تمهيد ــــــــــ
المدرسة التفكيكية، مذهب فكري مستقلّ قائم بذاته على أسسه ومبانيه، استوعب حتّى الآن خمسين موضوعاً رئيسياً، إلى جانب تسعمائة مسألة علمية في طيّات موضوعاته ومطاولاته، من هنا، لا نجد مسيس حاجة لرصد بعض أبرز شخصيات هذه المدرسة المتأخرة، وذلك لأنّنا نعتقد بأنّ هذا المنهاج الفكري الذي رسمته المدرسة التفكيكية منهاج ضارب في القدم، حتى لينال في قدمه عصر نزول القرآن الكريم.
إلاّ أننا ــ مع ذلك ــ نشير على جملةٍ من أعلام هذه المدرسة ووجهائها وكبرائها، ليطّلع القارئ على ذلك، فتكتمل صورة المدرسة عنده.
ولهذا كانت هذه الدراسة.
السيد موسى الزرآبادي القزويني 1353هـ ــــــــــ
1 ــ العالم الربّاني والمتألّه القرآني السيد موسى الزرآبادي، من العلماء الجامعين للمعقول والمنقول، ذو الفنون، من نوادر الزمان، والمتوسّلين الواصلين، المستنير بأنوار الولاية، وأحد العابدين والزاهدين والورعين قليلي النظير، البالغ في السعادة، والأنموذج الكامل للإنسان المربّي قرآنياً في العلم والعمل.
المهم في دراسة مثل هذه الشخصية معرفتها حقّ المعرفة، وكما ينبغي، ودرك أبعادها الوجودية، وحجمها الروحي والمعنوي، وجامعيتها واستيعابها العلوم والمعارف مع العمل والتعبّد في آفاق الصيرورة والكمال.
ولد السيد الزرآبادي عام 1294هـ، من سيدة صالحة ــ إحدى بنات أحد علماء قزوين ــ أبوه حجة الإسلام والمسلمين السيد علي الزرآبادي القزويني (1318هـ) وهو من العلماء الفاضلين، ومن أهل الحقائق والمعاني، وينتسب السيد الزرآبادي إلى شهيد أهل البيت E زيد بن علي بن الحسين B، ولهذا فهو من السادة الحسينيين، وقد كان نقش خاتمه: «موسى الحسيني».
اشتغل السيد موسى الزرآبادي في مدينتي طهران وقزوين بتحصيل علوم المعقول والمنقول، فبلغ فيها المراتب السامقة، وقد كان من أساتذته في الفقه والأصول في قزوين الفقيه المحقق آية الله الحاج ملا علي أكبر إيزدي سيادهني التاكستاني (1340هـ)، وقد كتب السيد الزرآبادي تقريرات درسه في الفقه والأصول.
أما أساتذته في طهران، فكان منهم: الفيلسوف الفاضل الميرزا حسن الكرمنشاهي (1336هـ)، والفيلسوف العارف السيّد شهاب الدين الشيرازي (حوالي: 1320هـ)، والفيلسوف العارف الشيخ علي نوري حكمي (حوالي: 1335هـ)، والعالم المعروف الحاج الشيخ فضل الله النوري الشهيد (1327هـ).
وقد قيل: إن السيد الزرآبادي كان ذا همّةٍ عاليةٍ في تحصيل العلم وجهدٍ عظيم كذلك، فقد ذكر بعض رفقائه في الدرس أنّه عندما كنّا في أيّ وقتٍ من الليل نقوم مستيقظين كنا نجد غرفة السيّد موسى مضاءة.
كما كان السيّد الزرآبادي من الأساتذة المسلَّمين المشهود لهم في العلوم الغريبة والفنون المحجوبة الخفيّة، وكان متبحراً إلى أبعد الحدود فيها، بيد أنّ أساتذته في هذه العلوم ما زالوا غير معروفين.
السيرة العملية والأخلاق الشخصية ــــــــــ
كان السيّد الزرآبادي من نخبة عصره في التقوى وتهذيب النفس والسلوك الشرعي، بيد أنّنا لا نعرف على هذا الصعيد أساتذته ولا مربّيه، وليس من البعيد أن يكون اهتمامه بهذا الجانب الروحي باشارةٍ من والده، إذ كان واحداً من أهل المعنى، وقد قيل: إنّ الزرآبادي كان مراقباً لنفسه ورعاً متجنباً المحرّمات، عاملاً بالواجبات منذ بدو نشوئه، بل لربما أنجز أحياناً تمام المستحبات الشرعية، وهذه التنوّعات في جوانب شخصية هو ما صنع منه عاملاً عالماً كاملاً جليلاً، أي إنساناً يليق أن يتصف حقاً بعالم الدين.
الزرآبادي، المؤلّـفات والمصنّفات ــــــــــ
ترك لنا السيد الزرآبادي عدداً من المصنفات ونتاجاً حافلاً من التأليفات، والملفت أنّه رغم انشغاله البالغ بالعبادات والرياضات الشرعيّة، وبختم القرآن والقيام بالأوراد المأثورة، وممارسته التفكّر والتعقل الطويلين، كما وتدريس الطلاب وتربية التلامذة، وربما أقام الجماعة أحياناً، كما واشتغل بالعلوم الغريبة بل وتبحرّ فيها.. رغم ذلك كلّه، ترك نتاجاً تصنيفياً كبيراً في حجمه، مع عمره غير الطويل الذي قضاه، والذي بلغ التسعة والخمسين عاماً.
وهذا مسرد بتأليفاته وهي: 1 ــ تقريرات الفقه والأصول. 2 ــ تعليقة على قسمٍ من كتاب الرسائل. 3 ــ حاشية على «كفاية الأصول (1 و 2). 4 ــ حاشية على المطوّل في علوم البلاغة (قسم من علم البيان). 5 ــ حاشية على منظومة السبزواري (1). 6 ــ حاشية على منظومة السبزواري (2)، لكنه غير تام. 7 ــ حاشية على شرح الإشارات (قسم الإلهيات). 8 ــ حاشية على منطق الإشارات. 9 ــ شرح سلامان وأبسال لابن سينا. 10 ــ رسالة الاعتقادات (باللغة العربية). 11 ــ أصول دين (بالفارسية). 12 ــ رسالة في توضيح حديث: ما الحقيقة؟. 13 ــ رسائل ومجالس في الموعظة والأخلاق. 14 ــ رسالة مختصرة حول المشروطة (الحركة الدستورية). 15 ــ رسائل ونسخ هامّة في أنواع العلوم الغريبة.
الزرآبادي ومدرسته التربويّة ــــــــــ
المدرسة التربوية للسيد موسى الزرآبادي، مدرسة تتمازج فيها مظاهر العلم والعمل أو فقل: التزكية والتعليم، علم ومعرفة على أساس العلم القرآني الخالص، وعمل على طبق الموازين الشرعية الدقيقة، ففي الوقت الذي كان الزرآبادي مطلعاً فيه بدقّةٍ وكفاية وعمق على علوم الفلسفة والعرفان، حيث حضر عند أساتذةٍ كبار في هذه العلوم والفنون في عصره، بل درّس بعضاً من المتون الرئيسية في هذه العلوم، إلاّ أنّه كان رجلاً تفكيكياً، بل كان واحداً من أكبر أركان مدرسة التفكيك في النصف الأوّل من القرن الرابع عشر الهجري.
لقد بالغ الزرآبادي في التأكيد على الجانب العملي، أي التقوى وتهذيب النفس، معتبراً استغلال الوقت، وعدم هدر الفرص، أو إتلاف الطاقات من مهمّات الأمور وعظيماتها، واضعاً ــ على الدوام ــ الرعاية الدقيقة للتكليف الشرعي، والعمل بالشريعة المطهّرة على رأس الأمور وقمّة الأولويات.
ويكفي للتدليل على تأثير الزرآبادي ومدرسته العلمية والعملية في تكوين جيل عظيم، وشخصيات بارزة في الاجتماع الإسلامي، استعراض سلسلة تلامذته، بل يكتفى لذلك بذكر شخصيّتين تربّيتا تحت يديه، ونالتا الكمال من آدابه وتعاليمه وهما: الشيخ مجتبى القزويني الخراساني (1386هـ)، والشيخ علي أكبر إلهيان التنكابني (1380هـ)، فكلاهما عالم، عامل، ربانيّ كامل، جامع وفاضل و..
الزرآبادي في ميدان السياسة والاجتماع ـــــــــــ
لا يمكن لرجال عظماء من أمثال السيّد الزرآبادي، ممن تخلّقوا بالأخلاق القرآنية وتربّوا على تعاليم المعصومين E وامتلكوا من الرصيد الروحي من عبادة الله وحبّ الإنسان ما يكفي، لا يمكنهم الغفلة عن شؤون خلق الله، والاهتمام بأمور المسلمين، من قضاياهم السياسية، والاجتماعية، والمعيشية، من هنا، نلاحظ اهتمام السيد الزرآبادي بالحركة الدستورية التي كانت قائمةً في زمانه، إلى جانب انشغالاته الظاهرية والباطنية و.. بل لقد صنّف رسالةً في فوائد الحركة الدستورية، وقد جاء في الوثيقة التي أعطاني إيّاها ولده العالم الفاضل حجة الإسلام والمسلمين السيد جليل الزرآبادي([2])، والتي اعتمدتُ عليها أكثر الاعتماد في تدوين هذه المعلومات حول السيد موسى الزرآبادي.. جاء ما يلي: «والظاهر أن السيد ]الزرآبادي[ كان مناصراً أيام الحركة الدستورية لها، بل لقد كتب في مدحها رسالةً بلغت حوالي الصفحات العشر، وهي رسالة ما تزال موجودة، إلاّ أنّه عاد وعارض الحركة، عقب وقوع انحرافات فيها».
نعم، إنّه الاهتمام بالتكليف السياسي والوظيفة الاجتماعية الدينيّة، والانشغال بهما حتى المقدور، ثم معارضة الحركة والانسحاب جانباً عقب انحرافها، دون أن يشرعن هذا الانحراف أو يغطّيه.
رجال مدرسة الزرآبادي وتلامذته ــــــــــ
ترعرع في أحضان مدرسة السيّد موسى الزرآبادي نخبة مرموقة، سارت معه من المراحل الأولى حتى النهايات، فقد استفاد بعضهم من محضره أيام حياته بكثرة، فيما لم يحظ فريق آخر سوى بفرصةٍ من الوقت يسيرةٍ للاقتباس منه.
وهذا مسرد بأسماء تلامذته: 1 ــ الشيخ علي أكبر إلهيان التنكابني (1380هـ). 2 ــ الشيخ مجتبى القزويني الخراساني (1386هـ). 3 ــ الشيخ هاشم القزويني (الخراساني) (1380هـ). 4 ــ السيد محمد تقي المعصومي الاشكوري، صاحب كتاب: خشبتين وحجر واحد. 5 ــ الشيخ علي أصغر الشكرنابي (حوالي: 1354هـ). 6 ــ السيّد أبو الحسن حافظيان المشهدي (1360هـ). 7 ــ السيّد علي محمد حاج سيد جوادي و..
الزرآبادي، الوفاة ونهاية الرحلة ــــــــــ
وفي النهاية حان المقدّر المحتوم، وفارقت روح السيد الزرآبادي الدنيا المظلمة المحدودة العابرة، مستجيباً لداعي ربّه، في الثاني من شهر ربيع الثاني، عام 1353هـ، ليلتحق بالعالم النيّر المطلق الثابت اللامحدود، ويصف إلى جانب الأرواح الملكوتية، ليدفن جثمانه الطاهر في صحن أحد أولاد الإمام الحسين E في مدينة قزوين، وله الآن مرقد يحجّه العارفون والخواص.
وقد جاء على لوح المزار ما كتبه يراع العالم المعروف، الجامع للمعقول والمنقول، أحد أساتذة الفلسفة والعرفان في النصف الثاني من القرن الرابع عشر الهجري، آية الله الحاج السيد أبي الحسن الرفيعي القزويني، وهذا بعض ما جاء من أوصاف وكلمات: «السيّد السند، العالم العامل، الفاضل الكامل، سيّد العلماء العاملين، وقدوة الأتقياء الصالحين، الجامع لفنون الفضائل الإنسية، والحاوي لصنوف المكارم الخلقية… قدوة إخوان الصفا،وزبدة خلان الوفا..».
اللهم أفض علينا من بركاتهم، وألحقنا بدرجاتهم.
تذكير أخير ــــــــــ
كنت سابقاً قد كتبت حول حياة السيد موسى الزرآبادي القزويني([3])، وقد أشرت هناك إلى بعض النقاط التي لم أوردها هنا مع إضافة أمرٍ يتعلق بحضور السيد الزرآبادي درس الميرزا جلوه.
1 ــ سافر السيّد الزرآبادي في العشرين من عمره تقريباً، إلى مدينة طهران؛ لإكمال علمه، وبلوغ مراحل علمية أرقى، وقد كانت طهران آنذاك مركزاً علمياً رئيسياً في إيران، لا سيما في مجالي المعقول (الفلسفة) والعرفان، وقد نزل في مدرسة سبهسالار (وهي مدرسة الشهيد المطهري الحالية)، منشغلاً بدراسة الفلسفة والعرفان، ثم حضر بعض الوقت درس الفيلسوف الميرزا أبي الحسن جلوه (1238 ــ 1314هـ).
ولم تطل إقامة الزرآبادي في طهران آنذاك مدّة طويلة، ذلك أنّه سرعان ما عاد إلى قزوين بناءً على طلبٍ من والده، ليعود مرّة أخرى إلى طهران بعد حوالي ثلاث سنوات، ويسكن في مدرسة السيد نصر الدين، وينشغل بالاستفادة في محضر الأساتذة الكبار المتقدّمة الإشارة إلى أسمائهم.
وينقل هنا عن نفس الشيخ الأستاذ قوله: «كنت قد حضرت درس المرحوم جلوه، ثم وبعد مدّةٍ صرت أشكلُ في بعض الوقت على بعض المطالب الموردة، وأحياناً كان الأستاذ ينزعج من ذلك، ثم عزفت عن الدرس ولم أعد أحضر، وبعد مضيّ يومين أو ثلاثة، قال المغفور له جلوه لطلاب درسه: إن السيّد ذا طاقة واستعداد، قولوا له أن يأتي للدرس، وهكذا عدت إلى الدرس ثانيةً، ثم أعدت الكرّة بتسجيل الإشكالات في المواضع المناسبة… حتى تركت الدرس كلياً لما رأيت الأستاذ بدا حادّاً في التعاطي، ثم أرسل لي رسالةً يدعوني فيها إلى المجيء، لكنني أجبته بأن هدفي من وراء الحضور والإشكال أن لا يغدو طلابكم مقلّدين آذاناً، وأن يدركوا أن ما يقال ليس وحياً منزلاً، بل عُرضة للإشكال دوماً، كنت أريد أن أبعث اليقظة في أذهان طلاب الفلسفة، وقد فعلت…»([4]).
2 ــ أشرنا إلى جامعية السيد الزرآبادي في العلوم الغريبة والأسرار الخفية، لكن لابد أن لا ننسى بأنّ الوصول للعلوم الغريبة لا يلازم ــ من أبعاد عدّة ــ ملازمةً حتميةً لروحانية النفس، بل هي مرحلة صناعية وعلمية ذات قواعد لابدّ من درسها وتعلّمها، وهي منفصلة عن الفعليات الكمالية والروحية للنفس الإنسانية، إلاّ أنّ السيد في المرحلة الثانية ــ وهي المرحلة ذات الأهمية القصوى ــ كان من نوادر الزمان، وممّن يقال فيهم: واحد بعد واحد، كما يذكر ابن سينا، لقد وصل السيد في عوالم الإنسانية والاتصال بروحانية العالم إلى مرتبةٍ قلّ ما تتيسّر للكبار.. لقد نقل طلابه والمقربون منه الكثير الهام جداً عن أحواله المعنوية،وطاقاته الروحية، وأنواع تصرّفاته، واطّلاعه العميق والواسع على شعب العلوم الغريبة.. ما نوكل ذكره وتسجيله إلى مجالٍ آخر.
3 ــ كان شيخنا الأستاذ يعبّر عن أستاذه السيد موسى الزرآبادي بالمرحوم الآغا، كما كان يذكره هذا المربّي الكبير بعظمة كبيرة، لا سيّما وأنه كان يبدي ما يحكي عن وصوله إلى المراتب العالية الرفيعة من المعارف العالية والمشاهدات العظيمة والخلوات الطويلة، وقد قال مرّة ــ وهو في حال خاص ــ : «أحياناً ما كان يبلغ المرحوم الآغا الأوج والكمال في بيان المعارف الإلهية الخاصة، وشرح مشاهداته وكشوفاته، وكان يتحدث في جلساته الخاصّة عن ما توصّل إليه، فتنساب على لسانه حقائق هامّة، لقد كان يقول وهو في قمّة بيان حقائق المعارف القرآنية: أينَ أفلاطون؟ أين أفلاطون؟ ]أين هو أفلاطون اليوم لينظر المكانة الرفعية التي تحتلّها حقائق المعارف القرآنية[([5]).
لقد أردت أن أسجّل تلك العبارات المذكورة في موضعٍ ما لتبقى.. حتى علمت أن الإنسان القرآني إلى أين يصل في معرفة حقائق العوالم والحضور في حضرة المعرفة، وأنّ التربية في أحضان مدرسة المعصوم B والاستفادة من العلم الصحيح (المصبوب) إلى أيّ مرتبة تصعد بصاحبها وتتسامى؟ إن المفكّرين الكبار من فلاسفة الشرق والغرب يقولون: لابدّ لنا أن نقرّ بأنّنا لم نعرف الكثير… أمّا المفكرين القرآنيين الكبار فيقولون: أين أفلاطون؟…».
وعليه، كان في محلّه أن يقول معلّم طريق الصيرورة القرآنية ومربّي الفطرة الإنسانية ومبيّن الحقائق، وكاشف الدقائق الإمام جعفر الصادق B في تفسير آية: >ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ< التكاثر: 8، في جواب أبي حنيفة: «.. نحن أهل البيت، النعيم الذي أنعم الله بنا على العباد… والله سائلهم عن حقّ النعيم الذي أنعم الله به عليهم، وهو النبي 2 وعترته»([6]).
الميرزا مهدي الإصفهاني الخراساني 1365هـ ــــــــــ
العالم الربّاني والمتألّه القرآني، الميرزا مهدي الإصفهاني، عالم جليل، وعامل كامل، جامع للكمالات، بالغٌ في السعادات، زاهد عابد، متوسّل واصل، محقق مؤسّس، من نوادر الزمان، ومن الناهلين من العلم المصبوب.. ولد الإصفهاني أوائل عام 1303هـ في مدينة إصفهان، والده المرحوم الميرزا إسماعيل الإصفهاني الذي كان من صلحاء إصفهان وخيّريها، وقد توفّي والده هذا وهو ما يزال في سنّ التاسعة من عمره، ثم هاجر إلى النجف الأشرف في حدود الثانية عشرة من عمره بعد تحصيل دروس المقدّمات، وقراءة مقدارٍ يسير من الفقه والأصول عند أساتذته في منطقته وأهل محلّته.
وحيث لاحظت أنّ تدوين حياة الميرزا الإصفهاني قلّما حصل بصورة موثقة، لهذا طلبتُ من ولده العالم الفاضل إسماعيل الغروي، وهو المتبحّر في معرفة والده وآثاره ومآثره، وثيقةً مدوّنة ومسجلة فيها المعلومات، وقد ذكر في هذه الرسالة الموثقة عن حياة والده، بعد المرحلة الابتدائية التي كان قضاها في إصفهان وكنّا أشرنا إليها آنفاً، ذكر ثلاث مراحل أخرى في حياته، بدوري سوف أسعى ــ اعتماداً على المدوّنة المذكورة ــ لأن أذكر محتوياتها.
إننا الآن ننظر إلى الميرزا محمد مهدي الإصفهاني وهو شاب يافع في مدينة النجف الأشرف، ومن هنا ننطلق للتعرّف على المرحلة الأولى من حياته العلمية والتكاملية.
المرحلة الأولى (18 عاماً) ــــــــــ
في هذه المرحلة، انشغل الميرزا الإصفهاني بدراسة العلوم السائدة آنذاك في حوزة النجف، وقد بنى علاقةً وطيدة مع آية الله العظمى السيد إسماعيل الصدر (1338هـ) منذ بداية دخوله العراق، بناءً على توجيهات مسبقة من آية الله الحاج الآغا رحيم أرباب الإصفهاني، وقد استفاد الميرزا من المراتب العلمية والسلوك الروحي للسيد الصدر، وهكذا تعرّف الميرزا على المباني المعنوية والعوالم الروحانية إلى جانب تحصيل العلوم المتعارفة، ليطوي مراحل من السير والسلوك بإرشادٍ من السيد الصدر الذي كان واحداً من العلماء العاملين آنذاك، وكذلك أخذ الميرزا أصول المدرسة النجفية من الأصولي الكبير الآخوند محمد كاظم الخراساني، صاحب كتاب: كفاية الأصول، كما درس الفقه عند الفقيه المعروف السيّد محمد كاظم اليزدي، صاحب العروة الوثقى.
وفي هذه المرحلة، وبعد تعرّفه على مباني السير والسلوك الشرعي للسيد الصدر، مما أشرنا إليه آنفاً، كانت له مؤانسات وعلاقات أيضاً ببعض الشخصيات الكبيرة آنذاك، من أمثال السيد أحمد الكربلائي (1332هـ)([7])، والشيخ محمد البهاري الهمداني الذي كان أحد التلامذة المميّزين للعالم الأخلاقي الجليل الملا حسينقلي الهمداني (1311هـ)، وأيضاً السيد علي القاضي، والسيّد جمال الدين الكلبايكَاني([8]).. واستفاد كثيراً منهم روحياً وروحانياً.
في الفترة المعاصرة للحركة الدستورية في إيران تشكّلت الدورة الأولى من درس الميرزا النائيني في مهمات موضوعات الفقه الإسلامي وأصوله، وذلك باتفاق مجموعة من العلماء والفضلاء المعاصرين له، والذين تجاوز عددهم السبعة أشخاص، وكان من بينهم: آية الله السيد محمود الشاهرودي، وآية الله السيّد جمال الدين الكلبايكَاني، وقد استحضرت في هذا الدرس مجمل الموضوعات التي أثارها الشيخ مرتضى الأنصاري (1281هـ) بالفحص والنقد والتمحيص، وهي موضوعات كان نظّمها من قبل الميرزا الشيرازي الكبير، وأخذها النائيني من أستاذه السيد محمد الفشاركي، لقد عُرضت في هذه الجلسات البحثية التي كانت تطول أحياناً فتتجاوز الثلاث ساعات.. عرضت أصول مدرسة الشيخ الأنصاري، وكان يتمّ تناولها ودرسها بدقّة علمية، وهذا ما أدّى بالميرزا الإصفهاني لتكوين تصوّر متكامل عن هذه المباني والإحاطة بها بشكل تام، وقد استمرّ هذا الدرس قرابة خمس سنوات، وقد وضعت إلى جانب أصول مدرسة النجف، كلّ من موضوعات المدرسة السامرائية، وآراء الميرزا النائيني نفسه، وضعت موضوع البحث والمساءلة والتدقيق أيضاً.
وقد ركّز الميرزا الإصفهاني في تلك الأيام التي كان يبلغ فيها سنّ 28 إلى 30 سنة على جهوده العلمية، إلى جانب اهتمامه المتواصل بالبُعد العملي والأخلاقي والسلوكي، دون أن يخسر شيئاً من طيّ طريق مراحل النفس، بل طوى دائماً درجات السلوك عند أساتذة هذا الفنّ، من أمثال السيد أحمد الكربلائي، مارّاً على مراحل من نوع: معرفة النفس: وخلع البدن (التجريد) و..
المرحلة الثانية (8 سنوات) ــــــــــ
يمكننا القول، بأنّه ومنذ أواخر المرحلة الأولى أمسكت يد القدر بالميرزا الإصفهاني، كحدّاد في يده روح([9])، أي أنّه ورويداً رويداً، ومع الغوص والغور في المطالب الفلسفية، والميل لحلّ المشكلات الفلسفية ناحية العرفان، والتوظيف الواسع النطاق لمقولة التأويل، وملاحظة عدم انسجام المسائل والمفاهيم المذكورة، أي المعطيات الفكرية أو الرياضات الإنسانية، مع الكتاب والسنّة (كما كنّا نقلنا في دراستنا حول المدرسة التفكيكية ذلك عن العلامة الطباطبائي)([10])، والانشغال بالتبرير أو ممارسة التفسير بالرأي، وتأويل آيات القرآن وروايات المعصومين B… ذلك كلّه، خلق ــ طبيعةً ــ تشويشاً باطنياً في روح ذلك العالم الشاب السالك الطالب للحقيقة، لقد رأى أنّ هذه المفاهيم والمصطلحات القابعة في العلوم الإنسانية، والفلسفية،والعرفانية، وبقطع النظر عن التوظيف المطلق غير المألوف للتأويل، لا تتناغم أبداً مع المحكمات الإسلامية، والمباني القرآنية، ومعارف المعصومين B، وذلك مثل كيفية العلم والإرادة الإلهية، وكذلك الخلق والإيجاد من العدم المحض، والحدوث الزماني للعالم، وخلق الأرواح قبل الأبدان، والمعاد الجسماني الكامل، وحقيقة الخلود و..
وحيث وصل الطالب العاشق في طلب الحقيقة إلى حقيقة الطلب، كان طوفان هذا الأضطرار الحقيقي (الاضطرار الروحي) شرطاً في تأثير توسّلاته، يوجب إجابة المضطرّ، فهذا الطالب الخالص والباحث المخلص قد وجّه نفسه نحو كعبة المقصود والقبلة المنظورة، يندفع بالتوسّل والتمسّك بذيل عنايات الإنسان الهادي في زمانه والعالم الربّاني في عصره B، وهو الذي يطوي به الوديان وادياً وادياً، وأخيراً يترشّح عليه الفيض بالرجوع المخلص والفقر الحقيقي، فقر المعرفة الذي هو أكبر الفقر، وبإحياء الليالي والأيّام المحرقة للأكباد بتوسّلاتها الدامعة في مسجد السهلة.. نعم يترشّح حينذاك فيض بحار الرحمة الواسعة الإلهية، والبحر الموّاج لعطف الكلّ الولوي، فيأخذ الميرزا الإصفهاني في سلك سعداء الحظوظ في عهد الغيبة الكبرى، ليلقى إليه أنّ حقيقة المعرفة ومعرفة الحقيقة، أو العلم بالله على حدّ تعبير الأحاديث، وهو أصل العلوم كافّة وأوّل المعارف عامّةً وآخرها، كيف؟ ومن أين ينبغي طلبها والحصول عليها([11])؟
هذا الحادث السعيد المشار إليه (لقاء الميرزا بالإمام المهدي) وقع حوالي سنّ الثلاثين من عمر الميرزا الإصفهاني، وقد أدّى إلى إيجاد تحوّل عميق في معرفة الإصفهاني لله، وفهم الوجود،وأبعاد العلم القرآني، ومعرفة الحقائق، وإفاضات المعصوم B، وطريق الوصول للمعرفة، وطريق السلوك ومنهجه و.. مما أحدث تغييراً أساسياً في رؤيته العلمية، ووعيه المعرفي، وحركته التكاملية، وسلوكه الروحاني.
لقد غدا الإصفهاني معتقداً وبقوّة أنّ العلم الذي نزل ببركة القرآن الكريم في ليلة القدر على الحقيقة المحمدية العليا، وبُيّن في زلال الواقع السبّوحي والقدوسي لنفس المعصوم.. أين هو؟! والفلسفة والعرفان الاصطلاحي أين هما؟! ذاك العلم هو جوهر العلم المصبوب، والذي ينبغي اعتباره أجلّ من مستوى تطبيق العلوم البشرية أو تأويلها، بل لابد من تلقيه وفهمه وحفظه خالصاً أصيلاً صافياً، لا خلط ولا امتزاج فيه حتى قيد ذرّةٍ واحدة، فهذا العلم هو العلم الإلهي، وهو العلم الكافي الوافي، غير المحتاج لأيّ شيء، ولأي مكان، وأيّ أحد، إنّه نظام معرفي مستقلّ وجامع وأعلى وأرفع وأفضل من أي نظام معرفي أو شبه معرفي آخر قدّمته البشرية في تاريخها حتّى الآن.
نعم، هذا العلم لا يشابه في واقعه ولا يسانخ في ذاته تلك المعارف والمفاهيم، بل لا يقبل القياس بها، فكيف بما هناك من تأويلات وادّعاءات و..!! بل إنّ وضع هذا العلم في مصافّ تلك المفاهيم والمصطلحات، وإرجاعه إليها ليس سوى حطّ من منزلته وتصغير له، حتّى لو وقع ذلك عن غير قصد، وربما أحياناً عن قصدٍ شريف.
إن المدرسة العلمية للميرزا الإصفهاني، والتي لابدّ من اعتبار الميرزا نفسه مؤسّسها في القرن الرابع عشر الهجري، تستقي ذاتها من هذه الرؤية ونمط التفكير، كما تتكوّن وتتبلور تبعاً لذلك، حيث وفق الميرزا لمعارف غنيّة ومستقلة في أبواب «المبدأ والمعاد» و «الآفاق والأنفس» و «القرآن والحديث»، ومن هنا، هدي من وادي المعارف الممتزجة الخليطة ما بين الموضوعات الإسلامية وغير الإسلامية، كما يصرّح به علماء الفن، إلى ساحل البحار المتماوجة للمعارف الخالصة الأصيلة الصافية، ليتّجه بمدد التعقلات القرآنية المممتدّة([12])، وإحياء الفطرة ــ لا بصورته المتداولة، فقد أحياها في هذه الصورة الكثيرون، دون أن يوفّقوا لنتائج كاملة ــ ليتجّه إلى «عين صافية تجري بأمر ربّها»، ليغتنم من رشحات العلم المصبوب.
من هنا، فالذين رفضوا الميرزا الإصفهاني إنّما نشأ رفضهم له من ذلك، (وكلّ ميسّر لما خلق له)، نعم هناك من رفضه لعدم اطلاعه على أسس المدرسة التفكيكية ومبادئها ونظرياتها، والاتجاه الفكري والمعرفي للميرزا الإصفهاني نفسه، بل درسوا منذ بدايات كسبهم العلم (المعقول) عند أساتذةٍ يعتقدون بالتأويل، ولا يأخذون بالتفكيك، لكن على أية حال، ورغم ذلك كلّه لابد من ذكر الرجال العظماء بكل عظمةٍ واحترام.
إننا نعلم بأنّ الزمان ينال على الدوام من العظماء، إلاّ أنّ نوادر من أمثال السيّد موسى الزرآبادي والميرزا مهدي الإصفهاني، والشيخ مجتبى القزويني ممّن، أعتقد شخصياً بأنّ السعي لمعرفتهم من مبادئ الكمال، ونفعه يعود على الإنسان نفسه، بل يوجب صقل الروح الإنسانية والنفس الآدمية، ويمنح الإنسان سعة القلب، وإلاّ فهم في غنى عنّا.. ولعل واحداً من أبرز وأنفع وأفعل مصاديق السير الأنفسي هو الاطلاع على العوالم والخصائص النفسية، والحجم الروحي لمن كان مثل هؤلاء الأعاظم المشار إليهم، دون أن ينكر الإنسان مقاماتهم و.. عندما لا يوفّق الإنسان بنفسه لرؤية مدينة مثلاً، أو كنز عظيم، أو مرج وردي صافٍ ملئ بالورود والرياحين، أو …، فأيّ شيء أفضل حينئذٍ من سماع ما يقوله أولئك الصادقون الذي رأوا وشاهدوا..
المرحلة الثالثة (25 سنة) ــــــــــ
المرحلة الثالثة هي ــ تماماً ــ الخمسة والعشرون سنة التي هاجر فيها الميرزا الإصفهاني إلى مدينة مشهد (1340 إلى 1365هـ)، وقد انشغل الإصفهاني طيلة تلك المدّة بإلقاء الدروس العلمية والأبحاث الفكرية لمرحلة البحث الخارج، ونشر أسس المعارف، وتربية النفوس والعقول، وتقديم رؤية اجتهادية في المسائل العقلية، وتشجيع الآخرين على إبداء وجهات نظرهم وامتلاك وعي مستقل، وممارسة نقدٍ حرّ للفلسفة والعرفان.
وقبل أن نتحدّث عن هذه المرحلة من حياة الميرزا الإصفهاني، لا بدّ من الإشارة إلى الإجازة التي منحه إيّاها الميرزا النائيني، إنّها «إجازة» مليئة بالمدح والتجليل، ليس من أيّ أحد بل من عالم جامع مثل النائيني، الذي قلّما منح إجازة اجتهاد.
فمن جملة العبارات التي استخدمها هذا العالم الكبير وأستاذ المتأخرين الميرزا النائيني التي منحها لهذا العالم الكبير الآخر، أستاذ متأخّري خراسان الميرزا الإصفهاني، ما يلي: «… العَلَم العلام، والمذهب الهمام، ذو القريحة القويمة، والسليقة المستقيمة، والنّظر الصائب، والفكر الثاقب، عماد العلماء، وصفوة الفقهاء، والورع التّقي، والعدل الزكيّ.. فليحمد الله ــ سبحانه وتعالى ــ على ما أولاه من جودة الذهن، وحسن النظر..».
ولابدّ لنا من أن نعرف أن ذكر هذه الأوصاف والكلمات من جانب الميرزا النائيني إنما جاء والميرزا الإصفهاني ما يزال في سنّ 35 من عمره، فتاريخ الإجازة يرجع إلى يوم عيد الفطر من عام 1338هـ([13]).
وقد أيّد ثلاثة من علماء الإسلام الكبار، ومراجع التشيّع العظام ما جاء في إجازة الاجتهاد هذه، وما فيها من إشادة ومدح بالمقامات العلمية الرفيعة والدراسات التحقيقة السامية للميرزا الإصفهاني، وقد أدرج هذا التأييد في حاشية الإجازة والعلماء هم:
1 ــ الآغا ضياء الدين العراقي: «عمدة العلماء الراشدين».
2 ــ السيّد أبو الحسن الإصفهاني: «كل ما هو مذكور صحيح».
3 ــ الحاج الشيخ عبدالكريم الحائري اليزدي: «العالم الفاضل، المحقق المدقق، زبدة العلماء الراشدين، وقدوة الفقهاء والمجتهدين..».
لقد سطر إسماعيل الغروي أفكاراً هامة حول المرحلة الثالثة من حياة الميرزا الإصفهاني، وإنني أوكل تمام ما قاله إلى فرصةٍ أخرى، واستعرض هنا ــ اعتماداً على ما ذكره ــ بعض الموضوعات تحت عناوين متعدّدة
1 ــ الدروس (أصول النائيني) ــــــــــ
شرع الميرزا الإصفهاني ــ طبقاً للسائد في الحوزات العلمية ــ بتدريس أبحاث الخارج في حوزة مشهد، ولمّا كان من أفضل حضّار درس السيد محمد كاظم اليزدي، وأوّل التلامذة المبرّزين للميرزا النائيني، متسلّطاً على نظرياته، محكماً ضبط آرائه، وهي نظريات بديعة وجديدة في حدّ نفسها.. لذلك كلّه، امتاز درس الإصفهاني بحضور مميّز وقوي، فلم يحضره فضلاء حوزة مشهد فحسب، بل أتى إليه علماء تلك الحوزة أيضاً([14])، أي أوائل الذين حضروا ولسنين طويلة دروس الحاج آغا حسين القمي، وآية الله الميرزا محمد آغا زاده الخراساني، والفيلسوف المعروف آغا بزرك حكيم الشهيدي، لقد التفّ هؤلاء جميعاً حول الميرزا الإصفهاني، ومنحوا ــ بحضورهم ــ درسه المزيدَ من الالتماع والازدهار، كما دفعوا بجهودهم المتزايدة طبيعة الدرس إلى الاتساع ومزيدٍ من البحث والتحقيق، من هنا، استمرّ درسه الأصولي الاجتهادي لسنوات متمادية.
2 ــ دروس المعارف العقديّة ــــــــــ
كان الميرزا الإصفهاني يعتقد بأنّه قد حمل مسؤولية رسالة كبيرة أخرى عليه أداؤها، وهي بيان المبادئ القرآنية في مجال المعارف الدينية، وممارسة نقدٍ ونظرٍ في القضايا العقلية، وتدريجياً كان ــ فعلاً ــ يتعرّض لهذه الموضوعات بشكل عام، كما كان يستعرض أبحاثاً هاماً على هذا الصعيد، مما شكّل مناخاً مساعداً لكي يقدّم حصيلة تصوّراته ومخزوناته الفكرية في هذا المضمار.
وقد استمرّت دروسه العقائديّة سنين طويلة، ولم يكن جمع من العلماء الباحثين والنشطين المتدرّبين عند أساتذةٍ سابقين ليمضوا على هذه الدروس مرور الكرام، وهي التي كانت تركّز على وجود امتياز بين المعارف الدينية المستمدّة من الوحي وتلك القائمة على أساس المفاهيم والمصطلحات الفلسفية والعرفانية، وكان من بين هؤلاء العلماء المنزعجين البحّاثة المعروف الحاج الشيخ غلام حسين محامي البادكوبه، وسنأتي على ذكره لاحقاً إن شاء الله تعالى، لقد اعتاد هذا الفريق من العلماء على تسجيل ملاحظات نقدية بشكل متكرّر ومتواصل على نقاط ضعف المسلك (الإصفهاني) المتداول لكي يحققوا بذلك فهماً أعمق لهذا الامتياز الواقع بين هذين الاتجاهين من التفكير، وقد كانت ملاحظاتهم على غرار الملاحظات التي كانت تطرح في درسي الفقه والأصول، لا بل كانت أكثر شمولية وشدّة، لقد كانوا يدافعون عن الاتجاه الفكري السائد، ليوقفوا الميرزا الإصفهاني ويحولوا دون تقدّمه في أطروحاته، حتى قيل: إنهم كانوا يلاحقون موضوعاً من الموضوعات ويتابعون البحث والأخذ والرد فيه لمدّة شهرين تامّين، لكنهم تمكّنوا من طيّ هذا البحث في نهاية المطاف عبر تلك الإيضاحات الشافية والأجوبة المقنعة التي كان الميرزا الإصفهاني يقدّمها لهم.
إنّ هذا الوضع، أدّى إلى المزيد من اختمار هذه الأفكار في الاتجاه التفكيكي، ولهذا لاحظنا أنّ أصحاب الميرزا الإصفهاني لم يقلعوا عن هذه الأفكار بعد ذلك.
3 ــ أصول آل الرسول 2 ــــــــــ
عندما كان العلماء الفضلاء والتلامذة النشطون يرون إلى جانبهم الميرزا النائيني الثاني، وأنهم قد وجدوا به فرصة ذهبيةً للاطلاع على آخر النظريات الجديدة التي أعقبت مقولات كتاب كفاية الأصول للخراساني (1329هـ).. عند ذلك أولوا درس الميرزا الإصفهاني اهتماماً بالغاً وأهمية فائقة، واعتبروه ذا قيمةٍ عالية وثمن باهظ، وهذا الوضع هو ما أجبر الإصفهاني للاندفاع بنشاطٍ أكبر في جهده العلمي، ليطرح مبانيه ونظرياته الخاصة في علم أصول الفقه، إلى جانب النظريات الأصولية المتعارفة التي كان قد مرّ عليها عبر دورةٍ دراسية كاملةٍ في هذا العلم، وهي الدورة ــ وغيرها ــ التي أعلمت الجميع أنّ الإصفهاني عالم مجتهد أصولي بارز وعظيم، من هنا، قام الإصفهاني بتدريس دورة أصولية خاصة بنظرياته، امتازت بالتنقيح والضغط والاختصار، وهي الدورة التي عرفت بأصول آل الرسول 2.
4 ــ مقولتا: على المبنى ومبنائي ــــــــــ
لرجالات مدرسة التفكيك مفهومين هما: على المبنى، ومبنائي، ويراد بالأوّل منهما طرح الموضوعات العقلية والعرفانية وبيان مصطلحات القوم، ثم تسجيل وجوه النقد والنظر والملاحظة والإشكال الرئيسية على تلك الأسس والأدلّة، ثم شرح الفوارق الواقعة بين تلك المفاهيم وبين المعارف الدينية الخالصة المستمدّة من الوحي الإلهي عبر عرض الأولى على الثانية، وبهذا كانوا يكشفون عقم التأويلات الفلسفية والعرفانية على السواء بإقامة الحجّة والدليل، ليثبتوا أنّ نتائج تلك التأويلات، مثل مسألة المعاد الجسماني، خارجة عن دائرة الوحي وإشعاعاته.
أما الثاني فيراد منه الموضوعات الخاصّة المستمدّة جذورها من حاقّ المعارف الوحيانية، والعلم المحمدي، وتعاليم المعصومين E، بل إن نظام المصطلحات والأنساق التعبيرية التي تنبني هنا في هذه المرحلة تقع ــ نوعاً ــ على انسجام وتناغم مع النظام الاصطلاحي القرآني والحديثي، سيّما ما كان في كلمات الميرزا الإصفهاني نفسه، والهدف في هذه المرحلة التركيز على أنّ اختلاف هذه النتائج المنبثقة فيها عن معطيات المدارس البشرية إنما هو خلاف مبنائي لا على المبنى.
ولا بدّ لنا ــ اعتماداً على الأخذ بعين الاعتبار هذا التقسيم ــ من الإشارة والتذكير بأنّ أكثر ما أثاره الميرزا الإصفهاني من أفكار إنّما جاء من النوع الثاني لا الأول، وهي موضوعات ذات حداثة وجودةً من أبعاد متنوّعة، تطابق الفطرة النورية، مما سنشير إليه لاحقاً بعون الله.
5 ــ التلامذة والجيل اللاحق ــــــــــ
حضر درس الميرزا الإصفهاني طيلة 25 سنة عدد كبير من العلماء، والمدرّسين، والطلاب الفضلاء في ذلك الزمان، كما حضره بعضٌ من طلاب الحقيقة من بقية الناس، حيث استفادوا من مجالس دروسه الأخلاقية، والتربوية، ومن معارفه العامّة.
ولم يأتلف هؤلاء حول الميرزا دفعةً واحدة، إنما حضروا درسه عبر فترات زمنية مختلفة، وهم في حدّ نفسهم ذوو أنواع وأصناف ومراتب من حيث العلم، والعمل، والشخصية الروحية والروحانية، ونوعية الأحوال، ومستوى التأليفات والأعمال العلمية.
إنّ هذا الاختلاف في مستوياتهم ينبغي أن لا يسمح بغياب الاختلاف القيمي لآثارهم العلمية الناشئ من عدم تماثل الطاقات والإمكانات، من هنا، ولكي نستوعب جيداً النظام المعارفي العقدي الميرزائي سيما (المعارف المبنائية) من الضروري إيلاء هذا التصنيف المذكور أهميته الخاصّة به، ولذلك، ولكي نعرف حقائق تعاليم الميرزا الإصفهاني، لابد من الرجوع إلى التقريرات([15]) المتقنة التي أشرف عليها الميرزا نفسه، ومن ثم مطابقة بقية الآثار والتصنيفات مع تلك المصنفات المشار إليها، في أيّ موضوع كان.
ونستحضر هنا ــ للذكرى ــ أسماء جمع من حضّار درس الميرزا الإصفهاني، دون الأخذ بعين الاعتبار أيّة خصوصيات مميزة في ترتيب هذه الأسماء، كما ودون ذكر أي ألقاب أو نعوت علمية أو اجتماعية.
1 ــ السيّد حسين الحائري الكرمانشاهي (حوالي: 1364هـ).
2 ــ السيد صدر الدين الصدر (1373هـ).
3 ــ الشيخ مجتبى القزويني الخراساني (1967م).
4 ــ الشيخ هاشم القزويني (1960م).
5 ــ الميرزا علي أكبر نوقائي (1370هـ).
6 ــ الشيخ غلام حسين محامي البادكوبه (1954م).
7 ــ الشيخ محمد كاظم المهدوي الدامغاني (1981م).
8 ــ الشيخ محمد حسن البروجري (1950م).
9 ــ الشيخ هادي المازندراني.
10 ــ الشيخ زين العابدين الغياتي التنكابني (1957م).
11 ــ السيد علي الشاهرودي.
12 ــ الشيخ علي محدّث الخراساني (1370هـ).
13 ــ الشيخ علي النمازي الشاهرودي (1985م).
14 ــ الأستاذ محمد تقي شريعتي المزيناني (1987م).
15 ــ السيد محمد باقر النجفي (1987م).
16 ــ الميرزا جواد آغا الطهراني (1989م).
17 ــ الشيخ عبدالله الواعظ اليزدي (1992م).
18 ــ الشيخ محمد رضا المحقّق الطهراني (1994م).
19 ــ الشيخ محمد باقر محسني الملايري (1995م).
20 ــ الشيخ محمود الحلبي الخراساني.
21 ــ الشيخ حسن علي مرواريد.
22 ــ الشيخ محمد باقر ملكي الميانجي.
23 ــ الشيخ عبدالنبي الكجوري.
24 ــ الشيخ علي أكبر صدر زاده الدامغاني.
25 ــ السيد علي رضا قدّوسي.
26 ــ الشيخ إسماعيل معتمد الخراساني([16]).
6 ــ الأعمال العلمية المكتوبة (1) ــــــــــ
كانت للميرزا الإصفهاني كتابات عديدة جداً، كما كتب الكثير ودوّن أيضاً، سواء منها تقريرات دروسه وما استفاده من أساتذته الكبار، أو رؤاه وأفكاره وتحقيقاته الخاصّة به، وقد ذكر بعض تلامذة الميرزا الإصفهاني عدداً من كتبه، إلاّ أن الأسف الشديد على هذه الكتب، إذ إما لم تطبع أساساً، أو أنّها طبعت بشكل غير علمي وبعيد عن موازين التصحيح والتحقيق، ولهذا لابدّ من تصحيح هذه الكتابات وتحقيقها بيد جمع من الباحثين الصادقين الراغبين، وبجودة عالية، ثم مطابقة النسخة المصحّحة مع النسخة المذكورة،وإضافة توضيحات لازمة وهوامش ضرورية، وكذلك ذكر بعض المقدّمات الأساسية حول مباني الميرزا وأساسيات فكره، ثم طبعها بعد ذلك، ليستفيد منها الجميع.
7 ــ الأعمال العلمية المكتوبة (2) ــــــــــ
قسم آخر من الأعمال المكتوبة التي يمكن عدّها في زمرة نتاجات الميرزا الإصفهاني، تقريرات دروسه، وهذه التقريرات تشمل مباحثه الهامّة في أصول الفقه، وأصول العقائد (المعارف)، ومعرفة القرآن.. أي دراسة القرآن دراسة مبتكرة لا سابق لها، مستمدّة من العلم الوحياني، وتعاليم المعصوم B، لا سيما الموضوع الهام جداً المتعلّق بقطب القرآن ووجه إعجازه.
وثمّة نسخ متعدّدة لتقريرات درس الميرزا المشار إليها، إلاّ أنّ أفضلها وأكثرها اعتباراً تلك المجموعة التي سطرتها يراع أحد أعاظم طلابه، حيث كان قد دوّن خلاصتها في جلسات الدرس، ثم أعاد كتابتها وصياغتها وتصحيحها في تلك الأيام، كما عرضت على الميرزا الإصفهاني أيّام حياته لتنقيحها، فقرأها، وأضاف وصحّح فيها في المواضع اللازمة، «وقد أجرى عليها بعض التعديلات عند الضرورة، كوضع كلمة مكان كلمة أو عبارةٍ مكان عبارةٍ تناسب القرآن والسنّة».
وتشمل هذا التقريرات علم أصول الفقه بمباحث ألفاظه والأصول العملية، كما تشمل العقديات وأصول المعارف مثل: التوحيد، والنبوّة، والعدل، والخلقة وكيفيتها، والجبر والاختيار، والإرادة والمشيّة، والعلم بلا معلوم، والبداء، ووجه إعجاز القرآن، ومعرفة قطب القرآن.. ونقصد بما سطرناه في الرقمين: 5، 6، هذه النسخة من التقريرات، ولذا نرى أنّه تجب طباعة هذه التقريرات التي ستبلغ المجلّدات العدّة، طباعةً تستوعب الضرورات والشروط التي أشرنا إليها آنفاً.
8 ــ معراج القُرب أو نظرية الإصفهاني في الصلاة ــــــــــ
تعدّ النظرية أو البيان الذي قدّمه الميرزا الإصفهاني في موضوع الصلاة والذكر الإلهي من أفضل إفاداته القيمة، وتعاليمه المفيدة، سؤال تنطلق منه الأفكار: ماهي النتيجة الكبرى المنبثقة من الصلاة، والتي لابدّ من السعي للوصول إليها؟ وكيف يمكن الوصول إليها؟ وما هو الدور الذي تلعبه الصلاة في إيجاد الصيرورة المتسامية للإنسان؟ والتي يمكنها تحريره من ظلمات الطبيعة المتراكبة، وحتى من قفص الجسد الإنساني نفسه، لترفعه وتبلغ به أوج معراج النور والتقرّب.
أليس واضحاً مدى الأهمية التي يحوزها هذا الموضوع؟ أهمية بحجم الحياة والتكليف، ذلك أنّ عصارة الحياة التكليف، وعصارة التكليف الصلاة، من هنا كانت الصلاة قرّة عين النبي 2، أليست هي عمود الدين؟ ما معنى عمود الدين؟
إن ذلك يعني أنّها ركن تربوي أساسي، وعنصر بانٍ ومؤسّس دينياً، إنها الرأسمال الأبدي، فمرتبة منها تنهى الإنسان عن الفحشاء والمنكر، ولها مرتبة أخرى أعظم وأهم هي مرتبة >وَلَذِكْرُ الله أَكْبَرُ<، وذكر الله، وفقاً لما جاء في الأحاديث، موجب لمجالسة الله الدائمة، وهنا نسأل هل كلّ صلاة، كيفما أتى بها، توجب مجالسة الله تعالى؟ وهل كلّ مصلّ جليس الله مع أيّ عمل عمله؟ أي طعامٍ تناوله؟ وأيّ معاملة مالية أجراها؟ وأيّ لباسٍ ارتداه؟ وأيّ مسكن انتقاه؟ أيّ عجب أو اعجاب بالذات؟ وأي سلوك أو أخلاق واجه بهما المجتمع والعائلة؟ وأيّ جهل بحال عبادالله المظلومين والمحرومين؟..
لقد كتب الميرزا الإصفهاني رسالته هذه حول تعريف صلاة المعراج، والتي حملت عنوان «غاية المنى ومعراج القرب واللقا»، وهي رسالة تحتاج اليوم إلى تحقيق، وتصحيح، وتنقيح، وطباعة.
9 ــ وجه إعجاز القرآن ــــــــــ
جانب آخر من نظريّات الميرزا الإصفهاني الهامّة التي لابدّ من ذكرها بإجلال وتعظيم، إصراره على أنّ وجه إعجاز القرآن يكمن في البعد العلمي فيه قبل أيّ شيء آخر، إنه بعدٌ معرفي يرشد إلى اكتشاف حقائق الوجود، إنّ القرآن الكريم يقدّم حقيقةً جديدة وعلماً جديداً، ومعرفةً كاملة، فليس هو من سنخ المفاهيم والمعقولات التي عرفتها الإنسانية قبل قرون على يد المفكّرين والمرتاضين.
إن هذا الموضوع يكتسي أهميةً كبيرةً جداً، وإذا لم يكن في حياة هذا الرجل الإلهي، المترعرع في ظلّ أنوار علم المعصوم B سوى هذا القول، وصرف العقول والأفكار ناحيته لكفى ذلك لأصحاب الرؤى المنصفين، وأهل الوجدان العلمي، والشمّ المعارفي، والحميّة القرآنية، والغيرة الإسلامية، والروح العلمية.. كي يدرجوه في عداد أكابر محيي مباني التربية الإلهية، والمعالم النبوية، والحقائق القرآنية.
ولقد وفّق الميرزا الإصفهاني في نظريته السامية هذه والتي سعى لتعليمها، وتصديق المعارف والعلوم القرآنية بها، لا بالتأويل، ولا بتطبيق القرآن على العلوم البشرية، وذلك لكي يتجاوز الحجاب المتراكم من المصطلحات والمفاهيم القديمة، وما ورد هنا أو التقط من هناك، لينال الكثير من حقائق العلوم القرآنية، ورموز الفطرة، وخلوص العلم، وليدعو أهل الاستعداد لذلك([17]).
ويعدّ هذا البحث بالنسبة لي في غاية الأهمية، إنه يغرقني في إحساس السعادة العقلية والنشوة الروحية، أي الاعتقاد بأن القرآن الكريم قد أتى للإنسانية بحقائق لم تكن البشرية على اطلاع عليها من قبل، كما لم تكن قد بلغتها و.. إنّ هذه هي حقيقة القرآن، وبركة نزوله، وروحانية شهر رمضان، وباطن ليلة القدر، والاستعداد الفريد للمزاج المحمدي الكامل، نعم استعداد استطاع تلقي مثل هذا العلم، وإبلاغه للإنسانية، ووضعه في متناول أيديهم، وإذا ما أمكننا وعي هذا الأمر بدقة وبصيرة وصواب، أمكننا مشاهدة استقلال المعارف القرآنية..
والآن، أين هم أولئك المستشرقون وغيرهم ممّن يزعم أن ليس في الإسلام معارف عقلية جديدة، وأنّ معارف المسلمين وعلومهم مستقاة من المدارس اليونانية القديمة ومدارس الهند والاسكندرية و..؟
كنت على الدوام ساعياً للاختصار، وعندما أشير إلى أمرٍ أمرّ عليه سريعاً، إلاّ أنّ الحديث عن حياة الميرزا الإصفهاني استطال إلى حدّ معين، والآن، وبعد نقل كلامين له نحاول الانتقال إلى أمرٍ آخر.
يقول الميرزا الإصفهاني في مقدّمة كتاب «أبواب الهدى»: «قد تحقّق في محلّه، أنّ عمدةَ وجه إعجاز القرآن المجيد علومُه وحكمه الجديدة، في مقابل العلوم الحِكْميّة القديمة..».
ويقول في بدايات كتاب «مصباح الهدى»: «إنّ العلوم والمعارف الإلهية التي جاء بها الرسول 2، هادمةٌ لأساس العلوم القديمة البشريّة، دافعةٌ للمطالب الفكرية، والأبحاث الخلافية، وإنّ الأساس هو سوق أهل العالم إلى عالم النور، بتكميل العقولِ، وتأييدها بنور العلم الإلهي..»([18]).
نعم، مع الأسف الشديد، لم تطبع ــ مصحّحةً ــ حتى اليوم المقولات التي ذكرها الإصفهاني حول القرآن الكريم، وثمّة مشكلة أخرى وهي أنّه لابد من مضاعفة الجهود للوصول إلى فهمٍ أصحّ ودرك أصوب لمقاصده ومراده، ومن ثم لابدّ من الإشارة إلى بعض الأمور والتذكير بها عند ذلك، وهو ما يمكن إنجازه لمن كان له اطلاع وخبرة بمبادئ أفكار الميرزا الإصفهاني ونظرياته، من هنا، تظهر عدم كفاية مطالعة النتاجات العلمية لرجال التفكيك لفهم أفكارهم، على أنّ هذه النتاجات ما زالت أيضاً غير مطبوعة بتمامها ولا متوفّرة في أسواق الكتاب.
من الضروري مراجعة بعض الدورات البحثية ــ ولو المختصرة ــ التي كتبها متبحّرو التفكيك، ودوّنوا فيها بصورة ممتازة نظريات التفكيكيين، وإلاّ فلربما لم يدرك المتوغّل في الفلسفة والعرفان، والمأنوس بمفاهيمهما ومصطلحاتهما، والمعتقد بمبدأ المزج والتأويل، إذا راجع هذا النوع من كتابات التفكيكيين.. لم يدرك أبعاد نظرياتهم كما يفترض، ولا يعي قواعد دخول مقولاتهم أو الخروج منها، فيخرج بتصوّرات مغلوطة وملتبسة حول المدرسة التفكيكية ورجالاتها، لقد وجدت من الضروري التذكير بهذا الأمر لأجل أولئك الذين لا يحملون اتجاهاً أو رؤية، حتى لا يقعوا في هذا الاشتباه، وهم يسعون للاطلاع ومعرفة الحقيقة والصواب.
10 ــ التأثيرات التربويّة (1) ــــــــــ
لم تنحصر النجاحات التي حقّقها الإصفهاني ــ ذلك العالم الرباني المتحرّق على دين الله ـ في مجالي العلم والعمل الخاصّين به، بل امتدّت إشعاعاتها إلى حوزة مشهد العلمية، ببركة التربة المطهّرة للإمام أبي الحسن علي بن موسى الرضا B، لقد وصلت إفاضاتٌ من تلك العنايات الإلهية للآخرين.
واليوم، وبعد أكثر من سبعين عاماً([19]) على دخول الميرزا الإصفهاني مدينة مشهد، ما تزال بركات تلك الحقبة نافذة مشهودة في ثنايا حوزة خراسان، بل وغيرها أيضاً.
جاء في حديثٍ عن الإمام الرضا B: «رحم الله عبداً أحيا أمرنا، فقلت له: كيف يحيي أمركم؟ قال: يتعلّم علومنا ويعلّمها الناس، فإن النّاس لو علموا محاسن كلامنا لاتّبعونا»([20]).
ومن بين الشخصيات التي أتينا على ذكرها يجد المطّلع على أحوالها بصمات عمل الميرزا الإصفهاني، وتأثيراته الروحية والتربوية على جيل من العلماء بعده.
11 ــ التأثيرات التربويّة (2) ــــــــــ
جاء العرفان البشري لحلّ المشكلات الفلسفية، أي أن الفلاسفة العقليين عندما كانوا يصطدمون ببعض الموضوعات كانوا يدركون أنّ العقل غير قادرٍ على الوصول إلى الحقائق بأكملها، ولهذا كانوا يوجهون أنفسهم ناحية الكشف والإشراق، لكي يجدوا الوسيلة هناك والمخلص والحلّ، وقد عدّوا حاصل هذا الطريق، أي الإشراق والعرفان، كاملاً، بل رأوه آخر مراحل السير التكاملي للإنسان.
أما العلماء الذين اهتدوا بنور القرآن والعترة، فقد أدركوا أن سبيل الوصول إلى الحقائق منحصر بطريق القرآن الخالص وأهل البيت E، والتوسّل العميق القاصد للمعرفة بساحة قدس الراسخين في العلم القرآني والحقائق الإلهية، ومن الطبيعي أن يكون هذا الطريق خاصاً ومميّزاً.
ونظراً لتمايز العلوم الإلهية عن العلوم البشرية يمتاز السلوك الإلهي عن السلوك البشري، بل إن الامتياز الأكثر عمقاً بين الطرفين ينجلي في طيّ الطريق وقطع المسافة، وقد غدا مسلّماً عند أهله أنّ تلقي المعارف غير ميسّر إلاّ عبر الحركة الدقيقة والخالصة في مسير الشرع المطهّر، أي عبر سلوك شرعي دقيقٍ ومنضبط، من هنا، أبلغ آية الله الميرزا مهدي الإصفهاني S رموزاً للمنتقين من طلابه في مسير السير والسلوك القرآني، والحركة التكاملية بدلالة ولي الله الهادي B، إلاّ أنّ حساسية الموضوع، ورقّة الطريق، والأخطار المحتملة ــ والمخلصون في خطر عظيم ــ أدت إلى انحصارها بهؤلاء العظماء.
12 ــ المنهج العلمي ــــــــــ
من الضروري هنا الإشارة إلى ضرورة بحث بعض المحاور بشكل منفصل ومفصّل، وهذه المحاور هي:
1 ــ منهج الإصفهاني العلمي في شرح الموضوعات العلمية وتناولها.
2 ــ كيفية الغور والغوص في الآيات والروايات، سيما الأحاديث العقائدية.
3 ــ معرفة لحن الأحاديث.
4 ــ أصول مدرسة الإصفهاني المبنائية.
5 ــ مكانة العقل الرفيعة، وتعريفه الصحيح في هذه المدرسة.
6 ــ تأثير الإصفهاني في خلق الروح المعنوية في الحوزة العلمية، وظهور حركة لدى بعضهم للتوجّه لساحة قدس الحجّة بن الحسن B.
7 ــ أخلاقه وزهده.
وقد كان الميرزا الإصفهاني واقفاً ــ إلى جانب أسرار النفس ــ على العلوم الغريبة، يشهد لذلك ما جاء بخطّه في استخراج مدّة عمره على أساس قواعد علم الجفر، وسوف نأتي على ذكره قريباً.
والجدير ذكره أن هؤلاء العظماء لم يغفلوا أيضاً عن القضايا المتعلقة ببناء المجتمع الإسلامي وإقامته، وتاسيس السياسة القرآنية، كما ساهموا في طرح الفلسفة السياسية القرآنية، وقد جاء في هذا الخصوص أفكار ومسائل عديدة هامّة في نتاجات الميرزا الإصفهاني، وهي أفكار تحتاج لدرسها دراسةً مستقلة في الموضع المناسب.
13 ــ رأي الآغا بزرك حكيم في الميرزا الإصفهاني
ومعارفه العالية ــــــــــ
منذ سنتين تقريباً، ذهبنا برفقة اثنين أو أحد الأصدقاء الفضلاء إلى مدينة قم لرؤية آية الله الحاج الشيخ محمد باقر محسني الملايري، وأثناء الحديث لاحظت أنّ الملايري كان قد قضى بعض مراحل دراسته في مدينة مشهد، وأنّه أدرك الآغا بزرك حكيم، وكان وروده مدينة مشهد مقارناً للفترة التي كان الميرزا الإصفهاني فيها يلقي دروسه على طلابه.. فسألته: هل كانت لكم علاقة بالميرزا الإصفهاني؟ أجاب: نعم، ثم بدأ بالحديث، وذكر: أنني كنت أذهب إلى درس الآغا بزرك حكيم، فقال لي الشيخ هاشم القزويني: لماذا لا تأتي إلى درس الميرزا الإصفهاني؟ يجب أن تأتي، وأصرّ عليّ كثيراً، فقلت له: إنّ أستاذي آغا بزرك حكيم قال لي: إن عليّ أن لا أحضر درس أحدٍ غيره، فقال لي: حاول أن ترضي الآغا بزرك حكيم بأي طريقة كان، ويجب أن تأتي إلى درس الميرزا.
وعقب الإصرار المتواصل من الشيخ هاشم القزويني، أخذت إجازةً من أستاذي للحضور في درس الميرزا، وكان البحث في أوّل جلسةٍ حضرتها يدور حول كيفية حصول العلم للنفس الإنسانية، وبيان حقيقة العلم، وامتيازه عن النفس و.. وقد ذكر ما فيه الكثير من الأهمية في تلك الجلسة.
وبعد هذا الدرس، نقلت ــ مجرّد وصولي لخدمة أستاذي آغا بزرك حكيم ــ ما كان قاله الميرزا الإصفهاني في مجلس درسه، وبمجرّد أن سمع مني الآغا بزرك قال: «ما أعجب هذه المطالب العرشية! ما أعجبها من مطالب هامّة! إنني لم أسمعها حتى اليوم من أحد، لابدّ لك ــ حتماً ــ من الذهاب إلى درسه، وتعالى وأخبرني عمّا قاله فيه»([21]).
14 ــ الاتصالات الروحية للميرزا الإصفهاني ــــــــــ
قيل أيضاً: إنّ الميرزا الإصفهاني كان يقول: «لقد صببت دمعاً على رمال مسجد السهلة»، في إشارةٍ إلى اشتعال القلب، وسعة التوسّل، وشعاع الإصرار.
نعم، لا يد عندي للطلب حتى يأتي مراد القلب.
وفي النهاية، وبعد عمرٍ طويل بالعبادة والتقوى، وطلب العلم الصحيح، وجهودٍ مكثفة لنشر المدرسة الخالصة القرآنية، وإحياء أمر آل محمد 2، وتربية النخب والعظماء، ونشر عطر الولاية المهدوية المحيي للقلوب والمربّيها في مناخ النفوس، وفي يوم الخميس، التاسع عشر من شهر ذي الحجّة من عام 1365هـ، وعندما كان يهمّ للتوجّه إلى الاستحمام والتنظيف، في صفاءٍ من الروح وطهارةٍ من البدن، أصيب آية الله، وحجة الدين، ومعلّم اليقين، الميرزا مهدي الإصفهاني الخراساني، أحد نماذج أصحاب الإمام الباقر B، والإمام الصادق B.. أصيب بسكتة قلبية، ومضى عن هذا العالم، ليرفرف جناحه نحو الخالدين.
وقد احتفظوا بجثمانه الطاهر حتى فجر الجمعة، وشيّعوه في ذلك اليوم تشييعاً مهيباً، وكرّموه تكريماً جليلاً، ثم أحضروه إلى الصحن الرضوي المطهّر، ليدفنوه ــ بعد أداء المراسم الضرورية ــ في «دار الضيافة»، في مرقد الإمام علي بن موسى الرضا B.
لقد كنت في تلك الأيام طالباً مراهقاً، وقد حضرت ذلك التشييع، وكنت آنذاك قطرةً في بحارٍ من البشر، لا شيء، كما أنا الآن..
يتبع
[1]) صاحب كتاب «الحياة»، أهمّ شخصية تفكيكية معاصرة، له كتب عدّة منها: علم المسلمين، والمدرسة التفكيكية، والاجتهاد والتقليد في الفلسفة و…
[2]) هو آية الله الحاج السيد جليل الزرآبادي القزويني (1336 ــ 1415هـ)، وقد شيّعه مواطنو قزوين تشيعاً مهيباً، ثم دفنوه إلى جانب قبر والده، ويكتب آية الله العلامة السيد أبو الحسن الرفيعي القزويني (1310 ــ 1395هـ) في إجازته له، شهر رجب عام 1381هـ، عن مقامه العلمي ومرتبته في الفضل والفضيلة، ممتدحاً إيّاه، يُذْكَر أن السيد موسى الزرآبادي كان له ولد آخر يدعى خليل آغا الزرآبادي، وكان من صلحاء قزوين وأهل الخير منهم.
[3]) مجلّة حوزة، السنة التاسعة، العدد الخامس، 1992م، ص86 ــ 96.
[4]) عين عبارته تقريباً.
[5]) عباراته تقريباً مع شيء من التصرّف..
[6]) عيون أخبار الرضا 2: 282 ــ 284، طبع علي أكبر غفاري، مع الترجمة الفارسية، طهران، 1994م؛ ومجمع البيان 10: 535؛ وسفينة البحار 2: 599، والطبعة الجديدة منه 10: 285 ــ 286، وقد جاء في تفسير كشف الأسرار للميبدي: «عمّا أنعم عليكم بمحمد 2 10: 601، وهذا الحديث يؤيّد الحديث الذي ذكرناه، ذلك أنّ ما بقي من النبي محمد 2 لهداية الناس، بمعنى تزكيتها وتعليمها، هو: القرآن والعترة.
[7]) عالم أخلاقي جليل، من السادات الموسويين، طهرانيّ الأصل، غير أنّه مولود في مدينة كربلاء، وقد سكن مدينة النجف الأشرف سنين مديدة، وكان جاراً للعلامة الشيخ آغا بزرك الطهراني، كما دفن في النجف، راجع: نقباء البشر 1: 87 ــ 88.
[8]) هاتان الشخصيتان من تلامذة الملا حسينقلي الهمداني المبرّزين أيضاً.
[9]) راجع حول هذا الموضوع ما سنشير إليه لدى الحديث عن حياة الشيخ علي أكبر إلهيان، وسوف نشير هناك إلى كلامٍ لأحد الكتّاب الغربيين.
[10]) وهو ما كتب في نقده الأستاذ سعيد رحيميان، كما تراه في هذا العدد من نصوص معاصرة (المترجم).
[11]) تشرّف جمع من صلحاء الشيعة، وبعض كبار علمائهم في عصر الغيبة الكبرى بنيل الفيض (لقاء المهدي B)، وقد تلقّوا بعض الأدعية والتوجيهات عبر هذا الطريق، وهذا ما نلاحظه بالرجوع إلى كتب التراجم وأحوال الرجال وسيرتهم، حيث نشاهد أسماءً عديدة، ليس أمثال ابن = = طاووس والسيد مهدي بحر العلوم من المؤكّد حالهم فحسب، بل عدداً آخر كانوا بلغوا هذا الفيض العظيم، وقد أثبت كلّ من العلامة المجلسي والمحدّث النوري مسائل هامّة في هذا الإطار، حتّى أنّ بعض عرفاء أهل السنّة كان أدّعى التشرّف بالقائم B أيضاً، من أمثال الشيخ حسن العرافي الذي ينقل قصّته عبدالوهاب الشعراني في كتاب «لواقح الأنوار»، واضعاً إيّاه في ضمن أساتذته الخاصّين، وقد ورد في كتاب بيان الفرقان 5: 167 ــ 168 بحث حول حكمة تشرّف بعضهم بالصاحب B في عصر الغيبة، كما تجدر في هذا الإطار ملاحظة كتابي: مهج الدعوات، ومنتخب الأثر: 427.
[12]) ذكر بعض الكبار أنّ الميرزا الإصفهاني كانت لديه تفكّرات تطول أحياناً ثمانية ساعات، كما كان يحصل له التجريد لمدّة ساعتين، وقلّما يحصل ذلك لكبير من كبار رجال هذه العوالم والمراحل.
[13]) راجع النصّ الكامل للإجازة في مجلّة كيهان فرهنكَي، السنة الثانية، العدد: 12، اسفند 1364هـ.ش (1986م).
[14]) مصطلح الفضلاء يراد به من قارب رتبة الاجتهاد، أما العلماء فيقصد به المجتهد (المترجم).
[15]) التقرير مصطلح يراد به ما كتبه التلامذة من محاضرات أستاذهم (المترجم).
[16]) لا يستوعب هذا الفهرس تمام أسماء طلاب الميرزا الإصفهاني وحضّار درسه، ولهذا لابدّ من تهيئة فهرس كامل لهم في مناسبة أخرى.
[17]) لسنا نقصد بما قلناه مبالغةً أو إطلاقاً، فهذا ما له أضراره المستقبلية، والمطلق فقط هو المعصوم لا غير، إنما الهدف شرح هذه الحقيقة، وهي أنّه لا يجوز لنا تغافل هذا المنحى من الفهم والرؤية في وسطٍ تغلب عليه المدارس العقدية الالتقاطية التركيبية، حتى على عقول الكبار ورجال الفكر، إن معارف الميرزا معارف تدعو لحذف التقليد العقلي وإقصائه، وتكوين الحقائق العقدية والمعرفية الإسلامية تكويناً أصيلاً، وعليه، فلا ينسدّ البحث الاجتهادي في حقّ أي إنسان كبير أو عظيم، = = إلاّ أن عظمة العمل يجب أن لا تذهب علينا هدراً، لهذا يمكن الاستفادة مما قاله الإصفهاني في أصول الفقه، وفي لحن خطاب الأحاديث (المعاريض والتورية)، وفي إعجاز القرآن، وسائر أبواب العقديات، ولابدّ من الاستضاءة من ذلك النور الذي أتى عبر مجاهدات مضنية وتوسّلات عرفت نهايتها في السعادة.
[18]) أدعو العلماء، والمدّرسين، والأساتذة، والمؤلّفين، وطلاب المعرفة الصادقة، والتلامذة الطالبين الوصولَ إلى العلم واليقين.. أدعوهم جميعاً للتأمل العميق في هذه الكلمات، والغوص في ثناياها بنظر دقيق، والاهتمام والالتفات إلى مثل هذه الحقائق والمنبّهات الفطرية، عندها سيجدون ذلك في نفعهم وفائدتهم.
[19]) بل أكثر من ثمانين عاماً إلى يومنا هذا، والدراسة كتبها الحكيمي قبل سنوات، فليلاحظ ذلك (المترجم).
[20]) عيون أخبار الرضا B 1: 217، فتأمّل في المضامين العميقة لهذا الحديث الشريف الرضوي، ولا تمرّ على مثله من الأحاديث العظيمة والتعاليم الجليلة مرور الكرام، إنّ هذه الأحاديث مداخل نيّرة للتعقّل.
[21]) نصّ هذا الكلام موجود على شريط مسجّل، ما يزال حتى اليوم.