسلام تعريف آخر لا يعرفه غير الدكتور سروش.
3ـ ما هو مستند الدكتور سروش عندما يقول: «ليس الأمر بأنّ آراء الشيعة مقدمة وأقوى بالمطلق من آراء غيرهم»؟
فهل يستند في ذلك إلى التاريخ الأشعري الطويل، الذي برز في مولوي والغزالي بشكل خاص؟ أليس عجيباً من الدكتور سروش، الذي يدعي تجديد تجربة الاعتزال، أن يرى مراده ومثاله البارز في فهم الدين في مولوي أو الغزالي؟! لا أروم من هذا الكلام تخطئة مولوي، أو تشويه سمعة الغزالي، وإنما الذي أريد أن أضيفه وأروم الوصول إليه هو أنه بينما يلبس الدكتور سروش رداء الاعتزال نراه يسلك سلوك الأشاعرة، من خلال تكراره لادعاءاتهم. وطبعاً علينا أن لا نغفل أنّ غير الشيعة، الذين يذكرهم الدكتور سروش، كان لهم السهم الأوفر في تطوير النظام الفقهي في العالم الإسلامي. ولكن إذا استثنينا الغزالي فما هو عدد المنتقدين للفقه من غير الشيعة؟ يشير الدكتور سروش بوضوح إلى ابن عربي، والفخر الرازي، ومئات النماذج الأخرى التي ليس لها ذكر دقيق وواضح في البين، ولكن علينا أن لا ننسى أيضاً أن ابن عربي نفسه عندما يتجاوز مقولة التفسير، ويصل إلى حدود التأويل، يكون في الحقيقة والواقع قد وصل إلى النقطة التي سبقه الشيعة إليها، فكيف يمكن القول بتصويب وإجازة تأويلات ابن عربي، والخضوع لما يقول، ولكن عندما نصل إلى تأويلات الشيعة نعمل على رفضها وإبعادها تحت ذريعة الغلوّ والتطرّف؟!
4ـ إنّ حجر الزاوية لادعاءات سروش في هذه البحوث يكمن ـ كما ذكرنا ـ في نقد الفقه. فلنفترض جدلاً صحة كلام الدكتور سروش، من أنّ الشيعة قد وظفوا الإمامة مقراضاً لتقطيع أوصال النبوّة، وعلينا من الآن فصاعداً أن نتخلى عن هذا السلوك الخاطئ، فما هي وظيفتنا بعد ذلك؟ وما هو الشيء الذي يميّز الشيعة من غيرهم؟ إذا كان البحث في حصر الولاية بالولاية الباطنية فما هو الفرق بين ولاية علي وولاية ابن عربي؟ لا شكّ في أن مراد الدكتور سروش من الولاية هنا الولاية التي تتجلى في السياسة. ولم يتجلَّ هذا النوع من الولاية في العالم بطبيعة الحال إلا في مصداق واحد. فهل توصَّل الدكتور سروش، وهو القائل بالتعددية الدينية، إلى وجود فهم أكثر صحّة من الفهم الآخر، بمعنى كون غير الشيعة أكثر وفاءً بفهم الإسلام وفهم الخاتمية من الشيعة؟ وهل ينسجم هذا الكلام مع الاعتقاد بالتعددية؟ وبالالتفات إلى هذا الكلام أليس ينبغي للدكتور سروش إعادة التفكير في نظرية التعددية وبسط التجربة النبوية أو أن يضيف إليها استدراكاً؟
من وجهة نظري إن لبّ كلمات الدكتور سروش يكمن في أنّ نصف سطوره عبارة عن إجابات عاطفية تنطق بالعتاب والشكوى، وإنْ كانت شكايات الدكتور سروش تستحق أن تلقى أذناً صاغية، بل هي غالباً في محلها.
5ـ المسألة الأخيرة التي لم أجد لها بعد كلّ هذا التكرار جواباً هي أنه بعد اتضاح مسألة الشيعة حملة المقراض نصل إلى شخص خاتم الأنبياء. فصحيح أنّ ولاية رسول الله لم تعد ولاية قائمة وموجودة، وصحيح أنّ شريعة خاتم الأنبياء قد ختمت بختم النبوات، ولكن كيف يكون التعامل والتوفيق بين شريعة مضى عليها أكثر من أربعة عشر قرناً والعالم المتحوّل والمتسارع في تطوّره؟ فلو أنّ الأمس كان يشهد شيعياً يقطِّع أوصال الخاتمية بمقراض الإمامة فإننا نشهد اليوم كلّ مسلم يعمل على تعطيل الخاتمية بمقراضه الخاص. ومع هذه المقدمات لا أجد مانعاً عقلياً من تجاوز حتى شخص النبي الأكرم. وأساساً فإن وجود النبي الأكرم وعدم وجوده ـ وفقاً لهذه الرؤية ـ لا يؤثر كثيراً في فاعلية علم الأخلاق المستقل عن الفقه، أو العقل المستقلّ عن الدين. وعليه فإنّ الحديث عن الخاتمية، سواء صدر من محمد أم عيسى أم موسى، فإننا في التالي نحن الذين نوضِّح معنى الخاتمية من خلال تعريفنا الخاص. وخلاصة الكلام: إنّ العقل عندما يستغني ويستقلّ لن تغدو له حاجة بالنبي، ويكون العقل بنحو من الأنحاء هو صاحب الوحي، لنعود بعد ذلك إلى ما كنا فيه من دوامة الدور الباطل. إن العقل المستقلّ والمستغني بنفسه هو نبي آخر في ثوبٍ جديد.
إنني أدرك أنّ مراد الدكتور سروش من تأكيده على الفهم الصحيح للخاتمية هو عدم إلغاء دور العقل البشريّ بعد رسول الله، وأن لا يكون هناك في مقام الإدارة السياسية والاجتماعية شخص فوق أن يُسأل. ولا شكّ في أنّ هذا الجهد يستحق التقدير والثناء. ولكنني لا أتصور أنّ طرح المسألة بهذا الشكل والأسلوب يساعد على بلوغ الغاية والهدف. فإذا كانت هناك ملازمة بين الشيعة وإلغاء دور العقل المستقل عن الإمام (الغائب أو الحاضر)، فمن وجهة نظري يمكن على هذا السياق إلغاء العقل من خلال التمسك بالخاتمية أيضاً. وإنّ من أهم الواجبات التي يتعيّن على الدكتور سروش أن يخوض فيها بوضوح هو أن يقدم تعريفاً دقيقاً وواضحاً عن (النبوّة) و(الإمامة) و(التشيع). وأما كلام الدكتور سروش في (الولاية الباطنية) و(الولاية السياسية) فلا يسعنا التطرق إليه في هذا البحث على نحو يفي بحقه. كما أنّ الشيعة في العالم لا يمكن اختزالهم بشيعة إيران، القائلين بولاية الفقيه. فإذا وجدنا نموذجاً واحداً تعتقد فيه جماعة من الشيعة اعتقاداً راسخاً بولاية إمامهم، حتى في الحد الذي يؤدي من وجهة نظر الدكتور سروش إلى إلغاء الخاتمية، ومع ذلك لا نصل إلى النتائج السيّئة التي يؤكد عليها الدكتور سروش، فهذا يعني إمكان الجمع بين هذا التشيع وبين العقل المستقلّ والأخلاق المستقلّة عن الفقه.
(*) باحث في العلوم السياسية.