أحدث المقالات

قراءةٌ في قصديّة النصّ

 

أ. د. عبد الأمير كاظم زاهد(*)

 

مقدّمة

قدّم التصوّر الفلسفيّ القرآنيّ مشروعاً حضاريّاً للإنسانيّة، كان أبرز ما فيه قضيّة التكليف، التي اعتبرت الإنسان قوّة هائلة ومحركة للمعطيات الكونية، وطاقه قادرة على صنع التقدم والسعادة للنوع، فلم تتركه بلا منظومة واجبات، وحزمة حقوق، وقيم ضامنة. إنّ أساس نظريّة التكليف هي «فلسفة الاستخلاف الإسلاميّة»، التي يعدّ التوحيد الركن الأول فيها، بما يتضمّنه من توحيد للألوهيّة والخالقيّة والربوبيّة. وقد دلّت على ذلك آيات كريمات، تجاوزت المئات، توحَّد مضمونها في «أنّ لله ملك السماوات والأرض»، وأن «بيده مقاليد كل شيء». فالوحدانيّة هي المنطلق، والمحور العقائديّ والفلسفيّ للتكليف، ثم إنه تبارك وتعالى أعطى للإنسان دوراً أساسيّاً في بناء الحياة وعمارة الأرض بأن استخلفه في الأرض، وجعله المتصرّف في معطياتها على لائحة الأهداف الإلهيّة، فقد قال عزّ وجلّ: ﴿هُوَ أَنشَأَكُمْ مِنْ الأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾ (هود: 61).

قال المفسِّرون: أي أمركم بعمارتها، لأنّ الألف المزيدة والسين والتاء (صيغة تدلّ على الطلب)([1]).

وذكر في كتابه الكريم: ﴿لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ (النور: 55).

وقال في كتابه المجيد: ﴿وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ الأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ (الأنعام: 165).

وقال: ﴿ثُمَّ جَعَلْنَاكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ﴾ (يونس: 14).

وقال في سورة فاطر: ﴿هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلاَئِفَ فِي الأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ (فاطر: 39).

والمستفاد من هذا الجمع المقدَّس من كلام الباري تعالى أنه منح الإنسان تخويلاً بالإفادة من معطيات الطاقات البشريّة والموارد الطبيعيّة الكونية، وأمره بإقامة حياة كريمة للإنسان، بعد أن خلق له الكون كلّه مسخَّراً لخدمته، فجاءت أيضاً آيات التسخير لتفصح عن تلك النعم الجليلة التي تشجِّع الإنسان على الإقدام لاستثمار طواعيتها، وإمكان الإفادة منها، فقد قال تعالى: ﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ…﴾ (الحجّ: 65).

وقال: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً و…﴾ (لقمان: 20).

ثم قال عزّ وجلّ: ﴿كَذَلِكَ سَخَّرَهَا لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ﴾ (الحجّ: 37).

فلم تكن الإنابة الربانية للإنسان إنابة على «ما لا يطيقه», إنّما على الكون الذي طوَّعه الله تعالى لخدمة أغراضه وأهدافه، فكانت معادلة التقدُّم في الأرض كما تفهم من آيات الكتاب المجيد مكوَّنة من العناصر التالية:

1ـ التكليف الرباني للإنسان بالنصّ المنزل.

2ـ القوّة العاقلة والقوّة الجسديّة للإنسان + الموارد الطبيعيّة للكون، والوقت المتاح ووجوب العمل.

3ـ وضع المثوبة والجزاءات الحسنة على الفعل الحسن ونظام المسؤوليّة.

وبالجمع بين هذه العناصر وجد الإنسان نفسه كائناً عاقلاً مريداً، يفكر ويعمل، ولم يجد نفسه كائناً عبثياً، إنّما وجد محمّلاً بأعباء رسالة إنسانيّة عالميّة ذات آفاق زمنيّة ممتدة إلى قيام الساعة، أي انتهاء الزمن المخصَّص للتكليف.

بعد ذلك يلحظ المتتبع أن هذا التكليف لم يرد في القرآن الكريم تكليفاً إجبارياً قهرياً، تحكمه قوانين سالبة للإرادة والاختيار، إنّما يعدّ التكليف صحيحاً متى نتج عن تأمّل حرّ واختيار محض.

قال تعالى في سورة البقرة: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾ (البقرة: 220).

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدَى فَلاَ تَكُونَنَّ مِنْ الْجَاهِلِينَ﴾ (الأنعام: 35).

وقال: ﴿وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكُوا وَمَا جَعَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً﴾ (الأنعام: 107).

وقال تعالى: ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لآمَنَ مَنْ فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً﴾ (يونس: 99).

ما يستفاد من هذه النصوص المجيدة أن الإيمان ـ على سموّه وعلوّ مرتبته ـ حينما يفرض بالقسر يكون مدعاة للعنت، وأن الله تعالى لم يعنت الإنسان حتى بقصد حمله على الإيمان، إنّما أراده إيماناً حرّاً برهانيّاً، ليكون الأساس الفلسفيّ للتكليف قائماً على مركّب: «الحرّيّة»، و«العقلانيّة»، و«الاختيار».

فالحرّيّة: التعامل مع كل البدائل والخيارات.

والعقلانيّة: استقرار العقل على الإيمان من خلال البرهان.

والاختيار: تبنّي الموضوع بعيداً عن كلّ ما يمتّ بصلة إلى القسر والإكراه والإجبار، المباشر وغير المباشر.

ويعتقد الشيعة الإماميّة ـ ولا سيّما الشيخ الطوسي& ـ أنّ الله تعالى عامل الناس باللطف، فأرسل إليهم، إضافة إلى ما تقتضيه عقولهم من الإيمان وفطرة خلقهم من الاعتـقاد بالتوحيد، أنبياء ورسل، فكانوا حججاً ظاهرة، بينما العقل والفطرة حجج باطنة([2]). ولـعل ذلك مستسقى من روايات الأئمّة^، كما نقلها الكليني([3])، فلقد قال تعالى: ﴿لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ﴾ (آل عمران: 164). فبالعقل والفطرة، ولطف الله بـإرسال الأنبياء مزوَّدين بالمعجزات والأدلة الجلية عـلى صدقهم،وبإكمال الدين وإتمام النعمة، وذلك باستمرار السفارة الإلهيّة بعد النبي الخـاتم| بالأئمّة الطاهرين المعصومين الذين يشكِّلون (الحـجج الباهرة) على أرجحية الإيمان بالإسلام على القناعات، فقد دعمت إرادة الله البالغة بتكليف الإنسان بالمهام الإلهيّة، التي سمّاها القرآن (الأمـانة الكبرى)، التي عرضت على الجبال فأبينها وحملها الإنسان، قـال تعـالى: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾ (الأحزاب: 72).

إن «قبول الأمانة» يعني تحمل مسؤوليّتها، وهو مفهوم اختياريّ عقلانيّ قصدي يخرج هذا التحمل من كل الأشكال التي تتحقق بدون القناعة الذاتيّة الكاملة، فلم يكن الإيمان وليد تناقض طبقي، أو من صنع المستغلّين، كذلك ليس ناتجاً عن المخاوف من الطبيعة، أو الشعور بالرعب من الكوارث([4]).

إنه ناتج عن إدارك عميق للمهمة التي يجب على الإنسان أن يؤدّيها؛ ليكون شاهداً على الناس، «ليضاف إلى عموم التصوّر القرآنيّ مفهوم الشهود المركّب». فلقد ربطت هذه الرسالة المهمّة الربانية بالشهود المركَّب على مرحلتين:

الأولى: شهادة الرسول على الأمّة.

والثانية: شهادة الأمّة المسلمة على أمم الأرض الأخرى.

قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً﴾ (البقرة: 143). فالمسلمون ليسوا أمة مشهودة فقط، إنّما أمة شاهدة من جهة وظيفتها التاريخيّة، ومشهودة من جهة اتّباعها التكليف الرباني التبليغيّ بوصفها الممتثل الأول للتكاليف، والمكلفة بحمل الرسالة إلى الناس كافّة.

ويلاحظ أن بعض آيات القرآن الكريم جعلت وظيفة الأمّة كلها البلاغ، فقال: ﴿كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (آل عمران: 110)، بينما قال في أخرى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إلى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ﴾ (آل عمران: 104).

ففي الأولى عبَّر عن (الأمة) كلّها بوصفها مكلفة تكليفاً عامّاً، كلها تأمر بالمعروف؛ بينما أسند إلى طائفة من هذه الأمة الكبيرة تكليفاً خاصّاً، وهو الدعوة إلى الخير، بممارسة التثقيف على رسالة التكليف بمعناه الإنسانيّ، كما هو منطوق الآية الثانية.

إن الإنسان المسلم ـ في المدخل القرآنيّ ـ للتكليف تحكمه حزمتان من السنن الكونيّة:

الأولى: السنن المنظِّمة للوجود كله، فهو كبقية المخلوقات.

والثانية: سنن خاصّة له بوصفه قد منح حق الاختيار، وتعيين الهدف من وجوده، الذي سيكون الباعث له على رسم الخطط وتنفيذها والتقييم والمراجعة وإعادة النظر والتعديل وممارسة الاجتهاد الدائم من أجل الحياة الأرقى. لذلك جعل التكليف بناءً فوقياً على الترابط الجدلي بين مواقفه العمليّة و الأهداف التي خطّها لنفسه، وهذا هو القانون الذي سينظم ظاهرة الاختيار([5]).

أما أهدافه فتحدّدها «مصلحة» الإنسان النوع. فأهداف التكليف ليست طبقاً لـ (مصلحة جماعة ما)، إنّما للمصالح العليا لنوع الإنسان ودوره في الحياة، وكرامته وتكريمه، وبناء السلام الطوعي بين البشر، والتقدم من خلال مدخل العبادة لله، الذي لا يعني إلاّ تحرير الإنسان من عبادة القوى المخلوقة إلى عبادة القوة الخالقة الوحيدة المطلقة. فحركة التكليف ستكون للقيمة الإيجابيّة التي يشتمل عليها الهدف، أما معطيات تلك القيمة فإنها تعود على عموم الناس بصوره تلقائية.

إنّ التكليف يخلق الظروف الموضوعيّة لضمان حركة الإنسان على وفق مصالح الإنسان النوع، في التأكيد القرآنيّ المتكرِّر بقصدية عالية وواضحة على مفهوم العمل الصالح، الذي غالباً ما نجده قد اقترن في الآيات الكريمة بالإيمان.

قال تعالى: ﴿مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً﴾ (النحل: 97).

وارتبط مفهوم العمل الصالح بأنموذج ما بعد التوبة، فصار شرطاً لقبولها، بل المصداق لحصولها التحوّل إلى فضاء العمل الصالح. قال تعالى: ﴿وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً ثُمَّ اهْتَدَى﴾ (طه: 82)

إنّ عشرات بل مئـات التكرارات القرآنيّة مؤكِّدة على ضرورة اعتماد المسلم على قيم العمل الصـالح وتبنّيه لها، فقد جعل الله العمل الصالح مقدّمة لقبول المغفرة وأساساً للتوبة، ومعياراً للمؤمن الأفضل، وقريناً غير منفكّ للإيمان بالله وباليوم الأخر. والعمل الصالح هو القانون الطبيعيّ للحضارة، فلا حضارة في طول التاريخ إلاّ من خلال ثقافة العمل الصالح، ثم سلوكيّات العمل الصالح.

التجسيد النبويّ للتصوُّر القرآنيّ

يظهر للمتابع أنّ سيرة النبيّ المصطفى| تتطابق تماماً بوصفها التجسيد العمليّ للنظريّة القرآنيّة للتكليف.

فالنبي الأكرم أولاً قد بدأ رحلة الإيمان بالتفكُّر والتأمُّل الحرّ بالوجود، ونزع نفسه من كل مؤثِّرات عصره، فتفرَّد في مقدّمات البرهنة للإجابة على سؤال الوجود والموجود والغاية والنهاية.

ثم ارتقى لكي يجد في ذاته نزعة الاستجابة للتكليف([6])، وتبني قيم العمل الصالح، فلما جاءه الناموس وجده قد وصل إلى الاختيار الحرّ بتعمّق صوره، وانتهى من إقامة البرهان، وتوافق مع الفطرة، فعندئذ نودي بأداء المهمة، وتحمُّل الأمانة، والتشرُّف بالاستجابة للتكليف. ولنلحظ أن ظروف إرسال النبي محمد| كانت في أشدّ بقاع الأرض تخلُّفاً، فلم تعرف جزيرة العرب شيئاً من حضارات عصره، ولم تمارس تجربة حضاريّة.

لقد كانت غارقة في الشرك والوثنية، تحكمها قيم بدائية، وتعيش على الصراع الذي يفتقد إلى قضيّة حقيقيّة([7])، وتأكل من غزوها لبعضها. لقد أرسل محمد| إلى مجتمع لم يعرف الدولة، ولا الحقوق، أمّا القوى المنتجة فيه فقد كانت متجهة إلى الحروب الداخليّة. ومعروف أن تلك البقاع لم تتعامل مع الحرف، ولم تعرف الكتابة، ولا الفلسفة، ولا النزعة إلى الافادة من تجارب الغير. وأظنّ أنّه إنّما أرسل الدين الخاتم لمثل هذا المجتمع حتّى تكون نظريّة التكليف تشرع أول مرة في أصعب الظروف، لتحول ذلك المجتمع وبتلك المواصفات إلى مجتمع رسالي يحمل للعالم أطروحة القيم الناهضة، ويبشر بالعدل والسلام، ويحقق التقدم والرقيّ في أقل من ربع قرن، وفي ذلك حكمة ربّانية جوهرها (إنْ نجح المسلمين في الظروف الأكثر تعقيداً فإنهم سيكونون أكثر نجاحاً في مجتمعات المعرفة والتحضُّر).

إن انتقال المجتمع العربيّ من نظام القبيلة إلى مجتمع يحمل رسالة (وحدة بني البشر كافة) يحتاج إلى تصوّر ذهنيّ فاعل وناقل للإنسان عبر حلقات في غاية التعقيد. إن انتقال ابن البيئة التي مارست التمييز على أساس الجنس، أو العرق، أو النسب، أو الوضع الاجتماعيّ، إلى وضعٍ يرفع فيه شعار (الناس سواسية كأسنان المشط)، ويجعل من ذلك قاعدة دستورية يسري مقتضاها في القضاء والإدارة والتشريعات واللوائح والنظم، أمرٌ عجيب، وأعجب منه حين ينتقل من الممارسة الغاشمة للقوّة على الضعفاء والفقراء والمستضعفين إلى وضعٍ يحمل فيه لواء تحرير العالم وإنقاذ المظلومين من الاستبداد.

إن قداسة تلك المهمة تكشف لك أنّ قيم التكليف قد حوّلته من النموذج المحبط إلى نموذج آخر، وعلّمته أن يكون ذلك الإنسان الذي يخلق التحولات الاجتماعيّة الكبرى، التي طالما يكدح الإنسان لأجلها في أجيال متعدّدة، ويقدّم التضحيات لأجل أن يحقّق بعضها. فلقد حقّقها كاملة، وأشاع تجربة حضاريّة لا تزال حيّة.

وساعد القرآن الكريم على بلورة نظريّة التكليف في جانب الوضوح في بيان أركانها وأجزائها وشروطها ومعطياتها، ودعمها بتوجهات ذهنيّة مساعدة لها، ومنها: القصص القرآنيّ. فقد كانت مهمتها الكشف عن عناصر القوّة في الأمم الناهضة وأسباب النهضة، وعوامل تطوّرها، وكذلك الأمم العاجزة عن أحداث النهوض وعوامل ذلك.

إن استقراء القصص يوصلك إلى أنها تركز على:

1ـ أنّ الفكر الملائم للفطرة الإنسانيّة هو الفكر المؤهَّل لقيام الحضارات.

2ـ أنّ العقل المستنير دائماً قرين النصّ، وأساس الاجتهاد.

3ـ أنّ الرؤية الدينيّة السليمة هي الوسطية المعتدلة، البعيدة عن الغلو والإكراه.

ومن العناصر المؤازرة للتكليف أيضاً ذلك السحر البياني في هذا النصّ، الذي يلهب المشاعر، ويعمق الشعور بأهمّيّة (المخاطب)، في وجود الظروف والمؤثِّرات لاستحداث تيّار يتعمَّق فكريّاً وروحيّاً، فتنضج في داخلهم قيادات كفوءة تمارس مهمات التكليف الحضاريّ العبادي ممارسة متميزة صحيحة. إن محمداً| لم يكن جزءاً من وعي (جيل النزول)، إنّما هو (لطف) منحه الله للبشر، لكنه كان المؤسِّس لتيّار إيجابيّ، لبناء حضارة الكون والحياة، حضارة هدفها الإنسان الذي تتعمَّق في داخله وتتجذَّر إرادة التغيُّر الإيجابيّ، وتتوقَّد مسؤوليّته عن إحداث ذلك التغيير لصالح الإنسان.

قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا مَا كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِنْ جَعَلْنَاهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشَاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ﴾. إن هذه الآية تعبِّر عن جدلية في نظريّة التكليف هي جدليّة (الأفكار المطلقة) و(الامتثال ضمن ظروف زمانيّة)، اللذين استعصى فهمهما على كثير من الدارسين، مثل: الباحث المصري نصر حامد أبو زيد. وقد أوضحها الإمام الشهيد الصدر&، موضِّحاً اللبس الذي وقع فيه الدارسون: إن الرسالة كمحتوى حقيقة ربانية فوق الشروط والظروف المادّيّة، لكنها بعد أن تحوّلت إلى حركة وإلى عمل متواصل في سبيل التغير يصبح بالإمكان ربطها بظروفها وما تكتنفها من ملابسات وأحاسيس). فلا مجال للإفادة من التطبيق الأول للنصّ على الواقع الزمنيّ أن يتحول النصّ ذاته إلى (فعل تاريخيّ)، كما لا مجال للفصل التعسُّفي بين النصّ وبين تطبيقاته المتعدِّدة، والتي يحكمها جوهر واحد.

إن المحتوى العقائديّ في المضمون القرآنيّ يحدد الإجابة عن الأسئلة الأزلية عن الوجود، والزمن، والنهاية، والمسؤوليّة، وهي مقدّمات التكليف، ويهيّئ العقل المتلقي للنصّ القرآنيّ أن ينتهي من مقدّمات البرهان على ممارسة (الدور الرسالي العالميّ والتاريخيّ).

أما المحتوى التشريعيّ فهو الذي يحدِّد المتاح والممكن والممنوع من سلوكيّات العمل التغييري، أو فعاليّات التحوّلات الحضاريّة اجتماعيّاً واقتصاديّاً ليمارس جزئيّات التكليف على بيّنة من أمره.

أما المحتوى القيمي فهو الضامن لكي ينحاز العقل الإسلاميّ دائماً إلى الجانب القيمي، ولا سيما إذا اصطدم بالمصالح «الذاتيّة» أو «الفئوية». فالتكليف يحوِّل الانتماء إلى عقيدةٍ ما من انتماء رسميّ إلى تفاعل شمولي مع محتوى الرسالة وأهدافها. يقول الإمام الشهيد الصدر&: «إن هذه الرسالة بنزولها إلى مرحلة التطبيق دخلت التاريخ، وساهمت في صنعه. إن هذه الرسالة لم يقتصر أثرها على بناء هذه الأمة، بل امتد من خلالها ليكون قوّة مؤثِّرة وفاعلة في العالم كلّه على مسار التاريخ، ولا يزال المنصفون يعترفون بأن الدفعة الحضاريّة للإسلام هي التي حرّكت شعوب الأرض كافّة نحو بناء حضارة راقية للإنسان المعاصر»([8]).

في نهاية المطاف أريد أن أسجِّل أن حضارات العالم المعاصر وتوجّهاته يمكن تقسيمها إلى: حضارات رسالية؛ وأخرى ذاتيّة منكفئة على ذاتها. والمعيار في ذلك مدى شعور أتباع التجربة الحضاريّة بمسؤوليّتهم عن حقوق الإنسان الطبيعيّة والمدنية والسياسيّة والعقائديّة في العالم، وضرورة تحرير الإنسان من الاستبداد والاستغلال، والمشاركة الصادقة في تنمية الشعوب الأخرى، ونزع السلاح وإيقاف النزاعات، وتسخير التكنولوجيا لصالح الإنسان، والمسؤوليّة المشتركة في الحفاظ على البيئة في عموم الأرض.

إن أمريكا والغرب ـ على تفاوت بينهما ـ يزعمان أنّهما يسعيان إلى نشر الأنموذج الأخير للإنسان في بناء حياة كريمة، وتقدّم إنسانيّ، وسيطرة على الطبيعة لصالح الإنسان على وفق نهاية أطروحة التاريخ (فوكوياما)، ويبشِّران بالديمقراطية والليبرالية بوصفهما علاج شرور السلطة المتأصِّل([9])، لكنّ ذلك عمليّاً لا يرقى إلى التوصيف النظريّ الأيديولوجي.

أقول: على المفكِّرين المسلمين أن يعرضوا رسالية حضارتهم على العالم المعاصر للمطالبة بالحكم الرشيد الذي تبنّاه الإسلام قبل كل الأمم، وتحقيق التكافل والتضامن بين جميع بني البشر، وإبراز مسؤوليّة المسلم عن الضرر الذي يصاب به أبناء البشر، ليقدّم كل العون لكل المحتاجين، بل يمنع حصول الضرر، فقد جاء في حديث الرسول الأكرم| قوله: «لا ضرر، ولا ضرار».

ممّا تقدم يظهر:

1ـ إن رسالية القرآن الكريم الواضحة في عالميّتها وقيمها انعكست على تصوّره عن نظريّة التكليف التي تضمّنتها نصوصه المجيدة.

2ـ إن التكليف لا يقتصر على العبادات بمعناها الأخصّ، بل يتعداها إلى نصرة الإنسان مطلقاً، ومنع الكوارث عنه، وتحقيق السلام المجتمعي الإقليمي والعالميّ، وحماية حق الحياة للإنسان مطلقاً؛ لقول الله تعالى: ﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ﴾، فلا يقتصر التكليف في الإسلام على أداء الفروض العبادية، إنّما ترتبط أحكامه كلها بالمصالح العليا للإنسان، وهي غير مقطوعة عن الأفق الإنسانيّ.

3ـ إن ربط التكاليف العبادية، وتعليل الأحكام الفقهيّة في العقود والمعاملات، وربط عقوبات النظام الجنائي، بالمغزى الاجتماعيّ، كما أوضح بعض علماء الإماميّة، مثل: كتاب (علل الشرائع)، يجعل المسلم على بيِّنة من هدفيّة العبادة وفلسفة التشريع، وحكمة التكليف أثناء ممارسته الجانب العباديّ.

4ـ لا تزال الحرّيّة والعقلانيّة والاختيار الحرّ والقصديّ أسساً قوية للإيمان، وعلى هذه الأسس يقوم الاعتدال والانفتاح على الثقافات الإنسانيّة من دون اغتراب عن الجذر الحضاريّ والمنظومة العقائديّة للإسلام. ومن معطيات ذلك تلاشي مظاهر الغلو والتطرُّف وإهدار الحقوق الإنسانيّة تحت مدّعيات دينيّة.

5ـ إن المدخل الفلسفيّ لنظريّة التكليف يسانده التصوّر القرآنيّ، بل يخدمه بالتوافق والتطابق والاتّفاق. لذلك لا مجال للافتراض بأنّ المدخل الفلسفيّ العقلانيّ يتعارض مع المدخل الإيمانيّ، بل هما يعبِّران عن حقيقة واحدة، فلا يتصوّر فيهما التقاطع والتضادّ.

6ـ إن مفهوم الرشد، الذي جعلت مفردة واحدة منه أساساً وشرطاً للتعرف بالأحوال الشخصيّة، يدعونا إلى نقل مفهوم الراشد وتوسيعه إلى عموم التكاليف، فالتكاليف تؤسِّس على «الرشد الفكريّ والعقليّ والنفسيّ»، وتتجاوز النطاق الشخصيّ والأسريّ والمجتمعيّ إلى النطاق الإنسانيّ. ويتخطّى جوانب العبادات بالمعنى الأخصّ إلى جانب الامتثال للأوامر الربانية، المقرون بمعرفة المغزى الإنسانيّ، والمعطيات الإيجابيّة للفعل العبادي، والأثر الذي يظهر في ترقية الحياة، وتنمية القيم، وتطوير الصلة بين الإنسان وبين الله.

الهوامش:

(*) أستاذٌ جامعيّ، وباحثٌ في الفقه الإسلاميّ، وعميد كلّية العلوم الإسلاميّة في كربلاء، له مؤلّفاتٌ فكريّة وفقهيّة متنوِّعة، من العراق.

([1]) الطبرسي، مجمع البيان.

([2]) محمد رضا المظفر، آراء صريحة، رسالة غير منشورة.

([3]) الكليني، أصول الكافي 1: 118، كتاب البعثة.

([4]) محمد باقر الصدر، الفتاوى الواضحة: 20، مقدمة الرسالة والرسول|.

([5]) محمد باقر الصدر، مقدمة الفتاوى الواضحة: 21.

([6]) بحار الأنوار 81: 125؛ ابن هشام، السيرة النبويّة 1: 91.

([7]) محمد باقر الصدر، مقدمة الفتاوى الواضحة: 22.

([8]) محمد باقر الصدر، مقدمة الفتاوى الواضحة: 75.

([9]) للتفصيل انظر: فوكوياما، نهاية التأريخ، الإنسان الأخير: 92.

Facebook
Twitter
Telegram
Print
Email

اترك تعليقاً