ـ القسم الثاني ـ
أ. د. يوسف الهادي(*)
الطوسي والامتحان السهل
فلنأتِ إلى اتّهام الدكتورة شيرين بياني لنصير الدين الطوسي بتهمة التواطؤ مع المغول، وسنجد أن هولاكو قد حذَّره أحد المنجِّمين من الهجوم على بغداد، الذي سيؤدي إلى قتل الخليفة العباسي؛ حيث سيؤدّي إلى حدوث ظواهر جوية خارقة: «ستموت الخيول جميعاً، وسيُصاب الجنود بالأمراض، والشمس لن تطلع، والمطر لا ينزل، وستهب ريح صرصر، وينهار العالم بالزلزال، ولن ينبت النبات في الأرض. بينما قال اللامات (علماء الدين البوذيون) والأمراء: إن الذهاب إلى بغداد هو عين المصلحة». وهنا استدعى هولاكو الطوسي: «بعد ذلك استدعى هولاكو الخواجه نصير الدين الطوسي واستشاره، فخاف وظنَّ أن الأمر على سبيل الاختبار، فقال: لن تقع أيّ واقعة من هذه الأحداث. فقال هولاكو: إذن ماذا يكون؟ قال: إن هولاكو خان سيحلّ محلّ الخليفة»([1]). وخلال تحاورهما استشهد الطوسي بالحديث الوارد عن النبيّ|: «الشمس والقمر آيتان من آيات الله، لا ينخسفان لموت أحدٍ، ولا لحياته»([2]).
ويفسِّر الدكتور عبد المجيد بدوي ذلك بقوله: «ولعل في تعبير رشيد الدين: «فخاف وظنَّ أن الأمر على سبيل الاختبار» ما يبرِّئ ساحة الطوسي؛ لأن الرجل فعلاً كان قريبَ عهدٍ بخدمة هولاكو، وربما ظنَّ أن هذا أوّل امتحانٍ له لمعرفة صدق نواياه تجاه المغول. فإذا أضَفْنا إلى ذلك ما قاله ابن شاكر الكتبي عنه، من أنه «كان للمسلمين به نفعٌ، خصوصاً الشيعة والعلويين والحكماء وغيرهم، وكان يَبَرُّهم ويقضي أشغالهم ويحمي أوقافهم»([3])، وذلك بعد أن أصبح ذا نفوذ في دولة المغول، إذا أضَفْنا ذلك أدركنا ـ في الأقلّ ـ أنه ليس لدينا دليلٌ أكيد على سوء نيّة هذا الرجل تجاه الخلافة وتجاه إخوانه المسلمين المخالفين له في المذهب»([4]).
ويمكن أن ندعم رأي الدكتور بدوي باحتمال أن يكون نصير الدين قد خاف، وظنّ سؤال هولاكو على سبيل التجربة، إذ إن هولاكو عاقب بعد ذلك المنجِّمين الذين خوَّفوه من غَزْو بغداد. يقول الآقسرائي: «إن المنجِّمين الذين كانوا قد تحدثوا عن ضرورة عدم مهاجمة الخليفة وجيشه، وقدَّموا نصيحتهم تلك بدافع التعصُّب الديني، وُصِموا بوصمةٍ، وعاقبهم [هولاكو]، فأذاقهم أشدَّ أنواع العذاب، وأوردهم مورد العَدَم، فنالهم ثواب الآخرة»([5]).
ما الذي جعل نصير الدين واثقاً من نفسه، ويجزم بانتصار هولاكو؟
أُلفت النظر إلى واقعة مهمّة عرف نصير الدين كيف يوظِّفها في الجواب عن سؤال هولاكو، وهي أن الخليفة حين أُخبر بتوجُّه المغول من الحدود العراقية ـ الإيرانية نحو بغداد أرسل اثنين من كبار ضباط الجيش لاستطلاع الموقف، لكنّ المغول قبضوا على الضابطين، اللذين ما إن التقيا هولاكو حتّى وافقا على التعاون معه، وسلَّماه أسرار الدولة العسكرية والمدنية، وأصبحا يرشدان الجيش المغولي إلى الطرق التي ينبغي له أن يسلكها، وكانا يكتبان رسائل إلى بقية ضباط الجيش يدعوانهم للانضمام إلى جيش هولاكو الذي لا يُقهَر([6]).
من خلال التطورات التي أعقبت ضمّ هلاكو نصير الدين إلى حاشيته ـ مع وصية شقيقه منكو قاآن، التي أوضح له فيها أهمية شخصية نصير الدين ـ أصبح الرجل قريباً جدّاً من هولاكو، حيث نجده ضمن الطبقة الأولى المحيطة به عند تقدّمه من حلوان باتجاه بغداد، فذُكِرَ أنه كان في ركابه «كبار الأمراء: كوكا إيلكا وأرقتو وأرغون آقا، ومن الكتَّاب قرتاي وسيف الدين البيتكجي المدير لشؤون المملكة والخواجة نصير الدين الطوسي والصاحب السعيد علاء الدين عطا ملك الجويني، مع كافة السلاطين والملوك وكتَّاب بلاد إيران»([7]).
لذا يمكن القول: إن نصير الدين كان حاضراً لدى التحقيق مع الضابطين المذكورين، وعَلِمَ كما عَلِمَ غيرُه بعدد أفراد جنود الخليفة الذين قُدِّرَ عددهم بأنهم «دون 10 آلاف»([8]). وقدَّره أحد زائري بغداد آنذاك بما «دون 7 آلاف فارس، وجُلُّهم ليس بنافع»([9]). يقول ابن كثير: «وجنود بغداد في غاية القلة ونهاية الذلة، لا يبلغون عشرة آلاف فارس، وهم في غاية الضعف، وبقية الجيش كلّهم قد صرفوا عن إقطاعاتهم، حتى استعطى كثيرٌ منهم في الأسواق وأبواب المساجد، وأنشد فيهم الشعراء القصائد، يرثون لهم، ويحزنون على الإسلام وأهله»([10]). بينما قُدِّر عدد المقاتلين الذين مع هولاكو بـ 200000 مقاتل([11]).
إن مقارنة أعداد الجنود في الجانب المغولي وما يقابلهم من جنود الخليفة كافٍ لأن يحكم أيّ عاقل بانتصار هولاكو، فكيف لا يقول نصير الدين لهولاكو: إنك ستنتصر، وخصوصاً أنه رأى بعينه التكتيكات العسكرية التي كان المغول يتفنَّنون في ابتكارها؟!
علماء مدينة الحلّة يأخذون زمام المبادرة
إن إيمان الدكتورة شيرين بياني، الذي اتَّخذته قبل أن تكتب هذا الفصل، بأن تنسب إلى الشيعة الدَّوْر الرئيس في التآمر لإسقاط الخلافة العباسية هو الذي أوقعها في أخطاء فاضحة، كنّا نتمنّى أن يسلم كتابها منها، مثل: قولها: «عند وصول خبر دخول هولاكو إلى العراق العجمي، واستقراره في همذان؛ للهجوم على بغداد، قرَّر علماء الشيعة في مدينة الحلّة الذهاب إلى هولاكو؛ ليشجعوه على العمل الذي يريد القيام به، ويبايعوا المغول. وأولئك العلماء كانوا من أكثر علماء هذه الطائفة سمعة ومكانة، مثل: سديد الدين يوسف بن المطهر الحلّي ومجد الدين ابن طاووس وابن أبي العزّ»([12]). وتختم بالقول: «يتّضح أن ما شهدته الحِلّة ـ وهي أهمّ قواعد الشيعة في العراق العربي آنذاك ـ تمَّ بمبادرة من تلامذة نصير الدين، الذي كان العقل المدبِّر لها»([13]).
لقد نسبت الدكتورة بياني خبر ذهاب هذا الوفد الحِلّي إلى ابن أبي الحديد في كتابه شرح نهج البلاغة. ويؤسفني القول: إن الدكتورة قد افترت على ابن أبي الحديد، وقد أهانت قلمها وسمعتها؛ إذ إن نسبتها هذا الخبر إلى ابن أبي الحديد هو غلطٌ شنيع، فابن أبي الحديد لم يتحدث إطلاقاً في شرح النهج عن وفد مدينة الحلّة، ولم يذكر اسماً واحداً ممَّنْ ذكرتهم الدكتورة بياني؛ لسبب بسيط، هو أن هذا الوفد التقى هولاكو على مشارف بغداد في شهر محرم سنة 656هـ، بينما ابن أبي الحديد انتهى من تأليف كتابه شرح النهج في «سلخ صفر سنة 649هـ»([14])، فكيف يكتب عن واقعة ستحدث بعد 6 سنوات من تأليفه كتابه هذا؟!
ولو أن الدكتورة طالعت، ولو مطالعةً بسيطة، كتاب الحوادث لوجدت أن علماء الحلّة لم يذهبوا إلى هولاكو إلاّ بعد أن هُزم الجيش العباسي في معركة المزرفة (9 محرم سنة 656هـ)، وهرب الناجون والجرحى من الجنود إلى بلاد الشام([15])، بينما هرب آخرون إلى الحلّة (المدينة التي سينطلق منها الوفد الشيعي)، وإلى الكوفة([16]). أما جنود وضباط الحامية العسكرية المكلَّفة بحماية مدينة الحلّة فقد هربوا إلى بلاد الشام، وهو ما حدَّثتنا عنه المصادر الشامية بالتفصيل([17]). وحين بقيت المدينة ولا حامي لها، ونزحَ كثيرٌ من عوائلها إلى البطائح القريبة منها([18])؛ لكونهم مدنيين لا قدرة لهم على مجابهة الجيوش المدجَّجين بالأسلحة، بادر علماء مدينة الحلّة هؤلاء إلى لقاء هولاكو، وتعهَّدوا له بدفع مبالغ كبيرة شرط أن لا يدخل الجيش المغولي مدينتهم. ونكرِّر أن لقاءهم به كان على مشارف بغداد، وليس في همذان الإيرانية. وقد وافق على مقترحهم، خصوصاً حين أعلن أهل المدينة له أنهم داخلون في «الإيلية» أي الطاعة، فأرسل هولاكو أحد قادته وعدداً من الجنود لمعرفة ما إذا كان أهل المدينة صادقين في أقوالهم، فذهب الوفد المغولي، واستقبله أهل الحلّة مرحِّبين به، «وجمعوا له مالاً عظيماً، وحملوه إلى السلطان»([19]).
ومع ذلك فإن الدكتورة شيرين بياني أكملت خبر مدينة الحلّة، وسوف نرى بعد قليلٍ أنها تعمَّدت أن تظلم أهلها وعلماءها الذين عاشوا ساعات الرعب والهَلَع وهم يسمعون انهيار الجيش العباسي أمام الجيش المغولي، بل وهم يرَوْن الهاربين من ذلك الجيش وقد لجأوا إلى مدينتهم ـ وربما كان من بينهم جرحى ـ، فكتبت تقول: «عندما وصلت أنباء الهجوم المغولي بادر أهل الحلّة ـ رُبَما بتشجيع من رجال الدين أولئك ـ إلى إخلاء المدينة، واتَّجهوا إلى الصحراء؛ لكي لا يُضطرُّوا إلى مواجهة المغول، وبذلك أنزلوا ضربةً بالحكومة المركزية» ([20]). لقد نسبت الدكتورة هذا المقطع إلى رشيد الدين في جامع التواريخ([21])، وللأسف فإنَّ ما قاله رشيد الدين ليس هذا الكلام، فلننقلْ نصَّ كلامه: «وأثناء حصار بغداد كان قد قدم إليه بعض العلويين والفقهاء من الحلّة، والتمسوا إليه أن يعيِّن لهم شحنة، فأرسل هولاكو خان بوكلة والأمير بجلي النخجواني، وأوفد في أثرهما بوقا تيمور أخا أولجاي خاتون؛ لجسِّ نبْض أهالي الحلّة والكوفة وواسط، والوقوف على مدى إخلاصهم، فاستقبل أهل الحلّة الجند، وأقاموا جسراً على الفرات، وأقاموا الأفراح؛ ابتهاجاً بقدومهم»([22]).
والصواب أن ذلك الكلام ورد في كتاب الحوادث، وهو: «وأما أهل الحلّة والكوفة فإنهم انتزحوا إلى البطائح بأولادهم وما قدروا عليه من أموالهم، وحضر أكابرهم من العلويين والفقهاء مع مجد الدين ابن طاووس العلوي إلى حضرة السلطان، وسألوه حقن دمائهم، فأجاب سؤالهم، وعيَّن لهم شِحنة، فعادوا إلى بلادهم، وأرسلوا إلى مََنْ في البطائح من الناس يعرِّفونهم ذلك، فحضروا بأهلهم وأموالهم، وجمعوا مالاً عظيماً، وحَمَلوه إلى السلطان، فتصدَّق عليهم بنفوسهم»([23]). وليس فيه تحريض رجال الدين للأهالي على ترك المدينة، كما ليس فيه أن خروج الأهالي «أنزل ضربةً بالحكومة المركزية»، فهذا كلّه من خيال الدكتورة بياني.
لا ندري كيف أنزل هؤلاء المدنيون العُزَّل، الذين لم يكن أمامهم من حلٍّ سوى التفاوض مع هولاكو، عقب الجبن والتخاذل الذي أصيب به ضباط وجنود الحامية العسكرية عندما تركوا المدينة وفرُّوا إلى الشام، كيف أنزل هؤلاء بتصرُّفهم الحكيم ضربةً بالحكومة المركزية، التي كان خليفتها جالساً باسترخاء في قصره، يشاهد إحدى الجواري ترقص بين يدَيْه، في ذات الوقت الذي كانت فيه المغول يطلقون فيه رشقات سهامهم من جانب الكرخ بعد أن تموضعوا فيه، فجاءها سهمٌ فقتلها، بينما حمَّلَ قائد الجيش كنوزه ومدَّخراته في سفنٍ وهرب بها؟!
أما القول بأن نصير الدين الطوسي كان العقل المدبِّر لتلك التحركات فالجواب هو أن نصير الدين، كما قلنا، كان مجبراً على الإقامة في قلاع الإسماعيلية منذ سنة 625هـ، بعد أن هاجر إليها عقب تدهور الأوضاع في المناطق الشرقية والوسطى في إيران؛ إثر كثافة الهجوم المغولي([24])، وحين سقطت قلعة أَلمَوت بيد هولاكو سنة 654هـ «أصبح الطوسي في قبضة هولاكو، ولم يعُدْ يملك لنفسه الخيار في صحبته»([25])، فضلاً عن أن هلاكو أكرمه بسبب وصيّة أخيه منكو قاآن، ممّا ذكرناه في ما مضى.
نعم، لقد زار نصير الدين العراق بعد دخول هولاكو إليها في محرم سنة 656هـ، ثم زاره في سنة 672هـ([26])، وكان قد زار الحلّة سنة 662هـ([27])، والتقى علماءها بعد سقوط الخلافة العباسية، وليس قبل ذلك.
يبدو أن الدكتورة بياني قد قرَّرت منذ البدء إلصاق تهمة التآمر على الدولة العباسية بالشيعة، وهي تهمةٌ لا أساس لها، سوى ما ردَّده متعصِّبون من مختلِقي الرواية الشامية/ المصرية وبعض المستشرقين.
ونقول بأمانةٍ: لا يوجد في أيّ مصدر ما يدلّ على تبرُّم الشيعة آنذاك بحكم المستعصم، وكانوا ينظرون إليه نظرتهم إلى خليفةٍ قائم فعلاً ويدير شؤون الدولة، بل إنّ رضي الدين ابن طاووس، وهو أحد مشاهير قيادات الشيعة الإمامية وعلمائهم ـ وكان مقيماً في بغداد في المنطقة القريبة من قصر الخلافة ـ كان مستعدّاً للقيام بأيّ مسعىً يكلِّفه به الخليفة العباسي لإبعاد شرِّ المغول عن العالم الإسلامي. ففي سنة 635هـ، على عهد الخليفة المستنصر، اتّجهت قوة عسكرية مغولية لمهاجمة بغداد، وحين سمع المستنصر بذلك جمع ما عنده من جيش مع ما وصله من نجدة من بلاد الشام، فكان المجموع 15 ألف مقاتل فقط، فأرسلهم؛ ليشتبكوا مع القوّة المغولية قريباً من خانقين، لكنّ هذا الجيش وقع في كمينٍ مغولي، وهُزم هزيمةً مريرة، وخسر ـ فضلاً عن الجنود ـ جَمْعاً من كبار ضباطه([28]).
وفي هذا الوقت تقدَّم ابن طاووس ـ وكان شخصيةً معتدلة ذا علاقة طيبة بالبلاط العباسي وبعلماء عصره ـ برسالةٍ إلى الأمير قشتمر الدين، الذي كان خارج بغداد مرابطاً مع الجنود المتجحفلين على أهبة الاستعداد، «ويخافون أن تأتيهم عساكر التتار…، وقد خِيف على بيضة الإسلام»، يطلب فيها إلى الخليفة المستنصر بأن يأذن له بأخذ وفدٍ لعقد الصلح مع التتار، فجاء الجواب من قشتمر بالاعتذار عن تلبية طلبه. ثم إنه ذهب إلى مَنْ سمَّاه صديقاً له، وكان يشغل منصب أستاذ الدار ـ وهو آنذاك ابن العَلْقَمِيّ ـ، وطلب إليه استئذان الخليفة في الخروج لهم مع أخيه وشخص آخر ومترجم يعرف لغة التتار ويحدّثهم، «لعلَّ الله يدفعهم بقولٍ أو فعلٍ أو حيلةٍ عن هذه الديار؛ فقال: نخاف تكسرون حُرمة الديوان، ويعتقدون أنكم رُسُلٌ من عندنا». ومع ذلك طلب إليه ابن العَلْقَمِيّ الجلوس في مكانٍ خاصّ، ثم ذهب وعاد بعد فترةٍ ـ رجَّح ابنُ طاووس أنه تحدَّث مع الخليفة ـ ليعتذر عن تلبية طلبه، وليقول له: «إذا دعَتْ الحاجة إلى مِثْل هذا أَذِنَّا لكم؛ لأن القوم (التتار) الذين أغاروا ما لهم مُقَدَّم تقصدونه وتخاطبونه، وهؤلاء سرايا متفرِّقة، وغارات غير متَّفقة». ثم إن ابن طاووس طلب الإذن من الخليفة بمغادرة بغداد والتوجُّه لزيارة ضريح الإمام الرضا في مدينة مشهد الإيرانية([29]). وفي طلب ابن طاووس الإذن من الخليفة بالذهاب للزيارة دليلٌ على وجود علاقة احترام متبادلة بين هذا العالِم الشيعي الإمامي والخليفة العباسي السُّنّي، «الذي كان لا يكبر رأس متشيِّع إلاّ رَضَّه، ولا يتشاوس نظر مبتدع إلاّ غَضَّه، ولا يستكثر رافضيّ إلاّ رَفَضَه، وحلَّ عَقْد شُعَبِهِ وفَضَّه»([30])، بحيث إنه لا يغادر بغداد من غير أن يخبر الخليفة. كما أنه يعني من طرفٍ خفيّ أن اقتراحه بالذهاب مع وفدٍ لمقابلة التتار ما يزال قائماً.
كان هذا هو موقف أكبر علماء الشيعة الإمامية آنذاك. وحين جاء المغول وظهرت المقاومة الشعبية البغدادية من السنّة والشيعة، ولم تتوقف إلا عندما غَدَرَ بهم الخليفة المستعصم واثنان من كبار قادته العسكريين (الدويدار الصغير وسليمان شاه)، وسلَّموا بأيديهم أولئك المقاتلين النجباء إلى المغول، فذبحوهم، وكانوا آلافاً.
إن موقف الشيعة الإمامية في الدفاع عن الدولة العباسية هو شبيهٌ بموقفهم سنة 1914م، عندما دخل الإنجليز العراق الذي كان محتلاًّ من قبل حكومة الدولة العثمانية، التي غالباً ما كان وُلاتها الذين تعيِّنهم على العراق من شرار خلق الله، وأكثرهم تعطشاً لدماء شيعة آل بيت رسول الله|، حيث كانوا يرتكبون المجازر بحقهم استناداً إلى فتاوى علماء الدولة الحنفية، الذين كانوا يبيحون دماءهم؛ لكونهم مشركين، كما يقولون. ويكفي أن نشير إلى ما فعله السلطان سليم الأول العثماني (حكم خلال السنوات 1512 ـ 1521م)؛ لإيجاد ذريعةٍ لشنّ حرب على الدولة الصفوية، فبادر إلى حصر عدد الشيعة المنتشرين في الولايات المتاخمة لبلاد إيران بطريقةٍ سرّية، ثم أمر بقتلهم جميعاً، ويقال: إن عددهم كان يبلغ نحو الأربعين ألفاً([31]).
لكن عندما دخلت القوات البريطانية إلى العراق سنة 1914م «تناست الشيعة آنذاك ما كان قد لقِيَته من ظلمٍ وجَوْر على يد الأتراك، وأصدر المجتهد الأكبر فتوى بضرورة مساندة الأتراك ومعاضدة السلطة العثمانية، كما أنه أعلن الجهاد»([32]). لقد هبَّ الشيعة، يتقدّمهم كبار فقهائهم، وحملوا السلاح للدفاع عن «بيضة الإسلام» وعن الدولة العثمانية، وذهبوا فوراً إلى ميادين القتال، بينما اختفى العلماء وعدد من الوجهاء التابعين للدولة العثمانية في العراق، الذين كانوا يتسلَّمون منها رواتب شهرية، واجتمعوا في أحد المنازل ببغداد، وأرسلوا تأييداً للإنجليز، وعرضوا عليهم تقديم المساعدات للقوات البريطانية([33]).
وحين احتلّت القوات الروسية والبريطانية أجزاء من شمال وجنوب إيران تمَّ اتفاق مجتهدي العتبات المقدّسة كافّة على الضرورة الملحّة للدفاع عن الإسلام، وأصدروا فتوى تدعو المسلمين إلى التضحية بأرواحهم من أجل طرد القوات الإيطالية والقوات الأنجلو ـ روسية من طرابلس الغرب (عاصمة ليبيا) وإيران([34]).
وبدَوْرهم قتل المغول في هجومهم على العراق سنة 656هـ الشيعةَ، كما قتلوا السُّنة، حتّى قال الذهبي، ذو الاتجاه الأُمَويّ، والمعروف بأنه من أشدّ مناوئي شيعة آل بيت رسول الله|، الذين يسمِّيهم الرافضة: «راح تحت السيف الرافضة والسنّة وأمم لا يحصون»([35]). وكان من بين القتلى بعض مشاهير السادة العلويين. ونذكر هنا فقط بعضاً ممَّنْ قتَلَهم المغول صبراً: «نقيب الطالبيّين عليّ ابن النسّابة، ونقيب مشهد الكاظم تقيّ الدين الموسويّ، وشرف الدين (أبو الفضل) محمد بن طاووس العلويّ»([36])، والنقيب عليّ بن النقيب الحسن بن المختار، وعمر بن الجلال عبد الله بن المختار العلوي حاجب باب المراتب([37])، وبهاء الدين داوود بن المختار العلوي([38])؛ كما قُتل نقيب العلويين عندما كان في السفينة التي حاول الدويدار الصغير الهرب بها من بغداد([39])؛ وأُحرق مشهد الإمامين موسى الكاظم وحفيده محمد الجواد من أئمة الشيعة الاثني عشرية الواقع في الكاظمية من بغداد([40]).
إن الدكتورة شيرين بياني حتّى عندما ذكرت (خليل الكردي)([41])، أحدَ المتمردين على خلافة المستعصم، فإنها ألصقته بالشيعة، وقالت: «ويُحتَمَل أنه كان شيعياً»([42])، مع أن هذا المتمرِّد لا علاقة له بالشيعة، فضلاً عن أنها أخطأت حين قالت: إن ذلك حدث عندما تحرك هولاكو الذي أمره أخوه منكو قاآن أن يبدأ بحرب «اللور والأكراد الذين يقطعون الطرق على سالكيها»([43]).
فالصواب أن واقعة تمرُّد خليل الكردي بن بدر هذه حدثت سنة 642هـ، كما قال مؤلف كتاب الحوادث([44])، وكذلك الذهبي، الذي كرَّر كلام المؤرِّخين البغداديين بشأنه([45])؛ أو في سنة 648هـ، كما نصّ على ذلك رشيد الدين([46])، أي قبل أن يكلِّف منكو قاآن شقيقه هولاكو بمهمّته التي بدأها منذ سنة 651هـ بغَزْو إيران والعراق والشام.
ويبدو أن قول البناكتي: إن هذا المتمرِّد «خليل بن بدر بن خورشيد الكردي قد اتفق مع جَمْعٍ من المغول، وقبل ذلك كان قد تزيَّا بزيّ الصوفية، وعدَّ نفسه من أتباع السيد أحمد الرفاعي، وذهب إلى خولنجان من نواحي النجف، وشنّ هجوماً على مجموعة من أتباع سليمان شاه، فقتل عدداً منهم، ونهب أموالهم»([47])، هو الذي أوقعها في هذا الغَلَط. وكان على الدكتورة أن تحتمل وجود تصحيف في العبارة؛ فمن غير المعقول أن تكون مدينة خولنجان تابعة لمدينة النجف العراقية؛ ذلك أن هذه المدينة قريبة من قرميسين (كرمان شاه)([48])، أو هي في خوزستان([49]). وعليه فالنجف المذكورة هي تصحيفٌ لاسم مكان هناك هو «اللِّحْف»، ولا علاقة له بالنجف الأشرف، حيث يقول ياقوت: «لِحْف: بكسر أوَّله وسكون ثانيه؛ ولِحْفُ الجبلِ: أصلُه؛ وهو صقعٌ معروف من نواحي بغداد، سمِّي بذلك لأنه في لحف جبال همذان ونهاوند وتلك النواحي، وهو دونها ممّا يلي العراق، ومنها البندنيجين وغيرها، وفيه عدّة قلاع حصينة» ([50]). ويذكر المؤرِّخون البغاددة أنه خرج مع خليل هذا «جمعٌ كثير من المغول وغيرهم، وقَصَدَ نواحي اللِّحْف، ونهب جماعةً من رعيّة سليمان شاه، وقَتَلَهم…»([51]).
وعلى هذا فالمتمرِّد المذكور على الخليفة المستعصم لم يكن شيعياً، ولا هو من أهل النجف، كما قالت الدكتورة بياني، التي تصوَّرت أنها اكتشفت دليلاً جديداً على تآمر الشيعة ضدّ الخليفة العباسي، فتمسَّكت بكلمة النجف، ولم تحتمل وجود تصحيف فيها.
بل إن الدكتورة نسبت ابن أبي الحديد إلى الشيعة أيضاً؛ لأنه ألَّف كتاب شرح نهج البلاغة، وأهداه إلى الوزير ابن العلقميّ، فقالت: «عزّ الدين بن أبي الحديد الذي ربما كان شيعياً»([52]). والصواب أن ابن الحديد كان معتزلياً معروفاً على الصعيد العقائدي، وشافعياً على الصعيد الفقهي، وقد نصَّ المؤرخون السنّة على كونه معتزلياً، فقال الأشرف الغساني: إنه «شافعي المذهب، ينتحل في الأصول مذهب المعتزلة» ([53])، واكتفى الذهبي والصفدي وابن شاكر بالقول: إنه كان معتزلياً([54])، لكن ابن كثير قال: «كان شيعياً معتزلياً»، وأضاف: «كان حظيّاً عند الوزير ابن العلقميّ؛ لما بينهما من المناسبة والمقاربة والمشابهة في التشيُّع والأدب والفضيلة»([55]). وربما كان اشتهار ابن العلقميّ وابن أبي الحديد بحبّ الإمام عليّ لدى الرجلين هو الذي دعا ابن كثير إلى هذا القول، وخصوصاً أن ابن كثير من مريدي الشيخ ابن تيمية، الذي عُرِف ببغضه الشديد للإمام عليّ بن أبي طالب ومَنْ والاه.
كما أن قولها: إن هولاكو بادر إلى خطوةٍ تجريبية، فأرسل في سنة 647هـ فريقاً طلائعياً؛ ليحاصروا بغداد عبر همذان وخانقين([56])، أمرٌ غير صحيح؛ ذلك أن هولاكو بدأ مهامه الخاصّة بغَزْو إيران والعراق منذ سنة 651هـ، حين كلَّفه بذلك شقيقه منكو قاآن، الذي تسنَّم العرش المغولي سنة 649هـ.
ومن أخطائها الواضحة أنها تغامر فتلقي الكلام جزافاً، وتمضي مسرعة لتستنتج منه، فهي تقول مثلاً: «كان ابن العلقمي وأنصاره ـ وكان كثيرٌ منهم إيرانياً ـ والشيعة يرَوْن مساومة المغول وقبول حكمهم»([57]).
هكذا افترَتْ افتراءً هذا الكلام من عندها، لذلك لم تذكر أين وجدَتْه. وسنناقشه بعد قليلٍ.
كان ابن العلقميّ عربياً من قبيلة بني أسد العربية، من مدينة النيل التابعة لمدينة الحلّة في محافظة بابل في وسط العراق، وكان وزيراً مخلصاً للخلفاء العباسيين، ولم يكن له ناصرٌ إيراني واحد، فضلاً عن «أنصار»، وحين اقترح على الخليفة المستعصم أن يتفاوض مع هولاكو وهو في همذان، وإرسال الهدايا إليه قبْل أن يتقدَّم نحو بغداد، إنما تقدَّم بذلك الاقتراح من عنده؛ حبّاً بوطنه العراق وخليفته الذي استنصحه، ولم يكن بجانبه إيرانيٌّ واحد. وإنما قالت الدكتورة بياني ذلك؛ لتصوُّرها أن كلَّ إيراني فهو شيعيّ منذ أن دخل الإسلام إيران، وهي تهدف إلى القول بأن الشيعة، من إيرانيين وعراقيين، كانوا مع الغزاة المغول؛ لأن الشيعة ـ كما تقول ـ «يرَوْن مساومة المغول وقبول حكمهم»([58])، بينما الحقيقة هي أن الشيعة كانوا كالسنّة، مغلوبين على أمرهم، يحكمهم خليفةٌ عابث، انهمك باللعب بالطيور وبالصيد، واستماع المغنّين والمغنّيات، وأهمل حال الجنود، وقلَّل رواتبهم، حتّى كان بعضهم يشحذ على أبواب الجوامع([59]).
ونذكِّر هنا بأن إيران كانت سُنِّية آنذاك، ولم تتحول إلى التشيُّع رسميّاً إلاّ بعد 241 سنة من دخول المغول بغداد. ونقول؛ استناداً إلى المصادر: إن الدكتورة لم تأتِ باسم إيراني واحد كان مع ابن العلقميّ، ولم تذكر في أيّ مصدرٍ وجدت أن الإيرانيين كانوا يحيطون بالوزير ابن العلقميّ، وهي لن تستطيع ذلك بكلّ تأكيدٍ؛ لأن هذا المصدر لا يوجد إلاّ في خيالها. كما أن سكّان إيران آنذاك كانوا يعانون من الظلم والجَوْر الذي فرضه المغول المحتلون على أجزاء كبيرة من بلادهم، ولم تكن لهم دولة واحدة، وإنما مجموعة من ملوك الطوائف خضعوا للمغول إلى الحدّ الذي كانوا إذا نشب نزاع بينهم (حتّى بين أفراد الأسرة الواحدة) فإنهم كانوا يذهبون للمغول لفضِّ ذلك النزاع. وقد تعاون حكَّام تلك الأُسَر مع المغول، وأمدُّوهم بالأموال والرجال حينما غزوا أجزاء من إيران والعراق.
والحقيقة أنه كان هناك اثنان لا علاقة لهما بالشيعة قاما بعملٍ مدمِّر في بغداد خلال وجود الجيش المغولي فيها: الأوّل: شهاب الدين الزنجاني، وقد شغل منصب قاضي قضاة الشافعية لدى الخليفة المستعصم، وأحد كبار أساتذة الفقه الشافعي؛ والثاني: عبد الله بن عبد الجليل الطهراني([60])، أستاذ الفقه الحنفي في بغداد، حيث قام هذان الاثنان بتنظيم مجزرةٍ ذُبِحَ فيها جمعٌ من الفقهاء ممَّنْ يختلفون معهما في الرأي، حيث كانا يسلِّمانهم إلى المغول ليقتلوهم. ولدينا بهذا الشأن شهادة شاهد عيان، كان في بغداد حين دخلها المغول، هو المؤرِّخ ابن الفُوَطِيّ الحنبلي، الذي قال عن الطهراني: «وكان شديد الوطأة على أهل العناد والفساد، وتولَّى تدريس المدرسة البشيرية، وكان عالماً بالفقه وأيّام الناس؛ وهو ممَّنْ كان يُخْرِج الفقهاءَ إلى باب السُّور، إلى مخيَّم السلطان هولاكو، مع شهاب الدين الزنجاني، ليُقْتَلوا»([61]).
وحول ما حدث عقب وصول رسالة هولاكو التهديدية إلى الخليفة المستعصم تقول الدكتورة بياني: إن الساسة المحيطين بالخليفة انقسموا إلى فريقين: فريق شيعي إيراني يدعو لمهادنة المغول (!!)؛ وفريق سُنِّي تركي يدعو للقتال (!!).
كنّا نتمنّى لو أن الدكتورة بياني صانت قلمَها وسمعتَها كباحثةٍ عن هذا الكلام، الذي اختلقته اختلاقاً، ولا أساس له إطلاقاً في أيّ مصدرٍ تأريخي. بل إنها لم تكلٍّف نفسها بذكر المصدر الذي نقلته منه. فلنقرأ كلامها: «بدأت الخلافات الحادّة والتأريخية بين الساسة تطفو على السطح إثر وصول رسالة هولاكو، وهي بداية الإنذار المغولي الرسمي الموجَّه إلى حكومة بغداد، فانقسم الساسة بين فريق يؤيِّد الحرب؛ وفريق يطالب بالمساومة وقبول التَّبَعية. كان ابن العلقميّ وأنصاره ـ ومن بينهم: الإيرانيون([62]) ـ والشيعة يرَوْن مساومة المغول وقبول حكمهم، ولعلَّ الخليفة كان من بين هذا الفريق؛ تأثُّراً بوزيره. وكان الدواتدار الكبير والدواتدار الصغير وقادة الجيش والسنّة والأتراك بشكلٍ عام على رأس المتمسِّكين بالحرب([63]). غدا ذلك اليوم أوانَ تصفية الحسابات والانتقام بين أهل الديوان وبين العسكريين، أو بين الشيعة وبين السنّة وبين الأتراك والفُرس»([64]).
هذا كلُّه من خيال الدكتورة شيرين بياني.
قالت: إن ابن العلقمي كان يحيط به إيرانيون شيعة. وهذا افتراءٌ معيب.
وقالت: إن الشيعة يرَوْن مساومة المغول. وهذا افتراءٌ أيضاً، وكلامٌ لا وجود له في التأريخ إطلاقاً. وإنما قالت ذلك لاعتقادها الراسخ بأن وفد علماء شيعة الحِلّة، الذي ذهب للقاء هولاكو، إنما ذهب إليه حين كان في مدينة همذان، وأن أعضاءه حرَّضوه ـ كما تزعم الدكتورة ـ على غَزْو بغداد.
وهذا افتراءٌ من الدكتورة بياني؛ سببه أنها صمَّمت على تخوين الشيعة بأيّ ثمنٍ قبل أن تؤلِّف كتابها هذا. والصحيح أن وفد علماء مدينة الحلّة ذهب إلى هولاكو قرب بغداد بعد هزيمة الجيش العباسي أمام المغول (9 محرم 656هـ)، وبعد فرار الحامية العسكرية العباسية المكلَّفة بحماية مدينة الحِلَّة منها. وقد ذهب هذا الوفد لمفاوضة هولاكو على عدم مهاجمة الحلّة وما جاورها، لقاءَ أن يدفعوا له أموالاً هائلة، فوافق هولاكو على ذلك. إذن كان لقاء هذا الوفد بهولاكو قرب بغداد، وليس في همذان الإيرانية، كما ادَّعَت الدكتورة.
فتسلسل الوقائع هو:
12 رجب سنة 655هـ وصل هولاكو إلى همذان([65]).
في شوّال سنة 655هـ غادر بجيشه مدينة همذان إلى بغداد، فوصلها بعد 3 أشهر([66]).
حين أصبح على مشارف بغداد ـ وكما هو مستفادٌ من كلام العلاّمة الحلّي([67]) ـ التقاه وفد علماء الحلّة في المدّة الواقعة بين تطويقه لبغداد من الجانب الشرقي (الرصافة) في 11 محرم سنة 656هـ([68]) وبين مقتل الخليفة المستعصم في 14 صفر 656هـ.
ومن الواضح أن الدكتورة بياني لم تطالع جيّداً كتاب جامع التواريخ، ولا كتاب الحوادث؛ إذ إن تفاصيل هذه الوقائع موجودةٌ في هذين المصدرين بشكلٍ واضح جداً.
فلننقل الوقائع الصحيحة من رشيد الدين: إن الخليفة عندما سأل وزيره ابن العلقميّ عن الحلّ الذي ينبغي له القيام به لدفع الغازي هولاكو عندما كان في همذان اقترح ابن العلقميّ إرسال هدايا إليه، والتفاوض معه وهو هناك، وقبل أن يصل أسوار بغداد. يقول رشيد الدين: «إن رُسُل هولاكو وصلوا بغداد وهم يحملون رسالته إلى الخليفة، فالتقوا بالوزير ابن العلقميّ، «فعرضها (رسالة هولاكو) برمَّتها على الخليفة؛ فقال: ماذا ترى لدفع هذا الخصم القاهر القادر؟ فأجاب الوزير: ينبغي أن ندفعه ببذل المال؛ لأن الخزائن والدفائن تُجمع لوقاية عِزَّة العِرْض وسلامة النفس، فيجب إعداد ألفِ حملٍ من نفائس الأموال، وألفٍ من نجائب الإبل، وألفٍ من الجياد العربية المجهَّزة بالآلات والمعدات؛ وينبغي إرسال التحف والهدايا للأمراء والقادة العسكريين، كلٍّ بحَسَب مقامه ورتبته، وأن يُرسَل ذلك صحبةَ الرسل الكُفاة الدهاة، مع تقديم الاعتذار إلى هولاكو، وجعل الخطبة والسكّة باسمه، فأعجب الخليفة برأي الوزير، وأشار بإنجاز ذلك. ولكن مجاهد الدين أيبك، المعروف بالدواتدار الصغير ـ بسبب الوحشة التي كانت بينه وبين الوزير ـ، أرسل إلى الخليفة رسالةً بالاتفاق مع الأمراء الآخرين وسفلة بغداد([69])، يقول: إن الوزير دبَّر هذه الحيلة لمصلحته الخاصة؛ لكي يتقرَّب زلفى إلى هولاكو، ويلقي بنا نحن الجنود في البلاء والمحنة، ولكننا سوف نرقب مفارق الطرق، ونلقي القبض على الرُّسُل، ونأخذ ما معهم من أموال، وسنجرِّعهم أنواعَ العذاب والعناء، فعَدَل الخليفةُ؛ بسبب هذا الكلام، عن إرسال الأحمال»([70]).
وعليه ففَهْم الدكتورة بياني لهذا النصّ من أن الدويدار الصغير دعا إلى الحرب هو فهمٌ مغلوط؛ ذلك أن الدويدار دعا إلى الحيلولة بين ذلك الوفد وبين الذهاب إلى هولاكو، كما دعا إلى سرقة الأموال والهدايا التي يحملها أعضاء ذلك الوفد الحكومي الخليفتي، وإلى إلقاء القبض على أعضاء حَمَلَة الهدايا والأموال، وإخضاعهم لعمليات تعذيب قاسية. فهل عمليات السرقة وقطع الطرق التي هدَّد بها الدويدار ورفاقه تسمّى قبولاً بالحرب لردّ الغزاة المغول، كما تريد الدكتورة بياني أن ترسِّخ في نفوس قرائها؟!
كما أن قولها: «ابن العلقمي وأنصاره، الذين كان كثيرٌ منهم إيرانياً وشيعياً»، هو كلامٌ غير موجود لدى رشيد الدين، ولا لدى غيره من المؤرِّخين المعاصرين للواقعة أو القريبين منها، بل حتّى البعيدين. ويؤسفنا أن نقول: إنه أيضاً من خيالها فقط. بل إن موقف ابن العلقميّ كان ضعيفاً بإزاء مراكز القوى في البلاط العباسي؛ والسبب هو أنه لمّا لم تكن لابن العلقميّ مجموعة عسكرية فقد ظلّ موقفه ضعيفاً طوال فترة إدارته الأمور، وكان لديه قوّة حماية من الأتراك لم يكونوا موالين له، وحين يحدث توتر في الأوضاع بينه وبين الدويدار الصغير كان أفراد الحماية هؤلاء يتخلَّون عنه، وينضمُّون إلى زملائهم الأتراك ممَّنْ كانوا مع الدويدار الجركسيّ([71]). ولم يكن الدويدار الصغير يزوره استنكافاً([72])، وكان صاحب الديوان ابن الدامغاني الحنفي مثلاً «يرتِّبُ النوَّاب في الأعمال من غير مشاورة الوزير»([73]). ولما كان الخليفة عُرف عنه اللعب بالطيور فقد رفع قدر عاملٍ من عمّال معامل الطابوق (وهو المدعوّ ابن الدرنوس)؛ لكونه يعرف أنواع الطيور وكيفية اللعب بها، وأصبح مستشاره الأوّل في شؤون الدولة، ثمّ «صار مقرَّباً عند الخليفة، يُراسل به الوزير ويشاوره ويعمل برأيه»([74]). وكان الاعتقاد السائد أن ابن الدرنوس هو الحاكم الحقيقي للدولة، وأنه هو الذي أوقع البلد في الخراب؛ لكونه قد «سَاسَ العراق»([75]). وكان ابن العَلْقَمِيّ ـ الوزير الأوّل في الدولة ـ إذا جاءه ابن الدرنوس برسالةٍ من الخليفة يبادر إلى إخلاء المجلس من الجلساء، ويختلي به، فرُبَما جاءه «في مشافهةٍ من عند الخليفة»([76])، أي ما نسمّيه اليوم بـالكتاب «السرّي والشخصي».
موقفان في الوقت الضائع لإنقاذ الخلافة والخليفة
في ما يأتي ننقل هنا هذين الموقفين اللذين نتساءل عما إذا كان بمقدور الدكتورة أن تصفهما بالخياني:
الأوّل: اقتراح لسيّدٍ علوي شيعي إمامي اثني عشري، وما كان إيرانياً؛ لكونه من ذرّية النبيّ|، امتدحه الناس والمؤرِّخون لسعة عقله وإخلاصه للخليفة المستعصم وكرمه وسخائه، وهو «ابن صلايا الهاشمي العلوي، نائب إربل الشيعي، كان نائب الخليفة (المستعصم) بإربل، وكان من رجالات العالم رأياً وعقلاً وحزماً وصرامة»([77])، وكان «سيِّداً ماجداً سمحاً جواداً، وكان تبلغ صدقاته وهِباته في السنة فوق الثلاثين ألف دينار»([78]). ترجَمَه ابن تغري بردي فقال: «كان فاضلاً شجاعاً، وعنده سياسةٌ وتدبير، وكان له محاسن جَمَّة، إلاّ أنه كان شيعيّاً، ولولا ذلك لصلح للخلافة»([79]).
كان في منطقة درتنگ([80]) داخل الأراضي العراقية حاكمٌ من قِبَل الخليفة، يُدعى حسام الدين عَكَّة، الذي التقاه هولاكو عند وصوله إلى الحدود العراقية ـ الإيرانية، ومنحه صلاحيات واسعة وأموالاً ومعدّات؛ ليكون معه في الهجوم على بغداد. لكنّ حسام الدين هذا فكَّر، بتشجيعٍ من حاكم أربيل ابن الصلايا العلوي الموالي للخليفة المستعصم، في أخْذ مَنْ معه من القوات ـ على أن يمدّه الخليفة بجيشٍ من الفرسان ـ ليَنْقَضّ على جيش هولاكو قبل اقترابه من بغداد. وقد أرسل إلى الخليفة يقول: «لو طيَّبَ الخليفةُ خاطري وطمأنَ قلبي وبعثَ إليَّ بجيشٍ من الفرسان لجمعْتُ أنا أيضاً ما يقرب من مئة ألف من فرق المشاة من كرد وتركمان، ولسددتُ الطرقَ في وجه هولاكو، ولا أدَعُ أيَّ مخلوقٍ من جنده يدخل بغداد». فأرسل ابن الصلايا رسالةً إلى الوزير ابن العَلْقَمِيّ يخبره بهذا الاقتراح، «فعَرَضَه هذا بدَوْره على الخليفة، فلم يُبْدِ اهتماماً كثيراً به»([81]) .
وبدَوْره، كان ابن صلايا العلوي «نائب الخليفة بإربل([82])، يسيِّر إلى الخليفة ويحذِّره من التتر، وهو غافلٌ، لا يجدي فيه التحذير، ولا يوقظه التنبيه»([83]). يقول الذهبي: «وكان تاج الدين ابن صلايا نائب إربل يحذِّر الخليفة، ويحرِّك عزمه، والخليفة لا يتحرَّك ولا يستيقظ» ([84]).
الثاني: موقفٌ آخر لشيعيّ إمامي اثني عشري، تناغَمَ مع موقف ابن الصلايا العلوي، ونعني به موقف ابن العلقميّ، الذي كان يكاتب الخليفة «بالتحذير والتنبيه، ويشير عليه بالتيقُّظ والاحتياط والاستعداد، وهو لا يزداد إلاّ غفولاً، وكان خواصُّه يُوهِمونه أنه ليس في هذا كبير خطر، ولا هناك محذور، وأنّ الوزير إنَّما يعظِّم هذا لينفق سوقُه، ولتُبرَز إليه الأموال؛ ليجنِّد بها العساكر، فيقتطع منها لنفسه»([85]). وفي الوقت نفسه قدَّم حلاًّ سياسياً، طلب فيه إلى الخليفة أن يفتح باب التفاوض مع هولاكو وهو لما يزل في مدينة همذان الإيرانية. يقول المؤرِّخ النخجواني: إن ابن العلقميّ قال للخليفة بصراحةٍ: «إن المغول قد استولَوْا على العالَم بأسره، وإن عددهم بلغ من الكثرة حدّاً ليس لأمير المؤمنين القدرة على مجابهته، والرأيُ السديد هو أن يلين لهم ويتواضع، وأن يجعل من الأموال والممتلكات ثمناً لسلامة النفس وسلامة المسلمين. وواصل الوزير المغلوب على أمره قول أمثال هذا الكلام، لكن المستعصم لم يُعِرْه أذناً صاغية. أما المقرَّبون من الخليفة وخواصُّه فقد خوَّفوه، وقالوا: إن هدف الوزير هو إخلاء الخزائن من الأموال، ومن ثم يسلِّط عليك المغول»([86]). وهذا تفكيرٌ لصوصي عُرِف به المحيطون بالخليفة المستعصم؛ بينما كان ابن العلقميّ شخصاً نزيهاً جدّاً؛ بحكم تديُّنه وتربيته وإبائه، ولم يتَّهمه أحدٌ من المؤرِّخين بهذه التهمة القبيحة. لكنّ تدخُّل الدويدار الصغير في الأمر، ومنعه إرسال الهدايا والتفاوض مع هولاكو، وأنه سيبعث مَنْ يلقي القبض على حَمَلَة الهدايا، ويصادرها منهم، ويذيقهم أسوأ أنواع التعذيب، أدّى إلى خوف الخليفة وتوقُّفه عن تنفيذ مقترح الوزير ابن العلقميّ([87]). وكان كلُّ ذلك نكايةً بابن العلقميّ؛ لكونه كان قد أخبر الخليفة في ما مضى عن مؤامرة للدويدار الصغير، يحاول فيها خلع الخليفة، وتعيين أحد أنجاله محلّه.
ثم إن هولاكو بلغته أخبار اتصالات حسام الدين عكّة السرّية بالمستعصم، فدعاه إليه؛ بذريعة التشاور معه، ثم قَتَلَه. وفيما بعد، عقب احتلاله بغداد، ذهب ابن الصلايا مع بدر الدين لؤلؤ لزيارة هولاكو، قال ابن الجزري: «وكان بينه وبين صاحب الموصل بدر الدين [لؤلؤ] منافسة؛ فأحضرهما هولاكو عنده، فيقال: إن بدر الدين قال لهولاكو: هذا شريفٌ عَلَويّ، ونفسُه تحدِّثه بالخلافة، ولو قام لتبعه الناسُ واستفحل أمرُه؛ فأثَّر هذا عند هولاكو، فقتله»([88]). ونعتقد أن السبب في قتله هو الاتصالات السرّية التي كان قد أجراها مع الخليفة المستعصم، وطلب إليه دعمَه ودعم حسام الدين عكّة؛ ليشنا هجوماً على المغول وهم ما يزالون في الطريق إلى بغداد أواخر سنة 655هـ، مما ضمَّنه رسالته الناطقة بالإخلاص، فجواسيسُ المغول كُثُر. ومن الممكن أن يكون بدر الدين لؤلؤ، المعروف بدهائه ودسائسه وقسوته، قد شارك في استدراج ابن الصلايا للذهاب معه إلى هولاكو، حيث انتقم منه.
وهكذا كان هذان الحريصان على الخليفة والخلافة في تلك الظروف العصيبة، وحاولا بالاشتراك مع حسام الدين عكَّة القائد الجبليّ المتمرِّس في حروب الجبال إنقاذَ الدولة الإسلامية في أيّامها الأخيرة، كانا شيعيّين إماميين اثني عشريين، خلافاً لجميع مَنْ تعاون مع هولاكو على غَزْو العراق من الحكّام المسلمين، الذين دعموه بالمقاتلين والأموال والمعدّات، وشاركوه في قتل إخوانهم المسلمين من مواطني العراق، ولم يكن بين هؤلاء الحكام المتعاونين شيعيٌّ واحد.
فلنَعُدْ إلى الخليفة المستعصم، المعروف بانهماكه بلذّاته، وباللعب بالطيور والغناء والمطربين ـ وهو ما ذكرَتْه أيضاً الدكتورة بياني في كتابها هذا ـ، ففي تحليل سيكولوجي لنفسيته نقول: إن الخليفة كان خائفاً على الدوام من سطوة الدويدار الصغير، الذي كان بيده أمر الجيش. وكان الدويدار الصغير هو الحاكم الحقيقي للعراق آنذاك، وليس المستعصم بالله؛ ذلك أنه إذا حَدَثَ تعارضٌ بين رأيه ورأي الوزير أو رأي أيّ مسؤول في الدولة، حتّى لو كان الخليفة نفسه، فإن رأي الدويدار هو الذي يُنَفَّذ، مثلما حدث عندما اقترب الجيش المغولي من بغداد، وأصدر الخليفةُ أمرَه بتعيين مرشد الشرابي قائداً عامّاً للجيش، فلم يُنفَّذ هذا الأمر؛ لامتناع الدويدار الصغير وبقية أمراء الجيش عن السَّيْر تحت لوائه([89]).
ولما كان ضعيف الشخصيّة إلى هذا الحدّ، وها هو الآن يواجه تحدّيين كبيرين: تهديد هولاكو؛ وتهديد الدويدار الصغير، ولكي لا يبدو بمظهر الخائف، فقد انطلق بالكلام على عناصر القوّة لديه، مستخدماً واحداً من ميكانزمات آليات الدفاع (Defence mechanism) المعروفة، يدفع بها عن نفسه الخوف، وذلك بأن يطلب إلى المحيطين به أن لا يخافوا، مدَّعِياً أنه هو الذي سيقوم بحمايتهم بما لديه من جيشٍ، وإنْ لزم الأمر فسيدعو لنصرته ملوكَ الأرض الذين هم بمثابة جنود له، وهم سوف يلبُّون نداءه. ولما كان في داخله خائفاً يرتعد هَلَعاً ورُعْباً، ولغرض إسكات هذا الرعب في قلبه، فقد تصوَّر أن له علاقة صداقة مع منكو قاآن وشقيقه هولاكو، ولا بُدَّ أنهما يحملان له المشاعر الودّية أيضاً؛ بل إنه استخدم ميكانزم الإنكار أو نفي الواقع([90]) (Disavowal mechanism)، فادَّعى أن الرسالة التي حملها الرُّسل إليه، وقالوا: إنها من هولاكو، هي رسالةٌ كاذبة. نَعَمْ، «الدفاعات عبارةٌ عن حصنِ أمانٍ للذهن، ونحن ندرأ عن أنفسنا ما قد يسبِّبه اعترافنا بهذه الأفكار من أَلَمٍ، بأن نحرِّفها ونحوِّرها ونطردها ونضعها في صندوق ونخفيها»([91]). لقد بلغ هذا الوهم به حدّاً كان يقول: «إن بغداد هي تَخْتُنا، ولن يدخلوها ما لم نأذَنْ لهم»([92]).
لنكمل كلام رشيد الدين، حيث يقول: إن الخليفة؛ «وبدافع من التهوُّر والغرور، أرسل إلى الوزير مَنْ يقول له: لا تخْشَ القضاءَ المقبل، ولا تقُلْ: خرافة؛ فإن بيني وبين هولاكو خان وأخيه منكوقاآن صداقة وألفة، لا عداوة وقطيعة. وحيث إنني صديق لهما فلا بُدَّ أنهما يكونان صديقين ومواليين لي، وإن رسالة الرُّسُل كاذبةٌ. أما إذا أضمرَ الأَخَوَان لي خلافاً وغَدْراً فلا ضَيْرَ على الأسرة العباسية؛ إذ إن ملوك الأرض هم بمثابة الجنود لي، وهم منقادون ومطيعون لأمري ونهيي، فأدعوهم من كلّ قطر، وأسير لدفعهما، وأُثير إيران وتوران عليهما، فقَوِّ قلبَك، ولا تخافنَّ تهديدَ المغول ووعيدهم»([93]).
فلننظر ما هو موقف القيادات العسكرية، وكيف تصرفوا؟ يقول رشيد الدين: «أما قادة الجيش والأمراء، مثل: سليمان شاه بن برجم([94]) وفتح الدين بن كره([95]) ومجاهد الدين الدواتدار الصغير، فإنهم اجتمعوا في منزل الوزير ابن العلقميّ، وأطلقوا ألسنتهم بقَدْح الخليفة وطعنه، قائلين: إنه صديق المطربين والمساخر، وعدوّ الجيوش والجنود، وإننا أمراء الجيش، بِعنا كلَّ ما ادَّخرناه في عهد والده المستنصر. وقال سليمان شاه: إذا لم يقدم الخليفة على دفع هذا الخصم القويّ، ولم يبادر إلى طلب العون والمساعدة، فسيتغلَّب جيش المغول عن قريبٍ على بغداد، وحينئذ لا يرحم المغول أيّ مخلوقٍ، كما فعلوا بسائر البلاد والعباد، فلا يُبْقون على أيّ شخصٍ من الحَضَر كان أو من البَدْو، قوياً كان أو ضعيفاً، وسيُخرجون رَبَّات الخدور من ستر العصمة. ولو أن المغول لم يحدقوا بجميع الجهات لكان من السهل حشد الجنود من الأطراف، ولحملتُ عليهم بجيشٍ في غارةٍ ليليّة وشتَّتُّ شملهم، ولو جَرَت الأمور على خلاف ذلك فأَوْلى بالفتى أنْ يُقْتَل في حَوْمة الوغى في عزّةٍ وشرف»([96]).
لقد كان هَمُّ هؤلاء القادة منحصراً بالأموال التي جمعوها، وادَّعوا أنهم فقدوها في عهد هذا الخليفة (المستعصم). بينما اكتفى القائد العسكريّ سليمان شاه بالتمنّي والقول: إنه لو لم يطوِّق المغول بغداد لاستطاع هو أن يفعل شيئاً، ولحمل عليهم ليلاً، وفَرَّق جيوشهم. ويبدو أن اختيارهم لمنزل الوزير؛ كي يعقدوا به اجتماعهم، هو لإخافته بالدرجة الأولى؛ إذ إن العلاقة لم تكن طيِّبة بين الدويدار الصغير والوزير ابن العلقميّ.
ولكي يعزِّز الخليفة ما سمَّيناه بحالة الإنكار أو نفي الواقع فإنه حين نُقل إليه كلام سليمان شاه ـ أو أُمنيته ـ أُعجب به، «وقال للوزير: إن كلام سليمان شاه له الأثر في النفس المنهكة؛ فاستعرِض الجُند بحَسَب تقريره لأُغنيَهم بالدرهم والدينار، ثم سلِّمْهم إلى سليمان شاه ليحقِّق خطَّته . ومع عِلْم الوزير أن الخليفة لن يمنح مالاً، لكنه ـ مكايدةً منه للأعداء ـ لم يُبْدِ على الفور رأياً معارضاً، وأمرَ عارضَ الجُند أن يعرض الجنود بالتدريج فَوْجاً فَوْجاً، ليصل نبأ كثرة حشود جُنْد الخليفة إلى البعيد والقريب والترك والعرب، فتفتر عزيمة العدوّ. وبعد خمسة أشهر أبلغ العارضُ الوزيرَ أن الجند قد صاروا عدداً وفيراً وجيشاً جراراً، وأن على الخليفة أن يمنح المال؛ فعرض الوزيرُ الأمر على المستعصم، ولكنه اعتذر عن إعطاء شيءٍ، فيئس الوزير من مواعيده كليةً، ورضي بالقضاء، ووضع عين الانتظار على نافذة الاصطبار، حتّى يكشف الفلك نفسه عمّا وراء الستار»([97]).
إن تسليم مهمة الإشراف على تدريب العساكر إلى الوزير ابن العلقميّ ـ وهو موظَّف مدنيّ، ولا علاقة له بالأمور العسكرية ـ، بَدَل تكليف القائد سليمان شاه، وهو صاحب فكرة تجميع الجنود، وأحد أكبر قيادات الجيش، وبَدَل تكليف الدويدار الصغير، فيه دلالةٌ على أن ثقة المستعصم بالوزير كانت أكثر من ثقته بهذين القائدين.
لكنْ مع اقتراب موعد حسم المعركة خصَّص الخليفة مبلغاً كبيراً لتشكيل قوّةٍ من الرُّماة؛ للدفاع عن أسوار بغداد، التي حاصرها المغول من جميع الجهات في محرّم سنة 656هـ. يقول ابن الكازروني، الذي كان في بغداد آنذاك: «وتقدَّم الخليفةُ بإقامة جماعة من الرُّماة على السور، وإطلاق مالٍ كثير إليهم؛ فخرج جماعةٌ من الأعيان وأعوان الديوان والمالُ معهم، وشرَعوا في الإثبات([98]) وإطلاق اليسير، وسرقة الباقي؛ شَرَهاً إلى المال»([99]). وهكذا أثبتَ كبار موظَّفي دولة المستعصم ورجال بلاطه أنهم لصوص، حتّى في تلك الساعات الحَرِجة.
ثم إن الدويدار الصغير بادر إلى بثِّ إشاعةٍ كاذبة ظلّ صداها يتردَّد طويلاً خلال الأعوام والقرون على أفواه مؤرِّخين وعوام أرادوا للوقائع أن تقع كما تصوَّروها في أذهانهم، وليس كما حدثت على أرض الواقع؛ حيث يقول رشيد الدين: «ولما كان الدواتدار في تلك المدّة خصماً للوزير فإن أتباعه من سَفَلة المدينة وأوباشها كانوا يذيعون بين الناس أن الوزير متَّفق مع هولاكو خان، وأنه يريد نصرته وخذلان الخليفة، فقَوِيَ هذا الظنّ»([100]).
فبحَسَب كتابة مؤرِّخٍ مرموق، مثل: رشيد الدين ـ قلنا: إنه يعتمد الرواية البغدادية الأصيلة ـ، كان هذا تسلسل الوقائع كما حدثت، وليس ما تصوَّرته الدكتورة بياني، واختصرته في وريقاتٍ، بأن السبب في سقوط الخلافة العباسية هو اثنان: نصير الطوسي الشيعي الإيراني، الذي عمل على تدمير الخلافة من الخارج؛ والوزير ابن العلقميّ الشيعي العربي، الذي عمل على تدمير الخلافة من الداخل. فألغَتْ بذلك الخطّة المغولية التي أمر بها الملك المغولي منكو قاآن بفتح ما لم يتمّ فتحه من البلدان، وضمِّه إلى الإمبراطورية المغولية، كما ألغَتْ الدَّوْر التحريضي لقاضي القضاة شمس الدين القزويني الشافعي ونجله، الذي جاء موافقاً لهوى منكو قاآن، وألغَتْ دَوْر حشدٍ من الحكّام المسلمين، الذين عاونوا المغول بجيوشهم وأسلحتهم ومعدّاتهم لغزو العراق وغيره.
أخيراً، تحدّثت الدكتوره بياني عن الطوسي وابن العلقميّ بشكلٍ ملفت للنظر حقّاً، فهي تقول: «فلننظر إلى الخواجه نصير الدين الطوسي ومؤيد الدين محمد بن العلقمي أيّ دَوْرٍ سيلعبون؟ أما الخواجه الذي كان قد قد قام بعمل في غاية المهارة والذكاء فقد علا مقامه عند الخان المغولي أكثر ممّا مضى».
وقالت عن ابن العلقميّ: «لم تطُلْ أيام البطل الثاني لتلك المغامرة بعد فتح بغداد سوى عدّة شهور، فقد مات في جمادى الأولى من سنة 656هـ، لكنّ مصيره حتم عليه أن يرى زوال مخدومه، ويحقِّق انتقام الشيعة من السنّة. لقد عَلَتْ مكانة الوزير عند المغول، وأبقاه هولاكو على وزارة بغداد»([101]).
إنها تؤكِّد لقرّائها أن المغول إنّما عيَّنوا ابن العلقميّ حاكماً على العراق؛ لكونه خان الخليفة وتعاون مع هولاكو. لكن الحقيقة هي غير ذلك. إن هولاكو أراد إدارةً مدنية لإدارة البلاد التي فتحها، وكان الأفضل له أن يختار أشخاص هذه الإدارة من كبار موظَّفي دولة المستعصم، ولذا فقد عيَّن حكومةً ضمَّت كبار موظَّفي بلاط الخليفة المغدور المستعصم، وإن ابن العلقميّ لم يكن وحده الذي عيَّنه هولاكو في هذه الحكومة، بل كان من بين أعضاء هذه الحكومة السنّي الشافعي والسنّي الحنبلي والسنّي الحنفي والشيعي والنصراني والعلوي، وكان بعض هؤلاء قد احتجزه هولاكو لديه، ففي آخر رسالة إلى هولاكو أرسل الخليفةُ كلاًّ من: عبد الغني ابن الدرنوس مستشاره الأول، ووزيره ابن العَلْقَمِيّ، ومارمكيخا جاثليق النصارى، وحين أكمل هؤلاء سفارتهم «ثَبَّطَهم هولاكو، ولم يأذن لهم أن يعودوا إلى الخليفة»([102]). وهكذا احتجزهم هولاكو عنده بطريقةٍ مهذَّبة، كما هو واضح، لدى قدومهم برسالة الخليفة الأخيرة. بينما كان بعضهم، مثل: الباجسري([103])، قد ذهب هو بنفسه إلى هلاكو، وطلب أن يعيِّنه في وظيفةٍ. وأسماء أغلب هؤلاء الموظَّفين المعينين في الحكومة المغولية موجودةٌ في جامع التواريخ وفي كتاب الحوادث وغيرهما. ففضلاً عن ابن العلقميّ الإمامي كان من بين المعيَّنين في الحكومة الجديدة شخصيات سُنِّية ونصرانية، وكان بعض هؤلاء علويّ النسب، ومنهم:
ابن الدرنوس المستشار الأوّل للخليفة المستعصم، وهو غير شيعيّ بكلّ تأكيد.
وفخر الدين ابن الدامغاني الحنفي، صاحب ديوان المستعصم، حيث عُيِّن أيضاً بمنصب صاحب ديوان (وزير المالية). ويقول صديقه الحميم ابن سعيد المغربي: إن المغول «أبقوه على جباية البلاد؛ لمعرفته بها»([104]). وقد ذهب مع هولاكو إلى آذربايجان([105]).
وتاج الدين ابن الدوامي الشافعي، ملتزم باب النوبي للمستعصم، حيث عُيِّن بمنصب صدر الأعمال الفراتية. لكنّه توفي، فجعل ولده مجد الدين حسين عوضَه.
ونظام الدين البندنيجي الشافعي، قاضي قضاة الخليفة المستعصم، الذي ذهب طَوْعاً إلى هولاكو، فأمَرَ بأن يُقَرَّ بمنصب قاضي القضاء([106]).
أما أحمد بن عمران الباجِسري، الذي كان يخدم في زمن المستعصم عاملاً، «والغالب على أهل باجسرى الحنبلية»([107])، فقد اتَّصل بأحد الأمراء؛ ليتوسط له عند هولاكو، فلما حضر بين يديه، «وأنهى إليه من حال العراق ما أوجب تقديمه وتشريفه وتعيينه في الأعمال الشرقية؛ وهي الخالص وطريق خراسان والبندنيجين»([108]).
وقد قام أفراد الطبقة الأولى من الحكَّام الجدد بتعيين موظَّفين في الإدارة المغولية الجديدة في ظلّ الحكم المغولي. ومن ذلك، مثلاً:
عَيَّنوا فخر الدين المبارك بن يحيى ابن المخرِّمي الحنبلي([109]) صدراً لدُجَيل والمستنصري. وكان قد شغل مناصب خطيرة في الدولة العباسية، منها: منصب صاحب الديوان([110]).
وعَيَّنوا عزّ الدين عبد الحميد بن أبي الحديد المعتزلي الشافعي كاتباً للسَّلَّة([111])، فلم تطُلْ أيامه، فرُتِّب عوضَه ابن الجمل النصراني.
وعيَّنوا عزّ الدين ابن الموسوي نائباً للشرطة، وهو علويّ، كما هو واضحٌ من لقبه.
وعَيَّنوا الشيخ عبد الصمد ابن أبي الجيش الحنبلي، إمام مسجد قُمرية، خازناً للديوان وخطيباً للجامع الأكبر جامع القصر([112]). وهو شيخ الأئمة عبد الصمد بن أحمد بن عبد القادر بن أبي الجيش البغدادي الحنبلي المتوفّى سنة 676هـ([113]).
ومن المعيَّنين في هذا العهد المغولي عزّ الدين أحمد الزنجاني الشافعي، نجل شهاب الدين محمود الزنجاني، قاضي قضاة الشافعية لدى الخليفة المستعصم، فقد عُيِّن بمنصب قاضي القضاة، ودُعي بهذا اللقب([114])، ولم يُعْزَل عن منصبه إلاّ حين كُفَّ بَصَرُه سنة 694هـ([115]). وكان متنفِّذاً، وعيَّن له نوّاباً، ومنهم: ابن العاقولي الشافعي، الشهير بـ «مفتي العراق»([116]).
ومن المفارقات أن جلال الدين كشلوخان، نجل قائد الجيش الدويدار الصغير، الذي غَدَرَ به هولاكو بعد استسلامه وقَتَلَه، عُيِّن بمنصب أميرٍ خطير في الحكومة التي شكَّلها المغولُ، حيث نشاهده سنة 662هـ يدير مع عددٍ من الأمراء محكمةً خاصّةً أصدرت حكماً بإعدام نجم الدين الباجسري، رفيق والده في العمل عند المستعصم؛ «لأُمور نُسِبَت إليه»، فقُتِل، فانتزع كشلوخان هذا مرارتَه من أحشائه([117]).
لكنّ قيادة تلك المجموعة الحاكمة بأَسْرها أُنيطت بالأمير علي بهادر، وهو أحد القادة العسكريين ممَّنْ جاؤوا مع هولاكو، وشارك مشاركةً فعّالة في الهجوم على بغداد([118])؛ ذلك أن هولاكو «فَوَّض أمر بغداد إلى الأمير علي بهادر وجعله شحنة بها»([119])، وأشرك معه في هذا المنصب قائداً آخر يُدعى قرابغا، مع قوّةٍ مغولية مؤلَّفة من 5000 جندي([120]). ويمكن اعتبار علي بهادر هذا حاكماً عسكرياً عامّاً لبغداد، بل كان الحاكم الحقيقي للعراق، وهو قائدٌ عسكري ميداني جاء مع هولاكو، وكان فاتكاً ارتكب الفظائع في المواقع والمدن التي دخلها بجيشه([121])، وهو الذي أباد سنة 659هـ قرب مدينة عانة العراقية الخليفةَ المستنصرَ العبّاسي (عمّ الخليفة المستعصم، وكان قد نجا من الموت في واقعة بغداد) وجيشَه الذي أرسله الظاهر بيبرس إلى العراق؛ ليستعيد الخلافة العباسية([122]). وُصِف علي بهادر بأنه «حَسَنُ السياسة، مُظْهِرٌ للخير، يلازمُ الصَّلَوَات في الجُمَعِ والتَّراويح وغيرها»([123]). وإن أداءه صلاة التراويح لا يدلُّ على كونه شيعياً.
فالدكتورة بياني لم تكن صادقةً مع القرّاء حين ركَّزت بشكلٍ خاصّ على اسمَيْ ابن العلقميّ والطوسيّ في الوظائف التي عُيِّنا بها في ظلّ الحكم المغولي؛ لكي توحي بأن هذين الاثنين الشيعيين، ولكونهما تعاونا مع المغول، فقد أصبحا موظفين في الحكومة الجديدة، بينما الحقيقة هي غير ذلك، كما بيَّنا آنفاً.
ولأن الدكتورة بياني قد قرّرت قبل شروعها بالكتابة أن تلصق بالشيعة صفة التعاون مع المغول وإسقاط الخلافة العباسية فقد حرصت على أن تصبغ بالتشيُّع أيّ شخصٍ تمرَّد على الخلافة أو عُيِّن في حكومة المغول. وقد رأينا كيف أنها سجَّلت المتمرِّد الكردي خليل بن بدر في سجلّ الشيعة؛ لمجرد وجود كلمة «النجف» المحرَّفة، التي كشفنا أنها اللَّحْف. وممَّنْ سجَّلتهم في هذا السجلّ فخر الدين الدامغاني، حيث تقول الدكتورة بياني: «وقد عيَّنوا فخر الدين الدامغاني، الذي كان صاحب الديوان على عهد المستعصم، بهذا المنصب أيضاً. فإنْ كان هذا الشخص هو نفسه فخر الدين الدامغاني المعروف، الذي كان في عهد المستنصر من نقباء الفتوّة ـ الذي نحتمل بما يقرب من اليقين أنه هو ـ، يمكن القول بأهمِّية دَوْره في إضعاف أركان حكومة بغداد على عهد المستعصم، وتعزيز التشيُّع»([124]).
لا ندري أين وجدت الدكتورة بياني ما يدلّ على أن فخر الدين الدامغاني «في عهد المستنصر من نقباء الفتوّة». ونعتقد أن عدم تمكُّنها من اللغة العربية هو الذي أوقعها في وَرْطة عدم فهم النصّ العربي الذي استندت إليه، مع أنها لم تُشِرْ في الهامش من أين نقلت هذا الكلام، ثم بَنَتْ عليه بنيانها.
فتَّشْنا عن هذا النصّ فوجدناه لدى ابن الفوطي، الذي يقول في ترجمة الدامغاني: «كان المستنصر بالله قد وَكَّلَه بأن يُلْبِس السلطان جلالَ الدين خوارزم شاه لِباسَ الفتوّة»([125]). وهذا الكلام واضحٌ وضوح الشمس بأن الدامغاني كان رسولاً من الخليفة المستنصر يحمل بيده لباس الفتوّة؛ لكي يُلْبسه لجلال الدين فقط؛ وليس في هذا الكلام إطلاقاً ما يدلّ على أن الدامغاني «كان على عهد المستنصر من نقباء الفتوّة».
ثم إن الدكتورة قد جعلت للدامغاني هذا دَوْراً مهمّاً «في إضعاف أركان حكومة بغداد على عهد المستعصم، وتعزيز التشيُّع». لكننا نعلم أن فخر الدين الدامغاني حنفيٌّ، ومن أسرةٍ حنفيّة عريقة في تولي المناصب الحكومية، وخصوصاً منصب القضاء([126]). وقد عدَّ عبد القادر القرشي في الجواهر المضيّة في طبقات الحنفية «بيوت الدامغانية» من بيوت الحنفية، وترجَمَ كثيراً منهم، وقال في مقدمة كتابه: «سترى منهم خلقاً كثيراً في هذا المجموع»([127]). وهم أسرةٌ استوطنت بغداد منذ عهد الخليفة العباسي القائم بأمر الله (422 ـ 467هـ). وعليه فأفراد هذه الأسرة توالدوا وتناسلوا في العراق مدّة تزيد على 230 سنة إلى التأريخ الذي نحن فيه (أي سنة 656هـ). قال ابن الفوطي عن فخر الدين الدامغاني هذا: «من بيت القضاء والعدالة والقضاء والحكم والرياسة، تنقَّل في الولايات والمراتب والمناصب، وكان يرتِّب النوّاب في الأعمال من غير مشاورة الوزير»([128]). والمقصود بالوزير هنا هو ابن العلقميّ، أي إن رتبة الدامغاني في الدولة كانت أعلى من رتبة ابن العلقميّ. والمعروف أن «الموظَّفين في دواوين الدولة في الغالب من الشافعية، ثم يأتي بعدهم الحنفيّة»([129])، مع بعض الاستثناءات القليلة جدّاً جدّاً، مثل: تعيين ابن العلقميّ الشيعي الإمامي وزيراً في آخر سنوات الدولة العباسية.
كما ألصقت الدكتورة بياني بالشيعة حاكم مدينة بعقوبة، الذي لم تذكر اسمه، لكنّها ذكرت نجم الدين أحمد بن عمران الباجسري، وكان يشغل منصب مسؤول ديوان العرض عند الخليفة المستعصم، وقد ذكرنا أنه وسَّط أحد الأمراء لدى هولاكو فعيَّنه بوظيفة حاكم للأعمال الشرقية، وقالت: إن الباجسري كان يخدم في ديوان بعقوبة (من المدن القريبة من بغداد)، الذي يديره أحد عملاء ابن العلقميّ، ويحتمل أن يكون شيعياً([130])(!!). و«احتمالية» كون هذا الباجسري شيعيّاً أمرٌ تقوله الدكتورة بياني لأوّل مرّةٍ في التاريخ.
أخطاء وأخطاء بيانية
نذكِّر أيضاً أن الدكتورة بياني في تسرُّعها وانفعاليتها بكتابة هذا الفصل من كتابها وقعَتْ في أخطاء مهمة، فهي تقول مثلاً: إن منكو قاآن كان معاصراً للخليفة العباسي الناصر([131]). وقد حكم الناصر في السنوات 575 ـ 622هـ، بينما تولًّى منكو قاآن الحكم سنة 649هـ، وهناك مَنْ يقول: إنه تولاّه سنة 648هـ([132])، أي بعد أكثر من ربع قرنٍ على وفاة الخليفة الناصر.
ومن أخطاء الدكتورة بياني احتمالُها أن يكون تُكْلَة، الذي عيَّنه هولاكو حاكماً على مدينة الحِلّة، مغولياً([133]). والصواب أنه ليس مغولياً؛ إذ هو الأتابك تُكْلَة بن هزار أسف، أحد الأتابكة الذين حكموا مناطق من خوزستان ولرستان لأكثر من أربعة قرون؛ وحينما زحف هولاكو على بغداد ذهب إليه تُكْلَة هذا طائعاً، ومعه جيشٌ، فألحقه هولاكو بفرقة القائد كيتوبوقا نويين([134]).
ومن أخطائها قولُها: إن الدويدار الكبير كان معاصراً للغَزْو المغولي للعراق (سنة 656هـ)، وهي تذكرهُ في الوقائع مع الدويدار الصغير([135]). والصحيح أن الدويدار الكبير كان قد توفي في 16 شوال سنة 650هـ([136]).
ومن الأخطاء المهمّة في هذا الفصل أنها نسبت إلى كتاب جهانگشا، للجويني، نصوصاً([137]) هي في حقيقتها ليست له، وإنما لرسالةٍ ملحقة بالكتاب، منسوبة لنصير الدين الطوسي، وعنوانها: كيفية واقعه بغداد، من نسخة أفضل العالَم أستاذ البشر نصير الحق والدين محمد بن محمد الطوسي. وهذه الرسالة طبعها العلاّمة القزويني في آخر كتاب تاريخ جهانگشا؛ لأنه وجدها ملحقة في بعض مخطوطات الكتاب، وهي تشمل الصفحات 280 ـ 293 من الجزء الثالث من طبعة العلاّمة القزويني، والصفحات 784 ـ 789 من طبعة السيد شاهرخ موسويان، المستندة إلى طبعة القزويني. وقد كتبنا بحثاً تحت عنوان: هل كتب نصير الدين الطوسي ذيل تاريخ جهانگشا (كيفية واقعة بغداد)؟ قدَّمنا فيه وجهة نظرنا من أن رسالة كيفية واقعة بغداد ليست لنصير الدين الطوسي([138]).
إذا أردنا تلخيص سقوط بغداد بعبارتين نقول: كان هناك عاملان قد ساهما في اضمحلال الخلافة العباسية: أحدهما: خارجيّ، وهم الجيش المغولي ومَنْ ناصَرَهُ بالرجال والسلاح من حكّام المسلمين وغير المسلمين؛ والثاني: الخليفة العباسي المستعصم ومَنْ ناصَرَهُ من قيادات الجيش الفاسدين. ويمكن مراجعة كتابنا إعادة كتابة التأريخ، الذي فصَّلنا فيه دَوْر هذا الخليفة المنهمك بالرقص والغناء واللعب بالطيور، وإهماله أمر تجنيد الجنود وجمع السلاح والعتاد طوال خمس سنوات في الأقلّ، أي منذ أن تحرّك هولاكو بجيشه من منغوليا سنة 651هـ، وأرسل إلى المستعصم يخبره أنه قادمٌ بجيشه. ويكفي أن نذكر من عبث هذا الخليفة فقط أنه عندما هُزِم الجيش العباسي في الموقعة الوحيدة التي اشتبك فيها مع الجيش المغولي، وقتل مَنْ قتل منه، وفرَّ مَنْ فرَّ إلى الشام أو إلى الحلّة والكوفة، وكان الجيش المغولي بقيادة بايجو نويان قد احتلَّ الجانب الغربي من بغداد (الكرخ)، وبدأ يطلق سهامه بكثافةٍ على الجانب الشرقي، كان الخليفة المستعصم جالساً باسترخاءٍ في أحد زوايا قصره يراقب رقص إحدى الجواري، يقول ابن كثير: «وأحاطت التتار بدار الخلافة يرشقونها بالنبال من كلّ جانبٍ، حتّى أُصيبت جاريةٌ كانت تلعب بين يدَيْ الخليفة وتُضْحِكُه ـ وكانت من جملة حظاياه، وكانت مولَّدة، تسمّى عَرَفَة ـ، جاءها سهمٌ من بعض الشبابيك، فقتلها، وهي ترقص بين يدي الخليفة، فانزعج الخليفة من ذلك، وفزع فزعاً شديداً، وأحضر السهم الذي أصابها بين يدَيْه، فإذا عليه مكتوبٌ: إذا أراد الله إنفاذ قضائه وقدره أذهب من ذوي العقول عقولهم، فأمر الخليفة عند ذلك بزيادة الاحتراز، وكثرت الستائر على دار الخلافة»([139]). وفي روايةٍ أخرى: «فأمر الخليفة عند ذلك بعمل ما يحول بين شبابيك الدار وبين الرماة، فعُمِلَت ستائر من ألواح الخشب»([140]).
أخيراً، بعد كلّ هذه الكوارث التي ارتكبَتْها الدكتورة شيرين بياني في ما مجموعه 68 صفحة فقط (الصفحات 183 ـ 251 من الترجمة العربية) من كتابها ذي الأجزاء الثلاثة بالفارسية، الذي بلغت صفحاته 1059، عدا الفهارس التفصيلية التي ضمَّت الصور والمصادر والمراجع (111 صفحة)، كيف للقارئ أن يثق بصحّة ما كتبَتْه في بقية صفحات الكتاب؟
الهوامش
(*) باحثٌ في شؤون التراث والتاريخ الإسلاميّ. من العراق.
([1]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 706 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 279 (الترجمة العربية).
([2]) الآقسرائي، مسامرة الأخبار: 48. وقد ورد هذا الحديث في مسند الإمام أحمد 6: 76، 87؛ صحيح البخاري 2: 24؛ صحيح مسلم 3: 27؛ ولدى شيخ الطائفة الطوسي في الخلاف 1: 678، 682، وغيرها.
([3]) فوات الوفيات 2: 310 ـ 311.
([4]) بدوي، التأريخ السياسي والفكري للمذهب السنّي في المشرق الإسلامي: 270. والدكتور بدوي هو أستاذٌ جامعيّ مصريّ.
([5]) على حدّ تعبير الآقسرائي في مسامرة الأخبار: 49 .
([6]) مجهول، «كيفية واقعة بغداد»، الورقة 250 ب؛ 251 أ؛ رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 896 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 282 ـ 283 (الترجمة العربية)؛ ابن العبري، تاريخ مختصر الدول: 472.
([7]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 707 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 282 (الترجمة العربية).
([8]) الذهبي، سير أعلام النبلاء 23: 182.
([9]) الحسني العلوي، التحفة في نظم أصول الأنساب، الورقة 124 أ. وينفرد البناكتي في روضة أولي الألباب: 417 بالقول: إن عدده كان 30 ألفاً؛ والعينيّ المؤرِّخ المتأخِّر بالقول في عقد الجمان (حوادث 648 ـ 664هـ): 170: إنه دون 20 ألف فارس.
([10]) ابن كثير، البداية والنهاية 13: 234.
([11]) منهاج السراج، طبقات ناصري 2: 194 ـ 195.
([12]) بياني، المغول، التركيبة الدينية: 216؛ بياني، دين ودولت در إيران عهد مغول 1: 308.
([13]) بياني، المغول، التركيبة الدينية: 216 ـ 217، 218؛ بياني، دين ودولت در إيران 1: 309.
([14]) ابن أبي الحديد، شرح نهج البلاغة 20: 349؛ انظر أيضاً: ابن كثير، البداية والنهاية 31: 212.
([15]) قطب الدين الشيرازي، ابتداء دولة المغول وخروج جنكيز خان: 93.
([16]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 709 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 286 (الترجمة العربية).
([17]) انظر: ابن شداد، تاريخ الملك الظاهر: 330 ـ 331؛ ابن عبد الظاهر، الروض الزاهر: 123 ـ 124؛ ابن العسَّال، النهج السديد 1: 482، 483؛ ابن شاكر، عيون التواريخ 23: 95؛ بيبرس المنصوري، مختار الأخبار: 20، زبدة الفكرة: 98؛ شافع بن عليّ، حسن المناقب السرية: 195، ابن فضل الله، مسالك الأبصار 27: 266.
([18]) مجهول، كتاب الحوادث: 360.
([19]) انظر تفاصيل ذلك في: كتاب الحوادث: 360؛ رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 715 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 295 ـ 296 (الترجمة العربية)؛ ابن العبري، تاريخ مختصر الدول: 475.
([20]) بياني، المغول، التركيبة الدينية: 216 ـ 218؛ بياني، دين ودولت در إيران 1: 309.
([21]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 715 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 296 (الترجمة العربية).
([23]) مجهول، كتاب الحوادث: 360؛ وفي الصفحة 330 بحَسَب طبعة الدكتور جواد، التي استندت إليها الدكتورة بياني.
([24]) الجلالي، مقدّمة كتاب آداب المتعلمين (للطوسي): 36.
([25]) كما يقول العلاّمة محسن الأمين في أعيان الشيعة 9: 416 .
([26]) ابن الفوطي، تلخيص مجمع الآداب 5: 88 .
([27]) الجابري، نصير الدين الطوسي: 107.
([28]) تفاصيل قدوم المغول إلى العراق سنة 635هـ في كتاب الحوادث: 137 ـ 141. وقد ذكر المؤلف أسماء بعض قادة الجيش الإسلامي الذين استشهدوا في القتال مع آخرين، قال: إنهم «جماعة من الزعماء يطول ذكرُهم»؛ انظر أيضاً: ابن العبري، تاريخ مختصر الدول: 439؛ تاريخ الزمان: 285. وقد فصَّل الفيومي في نثر الجمان (الورقتان 185 ب ـ 186 أ) تفاصيل هذه المعركة والكمين.
([29]) فصَّل رضي الدين ابن طاووس خبر هذه الوقائع في كشف المحجّة لثمرة المهجة: 146 ـ 148.
([30]) كما يقول ابن فضل الله العمري في مسالك الأبصار، السفر 24: 243.
([31]) فريد بك، تاريخ الدولة العلية العثمانية: 189. والمؤلف محمد فريد بك مصريّ من أصل تركيّ؛ الشناوي، الدولة العثمانية دولة مفترى عليها 1: 415، الذي اكتفى بالقول عن المذابح بحقّ الشيعة: «وتمّت مذابح عامة قتل فيها معظمهم»، ولم يذكر عدد المذبوحين، فقد كان يدافع في كتابه هذا عن الدولة العثمانية.
([32]) النفيسي، دور الشيعة في تطوّر العراق السياسي الحديث: 107.
([33]) انظر: العلوي، الشيعة والدولة القومية: 62 ـ 63؛ نظمي، الجذور السياسية والفكرية…: 110 ـ 111، نقلاً من وثيقة سرّية بريطانية.
([34]) نقَّاش، شيعة العراق: 111 ـ 112.
([35]) الذهبي، تاريخ الإسلام 48: 37. سيذكر ابن تغري بردي ـ الذي دأب على النقل من الذهبي ـ نصَّ هذا الكلام في النجوم الزاهرة 7: 50، وفي مورد اللطافة: 235 .
([36]) الذهبي، تاريخ الإسلام 48: 309 ـ 310؛ الأشرف الغساني، العسجد المسبوك: 637، 639، وما بين القوسين زيادةٌ من الأشرف الغساني؛ الذهبي، سير أعلام النبلاء 23: 323.
([37]) الأشرف الغساني، العسجد المسبوك: 637، 639 .
([38]) جواد، «طيور الفتوّة وأثرها في الأدب»، مجلة العربي الكويتية، العدد 114، أيار 1968م.
([39]) مجهول، «كيفية واقعة بغداد» 3: 787 (المطبوعة).
([40]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 714 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 293 (الترجمة العربية).
([41]) قال مؤلف كتاب الحوادث: 229: «كان يلبس زيّ القلندرية، ويزعم أنه من أصحاب الشيخ أحمد الرفاعي، وأظهر الإباحة، فاجتمع عليه خلقٌ كثير؛ وكان يشرب الخمر، ويأكل الحشيش المُسْكِر».
([42]) بياني، المغول، التركيبة الدينية…: 213؛ بياني، دين ودولت 1: 310.
([43]) انظر: رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 687 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 237 (الترجمة العربية).
([44]) مجهول، كتاب الحوادث: 229 .
([45]) الذهبي، تاريخ الإسلام 47: 117.
([46]) رشيد الدين، جامع التواريخ 1: 605، 606 (الطبعة الفارسية).
([47]) البناكتي، روضة أولي الألباب: 213؛ وفي الصفحة 216 من الترجمة العربية لهذا الكتاب.
([48]) كما يقول ابن الأثير في الكامل 9: 464.
([49]) كما يقول اعتماد السلطنة في مرآة البلدان 4: 2091: «خولنجان أز جانب خوزستان».
([50]) ياقوت الحموي، معجم البلدان 4: 353. والبندنيجين هي مدينة مندلي الحالية، التابعة لمحافظة ديالى.
([51]) مجهول، كتاب الحوادث: 229. وسليمان شاه هو أحد كبار قادة الجيش العباسي.
([52]) بياني، المغول، التركيبة الدينية…: 219؛ بياني، دين ودولت 1: 310.
([53]) الأشرف الغساني، العسجد المسبوك: 642.
([54]) الذهبي، تاريخ الإسلام 48: 203؛ الصفدي، الوافي بالوفيات 18: 46؛ ابن شاكر، فوات الوفيات 1: 609.
([55]) ابن كثير، البداية والنهاية 13: 212، 233.
([56]) بياني، المغول، التركيبة الدينية…: 213؛ بياني، دين ودولت 1: 304.
([57]) بياني، المغول، التركيبة الدينية…: 224.
([59]) مجهول، كتاب الحوادث: 350؛ ابن شاكر، عيون التواريخ 20: 129؛ ابن كثير، البداية والنهاية 13: 234؛ الذهبي، تاريخ الإسلام 48: 262؛ انظر تفاصيل أُخَر في شتّى ثنايا كتابنا إعادة كتابة التأريخ.
([60]) قال مؤلف كتاب الحوادث: 396: «القاضي فخر الدين عبد الله بن عبد الجليل الطهراني الرازي الحنفي…».
([61]) ابن الفُوَطِيّ، تلخيص مجمع الآداب 3: 38 .
([62]) هذه ترجمة غير دقيقة للنصّ الفارسي، وكان ينبغي لمترجم الكتاب إلى العربية، السيد سيف علي، أن يترجمه بالشكل الصحيح التالي: «فإن ابن العلقميّ وأنصاره، الذين كان كثير منهم إيرانياً وشيعياً…».
([63]) المقصود بالحرب هنا حرب المغول ومقاومتهم.
([64]) بياني، المغول، التركيبة الدينية…: 224؛ بياني، دين ودولت 1: 319.
([65]) انظر: رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 699 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 267 (الترجمة العربية).
([66]) قطب الدين الشيرازي، ابتداء دولة المغول: 90.
([67]) انظر: العلاّمة الحلّي، كشف اليقين: 82.
([68]) انظر: رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 710 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 286 (الترجمة العربية).
([69]) في الأصل الفارسي لجامع التواريخ: «رنود بغداد»، وقد أبقاها السادة مترجمو كتاب جامع التواريخ إلى العربية على حالها «رنود بغداد». وإن مفردة «رنود» لها ما يقابلها في العربية، وهي مفردة «غوغاء»، كما نصّ على ذلك الزمخشري في معجمه مقدّمة الأدب 1: 244. قال ابن منظور (لسان العرب: غَوَغَ): «أصل الغوغاء: الجرادُ حين يَخِفُّ للطيران، ثم استُعيرَ للسَّفَلة من الناس والمتسرِّعين إلى الشَّرّ».
([70]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 702 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 271 ـ 272 (الترجمة العربية).
([71]) مجهول، كتاب الحوادث: 347 .
([72]) الأشرف الغساني، العسجد المسبوك: 633 .
([73]) ابن الفوطي، تلخيص مجمع الآداب 2: 549.
([74]) مجهول، كتاب الحوادث: 443 .
([75]) مجهول، كتاب الحوادث: 459، حيث أورد كاتبُه شعراً بهذا الشأن .
([76]) ابن الطِّقْطَقَى، الفخري: 37 .
([77]) الصفدي، الوافي بالوفيات 5: 88؛ ابن شاكر، عيون التواريخ 20: 203 ـ 204. وقد تولّى ابن الصلايا حكم المدينة منذ سنة 639هـ (رشيد الدين، جامع التواريخ 1: 577 (الطبعة الفارسية)؛ 193 (الترجمة العربية، تاريخ خلفاء جنكيز خان…).
([78]) ابن الجزري، تاريخ حوادث الزمان (اختيار الذهبي): 247.
([79]) ابن تغري بردي، الدليل الشافي 2: 710، 835.
([80]) ذكرها ابن الفوطي ضمن مدن شمالي العراق بقوله: «الجبال والدربند ممّا يلي حُلوان ودرتَنْك وباوة» (تلخيص مجمع الآداب 2: 523). قال العزاوي في تاريخ العراق بين احتلالين 1: 163: «كانت درتك أيام الخلافة وما بعدها تُعَدّ من ألوية بغداد، واحتفظت بذلك إلى أيام السلطان سليمان القانوني وبعدها. واليوم بيد إيران».
([81]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 890 ـ 891 (الطبعة الفارسية، طبعة روشن وموسوي)؛ 2 (1): 277 ـ 278 (الترجمة العربية).
([82]) هي مدينة أربيل العراقية، المدينة الأشورية المعروفة.
([83]) ابن واصل، مفرج الكروب 6: 215؛ أورد هذا النصّ أيضاً اليونيني في ذيل مرآة الزمان 1: 87؛ وابن شاكر في عيون التواريخ 20: 132. وبنو الصلايا من الأسر العلوية الجليلة (ابن عنبة، عمدة الطالب: 350).
([84]) الذهبي، تاريخ الإسلام 48: 35.
([85]) ابن الطِّقْطَقَى، الفخري: 335. ينفق سوقُه: يزداد احتراماً ورتبةً لدى الخليفة وغيره. وفي تحفة الفقير للإيجي، الورقة 279 ب ـ 280 أ: «يعظِّم شأنَ هذا الأمر لنفاق سوقه، وليُدِرّ إليه الأموال؛ ليجهِّز العساكر، فيقتطع منها لنفسه».
([86]) هندوشاه النخجواني، تجارب السلف: 356؛ الإيجي، تحفة الفقير، الورقة 279 ب.
([87]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 702 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 272 (الترجمة العربية).
([88]) أخبار مقتله وتحريض لؤلؤ على قتله لدى: ابن واصل، مفرج الكروب 5: 50؛ 6: 244 ـ 245؛ ابن الجزري، تاريخ حوادث الزمان (اختيار الذهبي): 247؛ الذهبي، العبر 5: 236؛ ابن فضل الله العمري، مسالك الأبصار 27: 248؛ الصفدي، الوافي بالوفيات 5: 88؛ ابن شاكر، عيون التواريخ 20: 203 ـ 204. انظر تفاصيل أُخَر في كتابنا إعادة كتابة التاريخ: 147 ـ 149.
([89]) انظر: مجهول، كتاب الحوادث: 350؛ الأشرف الغساني، العسجد المسبوك: 626.
([90]) هذا الميكانزم أو الآليَّة معروفٌ جدّاً في التحليل السيكولوجي، حتى إنَّ الباحثة الشهيرة أَنّا فرويد (Anna freud) (1895 ـ 1982م) تذكر حالة صبيّ في السابعة من عمره، يتخيَّل أنه استطاع ترويض أسدٍ خَطِر، وهذا الأسد يحبّه ومتعلِّق به جدّاً ويتبعه في كل تنقُّلاته. إن هذا الصبيّ ينفي الواقع الذي يصعب عليه تحمّله (أي الخوف من الأسد)، فيبادر إلى أن يحوِّله عَكْسَ ذلك، حيث يحوِّل الأسد الذي يخافه إلى صديق له وفي خدمته (انظر: سيلامي، المعجم الموسوعي في علم النفس 6: 2592). تلخِّص أَنّا فرويد كيف استطاع ذلك الطفل تفادي الخوف من الأسد: أوّلاً: «الأنا عند الطفل ترفض أن تكون على وعيٍ بواقعٍ ما غيرِ سارٍّ»؛ ثانياً: «بادئ ذي بدء تُدير (الأنا) ظهرَها لذلك الواقع، فتقوم بإنكاره؛ وفي الخيالِ تقلبُ للضدِّ الوقائعَ الكريهة» (فرويد، الأنا وميكانزمات الدفاع: 84)، أي أن تحوِّل في الخيال الوقائعَ الكريهةَ تلك إلى وقائع محببة.
([91]) وارد وزاريت، أقدِّمْ لك التحليل النفسيّ: 77.
([92]) ابن العبري، تاريخ الزمان: 288 ـ 289. التَّخْت: فارسية، وتعني مقرّ المُلْك.
([93]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 702 ـ 703 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 272 ـ 273 (الترجمة العربية).
([94]) كان تركمانياً من العشيرة الأيوائية. يقول الدكتور جواد، في تعاليقه على تلخيص مجمع الآداب (لابن الفوطي) 4 (1): 111 (وانظر طبعة الكاظم 1: 154): إنهم يسمَّون أيضاً الأيواقية.
([95]) كان كردياً، وهو من مشاهير القادة العسكريين المحنَّكين، وهو الذي نصح الدويدار الصغير بعدم ملاحقة المغول حين تظاهروا بالهزيمة في معركة المزرفة، لكنه لم يسمع قوله. (انظر مثلاً: ابن العبري، تاريخ الزمان: 307) .
([96]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 703 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 273 ـ 274 (الترجمة العربية).
([97]) رشيد الدين، جامع التواريخ، 2: 703 ـ 704 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 274 (الترجمة العربية).
([98]) أي إنهم بدأوا بتسجيل قوائم بأسماء الراغبين في التطوُّع والانضمام إلى قوّة الرُّماة المُزْمَع تشكيلها.
([99]) ابن الكازروني، مختصر التأريخ: 272 .
([100]) رشيد الدين، جامع التواريخ 2: 704 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 274 (الترجمة العربية).
([101]) كلامها بشأن الطوسي وابن العلقمي في: المغول، التركيبة الدينية…: 235 ـ 236؛ دين ودولت… 1: 340.
([102]) ابن العبري، تاريخ الزمان: 308 .
([103]) انظر تفاصيل ذلك في كتابنا إعادة كتابة التأريخ: 141 (ط2).
([104]) الحميري، الروض المعطار: 8 ـ 9، وفيه: عليّ ابن الدامغاني. عن الأسرة الدامغانية الحنفية انظر: عبد القادر القرشي، الجواهر المضيّة في طبقات الحنفيّة 1: 7 ـ 8.
([105]) ابن الفُوَطِيّ، تلخيص مجمع الآداب 2: 549 ـ 550.
([106]) انظر المعلومات الخاصة بهذه التعيينات في كتاب الحوادث: 361 ـ 362.
([107]) الأمين، أعيان الشيعة 9: 87.
([108]) مجهول، كتاب الحوادث: 361.
([109]) هو المبارك بن يحيى بن المبارك المخرِّمي الحنبلي، توفّي سنة 664هـ، ودفن بمقبرة الإمام أحمد بن حنبل.
([110]) الذهبي، تاريخ الإسلام 49: 177؛ سير أعلام النبلاء 19: 420؛ ابن الفُوَطِيّ، تلخيص مجمع الآداب 3: 114؛ مجهول، كتاب الحوادث: 176، 212.
([111]) هو عبد الحميد بن هبة الله. ومنصب كاتب السلّة يعادل رئاسة كُتَّاب ديوان الوزير.
([112]) ابن رجب، الذيل على طبقات الحنابلة 4: 138؛ مجهول، كتاب الحوادث: 362.
([113]) الذهبي، تذكرة الحفاظ 4: 1473؛ ابن مفلح، المقصد الأرشد 2: 120؛ ابن ناصر الدين، توضيح المشتبه 3: 361 ـ 362.
([114]) انظر: ابن كثير، طبقات الفقهاء الشافعيين، الورقة 261 ب.
([115]) مجهول، كتاب الحوادث: 361؛ وقد أثنى عليه ابن الفوطي في تلخيص مجمع الآداب 1: 86، بقوله: «كان أعلم الناس بمعرفة القضاء».
([116]) الصفدي، الوافي بالوفيات 17: 318. وهو جمال الدين عبد الله بن محمد بن عليّ العاقولي البغدادي (638 ـ 728هـ)، «انتهت إليه رئاسة الشافعية ببغداد». (ابن قاضي شهبة، طبقات الشافعية 2: 345؛ ابن العماد، شذرات الذهب 6: 87).
([117]) مجهول، كتاب الحوادث: 382. وهذا العمل دالٌّ على أهمّية كشلوخان وسطوته في الدولة الجديدة.
([118]) وصّاف الحضرة، تحرير تاريخ وصاف: 30 .
([119]) مجهول، كتاب الحوادث: 361؛ مجهول، رسالة «كيفية واقعة بغداد»، الورقة 252 أ؛ ابن العبري، تاريخ الزمان: 313؛ ابن الطقطقى، الفخري: 338؛ وصّاف الحضرة، تجزية الأمصار، الورقة 57. كان منصب الشحنة يعادل اليوم منصب مَنْ يُوكَل إليه أمنٌ في البلد أو مدير الشرطة، وهو هنا أكبر من ذلك بكثيرٍ؛ إذ يعادل منصب الحاكم العسكري العام.
([120]) ابن العَسَّال، النهج السديد: 429.
([121]) ابن العبري، تاريخ مختصر الدول: 467 ـ 468.
([122]) ابن العبري، تاريخ الزمان: 322؛ اليافعي، مرآة الجنان 4: 115؛ بيبرس المنصوري، زبدة الفكرة: 68؛ الذهبي، العبر 5: 258.
([123]) مجهول، كتاب الحوادث: 381؛ الذهبي، تاريخ الإسلام 48: 85؛ يقول رشيد الدين: إنهما كانا اثنين قرابوقا وإيلكا نويان، ومعهما 3000 من فرسان المغول. (جامع التواريخ 2: 714 (الطبعة الفارسية)؛ 2 (1): 295 (الترجمة العربية).
([124]) بياني، دين ودولت 1: 338؛ بياني، المغول التركيبة الدينية…: 234. لكنّ النص هنا مختصر جدّاً.
([125]) ابن الفوطي، تلخيص مجمع الآداب 2: 549.
([126]) انظر مثلاً: ابن الفوطي، تلخيص مجمع الآداب، حيث دأب على الإشارة إلى أغلب مَنْ ترجَمَهم من أفراد هذه الأسرة الدامغانية بقوله: «قاضي القضاة» (1: 207، 106، 117)، «من بيت الحكم والقضاء والعدالة» (2: 83)، «من بيت العدالة والقضاء والعلم» (2: 149)، «من بيت عريق في القضاء وولاية الأحكام في مدينة السلام» (1: 207)، «من بيت الحكم والقضاء» (3: 159)؛ الذهبي، المختصر المحتاج إليه من تاريخ ابن الدبيثي: 24، 35، 49، 51، 153، 159، 169، 215.
([127]) القرشي، الجواهر المضيّة 1: 7 ـ 8.
([128]) ابن الفوطي، تلخيص مجمع الآداب 2: 549.
([129]) فهد، تاريخ العراق في العصر العباسي الأخير (552 ـ 656هـ): 434.
([130]) بياني، دين ودولت… 1: 338.
([131]) بياني، المغول، التركيبة الدينية…: 197؛ بياني، دين ودولت… 1: 282.
([132]) الجويني، تاريخ جهانكشاي 3: 659. وهو التأريخ نفسه الذي يذكره ابن العبري في تاريخ الزمان: 296؛ وفي تاريخ مختصر الدول: 457. ويذكر رشيد الدين في جامع التواريخ 1: 585 (الطبعة الفارسية)؛ 203 (الترجمة العربية، تاريخ خلفاء جنكيز خان…)، أن اعتلاءه العرش كان في ذي الحجة سنة 648هـ. لكن ينبغي الركون إلى الجويني الذي كان حاضراً حفل التنصيب آنذاك.
([133]) بياني، المغول، التركيبة الدينية…: 235؛ بياني، دين ودولت 1: 340.
([134]) النطنـزي، منتخب التواريخ معيني: 41؛ البدليسي، شرف نامه 1: 73؛ الشبانكارئي، مجمع الأنساب: 208.
([135]) انظر مثلاً: بياني، المغول، التركيبة الدينية…: 224؛ بياني، دين ودولت… 1: 315، 319.
([136]) ابن الفوطي، تلخيص مجمع الآداب 4 (1): 1000 (طبعة جواد)؛ مجهول، كتاب الحوادث: 308. والدويدار الكبير هو علاء الدين ألطبرس الظاهري.
([137]) بياني، المغول، التركيبة الدينية…، هوامش في الصفحات 228، 229، 231، 235، 236.
([138]) سينشر في مجلة الخزانة التي تصدر عن مركز إحياء التراث التابع لدار مخطوطات العتبة العباسية المقدَّسة في كربلاء. العدد 3، سنة 1439هـ.
([139]) ابن كثير، البداية والنهاية 13: 233. وردت هذه الواقعة أيضاً في: كتاب الحوادث: 355؛ ابن شاكر، عيون التواريخ 20: 133؛ العيني، عقد الجمان: 171، الجزء الخاصّ بحوادث السنوات 648 ـ 664هـ.